آخر مرّة رأيت فيها صديقتي ميري كانت في أحد مقاهي دمشق القديمة في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2012، وقد كانت بيننا خلافات كثيرة فشلَ لقاؤنا الأخير في حلّها. بعدها، عام 2013، غادرتُ سوريا دون أن أُعلِمها أو أُودّعها، وسافرتُ إلى مصر. وبعد مرور ثمان سنوات، في صيف عام 2021، عُدنا للتواصل، لأفاجأ أنها هي الأخرى قد أقامت في مصر عدة سنوات، وغادَرَتها منذ ستة أشهر من العام نفسه عائدةً إلى دمشق، دون أن تتواصل معي طوال فترة وجودها في مصر. 

أخبرتني ميري وقتها أنها لا ترغب في العودة إلى مصر، ووصفت السنوات التي عاشتها في القاهرة بـ «القاسية»، وأنها ستقضي بعض الوقت مع عائلتها في دمشق، باحثةً أثناءها عن إمكانية السفر إلى أوروبا أو فرصة عمل في بلد عربي آخر غير مصر. وفي بداية شهر آذار (مارس) الماضي، وجَدَتْ ميري فرصة عمل في السودان مع إحدى المنظمات الأجنبية العاملة هناك، وحصلت على تأشيرة الدخول في منتصف الشهر نفسه من مكتب قنصلية السودان في دمشق، ودفعت ثمنها 155 دولار. وحين حاولت حجز تذكرة طيران أخبرها الموظف المسؤول عن الحجوزات في مكتب السورية للطيران بعدم وجود حجوزات متوفرة لشهر آذار، إذ إن جميع الرحلات امتلأت بالسوريين المغادرين إلى السودان، والرحلات المتاحة تبدأ من تاريخ 7 نيسان (أبريل). وافقت ميري على الفور، وحجزت تذكرة طيران كلّفتها مليون وسبعمئة وخمسين ألف ليرة سورية، أي حوالي 234 دولار تقريباً حينها.

منتصف نيسان، اندلعت مواجهات عسكرية بين قوات الجيش السوداني التي تَدين بالولاء لرئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دَقْلو المعروف باسم حميدتي. كان ذلك بعد مرور تسعة أيام على دخول ميري مدينة الخرطوم. 

دبَّ الرعب داخل قلوب السوريين في السودان، الذين بلغ عدد المسجّلين منهم لدى مفوّضية شؤون اللاجئين 66.081 سوري وسوريّة. نسبة كبيرة منهم هي من الشباب الفارّين من الخدمة العسكرية في ثكنات النظام السوري، الذين اختاروا السودان لسهولة الحصول على تأشيرة الدخول، ورُخص ثمن هذه التأشيرة مقارنة بتأشيرات بلدان أخرى، مثل مصر. 

وبعد مرور سبعة أيام على الأزمة العسكرية، تناقلت المواقع والوكالات الأخبارية خبر مقتل 11 سورياً في السودان، لكن الخبر غير موثَّق من قبل أي جهة رسمية، ولم تَصدُر قائمة بأسماء الضحايا، ولم يتم تناقل صورهم وأسمائهم باستثناء حالة واحدة وثّقتها صفحة «الجالية السورية في السودان» على فيسبوك لسوريّ اسمه عمر عراطة. تناقلت صفحات عدة على موقع فيسبوك قصة مقتل عراطة أمام زوجته وأولاده على يد مسلحين في العاصمة السودانية الخرطوم. وبحسب القصة التي تم تداولها؛ وقعَ الحادث أثناء توجه عراطة إلى مدينة عطبرة شمال الخرطوم، وفي الطريق تعرّض وعائلته لهجوم من قبل مجموعة مسلحة أجبرتهم على تسليم أموالهم ومقتنياتهم، وعندما حاول المسلحون تفتيش النساء تصدّى عراطة لهم، ودخل معهم في شجار انتهى بمقتله.

بورتسودان: أرض الإجلاء 

تواصلتُ مع صديقة سودانية تُقيم في مدينة أم درمان، وسألتها إن كانت هناك إحصائيات عن ضحايا سوريين. وبعد بحث مشترك، لم نجد أي إحصائية، لكنها أرسلت لي مجموعتين لسوريين في السودان على تطبيق واتساب. وبمجرد تسجيل دخولي إلى المجموعتين انفجرت أمامي مئات الرسائل لسوريين أغلبهم عالقون في الخرطوم، يبحثون عن رحلات عبر باصات البولمان تقلّهم إلى مدينة بورتسودان. لم يتأخر استغلال الأزمة من قبل مكاتب الرحلات، إذ بدأت تظهر «عروض» داخل المجموعات لرحلات «مؤمّنة ومباشرة» من الخرطوم إلى بورتسودان، بأسعار خيالية، إذ تراوحت الأسعار ما بين الـ 200 دولار والـ 500 دولار.   

وهذا ما أكده لنا الشاب السوري محمد أمين (اسم مستعار)، 23 عاماً، والذي قَدِمَ إلى السودان هرباً من الالتحاق بالخدمة العسكرية في سوريا منذ خمسة أعوام، إذ كلَّفته رحلته من الخرطوم إلى بورتسودان حوالي 350 دولار تقريباً. 

يقول الأمين: «في الأيام الأولى من اندلاع الأزمة العسكرية، كانت محلات السوبر ماركت والمولات تفتح لمدة ثلاث ساعات يومياً، وكنا نؤمن احتياجاتنا من طعام وشراب، لكن بعد مرور عشرة أيام، بدأت المحلات ومنافذ بيع الأغذية والمواد الاستهلاكية بالنفاذ، وعندها قرّر أغلب المقيمين في مدينة الخرطوم مغادرتها مُتجهين إلى ميناء مدينة بورتسودان».

وأضاف أمين: «كان هدفنا هو السفر إلى مدينة جدة السعودية عبر بواخر حطّت في الميناء من أجل عمليات الإجلاء تحت حماية الجيش السعودي، إذ يوجد في بورتسودان منطقة مخصصة للتقديم على طلب الإجلاء، ولم يكن هناك تدقيق على أية تفاصيل تخصّ وضع جوازات السفر، سواء كانت منتهية الصلاحية أم لا، وسواء كان أصحابها يملكون إقامة سارية في السودان أو منتهية، لكن الأولوية كانت للعائلات، فمثلاً يسمحون بإجلاء عشرة عائلات، مقابل خمس أو ست شباب». 

خاب أمل محمد أمين حين توقّفت السعودية عن إجلاء السوريين، إذ لم يكن ينوي العودة إلى سوريا، حيث سيُجبر على الالتحاق بالخدمة العسكرية كما أوضح لنا، وليست لديه الأموال الكافية كي يستطيع السفر إلى دولة أخرى، أو حتى الدخول إلى مصر من خلال دفع مبلغ 1200 دولار والحصول على موافقة أمنية.

مع توافد أعداد كبيرة من العائلات السورية إلى بورتسودان ازداد الوضع سوءاً، وافترش السوريون، عائلات وأفراد، الشوارع والساحات والأماكن العامة بانتظار إجلائهم، بحسب الشاب السوري محمد نور.

يقول نور: «وضعُ السوريون مأساوي جداً، وتعدادهم أصبح بالآلاف، والسفارة السورية عرقلت عملية الإجلاء، إذ قبلَ أن يصل القائمون بأعمال السفارة السورية كانت الأمور تسير بشكل جيد، وكانت السعودية هي من تُدير عملية الإجلاء، لكن حين استلمت السفارة السورية عملية إجلاء السوريين بات الأمر أكثر تعقيداً، ودخلت الوساطات والمحسوبيات في سير عملية الإجلاء». 

اشتكى نور من سوء معاملة مندوب السفارة السورية في بورتسودان للسوريين، إذ كان يوجه لهم الإهانات والشتائم أمام جاليات الدول الأخرى، ووصفهم بـ «الهمج» و«الحيوانات»، حسب قوله. 

وبحسب وكالة سانا الرسمية، وصل إلى مطار دمشق الدولي فجر الأربعاء 2 أيار (مايو)  الجاري 191 شخصاً، بينهم 21 طفلاً ممن تم إجلاؤهم من أبناء الجالية السورية في السودان، على متن طائرة تابعة لشركة أجنحة الشام.

وادي حلفا: بوابة عبور إلى مصر 

أثناء متابعة ما يحدث في بورتسودان، تذكّرتُ ميري، فأرسلتُ لها رسالة على تطبيق واتساب بتاريخ 26 نيسان الماضي، فظهرت لي إشارة «صح» واحدة، أي أن هاتفها خارج فضاء الإنترنت. وبعد مرور ست ساعات، أجابتني ميري بأنها كانت عالقة بالخرطوم، والآن هي برفقة فريق عملها داخل باص بولمان مزدحم جداً، وهم في طريقهم إلى مدينة وادي حلفا في أقصى شمال السودان، والتي تبعد 909 كلم من العاصمة الخرطوم، و245 كلم جنوب مدينة أسوان المصرية.

سألتُ ميري؛ لماذا وادي حلفا وليس بورتسودان؟ فأجابتني أنها مُتّجهة مع فريق عملها إلى مدينة أسوان المصرية، عدتُ لسؤالها؛ وبعد أسوان؟ فأجابتني: القاهرة. 

لكن رحلة ميري لم تكن بهذه السهولة، إذ استغرقت رحلتها من الخرطوم إلى وادي حلفا 16 ساعة، وكان من المفترض أن يُكمل الباص بهم إلى مدينة أسوان بعد أن أخذ مكتب الرحلات 700 دولار على الراكب الواحد، لكن سائق الباص تركهم في وادي حلفا وغادر، ولم يعد مكتب الرحلات يرِّد على اتصالاتهم، كما روت لي.

بقيَت ميري في وادي حلفا يومين، ولم تكن هي وطاقم رحلتها الوحيدين، إذ تجمّعَ الكثير من الهاربين من مختلف الجنسيات في وادي حلفا، حيث لم يتوّفر للسكن المؤقت سوى مدرسة أطفال تحولت إلى مركز لجوء مؤقت لمئات منتظري الحصول على موافقة أمنية للدخول إلى مصر، ووسيلة نقل أخرى تقلّهم إلى أسوان. 

كانت ميري السورية الوحيدة بين فريق عملها الذي تنوّعت جنسيات أفراده ما بين أميركيين وأوروبيين، وكان عليهم انتظار حصولها على الموافقة الأمنية لدخول مصر، والتي كلّفتها 1200 دولار.

رغم إخفاق العديد من الهُدن في وقف إطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في السودان، وافق الطرفان على هُدنة جديدة لمدة سبعة أيام ِبدءاً من يوم الخميس 4 أيار (مايو) الجاري، بالتزامن مع ارتفاع عدد الوفيات منذ بداية الاشتباكات لــ 448 وفاة، و2322 إصابة بين المدنيين، وذلك بحسب أحدث تقرير ميداني صادر عن نقابة أطباء السودان. 

وأشار تقرير النقابة أن الاشتباكات ما زالت جارية بين قوات الدعم السريع وقوات الجيش لليوم الثامن عشر على التوالي، وقد أسفرت عن مزيد من الضحايا يجري حصْرهم حتى لحظة إصدار التقرير، في العاصمة الخرطوم والأقاليم.

القاهرة.. نهاية الرحلة

بعد مضي خمسة أيام على مغادرتها مدينة الخرطوم، وصلت ميري القاهرة، وأرسلت لي رسالة من المنزل الذي تقيم فيه مع زملائها الأجانب، في حي مصر الجديدة، تقول: «نظرت إلى المسافة التي تفصل منزلي عن منزلك من خلال خريطة غوغل، فاكتشفت أنها 16 كيلو متر فقط، إذ سنلتقي بعد 11 عاماً من لقائنا الأخير في دمشق القديمة، كم ستأخذ من الوقت رحلتك من مكان سكنك إليّ؟» فأجبتها:«40 دقيقة فقط، بالمترو!».