تُعتبَر تربية النحل من الأعمال التي لا تحتاج جهداً بدنيّاً، وتُلائم فئاتٍ كثيرةً من السكّان في الشمال السوري، فهي لا تتطلّبُ رأسمالٍ كبير، ويمكن أن يتطور مشروع التربية الصغير بزيادة عدد خلايا النحل عند وجود العناية والخبرة. كما يُقدِّم النحل خدمةً طبيعيةً للمزارعين بتلقيح أزهار المحاصيل والأشجار دون تكاليف مادية، ويُنتج العديد من المواد المفيدة لصحة الإنسان كالعسل وحبوب اللقاح وغذاء الملكات وشمع النحل وسمّ النحل، وهي موادٌ مطلوبة لأغراض غذائية وعلاجية.

أصناف النحل في شمال غربي سوريا

يقول ياسر العبدالله، مدير إحدى جمعيات النحّالين في شمال سوريا الغربي: «تأثَّرتْ تربية النحل بشكلٍ كبير منذ العام 2019 بسبب خسارة مساحات رعَوية كبيرة خلال العمليات العسكرية آنذاك، إضافةً إلى التقلُّبات المناخية وتَفتُّح الأزهار في غير أوانها، ما أثّرَ سلباً على إنتاج العسل خلال السنوات الأربع الأخيرة».

مُضيفاً أن تربية النحل من المهن القديمة، تطوّرت من الخلايا الطينية إلى الخشبية ثم إلى الخلية الفنية الحالية ذات العشرة إطارات شمعية والتي تَقبلُ التمدّد الطابقي. وتُعتبر سُلالة النحل السوري أصيلةً بصنفَيها: الغنامي والسيّافي، وهذان الصنفان مُتكيّفان مع طبيعة بلاد الشام من ناحية إنتاج العسل وتَحمُّل الأمراض، وتنتج خلية النحل من هذه السُلالة ما يقارب 15 كيلو جراماً من العسل سنوياً بمعدلٍ وسطي.

 

ويؤكد العبدالله أن سُلالة النحل السوريّ تراجعت إلى حدٍّ كبير خلال السنوات السابقة نتيجة ضيق المَراعي، إذ أن هذه السُلالة تُفضّل المراعي طويلة المدى للإنتاج بشكلٍ جيد، واستعاض عنها النحّالون بسُلالاتٍ أجنبية كالنحل الإيطالي لوتستيكا والألماني الكرونيولي وسُلاسة البكفاست الهجينة وغيرها، وهي ذات ثمن مرتفع. ولهذه السُلالات محاسنُ عديدة، فهي سريعةٌ في جمع العسل وحبوب اللقاح والعكبر والغذاء الملكي، ولكن لها بعض المساوئ، مثل أنها تحتاج عنايةً كبيرةً بخلاف السُلالة السوريّة.

ويُقدِّرُ العبدالله عدد العاملين في مهنة تربية النحل، من منطقة الباب في ريف حلب شرقاً حتى جبل التركمان في ريف اللاذقية غرباً، بنحو 400 نحّال يُزاولون مهنتهم منذ أكثر من 5 سنوات، وهناك نحّالون مُستجدون غير مسجلين في سجلات الجمعية. بينما يبلغ عدد خلايا المناحل نحو 15 إلى 18 ألف خلية حديثة فنية، وتصلُ كمية الإنتاج السنوي من العسل قرابة الـ 150 إلى 170 طن، تزيد وتنقص وفقاً لتنوّع المراعي وما يُسميه النحّالون «سنوات الخير».

ويُضيف العبدالله أن أسواق تصريف العسل خارج مناطق شمال غربي سوريا مُغلقة، وليس هناك أمام النحّالين سوى تركيا، وهو ما يؤثر على سعر العسل. ويرى أن 7 أو 8 دولارات أميركية لكيلو العسل الواحد هو السعر المقبول للنحال، إلا أنه يتدنّى بسبب إغلاق المعابر وارتفاع تكلفة الشحن.

ومع غلاء المعيشة وقلّة فرص العمل، أصبحت تربية النحل مقصداً لكثيرين بعد زيادة التوعية ودعم مشاريع صغيرة من قبل المنظمات العاملة في الشمال السوريّ، فعادةً ما تكون تربية النحل عملاً ثانوياً لتحسين الدخل وليست مصدراً أساسياً بالنسبة لمعظم العاملين فيها.

يقول سامر (36 عاماً) إنه يعمل متطوعاً مع منظمةٍ في مدينة إدلب، في الوقت ذاته يُربّي فيه 25 خلية نحل، وهي لا تُعطّله عن عمله، بل على العكس من ذلك، تمنحه دخلاً إضافياً، فخلاياه تُنتج سنويا نحو 600 كيلو من العسل، يبيع الكيلو الواحد بعد نضجه بأكثر من 10 دولارات أميركية.

 

المراعي قليلة ومحدودة المساحة

انخفض إنتاج العسل وانخفضت جودته في السنوات الأخيرة، أي منذ العام 2019، بعد إعادة قوّات النظام السوري بسط سيطرتها على مناطق واسعة في أرياف إدلب وحلب وحماة، والتي كانت تضمّ أهم المراعي الطبيعية للنحل في شمال غرب سوريا، لِتَوفُّر أزهار حبة البركة واليانسون والكزبرة وعبّاد الشمس والخضار الصيفية. في حين باشر النحّالون باستيراد أنواع جديدة «هجينة» من ملكات النحل، تُنتج عاملاتِ نحلٍ ذات أداء أفضل من النحل السوريّ، بُغيَة تعويض نقص المراعي. كما اعتمد المربّون على إنتاج ملكات النحل لبيع «الطرود»، وهي خلية صغيرة تنقسم عن الخلية الأم طبيعياً أو بتدخلٍ مباشرٍ من مربّي النحل، وتتم تغذيتها بالمحلول السكري لتقويتها، ولكن هذا يؤدي إلى انخفاضٍ ملحوظ في إنتاج العسل الطبيعي وجودته.

ويتحدث أبو أيمن، من سكان جبل التركمان في ريف اللاذقية، أنه انتقل لتربية السُلالات الأجنبية بعد نجاحه باستيراد ملكة نحل نوع بيكفاست بمبلغ 800 دولار أميركي. وتتميّز هذه السُلالة وفق قوله بأنها «أكثر إنتاجاً للعسل، ونحلها أكثر هدوءاً». وقد لجأ إلى هذا الخيار بعد أن تقلّصت مساحة المراعي الطبيعية بشكل كبير. ويعمل أبو أيمن اليوم على بيع الطرود والملكات الملقّحة إضافةً إلى العسل: «النحل السوري الأصيل لم يعد موجوداً بسبب عمليات التلقيح الطبيعية بعد دخول سُلالات النحل الأجنبي، في حين أن سُلالات النحل التي يدّعي مربوها بأنها سوريّة هي في الحقيقة غير أصيلة، وصارت عبئاً على مربّيها لضعف إنتاجها».

ويؤكد أبو أيمن أنه يعمل حالياً على ثلاث سُلالات هي البكيفاست والكرنيولي واللكوستيكا لإنتاج ملكات نحل مرغوبة من المُربّين، وهي سلالات ذات إنتاجية عالية من العسل وسلوك هادئ غير عدواني. ومع تقلّص المساحات الرَعوية، لجأ بعض مربي النحل لـ«التغذية السكرية»، وهي عبارةٌ عن خليطٍ من الماء والسكر، يضعونها في وعاءٍ داخل خلية النحل لإنتاج عسل بكميات كبيرة طمعاً بالربح، وقد أثّر ذلك على مُنتجي العسل الطبيعي نتيجة منافسته في السعر وصعوبة تمييز المستهلِك بين الصنفين الطبيعي والمُغذَّى.

 

لدى أحمد المصري، وهو نَحّال من بلدة مشمشان في ريف جسر الشغور، 150 خلية نحل، ويُخبرنا أن العسل يُباع بفارقٍ كبير بالسعر بين المفرَّق والجُملة بسبب العرض الكبير للمنتَج، إذ يَستغلّ تجار الجملة وجود عسلٍ ذي نوعية رديئة في الأسواق لخفض سعر العسل الطبيعي وزيادة أرباحهم. مُضيفاً أنه يُنتِجُ العسل الطبيعي، لكنه يُضطر لبيعه بسعر السوق الذي لا يتجاوز 8 دولارات أميركية للكيلو الواحد، بينما يبيعه لزبائنه الذين يطرقون بابه بـ 12 دولار أميركي. مؤخراً، اضطُر المصري لبيع إنتاج خلاياه من العسل والشمع وغبار الطلع وغذاء الملكات لتاجر جملة رغم فارق السعر الكبير، لأنه يَعتبر أن حصوله على الأموال دفعةً واحدةً أفضل من أن يتكدّس إنتاج مَنحلِه طيلة العام، مُعتمداً على زبائن يشترون بالمُفرَّق.

عبد الرحمن، نازحٌ من حمص إلى مدينة عفرين بريف حلب، ولديه مَنحلٌ يتألف من 50 خلية، يُحدّثنا عن الجدوى الاقتصادية لإنتاج العسل المُغذَّى: «يُنتج طن السكر الواحد قرابة 400 كيلو عسل مُغذّى، تُباع بسعر 2000 دولار أميركي، بينما سعر طن السكر مع تكاليف التغذية وجني العسل لا يزيد عن 1000 دولار أميركي، ونستطيع تكرار العملية كل شهرين على مدار العام، باستثناء 4 أشهر خلال الشتاء وبداية الربيع».

لا يعمل أبو حسن (41 عاماً) في تربية النحل، ويكتفي ببيع العسل بعد شرائه من النحّالين، ويقول للجمهورية.نت «إن غالبية العسل المتواجد في الأسواق هو من النوع ‘المغشوش’، لأنه يختلف عن أنواع العسل التي كانت تُنتجها إدلب فيما مضى، ويمتاز عسل حبة البركة بلونه الأسود ومذاقه القريب من مذاق حبات البركة. بينما اليوم أصبح لونه فاتحاً وطعمه يختلف تماماً، وهو قريبٌ من طعمة الكراميل (السكر الذي يتعرض لحرارة)، وهناك تفاوتٌ في الأسعار دون وجود رقابةٍ عليها».

يؤكد بائع العسل أبو عادل (49 عاماً)، النازح من جبل الأكراد في ريف اللاذقية، ما قاله أبو حسن، مضيفاً: «تتفاوت أسعار العسل بين الجملة والمفرّق، فيُباع للمستهلكين النهائيين بما يتراوح بين 10و15 دولار أميركي للكيلو الصافي، أما سعر الجملة للتّجار فلا يزيد عن 9 دولارات في أحسن أحواله». مُعتبِراً أن التفاوت في أسعار العسل يعود إلى عكوف مربّي النحل على التغذية السكرية نتيجة قلّة المراعي الطبيعية، وهو ما يُفقد العسل خصائصه العلاجية، فضلاً عن لونه ومذاقه.

ويشرح أبو عادل عن أنواع العسل المتوافرة: «المراعي في شمال غربي سوريا ثابتة تقريباً، وتتلخّص في مراعي رئيسية طيلة فترة عمل النحل. ففي غرب إدلب على سبيل المثال، يتوفّر عسل حبة البركة، وهو العسل الأكثر طلباً للعلاج، فضلاً عن عسل اليانسون والشوكيات والجيجان، بينما في بداية العام خلال فترة إنتاج الحمضيات واللوزيات والمحلب، فالنحل لا يخزّن العسل لأنه يكون في مرحلة التحضير والتكاثر وبناء الشمع. وينطبق الأمر نفسه على فترة نهاية العام، عند تفتّح أزهار الطيون، وهي نباتات تنمو في جبال اللاذقية غربي محافظة إدلب، ولا يتم خلالها جني العسل من المناحل لأن الخلايا تكون في طور التحضير لفصل الشتاء وتخزين المؤونة».

 

صعوبات تربية النحل

لا تخلو مهنة تربية النحل من مصاعب فَرضتها الظروف الحالية في شمال غربي سوريا، وأكبرها تسويق المنتوجات في ظل وجود عدة أنواع منه، وأصبحت هذه الصعوبات تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على تربية النحل في المنطقة دون الوصول إلى حلول مفيدة. وعن الصعوبات التي تواجه مربّي النحل، أخبرنا أبو صالح أنها متعددة، ولكنّ أبرزها «عدم تسويق منتوجاتنا إلى الخارج مثل دول الخليج ولبنان وتركيا، لأنّ الداخل لا يستهلك ربع كمية الإنتاج؛ وزيادة تكاليف الإنتاج والتنقّل بين المراعي بسبب غلاء الوقود؛ إضافةً إلى دخول منتوجات مستوردة مصنّعة تشابه العسل وبأسعار زهيدة تضارب على أسعار العسل الطبيعي».

محمد الرحمون (39 عاماً) من ريف معرة النعمان جنوب إدلب، وقد ورث مهنة النحل عن والده وجَدّه وحافظ عليها من خلال مواصلة عملهم. حَدَّثنا الرحمون عن الصعوبات التي يتعرض لها في عمله: «هناك صعوبة في تأمين المواد الأساسية مثل السكر الذي يرتفع سعره بشكلٍ متواصل، فقد وصل سعر الطن الواحد إلى نحو 850 دولار أميركي، والشمع الذي وصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 12 دولار أميركي، عدا أسعار الأدوية لمعالجة آفات وأمراض النحل».

ويُعدّ رشّ النباتات بالمبيدات الحشرية أحد أهم معوقات تربية النحل، وخصوصاً مع تزايد رشّ المزروعات بشكلٍ عشوائي دون أخذ حياة النحل بعين الاعتبار. ويقول أحمد جاسم، وهو صيدلاني زراعي في إدلب، إن المبيدات الحشرية والفطرية تهدّد حياة النحل، وهي ذات فعالية قوية على الجهاز العصبي للحيوانات والحشرات. ويقدم نصيحةً للمزارعين بأن يستخدموا مبيداتٍ آمنةً على النحل، فضلاً عن وجوب استعمال شاراتٍ تحذيرية أثناء عملية رش المبيدات حفاظا الثروة الحيوانية والنحل تحديداً. وأشار الصيدلاني إلى أنه يتوجب على أصحاب الصيدليات الزراعية ألّا يعطوا المزارعين مثل هذه المبيدات إلا في حالات الضرورة القصوى.

يُجمِع مربّو النحل على أن المهنة في انحدار، فالمراعي لا تتناسب مع أعداد خلايا النحل في منطقةٍ مُحاصرة، وهذا ما يؤكده النّحال الحاج عبدو من مدينة جسر الشغور، قائلاً إنه كان يتنقّل بخلاياه بين حمص ودمشق والرقة إضافةً لإدلب بحثاً عن المراعي الطبيعية. أما اليوم، فقد أصبح النحل يعيش على الفُتات في منطقة محصورة بين مدينة الباب شرقاً وصولاً إلى جبل التركمان في ريف اللاذقية.

تدهورت مهنة تربية النحل بسبب معوّقات التربية آنفة الذكر، ابتداءً من استبدال السُلالة الأصيلة المُتناسبة مع المنطقة وطبيعتها بسلالاتٍ أخرى هجينة، وما تبع ذلك من انخفاض جودة العسل واختلاط الأنواع المغشوشة مع العسل الصافي وصعوبة تسويق الإنتاج خارج حدود المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري.