حملة غير مسبوقة، سياسية وأمنية وحزبية وشعبية، عابرة للخلافات اللبنانية، طالت اللاجئين السوريين في لبنان دون تمييز، مستهدفةً ترحيلهم القسري إلى سوريا تحت مسميات وذرائع شتى، ومتسترة بمخاوف ديموغرافية وأمنية واقتصادية ومعيشية. نعم، هذا النوع من الحملات ليس بجديد، ولكنها هذه المرة أكثر تنظيماً وقوةً وفعاليةً، تبدو مركزة وأكثر فاعلية ومتفلتة من كل عقال.
لفهم ما يحصل هناك ضرورة لمحاولة حصر الأسباب الممكنة خلف حملة اليوم، وهو أمر لا يمكن الجزم به في ظل غياب تصريحات رسمية تعكس حقيقة النوايا المحرِّكة للأفعال الحاصلة، لكن يمكن من خلال ما هو معروف، وبالقياس، حصر الأسباب في الآتي:
أولاً، قناعة عنصرية جوهرية لدى نسبة كبيرة من السياسيين اللبنانيين بحق السوريين، ترى أن لبنان أفضل من دونهم، تجد صدىً شعبياً كبيراً، والتعبير عنها وتحويلها لفعل يلقيان تأييداً شعبياً كبيراً.
ثانياً، توفير حلقة جديدة من حلقات إشغال اللبنانيين بقضايا -حقيقية أو مفتعلة- تلهيهم، على أهميتها، عن الانهيار الحاصل وفساد الطبقة السياسية وعجزها، ملقين هذه المرة سبب الحالة التي وصلت إليها البلاد على اللاجئين السوريين بدل مواجهة الأسباب الحقيقة أو الأبرز والتصدي لمعالجتها.
ثالثاً، ابتزاز الدول المانحة من خلال إجراءات حقيقية ملموسة، بدل الاكتفاء بالابتزاز اللفظي المعنوي، في سبيل تسوّل المزيد من المساعدات مع تراجع احتياطيات مصرف لبنان واستمرار الفراغ السياسي وغياب توافق على خطة إنقاذية مع صندوق النقد الدولي، مساعدات ستختفي في أقنية الفساد والزبائنية السياسية كالعادة.
رابعاً، شد العصب الحزبي والطائفي، وتعزيز ادعاء الوطنية لدى مختلف الجهات السياسية في ملف يكاد يكون الموقف منه محل اجتماع نادر في لبنان، ويشكّل حقلاً خصباً لتحصيل المكاسب دون أي أضرار أو خسائر.
خامساً، بالإضافة إلى أسباب قد تكون متعلقة بمصالح حزب الله، والسباق الرئاسي الذي يكاد يكون محصوراً بين سليمان فرنجية وجوزف عون، فموضوع اللاجئين وعودتهم موضوع مهم، يطول كل اللبنانيين ويهمهم، وموقف المرشحين وفاعليتهم في هذا الشأن مؤثرة على المزاج الشعبي تجاههما.
ما لا شك فيه هو أن محرّكي الحملة قد أصابوا في اختيار لحظة سياسية إقليمية مواتية لهم، مع تسارع عمليات التطبيع مع النظام، وبدء عملية سعودية لنقاش إعادة اللاجئين، بالإضافة للاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية.
أمر آخر كان لافتاً في الحملة الحالية أنها، أكثر من كل مرة سبقتها، شكّلت محطة جامعة للأغلبية العظمى من القوى السياسية والطائفية اللبنانية مع وجود تمايزات نادرة، منخفضة الصوت، بما في ذلك صوت القوات اللبنانية التي اعتادت في أغلب الحالات على التصويب على النظام السوري بدل استهداف اللاجئين السوريين. لسخرية القدر، كأن لا أمر يجمع كثيراً من اللبنانيين اليوم إلا خطاب كراهية وممارسات عنصرية بحق اللاجئين السوريين، واحدة من أضعف الفئات الاجتماعية اليوم.. وكأن لعنة العلاقة شديدة الإشكالية بين شعبين جارين ستظل محكومة بأنماط متبادلة مغرقة في التوتر والعنف بأشكاله، برعاية لا يبدو أن هناك نهاية قريبة لها من نظام الأسد.
من هنا، يبدو من الضروري القبول بإجراءات تطول أولئك السوريين الذين اعتادوا زيارة بلدهم -بطرق شرعية أو غير شرعية- في مناسبات مختلفة والعودة منها إلى لبنان. لا أسباب داعية لتبني رقم بشأن أعداد هؤلاء دون توفر معطيات موضوعية تدعم مصداقية هذا الرقم، إلا أن الانطباع الخاص يسمح بالقول أنهم ليسوا بقلة. يهدف هذا القبول إلى ضمان حقوق وأمن الفئة الواقعة تحت الخطر الأشد، أولئك الذي يُخشى على حياتهم إن هم عادوا إلى سوريا، سواء لموقفهم المعارض، أو مشاركتهم في مظاهرات وأنشطة ثورية، أو انشقاقهم عن جيش النظام أو فرارهم من الخدمة الإلزامية فيه.
في سياق «المواجهة»، لا يبدو الخطاب الحقوقي البحت، وذاك الذي يصدر عن مؤسسات إعلامية لبنانية مستقلة يسارية التوجه، مناصرة للثورة السورية ولحقوق اللاجئين، خطاباً مجدياً اليوم، فلا هو ممكن وواقعي، ولا يبدو في الوقت نفسه متفهماً مخاوف اللبنانيين المعترضين ومخاطباً إياهم، بل قد يكون هذا الخطاب اليوم مستفزاً لكثيرين. الخطاب الحقوقي ضروري، لا بد من وجوده واستمراره كبوصلة أساسية لا غنى عنها، على أن يترافق بخطاب يتفهّم مخاوف فئة واسعة من اللبنانيين، ويخاطبهم على أساسها متحلياً ببراغماتية محسوبة، إذ لا يبدو متاحاً المطالبة بالحفاظ على حقوق «اللاجئ الإقتصادي» الذي أتى إلى لبنان أو بقي فيه لأسباب تتعلق بتحصيل موارد العيش، لا لأسباب تتعلق بوجود خطر أمني على حياته بسبب رأيه السياسي أو دوره.
من جهتها، تبدو مفوضية شؤون اللاجئين مقصرة بشدة في هذا السياق، إذ لا بد أن يكون لها دور إعلامي وفي مجال العلاقات العامة أكبر مما هو عليه اليوم. تنطلق المفوضية من الرفض القاطع لتسليم داتا اللاجئين لديه للسلطات اللبنانية بوصفه مطلباً أمنياً شديد الخطورة، وثمة حاجة للانتقال إلى تبيان الحقائق والأرقام الدقيقة فيما يتعلق بأعداد اللاجئين المسجلين ونسبة المستفيدين منهم من تقديمات ومساعدات، مع تحديد نوعها وقيمتها. خطابٌ كهذا يشكل أداة ضرورية لمحاولة مواجهة كل الأخبار المزيفة التي بلغ حد المبالغة فيها مستوىً يكاد لا يُصدّق.
ضرورة خطاب يُبين الحقائق لا يعني أن تشكيل هكذا خطاب سيكون وحده حلاً، فالمشكلة الحقيقية ليست في شكل الخطاب الذي نحتاج وطريقة تشكيله ومن يتصدى لإدارته، بقدر الشك في نجاعة أي خطاب مهما كان مدروساً وبراغماتياً في مواجهة الكمّ الهائل من الشعبوية والعنصرية و… الغباء. العنصري المتزود بأسلحة الشعور بالتفوق والتهديد في الوقت عينه لن يعجزه بيان توضيحي من مفوضية اللاجئين يكشف أن الكلام عن حجم ونوع المساعدات التي يتلقاها اللاجئون غير دقيق على الإطلاق، فهو في سياق اعتقاده بالمؤامرة على وطنه لن يعجز عن تكذيب أي جهة كانت لطرحها ما يخالف شعوره ومخاوفه. المنطق لا يجدي نفعاً هنا.
هذا الخوف قد يكون حاجة، فلبنان الوطن بصورته «التقليدية» يبدو في طور التلاشي مع بلوغ سيطرة حزب الله مستوى غير مسبوق، وظهور القوى التقليدية كأنها ملحقة لا أساسية في حياة هذا البلد. وأمام العجز عن مواجهة هذا التلاشي، قد تكون شماعة اللجوء السوري والخوف منه، من حيث هي فعل تعميمي، ضرورة.
جرت العادة في لبنان ألا تستمر حملات مشابهة لفترات طويلة، دون أن يُفهم، كل مرة، كيف بدأت وكيف انتهت بالضبط. الخوف هذه المرة هو من أن يكون مستوى التحريض الذي حصل دافعاً لممارسة عنف مادي جماعي بحق اللاجئين، فبعد شائعات ضبط أسلحة في المخيمات السورية، ثم تشبيههم بالفلسطينيين قبيل حرب 1975، بدأ اللاجئون السوريون بالتحول أكثر فأكثر في نظر فئة من اللبنانيين من خطر «اجتماعي» و«ثقافي» و«معيشي» إلى خطر أمني داهم، ومن كان يضبط كراهيته وخوفه من التحول عنفاً مادياً تجاه اللاجئ، يكاد خطاب التحريض المكثف يحله من أي ضوابط ذاتية. ظهر هذا في توجّه قوى شعبية وحزبية إلى تقرير مواجهة أي اعتصام يُدعى إليه للسوريين قبالة مفوضية اللاجئين بالعنف المقصود والموجه، فحتى حق الاحتجاج والاعتراض السلمي مرفوض تماماً.
يقابل ذلك غياب أي قدرة تنظيمية لدى السوريين في سبيل تشكيل صوت معنوي لهم، يطالب بحقوقهم، أو حتى ينفذ ضمن إطار القانون إضراباً ما، بوصفه وسيلة نضال عمالي مشروعة، غيابٌ لربما هو قدر السوريين منذ عقود طويلة، وأحد أسباب ما وصلوا إليه اليوم.