لِلحظات، لم يعنِ تاريخُ الرابع عشر من شهر أيار أي شيء بالنسبة لأبي أحمد. كان يعرف بأني آتٍ لأسأله عن رأيه في الانتخابات التركية. تَذكَّرَ لوحده، وتحدَّثَ عن كونه سيشارك للمرة الأولى يوم الأحد المقبل في التصويت ضمن انتخابات ديمقراطية وهو بعمر 62 عاماً. هذا ليس قليلاً بالنسبة له. ولدقائق، تحدَّثَ عن هذه النقطة بالذات، عن كيف سيصل إلى المركز الانتخابي ويشارك كمواطن في هذا الحدث السياسي.

أبو أحمد الذي أتى لاجئاً إلى تركيا قبل أكثر من عقدٍ من الزمن، يشعر بالفخر لأنه وأخيراً أصبح قادراً على اختيار ممثليه السياسيين. بالنسبة للعديد من السوريين الذين عاشوا خلال فترة حكم حزب البعث والأسدَين، لم يكن لأي انتخابات معنىً طالما أنّ الفائزين فيها معروفون مسبقاً، سواء في انتخابات الجمعيات الفلاحية والعمالية أو النقابات أو البلديات أو مجلس الشعب، أو في الاستفتاء على رئيس الجمهورية بالطبع.

***** 

وصلت أولى قوافل اللاجئين السوريين إلى تركيا في شهر نيسان (أبريل) من عام 2011. وبينما كانت الموجة الأولى بالعشرات، سرعان ما ارتفعت أعداد اللاجئين لتتجاوز الأربعة ملايين لاجئ في فترة من الفترات. تقول مديرية الهجرة التركية بأنّ عدد السوريين الحاصلين على بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) في تركيا اليوم يبلغ 3.4 مليون تقريباً، أما بالنسبة لحاملي تصاريح الإقامة السياحية أو الإنسانية بين السوريين، فتُشير بيانات دائرة الهجرة في الفترة ذاتها إلى أن عددهم حوالي 178 ألف سوريّة وسوريّ.

في بداية شهر تموز (يوليو) عام 2016، صرّحَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوجوب منح جزء من اللاجئين السوريين، خاصةً أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، الجنسية التركية. وبالفعل قام البرلمان التركي في الثامن والعشرين من الشهر نفسه بإدخال فقرة جديدة على المادة 12 من قانون الجنسية التركية الصادر عام 2009، تسمح لمجلس الوزراء بترشيح حاملي بطاقة الحماية المؤقتة وتصاريح الإقامة لنيل الجنسية التركية بطريقة استثنائية، لامتلاكهم مهارات تحتاجها تركيا.

حصلَ خلال السنوات الماضية حوالي 230 ألف سوري على الجنسية التركية، بينهم ما يقارب 130 ألفاً يحقُّ لهم التصويت في الانتخابات الحالية، وذلك بحسب تصريحات لوزير الداخلية سليمان صويلو في شهر نيسان الماضي. ما يعني بأنّ نسبة السوريين القادرين على التصويت في الانتخابات المقبلة من مجموع أعداد السوريين في تركيا هي 3.66 بالمئة.

كيف ينظر بعض هؤلاء للانتخابات النيابية والرئاسية التركية التي ستجري بعد أيام قليلة؟ ما الذي يحكم اتجاهات تصويتهم؟ 

 مواطنون بعقلية لاجئين

في الطريق إلى وسط مدينة غازي عنتاب لكي ألتقي أبو أحمد، فكّرت: لا بدّ أن تكون الأوضاع الاقتصادية أحد العوامل التي يفكر فيها تاجرٌ من مدينة حلب يعيش اليوم في تركيا. دخلتُ إلى البناء التجاري حيث يقع مكتبه في الطابق السادس، وجدتُ مكتباً فارغاً من الموظفين: «لقد تقاعدت. آتي هنا لتمضية الوقت أحياناً»؛ يقول أبو أحمد (62 عاماً). قلتُ لنفسي؛ إذاً لن يكون حالُ الاقتصاد مهماً للغاية.

وصلَ أبو أحمد (فضّلَ أن أشير له بلقبه) مع عائلته قبل قرابة الاثني عشر عاماً إلى تركيا، تاركاً منزله في حلب الجديدة ومَحلَّه في السويقة حيث كان مركز نشاطه في التجارة. جاء إلى تركيا التي كان يعرفها مسبقاً من خلال تعامله مع زبائن أتراك يأتون لمحله، أو من خلال زياراته لمدن مرسين وغازي عنتاب.

«ظننتُ أنّي أعرفها، بدأتُ عدداً من المشاريع وفي كلّ المرات قام الشريك بالسيطرة على المشروع. في بعض الحالات كانوا أتراكاً وفي أخرى سوريين». سألته إن كان قد حاول القيام بإجراءات قانونية من أجل تحصيل حقوقه تلك، فأجاب بأنّ وضعنا كلاجئين سوريين، حتى بعدما حصلتُ على الجنسية التركية، قلق: «لا أظنّ أنّ هناك أملاً في استعادة أموالي من تلك المشاريع. نحن سوريون، وكان يمكن أن يتم ترحيلنا قبل حصولي على الجنسية. ظَهرَتْ إحدى تلك المشاكل عندما كان ملف عائلتي قيد الدراسة للحصول على الجنسية، لذلك فضلّتُ عدم رفع دعوى لأنني سمعت بأنّ ذلك سيؤذي ملف التجنيس».

لا يتحدث أبو أحمد اللغة التركية، قال بأنّه حاول تعلمها عدّة مرات، لكنّ السنّ على ما يبدو يؤثر على قدرة التعلّم كما يقول. هو يتقن الأساسيات التي تُمكِّنه من إجراء تعاملات بسيطة كان قد تَعلَّمها من الزبائن الأتراك في حلب، وعندما يحتاج الأمر أكثر من ذلك فإنّ بناته تَعلَّمنَ اللغة بشكل جيد، ما يسمح له بالاعتماد عليهنّ.

حصل أبو أحمد وعائلته على الجنسية التركية في عام 2018، وهو يعيش اليوم متقاعداً في مدينة غازي عنتاب، يراقب التصريحات التركية عبر الإعلام العربي والسوري الموجود في تركيا. مخاوفه الأساسية بشأن اللاجئين السوريين الذين لا يحملون الجنسية التركية، هؤلاء قد يصبحون هدفاً للترحيل، لكنّه عقّبَ: «لا أحد يستطيع ترحيل الجميع، هناك اتفاقات دولية تحمينا، لكن ربما ستصبح الظروف أصعب».

يُعرِّفُ أبو أحمد نفسه كحلبي وسوري، فهذا ليس سؤالاً يتطلّبُ الكثير من التفكير بالنسبةِ له. يُكمل فنجان القهوة التركية التي يشتريها من محل سوري قرب مكتبه (يختلف تحضير القهوة التركية بين السوريين والأتراك. يضيف السوريون للبن المطحون جيداً حبوبَ الهيل المطحونة أيضاً)، وعندما تحدثنا عن التقارب الذي تجريه الحكومة التركية الحالية مع النظام السوري قال بحسرة: «حرام تضيع، تتلفلف ببوسة شوارب، هاد رح يكون أخطر شي». 

قرَّرَ أبو أحمد التصويت لتحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، فهو يرى أن حزب العدالة ورجب طيب أردوغان هما الخيار الأفضل بالنسبة للسوريين ولتركيا أيضاً. وعودُ المعارضة التركية المتكررة بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم كانت أحد أسباب اختيار أبو أحمد لأردوغان، لم يكن مهتماً كثيراً بالسياسة في سوريا، ويبدو له أردوغان بتوجهاته المحافظة أقرب لما يَتخيله في برنامج سياسي يتقاطع مع آرائه. عندما سألته إن كان اطَّلَعَ على البرنامج الانتخابي الذي قدمته أحزاب تحالف الطاولة السداسية المعارضة، أجاب بالنفي.

 ***** 

ليس بعيداً عن مكتب أبو أحمد في غازي عنتاب، في مقهى كان في الأصل مشروعاً مُشترَكاً بين سوريين وأتراك، جلست دعاء (29 عاماً) لتتحدث معي عن رأيها بخصوص الانتخابات التركية. عندما سألتها عن العام الذي أتت فيه إلى تركيا، تفاجأت بعدد السنوات التي قضتها، إذ لم يخطر لها حسابُ ذلك سابقاً: «9 سنين!».

حصلت دعاء على الجنسية التركية خريف العام 2017، لكنّها قررت عدم التصويت في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2018: «كنتُ قد بدأتُ دراستي في الجامعة التركية باختصاص علاقات دولية، وفضّلتُ أن أعرف أكثر عن السياسة التركية قبل أن أُصوِّتَ في الانتخابات».

لم يكن الحديث في السياسة أمراً حاضراً في نقاشات دعاء مع أصدقائها الأتراك، لكن حديثاً عابر مع صديقة غَيَّرَ نظرتها لما يجري في تركيا: «في سوريا، الجيش والأمن يرتكبون الفظائع، لذلك كنت أنظر للشرطة في تركيا على أنهم مثالٌ ممتاز لما يمكن أن يكون عليه رجال الأمن. قلتُ ذلك لصديقتي، التي اعترضت. وعندما بَدأَتْ تشرح لي الأوضاع السياسية في تركيا، بدأتُ أُكوِّنُ أولى آرائي فيما يخص السياسة في هذا البلد».

تنحدر دعاء من الجولان السوري، عاشت ووالديها المهجرين من قراهم في الجولان المحتل في مدينة دمشق، وإلى اليوم فإنّ الحديث عن الانتماء هو حديثٌ معقد بالنسبة لها: «كان يُشار إلينا في سوريا باسم نازحين، وفي تركيا يشار إلينا باسم لاجئين سوريين، حتى بعد حصولي على الجنسية التركية لا أُحس أنّ شيئاً قد تغير».

تتحدث دعاء باللهجة المحكية السورية البيضاء، تقول إنّها نسيَت لهجة أهل الجولان التي لا تستطيع التحدث بها، كان ذلك في البداية نتيجة التعليقات والتنمر الذي رأته في المدارس السورية عندما كانت طفلة، لكنه استمرَّ لاحقاً. وبالنسبة لوضعها اليوم بعد حصولها على الجنسية التركية، تقول دعاء: «لا أرى نفسي مواطنة تركية. الأمر معقد أكثر من ذلك بالنسبة لي». ردُّ فعل الأتراك على حصولها على الجنسية يلعب دوراً أيضاً كما تشير.

تعترف دعاء بأنّ دائرة أصدقائها وصديقاتها الأتراك تعمل كلها في المجال الحقوقي، حواراتها السياسية تقتصر عليهم، لذلك فإنّ التوجهات التي يغلب عليها الاقتراب من اليسار هي السائدة بينهم. رأيها السياسي ليس مجرد انعكاس لذلك كما تقول، لكنّ الأمر يحمل تأثيراً على توجهاتها في اختيار مرشحيها في الانتخابات التركية. تخطط دعاء للسفر وإكمال دراستها خارج تركيا، ربما ستعود وربما لا، هذا ليس أكيداً بالنسبة لها.

اختارت دعاء التصويت لحزب اليسار الأخضر، وهو حزب يساري جديد يَترشَّحُ على قوائمه مرشحو حزب الشعوب الديموقراطي. لن تصوت في الانتخابات الرئاسية كما تقول: «لا يوجد مُرشَّح مناسب من وجهة نظري في هذه الانتخابات».

 ***** 

في لقاء آخر أجريته عبر الانترنت مع شاب سوري في الخامسة والعشرين من عمره، يعيش في مدينة شانلي أورفا (فضّلَ عدم التصريح عن اسمه. سأشير إليه باسم رامي)، قال إنّ جميع أحزاب المعارضة بمن فيهم الحزب الجيد قاموا بالتواصل معه من أجل الانتخابات: «الحزب الجيد لديه أعضاء يتحدثون العربية، قاموا بالتواصل معي لإقناعي بالتصويت لهم، لن أقوم بذلك بالتأكيد. يريدون ترحيل السوريين، سأصوت لأردوغان بالطبع».

محمد (30 عاماً) هو صحفيٌ يعيش في إسطنبول، لم يكن فخوراً بما قاله لي: «سأصوّت لأردوغان». هو لا يتفق مع سياسته في سوريا ولا حتى في تركيا، لكنه يرى أنّ الخيار الآخر أكثر سوءاً بكثير، ليس من ناحية وعودهم بترحيل السوريين فقط، لكن أيضاً بالنسبة للاقتصاد والاستقرار في تركيا: «كيف سيحكم ستة أشخاص بلداً؟ هل سيتفقون على كل شيء؟ ستظهر خلافات تطيح بالاستقرار»، يقول محمد.

حصل كلٌّ من رامي ومحمد على الجنسية التركية منذ عامين تقريباً، يتحدث الاثنان اللغة التركية بطلاقة. يقول محمد: «السوريون الذين يتحدثون التركية يواجهون عنصرية أكبر، لأنّهم يفهمون جمل الأتراك المواربة والتعليقات العنصرية التي يقولها بعضهم دون أي إحساس بالخجل».

«سوريا تاون»

غالباً ما اختار السوريون القدوم إلى المدن التركية التي تعيش فيها غالبية من أبناء محافظتهم أو مدينتهم ضمن مجتمع اللاجئين السوريين. 

في شانلي أورفا يشكل السوريون 13.75 بالمئة من عدد سكان الولاية التركية الحدودية، وينحدر معظمهم من محافظتي الرقة ودير الزور. وغالباً ما فضّلَ أبناء مدينة حلب الذين لجؤوا إلى تركيا الاستقرار في غازي عنتاب لمعرفة العديد منهم بهذه المدينة سابقاً، ولقُربها من حلب، ولأنّ سوريين من حلب يعيشون فيها. ساهمَ استقطاب المدينة للعاملين في المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني بكسر حدّة الغلبة الحلبية على المجتمع السوري في المدينة، لكنّ تراجع أعداد المنظمات العاملة في المدينة مؤخراً، والهجرة نحو أوروبا، أمورٌ أعادت ترجيح الكفة لصالح المنحدرين من مدينة حلب. ويشكل السوريون في غازي عنتاب 17.19 بالمئة من عدد سكان الولاية، وعلى الرغم من أنّ أعداد السوريين في ولاية إسطنبول هي الأعلى في تركيا (أكثر من نصف مليون سوري)، لا يشكلون سوى 3.23 بالمئة من سُكّانها.

وبحسب مؤشر ضغط السوريين لعام 2019 (Syrians Biometer) وهو بحثٌ يتم إجراؤه سنوياً بدعم من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وبإشراف أكاديمي، فإنّ نسبة التوزُّع الإثني للاجئين السوريين غير معروفة بدقّة، لكنّ تقديرات الباحثين تقول بأنّ 80 بالمئة منهم عرب، بينما تتراوح نسبة الكُرد والتركمان بين 10 إلى 15 بالمئة، وهي نسبة تتوافق مع النتائج التي حصل عليها الباحثون عند سؤال عينة البحث من السوريين عن لغتهم الأم.

يقف حاجز اللغة أمام اندماج كثير من السوريين ضمن المجتمع التركي، بما في ذلك فهم الدوافع السياسية والنقاشات المرتبطة بالانتخابات من وجهة نظر الأتراك. يقول مؤشر ضغط السوريين في نسخته لعام 2021، بأنّ قرابة 20 بالمئة من عيّنة السوريين المستطلَعةِ آراؤهم في البحث قالوا إنّهم يتحدّثون التركية بطلاقة، و30 بالمئة يتحدثون التركية بشكل متوسط، وهي نسب منخفضة للغاية. ويضيف الباحث أنّ تقديرات السوريين لمستوى طلاقتهم باللغة التركية قد تكون غير دقيقة أيضاً، إذ أجاب عددٌ من السوريين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة بأنّ مستواهم في اللغة التركية مُتقدِّم، وأشار الباحث إلى أنّ ذلك قد يعني بأنهم ينظرون إلى لغة التعامل اليومي بشكل أساسي باعتبارها الجانب الأهم.

يعيش السوريون ضمن هذه الظروف في مجموعات مغلقة، وأحياناً ضمن مجموعات فرعية تراعي الانتماء المناطقي، يقول رامي: «ليس لديَّ أصدقاء كثيرون من محافظة الرقة، معظم معارفي هنا من دير الزور، لا أظن أنّ الأمر كان مقصوداً لكن هذا الواقع». وفي غازي عنتاب، يعيش ويتفاعل أبو أحمد بشكل أساسي مع أصدقاء وأقارب من محافظة حلب.

لم يغير معظم من التقيتهم الكثير من العادات الاجتماعية التي كانت معروفة في سوريا. الأمر غير مطروح للنقاش أصلاً، وكان السؤال عنه مُستغرَباً في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من أنّ ثلاثة أرباع الأتراك الذين استُطلِعَتْ آراؤهم في بحث مؤشر ضغط السوريين يرون بأنّ السوريين مختلفون عنهم، لكن التقارب في الكثير من العادات والاحتفالات الدينية سمحَ بهامش كبير للسوريين من الحفاظ على طقوسهم.

مؤخراً خلال العام الماضي تنبهت الحكومة التركية لتركز السوريين في أحياء بعينها ضمن المدن التي يتواجدون فيها بكثافة، فقامَتْ بإجراءات لمنعهم من امتلاك أو استئجار بيوت في تلك الأحياء، كي لا تزيد نسبة السوريين عن 25% في كل حي، خوفاً من «سوريا تاون» ربما.

وفي سوريا تاون هذه، أو في المجتمعات الجديدة للاجئين السوريين، فإنّ العوامل التي تحكم توجهات المُجنَّسين منهم في العملية الانتخابية تختلف بالتأكيد عن تلك التي تحكم الأتراك. في سوريا تاون ليس هناك مُرشَّح، بل شبح، شبحُ الترحيل يؤثر على الجميع ويَحكم بلا شك توجهات حتى المُجنَّسين منهم.