[وفا مصطفى تحمل صورة والدها علي بين صور ضحايا آخرين للنظام، خلال وقفة احتجاجية خارج القاعة التي حوكم فيها ضابطا مخابرات سوريَّين سابقَين اتُّهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في ألمانيا، حزيران 2020. الصورة: Thomas Lohnes / AFP / Getty]

 

عندما بدأت الاحتجاجات في سوريا عام 2011 ، تغيّر والدي. كان هادئاً جداً، وقال لي: «كنتُ أتمنى أن يحدث هذا طِوال حياتي، لكنني لم أعتقد مُطلقاً أنني سوف أشهده. وحتى لو لم يتسنَّ لي أن أرى الشعب السوري يظفر بالنصر، فإنه يكفي بالنسبة لي أنني شهدت البداية».

لا يسعني إلا أن أُفكرَ بهذه الكلمات اليوم.

مرَّ 3.608 يوماً منذ أن اقتحمَ شبّيحة الأسد شُقتنا في دمشق واختطفوا والدي «علي»، الذي كان مُعارِضاً صريحاً لنظام الأسد ومؤيداً للثورة السورية. كانت تلك آخر مرة رأته فيها والدتي وأخواتي أو سمعنَ صوته.

بينما تتطلّع دول الشرق الأوسط إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، بدءاً من قمّة جامعة الدول العربية التي ستقام خلال هذا الأسبوع في الرياض، والتي دُعي إليها بشار الأسد شخصياً، لا يَسعني إلا أن أتأمَّل الجرائم التي اقتُرفت بحق أسرتي، وملايين الأسر الأُخرى مثلها، وهي تُمحى من التاريخ.

في 2 تموز ( يوليو) 2013، اليوم الذي جُرَّ فيه والدي بعيداً، انهار عالم عائلتنا بأكمله في لحظة واحدة. كان الأمر مرعباً. وخوفاً على سلامتنا، وقلقاً من احتمالية تعرُّضنا للاعتقال من قبل النظام، لم يكن لديّ، أنا وأمي وأختي البالغة من العمر 13 عاماً، أي خيار سوى الفرار من سوريا.

تركنا كل شيء وراءنا، وأخذنا جوازات سفرنا فقط، وعبرنا الحدود التركية تحت جنح الظلام. مُنِحتُ آخر المطاف حقَّ اللجوء في ألمانيا عام 2016، ولكني اضطررتُ إلى ترك عائلتي خلفي في تركيا، ومازلنا مُفترقين إلى اليوم؛ أمي وأختي الصغرى في كندا، وأختي الأُخرى في الولايات المتحدة الأميركية.

الأشدُّ حزناً من انقسام عائلتنا، هو فقدان والدنا، ذلك حزننا الأبدي. عدم معرفة ما حدث له أمرٌ لا يُطاق، شيءٌ يُشبه اختبار شكل من أشكال الموت. اتَّخذنا كل الإجراءات المُمكنة لمعرفة مكانه، بِدءاً من تعيين محامين، إلى استخدام أي وسائل اتصال مُتاحة لدينا، وقوبِلنا بصَمت يصمُّ الآذان.

أنا واحدةٌ من الكثيرات والكثيرين الذين فقدوا أحبّاءهم بسبب الأساليب الوحشية لنظام الأسد.

تُشير التقديرات إلى أن أكثر من 154 ألف مدنيٍّ بريء، إما اختفوا قسراً في مراكز الاحتجاز، أو تَعرّضوا للتعذيب أو القتل على أيدي الجماعات المسلَّحة منذ بداية الثورة السورية. غالبية هذه الفظائع ارتكبها نظام الأسد، والشعب السوري يعرف جيداً أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير.

أرى في تجربتنا مأساة جماعية يعيشها جميع السوريين-ات. من الصعب أن يتصوّر المرء عائلةً في سوريا لم تشهد اعتقال واحد من أفرادها أو اختطافه أو اختفائه دون أي أثر. لا يهمُّ ما إذا كانت الضحية مؤيدة أو معارضة للثورة؛ قضيتي هي الحرية للجميع.

بالنسبة لنا جميعاً ممّن عانَينا، تُظهِر سرديّة «تخفيف التوتر» و«إعادة دمج نظام الأسد»، أنّ الصراع في سوريا كان يُنظر إليه كأزمة مؤقتة يمكن حلُّها آنيّاً بأقل جهد ممكن. إنها سرديةٌ تتجاهل حقيقة أن نظام الأسد ارتَكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، واستهداف المستشفيات والمدارس، وتهجير الملايين بشكل قسري.

التطبيع مع نظام الأسد خيانةٌ لجميع السوريين والسوريات، الذين وقَعوا ضحايا فظائعه، ورسالةٌ مَفادها أن مجرمي الحرب لن يواجهوا عواقب أفعالهم. إنها محاولةٌ لإعادة كتابة التاريخ، ومحو معاناة ملايين السوريين على يد هذا النظام.

وبدلاً من تحقيق السلام، لن يؤدي ذلك إلّا إلى تشجيع النظام على مواصلة جرائمه ضد الإنسانية، بما في ذلك الإخفاء القسري لمئات الآلاف من الأبرياء، ومن بينهم والدي.

يأتي قرار إعادة عضوية سوريا إلى جامعة الدول العربية، في وقتٍ لا يزال فيه النظام يرتكب جرائم بَشِعة بحق شعبه. السردية القائلة بأن الوضع في سوريا قد استقر وتحسّن غير صحيحة ببساطة.

أخشى أن يؤدي هذا القرار إلى المزيد من عمليات الترحيل بحق السوريين والسوريات في البلدان المُضيفة مثل تركيا ولبنان، وإلى تَوقُّف البحث عن حلول سياسية وتَوقُّف الضغط على النظام للإفراج عن مئات آلاف المعتقلين.

والدي وأنا، حلُمنا بمستقبل لنا، لكن أحلامنا تحطّمت بفعل الجرائم الوحشية لنظام الأسد. أتمنى مستقبلاً يُعثَرُ فيه على المُختفين قسرياً، ويلتمُّ شملهم مع عوائلهم؛ مستقبلاً يُمكن لجميع السوريين فيه الاحتجاج دون أن يتعرّضوا للإخفاء القسريّ أو تُزهق أرواحهم بسبب ذلك.