(1)
كان الفصل صيفاً، والحرارة كافية لأن تلعب برأس طفل صغير مثلي، وتحجبه عن الفكرة التي عرضها عليه والده وانتظرَ أياماً قبل أن يأتي يوم الجمعة لتنفيذها. لم آبه في ذلك الوقت للحرارة، ولم تمنعني الشمس الحادّة التي استقبلتني من شبّاك المطبخ صباحاً عن تجهيز نفسي وارتداء «الكنزة» الزرقاء التي أهداني إياها والدي منذ أشهر قبلها. إلحاحي الصباحي خلقَ ابتسامتين على وجهَيّ أمي وأبي، ثم فهمتُ أن الوقت مبكّرٌ جداً على الذهاب، فعلى والدي أن يُصلّي الجمعة أولاً قبل أن يحين الموعد الذي جاء متأخراً عليَّ رغم ساعاته التي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لا أذكر على وجه الدقة في أي شهر كنّا، وربما لم أكن أعرف أسماء الأشهر بعد، لكنني أتذكر الطريق جيداً، ناظراً من شباك السيارة إليه. بدأت رحلتنا، التي اعتبرتُها رحلة، بالخروج من الخالدية من جهة كراج اسمه 8 آذار، مخصّص للسيارات الذاهبة إلى طرابلس وبيروت، قاطعين كازية أبو زيد باتجاه طريق حماة، ليصبح حيُّ القصور على يميننا بمبانيه المُتراصفة والمتلاصقة وألوانها المُشتقة من لون التراب بكافة درجاته كأنها مستعدة لحرب قادمة، وحيُّ الخالدية على يسارنا، يفصلنا عنه صف مبانٍ عالٍ يحجب ما خلفه وساقية ري شُيّدت أيام الاحتلال الفرنسي.
كان أوتستراد حماة من الأطول والأعرض في حمص، بل هو الأعرض في المدينة ربما في ذلك الوقت، يتّسع لثلاث حارات من على الطرفين، قبل أن يُواجهه دوّار المطاحن، الذي يَقْسِم مسار الطريق إلى اثنين، الأول من اليمين باتجاه الكورنيش وطريق الشام والثاني من اليسار نحو جورة الشياح والساعة القديمة. وفي المنتصف بين الطريقين يقع كراج الكرنك الوحيد في المدينة للتنقل إلى بقية المدن السوريّة، والذي يربط المدينة بالبلدات والقرى المحيطة بحمص، قبل أن يُغلَق بعد سنوات قليلة وينتقل إلى خارجها من طرفها الشمالي مقابل معمل السكر ويصبح اسمه «كراج البولمان»؛ لتتولى شركات خاصة تسيير الرحلات بين المدن، على عكس الكرنك الذي كان مملوكاً للدولة وحان موعد تقاعد باصاته المشهورة بلونها الأبيض والبرتقالي.
على الزاوية الشمالية الخارجية للكرنك مقابل الدوّار محلاتٌ للمشروبات الروحية، وكنتُ ممنوعاً في سنين لاحقة، استطعتُ فيها التجول بمفردي في الحي ومحيطه، من المرور عبر هذا الرصيف المقابل لتلك المحال، وإذا ما أردتُ يوماً أن أقطع طريق حماة فإنه كان يجب عليّ قطعه من النقطة الأعرض والأخطر للشارع، حتى لا أقترب من تلك المحلّات. لكنّي تجاوزتُ هذا المنع بفضول مُراهق أراد أن يستكشف مرة واحدة فقط، فقطعت الطريق من هذه النقطة، مرَرْتُ أمام هذه المحال واحداً واحداً، كان الوقت عصراً ويبدو أن لا زبائن سوى اثنين، رأيتهما خارجَين من أحد المحلات يحمل كل منهما كيساً أسود بيده، يلتفّ حول شيء لا يظهر منه، ويخرج من أعلى الكيس الأسود «شلمونة» ذكرتني بالمدرسة الابتدائية عندما كنا نشتري بعد المدرسة «كازوزة» يُفرِغُها لنا البائع في كيس شفاف صغير يكتسب لونه من لون الكازوز، مع شلمونة تخترق الكيس كي نشربها في طريقنا ولا ننتظر أمام محلّه.
بَقي مكانُ الكراج القديم فارغاً حتى وقتنا الحالي، وظهرت الكثير من الشائعات بعد إخلاء الكراج الذي كان يُضفي حيوية كبيرة على المنطقة كونه يقع بين القصور والخالدية وجورة الشياح؛ أبرز تلك الشائعات التي استولت لفترة طويلة على أذهان الأهالي، أن الكراج عائدٌ لسيدة حُمْصية مُغتربة وثريّة ستقوم بمشاريع عديدة مكان الكراج الذي قررت هدمه، ثم تبيّنَ لاحقاً أن الأرض عائدةٌ إلى مجلس المدينة وهو مَن هدمَ الكراج، وهنالك مشاريع مخططة للمكان، منها مشروع مجمّع «النماء السياحي» التابع لشركة إماراتية. بقيَ الأمر في إطار الشائعات حتى قام مجلس المدينة بعد أكثر من عشر سنوات بعرض الأرض للاستثمار، وقيلَ إن المشروع رسى على مستثمر سوري، وإن الجهة المنفذة ستكون أجنبية، وسيتضمن المشروع مطاعم وفندقاً والعديد من الأنشطة السياحية الأخرى تحت اسم مشروع آصال السياحي. تم ربط الأمر بمشروع حلم حمص للتزامن في التوقيت، وهو المشروع الذي وقف في وجهه أهالي المدينة سنوات طويلة. لم ينفّذ مشروع «الحلم»، وبقيت أرض الكراج فارغة بانتظار الدبابات التي تمركزت فيها سنة 2011 تحضيراً لقصف طويل المدى هدم كل ما حول الكراج.
كان الطريق فارغاً من السيارات تقريباً مثل كل أيام الجُمع، يومُ العطلة الرسمية الوحيد آنذاك. قطعنا طريق حماة باتجاه إشارة المشفى الوطني وإشارة مدينة الملاهي الواقعة في البساتين المقابلة لجورة الشياح، قبل أن تُزال الملاهي وتُفرّغ البساتين من أهلها بانتظار مشاريع تنموية أخرى، ثم إشارة الدبلان وإشارة الملعب البلدي التي ما إن وصلناها حتى انعطَفنا يميناً في شارع الملعب لأرى لأول مرة في صدر الشارع مكاناً بدا لي عالياً وصاخباً. هذه المرة الأولى التي آتي بها إلى هنا، أو على الأقل هي المرة الأولى التي أتذكرها. كنت صغيراً لا أتجاوز الخامسة من العمر.
صففنا السيارة في الأزقة الفرعية قرب فندق الميماس، ونزلنا لنُكمل مشوارنا الذي أصبح قريباً مشياً على الأقدام، بين جموع غفيرة تتزايد باطراد. كنت أمشي على يمين أبي الذي أمسك يدي الصغيرة بيده الضخمة، اشترى بطاقة واحدة بخمسة وعشرين ليرة، فالطفل الصغير لم يكن بحاجة إلى بطاقة دخول، ثم انطلقنا بين الجموع الكبيرة نحو الملعب لنجلس مقابل السدّة الرئيسية على يمين صورة «القائد الخالد» الذي كان «أباً قائداً» حينها، نتابع مباراة فريقنا: الكرامة.
(2)
كانت المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى الملعب البلدي، الملعب الوحيد في المدينة تلك الفترة، قبل أن يُشرَع ببناء ملعب الباسل في بابا عمرو مطلع الألفية الجديدة، الملعب الذي حطّت فيه طيارة هليوكبتر حملت بشار الأسد بعد سيطرة قواته على الحي في 2012. هي المرة الأولى إذن، ولم يُسمح لي بالذهاب بعدها خلال طفولتي إلّا مرات قليلة مع أبناء عمومتي وأبناء عماتي الأكبر مني بسنواتٍ كافية لأن يُسمح لهم بالذهاب وحدهم، ذلك بعد أن اعتكفَ والدي عن حضور المباريات في الملاعب لأنه أصبح أباً للمرة الثالثة، واكتفى بمشاهدتها على القناة الأرضية الثانية التي كانت تفتح برامجها يوم الجمعة، استثناءً، خلال موعد المباراة في الساعة الثانية ظهراً، في حين أنها عادةً لا تفتتح برامجها حتى الساعة السادسة مساء وتُغلق بثّها قرابة منتصف الليل.
كنت أُرافقهم مرفوعاً على أكتافهم كي لا أضيع منهم بين الأقدام في الازدحام الكبير أمام البوابات القليلة المفتوحة للجمهور للدخول إلى الملعب، ومعي خمسون ليرة ثمن البطاقة التي ارتفع سعرها في تلك الأثناء، وكان ذهابي معهم مشروطاً بأن تكون المباراة إحدى تلك التي لا تشهد ضغطاً جماهيرياً ولا تحمل نوعاً من الحساسية كمباراة الديربي مع الفريق الجار في المدينة، وهي مُقتصرة على مباريات قليلة في الموسم الواحد، فأنا ما زلت صغيراً وتلك المباريات قد تحمل بعض المشاكل. لكن عنادي وإصراري منذ طفولتي أتاح لي حضور مباريات أكثر من المسموح لي تحت ضغط العائلة والأقارب، الذين يتكفّلون بي باعتباري أصغر أفرادهم. كنت أحمل أملاً طفولياً بأن إحدى تلك المباريات ستحملُ نبأ فوزنا بالدوري من جديد، ذلك أنني تحمّلت الانتظار الطويل للبطولة من تلك المباراة الوحيدة التي حَضرتُها مع أبي؛ في تلك السنة حصلنا على البطولة الرابعة للدوري، هكذا قيلَ لي ونحن نضع علم الكرامة الأزرق والبرتقالي على شرفة المنزل كبقية البيوت في الحي، وأنا بقيت بعدها مدة أحد عشر عاماً أنتظرُ البطولة الخامسة.
في الفترة الواقعة بين ذهابي أول مرة إلى الملعب سنة 1994 والفترة التي استطعتُ فيها حضور المُباريات بمفردي، كان عليَّ أن أُتابع المباريات مع والدي على التلفاز. في السنوات الأولى من التسعينيات لم يكن هنالك إلا القنوات الأرضية التي تنقل مباراة واحدة من أصل سبع مباريات، كان علينا أن نشاهد المباراة المنقولة ولو لم تكن لفريقنا، ولمعرفة بقية النتائج كان علينا الاستعانة بالراديو وتشغيله على إذاعة دمشق عبر برنامجها الشهير «ملاعبنا الخضراء»، وانتظار خبر من مراسليه الذين ينتشرون في جميع الملاعب التي تُقام عليها المباريات. كنا ننتظر أي يقطع المراسلُ كلامَ مقدم البرنامج في أي لحظة ليقول: «زميل وجيه هدف للكرامة» لنقفز كأننا في الملعب.
لاحقاً، ومع نهاية التسعينيات، بدأ النقل عبر القناة الفضائية السورية رغم أن بثّها بدأ سنة 1995، فكان الأمل أكبر بأن نشاهد مباراة فريقنا عبر التلفاز أينما كان يلعب في حمص أو دمشق أو حلب أو اللاذقية، أما دير الزور والمحافظات الشرقية فكانت مبارياتها دائماً بلا نقل تلفزيوني، فالنقل سيكون لمباريتين في الأسبوع؛ الأولى عبر الفضائية، والثانية عبر الأرضية الأولى أو الثانية، وإن لم يحالفنا الحظ كما العادة فالراديو سيكون رفيقنا خلال ساعتي المباراة، مع استثناء أساسي كان يعكر صفو متابعتنا على الراديو هو وجود نشرة الأخبار الساعة الثالثة ظهراً، ما يعني أنها تبدأ مع بداية الشوط الثاني للمباراة التي كانت تبدأ في الثانية ظهراً، لتنتهي نشرة الأخبار في الثالثة والنصف ونحن لا نعلم شيئاً عن نتائح المباريات إلا في ربع الساعة الأخيرة لها. أما مشاهدة الأهداف، فتكون في اليوم التالي للمباراة عبر القناة الثانية ضمن برنامج رياضي كان يقدمه ياسر علي ديب قبل أن يلتحق بشبكة أوربت، لتصبح بعدها مشاهدة أهداف المباريات عبر برنامج الثلاثاء الرياضي، ومن اسمه يبدو واضحاً أنه كان علينا أن ننتظر أربعة أيام حتى نشاهدها.
(3)
بدأ التساهلُ معي عندما نلتُ الشهادة الإعدادية سنة 2003، فصرتُ بعدها أحضرُ مباريات الفريق في حمص، أمشي كل يوم جمعة بعد الصلاة نحو سرفيس «طريق الشام»، الخط الذي يبدأ مَسيرهُ من كراج البولمان شمالي المدينة ليقطع طريق حماة عبر الإشارات المرورية التي تتالى أمامه، ويتفرّع بعدها إلى ثلاثة مسارات عند إشارة طريق طرابلس أي بعد إشارة الملعب بإشارة واحدة. فالخط الأول يذهب نحو اليمين عبر طريق طرابلس ثم شارع البرازيل ليلتف عبر الجسر الوحيد في المدينة ويمشي بمحاذاة الطرف الشمالي للجامعة، أما الثاني فيُكمل بعد الإشارة إلى الأمام مروراً بالمعهد الفندقي ومديرية التربية ومديرية السياحة والأمن السياسي ليصعد الجسر أيضاً قرب باب كلية الطب، والثالث يلتف نحو اليسار باتجاه المركز الثقافي مروراً بحَلويّات أبو اللبن ومدرسة خالد بن الوليد، لينعطف عند الأخيرة نحو اليمين ويقطع إشارة ساحة حج عاطف والقلعة ثم الصالة الرياضية حتى يصل إلى دوار الرئيس، ويلتقي بالسرافيس القادمة من المسارين الآخرين ليكملوا جميعهم مسيرهم نحو نهاية الخط الذي لا أعرف إلى الآن أين ينتهي.
كان خط سرفيس طريق الشام هو الأهم في مدينة حمص لغياب النقل العام منذ بداية الألفية بشكل كُلّي، ولكونه يقطعها من بوابتها الشمالية إلى الجنوبية، ويحمل على مقاعده عشرات آلاف الناس يومياً. فوق كل سرفيس لافتةٌ مكتوب عليها إلى أين سيصل في نهاية الخط، لكنها لا توضح تماماً أي طريق سيعبر خلال رحلته الطويلة، فإذا كان طريقنا قبل إشارة طريق طرابلس فنركب أي سرفيس بينهم، أما إذا كانت وجهتنا ما بعد طريق طرابلس فيكفي أن نُشير بكف اليد نحو اليمين أو اليسار أو إلى الأمام حتى يقف لنا السرفيس المناسب، وأنا في تلك الفترة لم أَحتَج إلى أي شارة مُرمّزة كهذه، خصوصاً يوم الجمعة، فكان طريقُ الجميع نحو الملعب، والسرافيس تزداد في تلك الفترة رغم أنه يوم عطلة، وتَقِلُّ في أيام الجُمَع التي تكون مباريات الفريق فيها خارج حمص. لم أحتج أن أستخدم الإشارة بيدي للسرفيس لاحقاً إلا عندما بدأت أتابع فريق كرة السلة الذي تأهل لدوري الدرجة الأولى سنة 2005، فأصبحتُ أستخدمُ يدي بالإشارة نحو اليسار، فالسرفيس الذي يمرُّ من جهة المركز الثقافي هو وسيلتي للوصول إلى صالة غزوان أبو زيد.
أحياناً كانت مباريات فريق كرة القدم وكرة السلة تتزامن في يوم واحد مع فارق التوقيت بين المباراتين، فمباراة كرة السلة مساءً، وكان لديّ الوقت الكافي لأذهب مشياً على الأقدام من الملعب إلى الصالة الرياضية مُتخذاً مسار السرفيس، مُستثنياً فقط الطريق القصير الواصل بين إشارة الملعب وإشارة طريق طرابلس التي لا تزيد مسافته عن 300 متر، طريق تُغطيه الأشجار الخارجة من البيوت على طرفي الطريق، إضافة إلى الأشجار الوارفة في مُنصِّف الطريق، والتي تجعل الشارع مظللاً بالكامل خلال النهار. لكن المساء كان مختلفاً، فكانت الأشجار تزيد من عتمته وهو الشارع الوحيد في المنطقة الذي تكون إنارة الشارع فيه مُطفأة لوجود بيت رياض شاليش، مدير إسكان سرايا الدفاع في السبعينيات، والمرورُ من هذا الشارع كان مرعباً فقط لفكرة وجود هذا البيت والحراسة على بابه، وحركة المشاة قليلة فيه أصلاً للسبب ذاته، فكنت أَلتفُّ حول هذا الشارع وأُكمل طريقي.
بدأ الحماس يزداد عندي من لحظة حضوري المباريات بشكل دائم في الملعب. تغيّراتٌ كبيرة حصلت، فالفريق الآن في مرحلة انتقالية بين لاعبين قدامى ولاعبين شبّان مُرفَّعين من فريق الشباب إلى الفريق الأول، وأرضيةُ الملعب تحولت إلى العشب الطبيعي سنة 2002 بعد أن كانت من تارتان مطاطي ذي لونٍ أخضر فاتح تُشعر الجمهور أن اللاعبين يركضون على سجادة لونها أخضر، لكن الشمس قد تكفّلت بجعل اللون كالحاً أجرد. كما تم توسيع مُدرَّجات الملعب ست درجات لتَحمُّل الضغط الجماهيري المتزايد، وبدأ الأمل يزداد بالحصول على النجمة الخامسة بعد طول انتظار، فعَصرُ الاحتراف دخل الدوري السوري رغم أن فريقنا لم يكن يضمّ أي محترف من خارج النادي في تلك السنة وحتى السنوات الثلاث اللاحقة، ومعه دخلنا إلى عصر الانترنت والمنتديات الإلكترونية لنعرف أخبار فريقنا أولاً بأول، إضافة إلى مواعيد المباريات ومواعيد النقل التلفزيوني دون انتظار الجرائد الرياضية أو إعلانات المباريات عبر اللافتات التي كانت تملأ الشوارع. كما أن سعر تذكرة المباراة قد أصبح مئة ليرة تماشياً مع عصر الاحتراف هذا، والشيء الوحيد الذي لم يتغير هو طريقة الدخول إلى الملعب عبر فتح بوابة واحدة أو اثنتين فقط، ما يجعل الدخول إلى الملعب أشبه بالجحيم.
أما الملعب، الذي شَهِد مواظبتي على المجيء إليه منذ تلك السنة، فقد كانت مُدرّجاته مُقسَّمة بحدودٍ حِسيّة غير ملموسة على أرضه الباطون، حدود يعرفها جمهور المدينة كلَّه ويستدلّون من خلالها على أماكن جلوس الأقارب والأصدقاء، حدود لا تُفرّق بين أحدٍ من الجالسين عليها، تَحمِل فوقها درجات من التنوع والتعدد بما يكفي لكي تتخفّف من ثِقَل الفوارق الطبقية والعلمية وحتى الطائفية، الكل بجانب الكل، جميعهم على مُدرّجات من الباطون، لا كراسٍ. على هذه المدرّجات تدرّأت الأجساد الجالسة من لهيب الصيف أو مياه الشتاء التي تجعلُها موْحلة.
إن أردنا أن نَفهم تقسيم الملعب، يجب أن نبدأ من زاوية بيت الشبعان، زاويةٌ تقع تحت «حاووظ» مياه موجودٌ خلف المدرّج تماماً على يسار المنصة الرئيسية. جاءت تسمية الزاوية على اسم عائلة كبيرة في حمص، لأن معظم أفرادها كانوا يجلسون فيها، وللحقيقة سمعة هذه الزاوية ليست جيدة ضمن المدرج؛ تختصّ بالدفاع عن الفريق على طريقتها، ومنها تنتشر هذه الطريقة في كامل المدرّجات، فإن أخطأ الحكم، يعني أن الحاضرين في الزاوية سيتكفّلون بكيل الشتائم له ولاتحاد كرة القدم واللجنة التنفيذية للاتحاد الرياضي، ثم تنتقل العدوى سريعاً إلى بقية المدرج للمشاركة في حفلة الشتائم، وأنا للحقيقة كنت من روّاد هذه الزاوية، فعصبيّتي الكُروية لا تحتمل إلا الجلوس هنا، خصوصاً في المباريات الكبيرة. بعد الزاوية الأولى يأتي المدرّج الشمالي خلف المرمى؛ مكانٌ مخصّص للرابطة الرسمية التابعة للنادي، قبل أن يتحول المكان عام 2008 إلى مكان تواجد «ألتراس بلو صن»، أول ألتراس رسمية في سوريا على نمط روابط الألتراس المعروفة في الملاعب العالمية. ثم ننتقلُ إلى الزاوية أمام الرُكنية الثانية على يمين صورة «القائد الخالد» بالنسبة للجالس في المدرج، ومن يجلس في هذه الزاوية وأراد أن يدُلَّ أحداً على مكان جلوسه، فيكفي أن يقول في الزاوية المقابلة لزاوية بيت الشبعان. ثم بعد الزاوية تأتي الصورة، وهي الصورة الرسمية «للقائد الخالد» ومن بعده وريثه، يبلغ عَرضها أكثر من عشرة أمتار رُبّما، وارتفاعها حوالي خمسة أمتار، وتَنْفَع في أيام الصيف الحارقة للاستظلال بالفيء الذي تُحدِثه لا أكثر.
ثم الزاوية على يسار الصورة والتي يُستَدل عليها بزاوية نادي الوثبة لأن مقر النادي الجار يقع خلف هذه الزاوية، وبعد هذه الزاوية يكون المدرج الجنوبي خلف المرمى الثاني، والاستدلال على المكان يكون بالمدرج خلف المسبح لوقوع المسبح البلدي خلفها، حيث لطالما كنّا نتندّر على الكرات العالية التي تأتي فوق هذا المرمى بأنها «راحت عالمسبح». الزاوية الأخيرة في مشوار المدرّج هي زاوية جمهور الوَثْبة، وهي الزاوية التي ينحشر فيها جمهور الفريق الأحمر خلال مباريات الديربي بين فريقي المدينة، لأن بقية المدرّجات محجوزة سلفاً لجمهور الكرامة الأزرق، أما المنصة الرئيسية فتقع بين زاوية بيت الشبعان وزاوية جمهور الوثبة، مقابل الصورة، وهي بدورها مقسّمة إلى ثلاثة أقسام، المقصورة الرئيسية في المنتصف للشخصيات الرسمية وعلى يمينها للجمهور الضيف وعلى يسارها للجمهور المُضيف.
(4)
كان عام 2006 مُختلفاً. كنت أُجهّزُ نفسي للحصول على الشهادة الثانوية، لكن حصولنا على الوَصافة في السنتين الماضيتين جعلتني أتأكد أننا لا بُدّ سنحصل على البطولة هذه السنة بعد طول انتظار، فكان هميَ الأول هو بطولة الدوري وليس الشهادة، فلا أحد يتفوّق علينا الآن، تكنيكاً وتكتيكاً واستقراراً فنياً وإدارياً ودعماً غير محدود من مُحبي اللعبة، المغتربين منهم على وجه الخصوص. كانت كل مباراة في الموسم عبارة عن مباراة احتفالية بانتظار الجولة الخامسة والعشرين ما قبل الأخيرة، التي يكفي الفوز بها للاحتفال باللقب رسمياً، ولحسن الحظ كانت المباراة في حمص، أمام فريق الجهاد من القامشلي؛ الذي عاد وشارك من جديد في دوري الدرجة الأولى بعد هبوطه بقرار اتحاد كرة القدم عَقِب الانتفاضة الكردية سنة 2004. حَمَلَت المباراة التي أُقيمت في ملعبنا تتويج فريقنا بالدوري الخامس له، وهبوط فريق الجهاد المنكوب من جديد إلى الدرجة الثانية، الفريق الذي أكاد أقول إن جماهيرنا حزِنَتْ عليه ثلاث مرات، مرّتين تَعرَّضَ فيهما الفريقُ لحادث سير أثناء عودته إلى الحسكة خلال فترة التسعينيات وبداية الألفية، وقُتل على إثر أحدهما هدّاف الدوري هيثم كجو، والثالثة بعد قرار هبوط الفريق للدرجة الأدنى عَقِبَ الانتفاضة الكردية. وحتى أكون واضحاً، لم أكن أعرف عن الانتفاضة شيئاً في تلك الفترة، سوى أن مشكلة حدثت خلال مباراة الجهاد والفتوة في ديربي الجزيرة وانبرى الإعلام الرياضي وقتها بحملة شعواء ضد النادي.
قد يكون الكلام عن تلك السنة رومانسياً في تلك الفترة بين الحمامصة، وحتى اللحظة التي أكتب فيها هنا الآن تُستعاد ذكرى تلك السنة بما فيها أحياناً. قد يقول من لم يَعِشها إنها مبالغة، خصوصاً أنها من فِعل كُرة مدوّرة من الكاوتشوك تزن 450 غراماً فقط، وحدها غيّرت من شأن المدينة، رياضياً على الأقل. شعرنا بأنه أصبح لنا وزنٌ بين المدينتين الكبريَتين، دمشق وحلب، ولسنا مُجرّد استراحة طريق للتنقل بينهما، ولم تَعُد النكتة والاستباحة التي تتعلّق بالحُمصيّ وحدها ما يرتبط بنا، بل الكرامة أيضاً. وزنٌ خَلَقته كرة القدم وجَعلتنا، من هذه الناحية، المدينة الأولى في البلد بعد أن كُنا المدينة الثالثة، كانت وحدها كرة القدم كافية لأن تجعلنا بهذا الترتيب ولو لسنة واحدة.
اعتبرتُ نفسي قبل ذاك العام من جيل الهزيمة كروياً، أحرَزنا بطولة الدوري وأنا طفل، فلم أكن واعياً بما يكفي لأفرح بها ولَها، وكنتُ أنتظر الفوز الذي تحقق أخيراً. ذلك الانتصار الكبير أصبح انتصاراً للمدينة التي تلوّنت شُرفاتها بالأعلام الزرقاء والبرتقالية، كان يكفي أن تمشي في أزقة حمص لتستقبلك الأعلام في كل مكان، حتى أن هذا العلم قد نافس بانتشاره العلم الوطني المزروع في كل بقعة من الدوائر الحكومية حتى الشوارع والميادين.
تزامنَ اقترابُ نهاية الدوري مع مُشاركتنا الأولى في دوري أبطال آسيا، رغم وجود عقبة وحيدة أمام النادي للمشاركة في هذه البطولة، وهي مُلكية الملعب، وكان حلّها سهلاً؛ أُقيم عقد إيجار شكلي بين النادي واللجنة التنفيذية التابعة للاتحاد الرياضي العام، وتم تقديمه للاتحاد الآسيوي كدليل على أن الملعب للنادي، لنشارك في البطولة التي أعطتنا زخماً إضافياً بأن هذه السنة ليست كما قبلها، على أمل أنها لن تكون استثنائية. افتتحنا البطولة بفَوزَين متتاليين على فريق إماراتي وآخر إيراني، وكانت المهمّة شاقّة أمام فرقٍ قطعت شوطاً كبيراً في الاحتراف والصرف على اللاعبين الأجانب، بينما فريقنا يحبو بلاعبيه المحليين نحو صدارة المجموعة التي أوصلتنا إلى الدور الثاني ولقاء بطل النسختين الماضيتين. بعد كل مباراة كنا نقول هذا حَدُّنا، لن نصل أكثر من ذلك، حتى وجدنا أنفسنا في المباراة النهائية، التي كانت تُقام بنظام الذهاب والإياب، المباراة الأولى أُقيمت في كوريا مع فريق جيونبوك هيونداي، وخسرناها بفارق هدفين. لم نقل أن هذا حَدُّنا هذه المرة، كنا واثقين أن المباراة الأخيرة للبطولة في حمص ستشهد فوزنا، وهو ما تحقق بعد تقدُّمنا بهدفين، وبالتالي التعادل بمجموع الأهداف الذي جعلنا نقترب من الأشواط الإضافية الحاسمة. ازداد حماسنا ونحن واقفين على المدرجات بانتظار هدف ثالث أو صفارة الحكم التي تنقلنا إلى الأشواط الإضافية، لكن كان للدقيقة 86 وقعها، إذ سُجّل في مرمانا هدفٌ والتعويض أصبح مستحيلاً. صمتٌ كبير عمَّ الملعب تلك اللحظة، حتى أننا سمعنا صوت اللاعبين الكوريين وهم يحتفلون بهدفهم، صمتٌ عمّ المدينة بأكلمها، ولو كان يوجد مقياسٌ يقيس درجة الضوضاء، لسُجّلت حُمْص في تلك الدقيقة أنها المدينة الوحيدة في العالم التي شهدت نسبة «صفر» ضوضاء.
بهذه المشاركة الاستثنائية اختلفَ كل شيء، أصبحت العيون على الدوري المحلي أكبر، وفُزنا بلقبه في السنوات الثلاث التالية، كما شاركنا في دوري الأبطال في السنتين التاليتين ووصلنا إلى ربع النهائي، وأصبحت مبارياتنا تُنقَل عبر القنوات الفضائية، وتَشهد حُمْص خلالها مراسلين وصحفيين من جميع أنحاء القارة، بعد كلّ مباراة نفوزها. كانت الصحف الرياضية المحلية تُطبع بأعداد أكبر لأن بيعها مضمون في المدينة، ويجب التسجيل عليها عند بائع الصحف قبل يوم من صدورها كي تحصل على نسخة، كما أصبحت بطاقات المباريات الآسيوية مختلفة الشكل؛ في الدوري كانت عبارة عن ورقة قليلة السماكة ورخيصة حتى أن الحبر الأسود المطبوعة به قد يُلطّخ الأيدي، بينما هذه البطاقة فهي من الورق المقوى وملونة عكس السابقة، وسعرها تضاعفَ ليصبح 200 ليرة سورية. أما الملعب، فاكتشفنا فجاة أن اسمه «خالد بن الوليد»، ورغم وجود لافتة على بوابة الملعب الرئيسية تحمل الاسم منذ سنوات طويلة، لكن أهالي المدينة كانوا دائماً يشيرون إليه بالبلدي، إلّا في تلك السنة عندما قرّرت القنوات العربية أن تُشير إليه باسمه الأصلي، فانتشر الاسم حتى بين المعلّقين السوريين في الدوري، لينتشر الاسم شعبياً ورسمياً. وخُصص الجزء الشمالي من المنصّة الرئيسية للسيدات الكرماويات إن لم يرغبنَ بالحضور على المدرجات العادية، ما حدَّ من وتيرة الشتائم خلال حضورهن.
ازداد الاهتمام الإعلامي بالدوري إثر تلك المشاركة، فاشترت شبكة راديو وتلفزيون العرب art حقوق النقل التلفزيوني، وأصبحت مشاهدة المباريات تحتاج اشتراكا سنوياً عالياً قدره 6500 ليرة، أي ما يُعادل نصف راتب موظف. وفي عام 2009 تم شراء art من قبل شبكة الجزيرة الرياضية وبالتالي تم نقل المباريات المتبقية من ذلك الموسم عبر الشبكة الجديدة بتكلفة جديدة، وكان الحل البديل الموجود لمن لا يستطيع الاشتراك هو شراء «الدنغل»؛ قطعة صغيرة تضاف للريسفر لفك تشفير القنوات.
كما نشأت في تلك الآونة للمرّة الأولى في سوريا رابطة جديدة لا تتْبع إدارياً للنادي، قبل أن تتحول تلك الرابطة إلى «ألتراس بلو صن»، وسط منافسة بينها وبين الرابطة الأم للنادي على التشجيع والمنافسة والابتكار، والغلبة كانت في كل الأحوال للألتراس.
تَحوّلَ النادي بعد تلك السنة إلى فضاء عام يستجلب النقاش الدائم في كل الاجتماعات والسهرات، اهتماماً بمن سيأتي رئيساً للنادي واهتماماً بالتعاقدات ورأياً بكل تفصيل يتعلّق بمسار كرة القدم، كما ظهرت تَحزُّبات داخل أروقة النادي، وبين أعضائه ولاعبيه القُدامى، وبين محبين يعملون على دعم النادي مادياً وآخرين يسعون لاستغلال الشعبية الكبيرة للنادي لحيازة مكان لهم في المجتمع، وانتقلت النقاشات المتعلقة بكل ذلك إلى المنتديات الإلكترونية التي بدورها انقسمت مُسايِرةً هذه التحزّبات، فأصبح لمحبي النادي منتديان بدل الواحد، وهذا النقاش بدوره انتقل إلى الشارع، فانتقل الحديث من المباريات وما يحصل فيها إلى كل شيء يتعلق بالكرامة.
(5)
أنا الآن، في المنفى، أقيسُ المسافة من فترة إلى أخرى على غوغل بين مكاني هنا وبين حمص، وأحياناً بين أماكن محددة في المدينة المفقودة، منها الملعب البلدي أو الصالة الرياضية، وكلها تشير إلى 1300 كم، تزيد بضع كيلومترات أو تنقص حسب المكان الذي أشير إليه، أقيسها غالباً عندما يظهر أمامي على تايم لاين الفيسبوك بثٌ مباشر لمباراة للكرامة في كرة القدم أو كرة السلة. أشتهي في كثير من الأحيان أن أكون بينهم، لا لكي أشاهد المباريات، إنما لأراهم كيف يهتفون ويشجعون، وكيف يحترق دمهم حزناً عند كل فرصة ضائعة وفرحاً عند كل هدف، أن ألمس ما كنت أفتقده سابقاً، أن أشاهد التفاصيل التي لم أكن منتبهاً لها حين كنت مشغولاً كما هم الآن، بحرقة الدم والتشجيع.
أشاهد الجمهور القليلَ في كرة القدم، والكثيرَ في كرة السلة، باعتبار أن للأخيرة ملاعب صغيرة ولأن كرة القدم تمرّ بأزمة أكبر من السلّة التي تشي بأنها محط أنظار المسؤولين الرياضيين أكثر من غيرها هذه الأيام. أقيسُ المسافة اللازمة للوصول إلى هناك ثم أعود محبطاً إلى البث المباشر لأرى الجماهير والتفاعل الذي يُحدثونَه، وربما لأصطاد عبر كاميرات الموبايل، التي تصور المباريات وتنقُلها على صفحات الأندية، صورة لشخص أعرفه فأستأنسُ به في منفاي.
تغيّرَ كل شيء هذه الأيام، خارطة تَوزُّع الأندية على جدول الترتيب لم تعد كما كانت، وسط غياب الأندية الكبيرة عن مقدمة الجدول، فيما الجمهور الذي تنتشر صوره على السوشل ميديا يَشي بوضوح عن غياب فئة عمرية كاملة عن خارطة المدن السورية، كون الحاضرين حالياً من الجيل الجديد. أما المشاكل في الدوري فأصبحت كثيرة وتفوق ما كانت عليه سابقاً، إذ انتقلت من المدرجات إلى أرضية الملاعب، وتَكرَّرَ مشهد نادي الجهاد مع قريبه نادي الجزيرة من الحسكة، الذي صدر قرار هبوطه في منتصف الدوري لأنه طالَبَ أن تكون مُبارياته على أرضه في الحسكة لا على أرض افتراضية هي دمشق. استغنى النظامُ عن المنطقة الشرقية كما كان مُستنغنياً عنها في كل شيء، حتى كروياً عبر النقل التلفزيوني، وبدوره استغنى اتحادُ كرة القدم عن نادي الجزيرة بسبب طلبه ذاك.
وأصبح النقل التلفزيوني رديئاً في جودة صورته أكثر من الماضي بكثير، حتى بدأ يُستعاض عنه بالنقل المباشر عبر فيسبوك من خلال المكاتب الإعلامية للأندية خصوصاً منذ 2016. في السنة الماضية حاول اتحاد كرة القدم بيع حقوق النقل التلفزيوني، لكن لم يجد من يشتريه – للمفارقة – إلّا محطة إذاعية وليست تلفزيونية، تقوم بنقل المباريات عبر فيسبوك بكاميرا واحدة ثابتة في منتصف الملعب، كما أصبح سعر بطاقة الدخول للملاعب 2000 ليرة، وهو رقم كبير جداً بمقاييس ذلك الزمان الذي أتذكره هنا، وصغير جداً بمقاييس تراجع سعر صرف العملة السوريّة في الوقت الحالي، وكبير في الآن ذاته على السوريين الذين لا يجدون قوت يومهم، لكنهم مع ذلك يملأون الملاعب دفاعاً عن ألوان أندية وَرِثوها عمّن قبلهم، وربما هرباً من جحيم المعيشة في محاولة هزم ضَنَك العيش بالهتاف عالياً وشتم الحكام والفريق المقابل.
تغيَّر الكثير في المدينة التي تقلَّصَ حجمها فجأة، بعد أن كانت تتوسع باضطراد كبقية المدن في العالم، ومن غير تخطيط حَضَري مُسبق. وظهر جيل جديد لا يعرف من المدينة سوى ما هي عليه الآن، 14 حياً مدمراً فيما هُم محشورون في أحياء قليلة العدد، ووسائط النقل فيها أصبحت مُختصرة، فلم يعد مسار سرفيس طريق الشام كما كان سابقاً، والبداية ليست من الكراج الشمالي ليقطع طريق حماة بأكمله. أصبح مساره أقصر بكثير عمّا كان عليه، مسارٌ دائري يصحُّ أن نقول إن بدايته قريبة من الملعب هذه المرة، قرب فندق سفير حمص، وأجرة السرفيس أصبحت 500 ليرة سورية بعد أن كانت ثلاثة ليرات فقط ثم ارتفعت قليلاً لتصبح خمس ليرات. والملعب ذاته تَغيَّر، وهو يخضع لصيانة لا تنتهي في مُدرّجاته، أما نادي الكرامة فقد قام رئيسه الجديد بحبس أعضاء من الألتراس الجديدة التي نشأت بعد أُفول عهد «بلو صن»، تحت حجج منها التحريضُ على شغب الملاعب وتمويلُ الألتراس، فاعتكفوا عن الملاعب لأسابيع، ليُعيدهم حب الملاعب الذي يغلب دائماً عبر بوابة كرة السلة. لكن المباراة التي جمعت الفريق مع الوثبة حملت لهم مشكلة جديدة، حيث رفعت الألتراس لافتة تحمل رسالة مفادها أن «الحياة صارت صعبة … يا كرامة هوّنها علينا» وفوقها رسومات هي رموز لانقطاع الكهرباء والبنزين والمازوت والغاز والنقود، لكن أمن الدولة في حُمْص طلب من رئيس النادي أسماء من رفعوا هذه اللافتات وإلا سيتم القبض على كل من كان في الصالة حاضراً للمباراة، حتى تمّ حل الأمر ودياً من قبل المتنفِّذين. حتى أن هذه الرسالة «المِسّاج» بعُرْف الألتراس، أُزيلت من صفحة الألتراس على وسائل التواصل، وبَقِيَت مِسّاجات أخرى رُفعت في المباراة.
منذ 1972 تحوّلت الأندية الرياضية الأهلية في سوريا إلى مجرّد منظمات شعبية تُمارس الرياضة وتتبع فرع الحزب الحاكم في منطقتها، وليس لها أي استقلالية مادية أو إدارية، وعبر السنين جَرَت مقاومة هكذا نوع من التحويل، وجماهير الأندية وحدها من حافظت على التوازن بين كون هذه الأندية رياضية أولاً وبين كونها خرجت من رحم المجتمعات الأهلية، ونجحت بذلك في مفاصل مُعيّنة خصوصاً ما بعد سنة 2000 عندما دخل الاحتراف إلى البلاد تماشياً مع ما يحدث في العالم. ومن جديد، في ظلّ انقطاع الرياضة في سوريا منذ انطلاق الثورة ثم عودتها بزخم شديد مُلفت للنظر في السنين الأخيرة، تُحاول هذه الجماهير، بفعلٍ سياسي ربما لا تعيه تماماً، ورغم انقطاع جيل كامل وغيابه عن الواجهة، إثباتَ أن هذه الأندية مُلكٌ للشعب وليس للنظام الحاكم.