«شكراً لكم لأنكم تساعدون الناس!».
يقولها لي عجوزٌ بوسَنيٌّ بينما يَدفع لي ولزميلتي ثمن الوجبة الخفيفة التي اشتراها.
أَكبتُ رغبتي بأن أشرح له أن عملنا ليس مساعدة، مُكتفياً بترك الحوار قصيراً وخفيفاً.
لا أريد أن أدّعي كَذِباً أننا لسنا هنا للتضامن مع الناس في رحلة لجوئهم بالمطلق، وبأننا مجرد سياح، كما تطلبُ منا منظمتنا أن نفعل حمايةً لأنفسنا.
يصل إلى هنا شهرياً أكثر من عشرة أشخاص منّا، غالبيتنا من الأوروبيين البيض، وخاصة من ألمانيا، لدعم اللاجئين-ات في رحلة اللجوء. نُوزِّعُ عليهم الحطب والملبس والطعام. لقد أصبح الناس هنا على درايةٍ بما نفعل.
النشطاء والمتطوعين-ات أصبحوا، بعد نصف عقد من «الأزمة»، جُزءاً من الحدود، مثلهم مثل الشرطة الحدودية واللاجئين-ات.
يتمثُّل لي هذا الموقف في كشك الطعام كمشهد مسرحي؛ إذ نرى هناك ثلاث مجموعات: أناسٌ بيضٌ في دور البطولة، منشغلون بتقديم المساعدات؛ وإلى جانبهم سُكّان محليون لطيفون في أغلب الأحيان، يدفعون للمجموعة الأولى ثمن ساندويشات الكباب شاكرين. وأخيراً هناك أيضا اللاجئون-ات.
لكلّ مجموعة ممّا سبق دورٌ وظيفي، تأخذ من خلاله شيئاً ما وتُعطي بالمقابل شيئاً آخر. كلُّ مجموعة تلعب دورها على هذه الحدود ضمن علاقة تكاملٍ وتبعية في الوقت نفسه مع المجموعة الأخرى. هذا المشهد هو عالمٌ مُصغَّر، تدور في فلكه علاقات وعمليات سأطلق عليها اسم «اقتصاد الحدود».
بالمجمل، تتم المتاجرة بِسلعتين أساسيتين: «القدرة على التنقل» و«التضامن».
بتفصيل أكثر: نأخذ على الدوام عبارات التقدير على إنسانيتنا حين نعطيهم ساندويشات الكباب، وتتحول المساعدات الإنسانية فجأة إلى ذلك الشعور بالطِيبة الذي يَنتُجُ عن مساعدة الناس.
الحدود وقدرتها القوية على التفرقة
الرحلة من داخل Festung Europa «الحصن الأوروبي» (سنعود للمصطلح لشرحه فيما بعد) إلى خارجه كانت أكثر سلاسة من المُتوقَّع. نقلتنا الحافلة مباشرة من مدينة ميونخ إلى المدينة الحدودية في البوسنة، ولولا تفتيش صغير تَعرَّضنا له على الطريق، ما كانت الرحلة لِتختلفَ عن سفرٍ من مدينة فرايبورغ إلى برلين الألمانيتين. بالنسبة لي، ليس هناك أي قيمة مادية للحدود، إذ بإمكاني اجتيازها حينما أشاء.
المعنى المنسوب للحدود هو معنى نسبي يُضفيه عليها نظامٌ من فوقها، يعيد ترتيب البشر ليصبح لهذه الحدود معنىً لبعضهم، وتبقى بلا معنى بالنسبة لآخرين منهم.
الحدود تفصل بين أوروبا وبين ما هو ليس أوروبا، بيننا وبين الآخرين، بين المكان الذي نعيش فيه والمكان الذي نتضامن معه.
سمعتُ من عدة متطوعين-ات كانوا قد سبقوني أنني وصلتُ أخيراً إلى المكان الذي يمكن للمرء أن «يفعل فيه شيئاً». الحدود تصبح هنا مكاناً للتضامن العملي التطبيقي، وتفصل بين أماكن الأزمات حيث الحاجة إلى التضامن، والأماكن التي يأتي منها هذا التضامن. هذا الفصل إذاً هو الذي يُشرِّعُ لنا السفر من أجل تقديم التضامن.
العاملون-ات في مجال التضامن الإنساني، المتطوعون-ات منهم والمأجورون-ات كذلك، وأيضاً الناشطون- الناشطات السياسيون-ات، جميعهم يحتاجون مكاناً فيه أزمة ما، أي فيه منّصة يؤدون عليها تضامنهم. لكن ليس المتضررون-ات من الأزمة هم الذين يُعرّفونها ويُحدّدون مكانها، بل يُحدّدها اقتصادُ الحدود الذي سبق ذكره.
تضع هذه التفرقة المساعدين-ات واللاجئين-ات، الذين يحاولون السفر باتجاهين متعاكسين في ثنائية ضدّية، في مرمى النظر وتُسلّط الضوء عليهم، كما أنها تحجب النظر عن الفئة الثالثة المُكوَّنة من سكّان هذه المناطق الحدودية المحليين.
يشغل البوسنيون-ات موقعاً معقداً في هذه العلاقة الثلاثية؛ ذاكرتهم الجمعية عن الإبادة التي حصلت ضد المسلمين-ات في البوسنة، وعن لجوء الكثير منهم إلى دول الاتحاد الأوروبي، ما زالت حاضرة عن كثب. وبما أن البوسنة أصبحت دولةَ ترانزيت للّجوء، باعتبارها مَعبراً إلى دول الاتحاد الأوروبي، فإنها أخذت دورَ المُجتمع المضيف لأناس لا ينوي القسم الأكبر منهم البقاء فيها.
إعلامياً وعلى صعيد العلاقات العامة، تتجاهل الكثير من المنظمات غير الحكومية تأثير اقتصاد الحدود على المجتمعات البوسنية المحلية، أو، بأسوأ الأحوال، تستبدل الحديث عنها بسرديات عن «عنصرية بلاد البلقان».
اقتصاد الحدود
تكمن مشكلة النظر بشكل جيوسياسي بحت إلى الحدود في أنها توحي بأن هذه الحدود ليست إلا خطوطاً بسيطة على الخارطة، ما يُساهم في المبالغة بتبسيط صورتها.
مصطلحات كـ «الحصن الأوروبي» (Festung Europa) مهمة من أجل لفت النظر إلى تجييش الحدود إلى الخارج. هذا المصطلح في الأصل نازي، واستخدمه مؤيدو النيوليبرالية لوصف أعدائهم مناهضي فكرة الأسواق العالمية الحرّة في فترة التسعينات. اليوم، تتبنى الجماعات اليمينية نفسها هذا المصطلح في خطابها.
وبغض النظر عن استخدام المصطلح، يبدو النظرُ إلى الحدود كمُجرّد جدار مادي ابتعاداً عن الواقع. ليست الحدود حاجزاً يمكن هدمه إن شئنا، كما لا يمكننا بسهولة إعادة تفكيك الفئات المجتمعية ذات الانتماءات الجديدة التي تشكلت حول هذه الحدود وكنتيجة لها.
هنا، تصبح إعادة التفكير والتمعُّن في تَصوُّرنا عن ذواتنا الأوروبية (النحن)، وعن الآخرين غير الأوروبيين، أمراً محتوماً. لكن طالما أننا، نحن الأوروبيون، نمول بضرائبنا الأسلحة وعناصر حرس الحدود الذين تَكمن وظيفتهم الأساسية في إبقاء الآخرين خلف هذه الحدود، فإن إعادة التفكير هذه، حتماً، لن تنفع وحدها.
للحدود الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي أهميةٌ جوهرية في الاقتصاد السياسي للاتحاد على صعيدين اثنين:
أولاً، تُشكل هذه الحدود حدّاً فاصلاً بين المنطقة الاقتصادية الأوروبية (EWR) التي تشمل دول المركز العالمي من جهة، وبين ما يدعى بالجنوب العالمي، أي دول الأطراف، من جهة أخرى. تتسم المنطقة الاقتصادية الأوروبية بالديناميكية والقدرة منقطعة النظير على الحركة والتنقّل، سواء بما يخص الأشخاص أو البضائع التجارية أو رؤوس الأموال أو الخدمات، إلا أن حرية التنقل هذه تنتهي عند حدود هذه المنطقة. يُسمَح للصادرات المدعومة من الاتحاد الأوروبي بالخروج السهل والروتيني خارج الحدود، كما يتمتع حاملو الجوازات الأوروبية بالقدرة على الحركة والتنقل الأكثر حرية خارج حدود الاتحاد الأوروبي، إلا أن دخول الأشخاص والبضائع التجارية على حد سواء إلى داخل الاتحاد يُعدّ أمراً شديد الصعوبة.
لهذه الحدود إذاً بعدٌ آخر، فهي المكان الذي يتشكّل فيه نظام التجارة العالمي، الفاصل بحد ذاته بين الناس، والذي يحصر خياراتهم بشكل انتقائي وتفريقي.
ثانياً، يُولّد نظام الاقتصاد السياسي هذا لامساواة متمثّلةً بشكل واضح في الهجرة الشرعية وغير الشرعية عبر حدود الاتحاد الأوروبي.
يُبنى الرفاه داخل دول الاتحاد الأوروبي على جملة أمور، منها الهيكليات الاستعمارية الجديدة (Neocolonialism) التي تُؤمّن من خلالها القوى العاملة الرخيصة خارج الاتحاد الأوروبي للناس داخله تلكَ القدرة على الاستهلاك الفائض. هذه الحدود، التي تفصل الأسواق الاستهلاكية داخل أوروبا عنها خارج أوروبا، هي نفسها التي تُحوِّلُ الداخل الأوروبي إلى حلم أشبه بدخول الجنة، حلم يستميت الناس في محاولات عبور الحدود إليه.
من أو ماذا ينجح في عبور الحدود؟
أخذ النقاش حول اللامساواة في معاملة الناس عند عبور الحدود هرباً من أوكرانيا حيزاً واسعاً في الفضاء العام.
بولونيا تسمح للناس حاملي الجواز الأوكراني بالدخول إلى أراضيها، في حين تبني جداراً حدودياً لتكون جزءاً من سياسة الإغلاق الأوروبي في وجه طالبي-ات اللجوء. وقد واجهَ الهاربون من أوكرانيا من غير حاملي الجواز الأوكراني صعوبات جَمّة في الخروج من أوكرانيا، ثم الدخول إلى ألمانيا بعدها. ويتعرض الرجال من حاملي الجنسية الأوكرانية، المُلزمون بالخدمة العسكرية، للعرقلة في مغادرة أوكرانيا أيضاً.
يَظهر هنا دورٌ وظيفي جوهري للحدود: هي التي تسمح للناس بالحركة والتنقل أو تمنعهم عنها حسب القوانين السارية عليها.
في تكريس لرمزية الانتماء للدولة القومية، يُسمح للبعض بعبور الحدود باستخدام جواز السفر فقط. حرية السفر تتعلق إذاً بالعلاقات الدبلوماسية بين البلدان، وبقوة البلد السياسية التي تؤهله للتفاوض على اتفاقيات بخصوص تأشيرة السفر الخاصة بها.
رأس المال هو عاملٌ آخر يتيح للشخص القدرة على التنقّل. العديد من دول الاتحاد الأوروبي أتاحت تأشيرات تسمح لحامليها بالدخول إلى دول الشنغن مقابل استثمارات بالملايين، بل بمئات الملايين، إلى أن توقفت هذه الممارسات في صيف 2021 بسبب فضحها.
يلعب رأس المال أيضاً دوراً في الهجرة غير الشرعية، فالكثيرُ من الناس غيرُ قادرين حتى على تأمين لوازم اللجوء المتمثلة بأجرة المُهرّب وشراء هواتف جوالة وملابس كافية للرحلة، إذ كثيراً ما يقوم حرس الحدود بتدمير هذه الأشياء. رأس المال الثقافي مهم أيضاً في تأمين القدرة على التنقل. الفنانون-ات غير الأوروبيين-ات، الذين يجوبون العالم لتقديم فنهم، يُمنحون القدرة على التنقل أكثر من نظرائهم غير الفنانين-ات، رغم رأس مالهم المادي الضئيل.
وكما هو معروف، فإن لون البشرة هو عاملٌ آخر في تعزيز اللامساواة في حرية التنقل.
الشخص الذي يتنقّل داخل الاتحاد الأوروبي بدون تأشيرة معرّض دائما لخطر الـ push back أي الدفع إلى الخلف، بمعنى الطرد القسري خارج أراضي الاتحاد الأوروبي. كثيراً ما يروي المهاجرون-ات غير الشرعيين-ات قصص ترحيلهم، ومنهم من ألقي القبض عليه ونُقل قسراً خارج الحدود بينما كان يتسوق في متجر فقط لأن سكاناً من المنطقة كانوا قد أبلغوا الشرطة عنه.
احتمالية التعرض للقمع ترتفع كلما كان لون المرء داكناً أكثر بالمقارنة من الإنسان الأبيض، أي الإنسان الـ«عادي».
ليس الإنسان فقط هو الذي يخضع للانتقائية في السماح له بالتنقل على الحدود وعبرها، بل البضائع أيضاَ. لا يُمنَع كلُّ الناس من اجتياز الحدود، ولا تخضع جميع البضائع للشروط الجمركية نفسها أو لحظر الاستيراد ذاته. الاتفاقيات التجارية العالمية هي التي تُحدد أية بضائع ستدخل أو تخرج من أية بلدان.
ليست حرية التنقل ونقل البضائع والأموال موَّزَعة بالتساوي، وهذا ما يدعم الأسواق التجارية والاقتصاد القومي في الدول الغنية، مُعيقاً التطور الاقتصادي المستدام في الدول الفقيرة المنهوبة. علينا أن نرى ونفهم الحدود كجزء من الرأسمالية العالمية، ومن انعدام المساواة في توزيع حق التنقل والحركة على العمال.
حسب التحليل الماركسي، يُفني العمال ساعات عملهم في إنتاج بضائع تعبر حدوداً يُمنعون هم من عبورها. عملهم المُتمثّل بالجهد المبذول والمُنتَج المادي قابلٌ للحركة والتنقل أكثر منهم. العاملة في مزرعة القطن، مثلاً، غير قادرة على الوصول إلى بلد داخل الاتحاد الأوروبي يَدخله بالمقابل تي شيرت مصنوع من القطن الذي حصدته يداها. بينما تجوبُ المنتجات العالم، لا يبرح صانعوها أماكنهم مشلولي الحركة.
هذه الهوّة بين قدرة المنتجات على التنقّل وعجز صانعيها عنه هي تطوّر حديث نوعاً ما في تاريخ الاقتصاد الأوروبي. عندما كان عصر الإنتاج الفوردي ما زال سائداً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمّت دعوة العمال الوافدين وإدخالهم إلى أوروبا، من دول المتوسط على وجه الخصوص. بعد أزمة سعر النفط فُضّت كل الاتفاقيات الناظمة للعمالة الوافدة، وبدأ عصر الإنتاج النيوليبرالي ما بعد الفوردي يسودُ النظام الاقتصادي العالمي. قدرةُ العمال على التنقّل أخذت بالتناقص عبر العقود اللاحقة، بينما بقيت مُنتجاتهم جزءاً من حركة الاقتصاد العالمية.
من يتموضع أين على هذه الحدود؟
موقعك من المصفوفة القائمة على الجنسية ورأس المال ولون البشرة، إضافةً إلى تصنيفات أخرى، هو الذي سيحدد لك شكل تجربتك على هذه الحدود. الألمان البيض من الطبقة الوسطى، مثلاً، يربطون الحدود برحلات الإجازة وطوابير الانتظار وتفتيش الجوازات. تخلق الحدود تجارب جماعية مختلفة بين كل فئة وأخرى من الناس.
تُضفي تجربة طالبي-ات اللجوء مع عنف حرس الحدود الكرواتيين، وتجريمُ الاتحاد الأوروبي لهم، على الحدود معنىَ آخر بالنسبة إليهم.
لا تصنع الحدود فروقات اجتماعية بين فئة وأخرى من الناس فحسب، بل تصنع للناس العالقين عندها واقعاً مادياً مُعاشاً تُصبح فيه الحياة اليومية مختلفة تماماً عمّا تَصوَّره هؤلاء عن العالم.
النقد الذاتي ورفع الحساسية تجاه السرديات العنصرية لا يكفيان لتفكيك وإزالة الفروقات المتصلِّبة بين فئة وأخرى من الناس في علاقتها مع الحدود. إذ، بعد إعادة التفكير والتمعن بمدى فداحة هذه الفروقات، ما زلنا، نحن المساعدون-ات، قادرين على الصعود إلى باص يُعيدنا خلال نصف ساعة إلى داخل الاتحاد الأوروبي، في حين يقضي اللاجئون-ات سنوات عالقين في البوسنة عند الحدود بعد عدد لا يحصى من محاولات عبورها.
تبقى الحدود بالنسبة لغالبية الألمان مُجرَّد معبر سهل، لا جداراً أصماً غير قابل للاختراق. مهما أصدرت منظمات مثل Sea Watsch أو Seebrücke من تقارير للرأي العام، و مهما بلغ غضب النشطاء على حرس الحدود الكرواتيين وعلى الفرونتيكس،(1) فإن هؤلاء النشطاء، كفئة اجتماعية على هذه الحدود، لديهم قواسم مشتركة مع حرس الحدود أكثر مما لديهم مع اللاجئين-ات غير الشرعيين-ات.
لا يَعي المتضامنون مع اللاجئين-ات خطورة فكرة أن وجودهم وأسلوب حياتهم داخل الحدود مشروطٌ عملياً بها، لا بل مبنيٌ عليها. ينطبق هذا على جملة أمور، منها قدرتهم على التنقّل في المنطقة الحدودية كامتياز، وعملهم التطوعي الممول الذي يصبحون من خلاله فاعلين، أي نشطاء.
تجريم اللجوء أو إضفاء صفة اللاشرعية على الهجرة هو مُحفِّز ومُرسِّخ للّامساواة في التعامل مع الناس عند الحدود، وهو ما يجعل طالبي-ات اللجوء أكثر عرضة للمخاطر في رحلة لجوئهم.
ليس هناك في البوسنة دولة رفاه تتكفل بتقديم السكن والغذاء والدواء للاجئين-ات، بل يتم الحصول عليها تحت وطأة شروط وظروف سيئة، هذا إن وجدت. غالباً ما تؤمنها منظمات إنسانية عالمية ذات سياسات عمل ومقاصد مشبوهة. غالباً ما تدفع برامج عمل المنظمات الإنسانية الأوروبية بالناس إلى داخل مُخيمات، فتُبعدهم بذلك عن الحدود وعن الأمل بعبورها.
ذهاب الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية لتأمين الغذاء للاجئين-ات، وفي الوقت نفسه تمويلُ تسليحِ الشرطة الحدودية وتعاون المنظمة العالمية للهجرة IOM مع الشرطة لإخلاء المخيمات التي نظمها اللاجئون-ات ذاتياِ على الحدود، أمورٌ تبدو غير كافية للفت النظر إلى تناقض عملهم مع ما يُروِّجونه عنه.
يجد اللاجئون أنفسهم في علاقة تَبعية مع برامج المساعدة هذه، التي تصبّ سياستها في مآرب حكومات دول الاتحاد الأوروبي، فيصبح اللاجئون أداة لهذه المآرب، سواء فيما يخص أمانه٬ أو ظروفهم الإنسانية.
العمل التضامني كجزء من رأس المال الثقافي
ينشأ التضامن دوماً ضمن هيكليات اقتصادية وعلاقات سياسية مُشابهة لما وصفناه في الأعلى. وكما يطرح ياسين الحاج صالح في مقاله في نقد التضامن، فإن التضامن يأخذ شكلَ السُوق في العلاقة بين من يتلقون التضامن وبين من يعطونه.
يَظهر بُعدٌ جديدٌ في العمل التضامني على الحدود: العمل التطوعي خارج البلد يمنح الألمانَ في مثالنا، وخاصة البيضَ منهم، تجارب عملية تتبلور فيما بعد إلى رأسمال ثقافي، خاصة في أوساط اليسار الليبرالي التي يتم فيها التهليل للنشطاء في مجال العمل الإنساني. رأس المال الثقافي هذا سيمنح صاحبه/ صاحبته جاذبية، سواءً حين يكتبون عن ذلك في سيرتهم الذاتية أو يتحدثون عنه في موعد غرامي، بينما تبقى مجموعات الناس المتلقية للتضامن في هذا السياق غير مرئية وتذهب طيَّ النسيان، وفي أسوأ الأحوال يتم القبض عليهم أو ترحيلهم.
أما بالنسبة للمنظمات الإنسانية فيصبح التضامن الجماعي رأس مالٍ استراتيجي لجمع التبرعات، إذ أن تمويل هذه المنظمات والحفاظ على بقائها مرتبط برغبة الناس بالتبرع لكي يكون تَضامُنهم مرئياً. هكذا، يصبح سيناريو المهاجرين-ات غير الشرعيين-ات كضحايا مقابل منقذيهم البيض حجرَ الأساس والحافز الأهم في عملية جمع التبرعات. وحتى في أكثر السياقات اليسارية والناشطة في مجال العمل الإنساني، نكاد لا نجد منظمة واحدة تعمل في هذا المجال وتتحدث بوضوح ومباشرة عن مدى استفادتها من العنف والقَمع المنهجي على الحدود.
لا تُخاطر المنظمات الإنسانية على الإطلاق بخسارة الأساس الذي يقوم عليه عملها، والذي هو جمع التبرعات، والعاملون-ات في قطاع المساعدات الإنسانية يُفضّلون حماية مهنتهم على الحديث عن هذه الحقائق.
التضامن الإنساني هو سوق تجاري ليس فيه مكان لنقد الذات وإعادة التفكير بهيكليات عملها.
التضامن هنا والآن
ينتهي التضامن المباشر بالنسبة للكثيرين-ات من المتطوعي-ات عند العودة إلى المنزل. الحدود نفسها تفصل بين تجربتهم كمساعدين-ات على الحدود، وبين حياتهم العادية في ألمانيا التي لا تمتّ إلى ذلك بِصلة. لحظةُ الفصل هذه ثقيلة عليهم إذ يشعرون بالعجز عندما يصبحون «هنا» في منازلهم. هنا يسقط قسمٌ من مفهوم اقتصاد التضامن، فقضاءُ الوقت مع الناس وتقديم المساعدات الإنسانية لهم مقابل ابتسامة وامتنان ومشاعر جميلة لا يعود ممكناً.
هنا في داخل الاتحاد الأوروبي، فإن مكانَ عيش المساعدين-ات، وهو المكان نفسه الذي يتم فيه تشريع تلك الحدود وتمويلها، يصبح بالنسبة للكثيرين/ات من أصحاب تجربة التطوع الإنساني مكاناً لـ اللّافاعلية.
من جهة أخرى، يمنحنا إلقاء نظرة على هذا الداخل بعض الأمل، إذ أن الحدود تُشرِّع وتُمِّول من دواخل دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي هناك إمكانيات عديدة لمناقشة أشكال أخرى من التضامن السياسي وتطبيقها في ومن هذه الدواخل. لسنا مضطرين للسفر إلى البوسنة لكي نكتشف موقعنا من لعبة اقتصاد الحدود. النقدُ الذاتي للدور الذي يلعبه كلٌّ منا في هذه اللعبة مهم للغاية.
يتعرض الحيز الواسع الذي يأخذه التضامن مع أوكرانيا في الفضاء العام لنقد شعبي كبير. في خضمّ هذا النقد، تصبح لإعادة النظر في مسألة اقتصاد الحدود قيمة كبيرة في الخطاب العام الدائر حول هذه القضية.
يُبنى التضامن أحياناً على أسس عنصرية صريحة، مثلما سمعنا من مراسل في قناة ال CBC حين قال إن الأوكرانيين-ات متحضرون، على عكس باقي اللاجئين/ات.
لا يحدث وضع أشكال الانتماء في أوكرانيا في ثنائيات: أبيض/غير أبيض، مسيحي/يهودي٬ قامع/مقموع بمعزل عن العالم، بل هو جزء من تناقض الخطاب العام حول مفاهيم التضامن والهوية التي نتحدث عنها في هذا النص.
السماح للاجئين-ات بالسفر إلى برلين بقطارات الـ Deutsche Bahn هو أمرٌ جيدٌ حتماً، لكنه يكتسب طعما مرّاً عندما يتم في الوقت ذاته تجريم اصطحاب اللاجئين-ات من خارج ألمانيا إلى داخلها.