بالكاد يبتسم الجنرال طوال حلقات المسلسل، رغم أن ضحكة بشار الأسد واحدةٌ من علاماته الفارقة. صحيحٌ أن شخصيات ابتسم أيها الجنرال من وحي الخيال كما تقول اللازمة التي تظهر في أول كل حلقة، لكن الإحالة إلى الأسديين وحُكمهم حاضرة في جميع مَشاهد المسلسل، ما يجعل التساؤل عن مقدار التباين والتقارب بين شخصيتي فرات وبشار مشروعاً تماماً. لا يمكن تَجنّبُ التفكير في مدى مطابقة أحداث المسلسل لسيرة السلطة في سوريا، تماماً كما أنه لا يمكن تجنّبُ ملاحظة تواضع المستوى الفني العام للعمل، فنحن أمام إنتاج درامي غير مسبوق عربياً من حيث المعنى السياسي لحكايته، لكنَّ فيه ضعفاً واضحاً في الأداء والإخراج. مع ذلك، حاز المسلسل متابعة جماهيرية كبيرة، سوريّاً في المقام الأول ولكن عربيّاً أيضاً، ما يجعله «مسلسلاً ناجحاً». لكن، كيف نجح مسلسلٌ ضعيفٌ فنياً إلى هذا الحدّ؟

في نجاح المسلسل وضعفه وقوته

ما الذي يجعل المسلسل ناجحاً؟ أو ما الذي نجح فيه مسلسل ابتسم أيها الجنرال؟ 

لقد نجح في أن تحظى حلقاته بملايين المشاهدات، ونجح في أن يصبح حديثَ قطاعات واسعة في السوشال ميديا والواقع، ونجح في أن يحصد متابعة لا بأس بها في العالم العربي وفي أوساط السوريين، وفي داخل سوريا أيضاً وليس فقط بين السوريين في الشتات. وفقاً للمعايير الترويجية، فإن معيار النجاح الأساسي للمسلسل هو أن تتم مشاهدته على نطاق واسع لدى الجمهور المستهدف، لكن هناك معنىً آخر للنجاح عندما يكون العمل سياسياً، وهو أن ينجح في إثارة نقاشات سياسية، الأمر الذي يبدو أن المسلسل نجح فيه أيضاً جزئياً على الأقل، وإن كانت أغلب النقاشات تتعلق بالموقف من المسلسل نفسه وليس من الأفكار والتصورات السياسية التي يطرحها.

غير أن هذا لا يكفي لنقول إن المسلسل ناجح إذا فكرنا في جانبه الفني والإبداعي، ذلك أن المتابعة الواسعة له ليست نتيجة حبكته الدرامية ولا حواراته ولا أيّ من عناصره الجمالية والفنية، بل نتيجة موضوعه وظرفه السياسي. فنحن نشاهد للمرة الأولى قصوراً رئاسية عربية، بإنتاج عربي وعلى شاشة عربية، وليس بغرض تمجيد ساكنيها. والأهم أننا نشاهد نسخة مشحونة بخيال الكاتب من عوالم الأسديين وأسلوبهم في الحكم وعلاقاتهم ببعضهم وبالدول الأخرى، ذلك بينما نعيش النتائج الكارثية لحكمهم وعملاً حثيثاً لإعادة «الشرعية» لنظامهم. هذه وصفة النجاح الأساسية للمسلسل، وفي الحقيقة، لا يمكن لمسلسل يُقدّمُ نفسه بهذا الشكل وفي هذا الظرف أن يفشل إذا كان النجاح المقصود هو المتابعة الواسعة.

لكن بصرف النظر عن المتابعة الواسعة والنقاشات الكثيرة، فقد جاء المسلسل مُخيباً للآمال على أكثر من صعيد. إذ ليس في المسلسل ما يوحي أبداً بأنه عملٌ ضخمٌ إنتاجياً، وهو ما تدلّ عليه أشياء كثيرة أبرزها مشاهد الانفجارات المصممة بطريقة بدائية تجاوزتها الدراما السورية نفسها منذ سنوات، ومشاهد التجمعات البشرية الفقيرة على نحو غريب، ومشاهد كثيرة كان مؤدّوها لا يمثّلون بل يرددون عبارات حفظوها عن ظهر قلب. ذلك بينما تقف وراء العمل جهة إنتاجية ممولة قطرياً ويُفترض أن لديها قدرة على تأمين إمكانيات إنتاجية ضخمة، وكانت قد حرصت على الإيحاء بأنه نقلةٌ في تاريخ الدراما السورية والعربية، لا سيما في أسلوب تغطيتها الإعلامية للعرض. يبدو غريباً فعلاً أن يتم إنتاج مسلسل يُرادُ له أن يكون علامة فارقة بطريقة كهذه، ويضاف إلى ذلك التفاوت بين الأداء المتواضع والضعيف أحياناً في مشاهد كثيرة وبين الأداء الجيد والممتاز أحياناً لنجوم وممثلين محترفين مثل مكسيم خليل وسوسن أرشيد وعبد الحكيم قطيفان وريم علي، بحيث أننا نلحظ تدهورَ الأداء تدريجياً كلّما قلّت خبرة الممثّل أو الممثلة، وهو ما يعني ضعف أو حتى غياب دور المخرج، وضعفاً في الكاستينغ أيضاً.

ثمة ما هو مُخيبٌ للآمال في نَصّ المسلسل أيضاً، إذ جاءت بعض الحوارات مملّة وبطيئة وغير متّسقة مع البناء الدرامي للشخصيات، كما أن بناء الشخصيات لم يكن مقنعاً أو مفهوماً في حالات عديدة. وإن كان نصُّ المسلسل نقطةَ قوته الأساسية، التي يقف خلفها مؤلفٌ خبيرٌ ترك علامات فارقة في تاريخ الدراما السورية سابقاً، فإن الفارق في تماسُك النصّ وبناء الشخصيات بين هذا المسلسل ومسلسلات سابقة لسامر رضوان ربما يُحيل مجدداً إلى ضعف دور المخرج، ولعلّه يرجع أيضاً إلى التصورات السياسية التقليدية عن عوالم الطغاة والمؤامرات وسياسات الغرف المغلقة وأنشطة السفارات، وهي التصورات التي يوحي المسلسل بأن الكاتب يتبناها بوصفها محركاً أساسياً للسياسة والتاريخ في بلاد مثل بلادنا، بينما كانت تُتيح مرحلة الثورات العربية مجالاً أوسع أمام الكاتب للتفكير في الفعالية السياسية لعموم الناس، وإدماجها في تصوراته المُتخيلة عن العوالم الخلفية لحكم أنظمة مثل نظام دولة الفرات في المسلسل.

تبقى قصة المسلسل وحبكته الأساسية، وهذه لا يمكن النظر إليها بوصفها نقطة قوة أو ضعف بمعزل عن الموقف السياسي عموماً والموقف من الدراما ودورها، وهي الأمور التي تتباين بشدة من شخص لآخر ومن ظرف لآخر. 

انتقادات، وشتائم، وتصفيق

بينما يتفق الجميع تقريباً على الضعف الفني للمسلسل، فإن المواقف من المسلسل في الأوساط السورية جاءت متباينة إلى حد كبير. لا نعرف كيف ينظر إليه أنصار النظام السوري فعلاً، كذلك لا نعرف الكثيرَ عن مواقف ونقاشات عموم المُشاهدين في الداخل السوري بشأنه، باستثناء أنه حصل على متابعة جيدة وأن الناس يسمّونه «هداك المسلسل» تعبيراً عن معرفتهم بأنه يتناول ما لا تجرؤ الدراما السورية والعربية على تناوله في العادة.

لكن السوشال ميديا تعرض لنا جانباً مهماً من موقفين أساسيين شائعين في أوساط معارضي النظام، أحدهما يهاجم المسلسل بقسوة والآخر يحتفي به. وينطلق أغلب المُحتفين بالمسلسل من دافع سياسي محض، هو أن المسلسل يقتحم مساحة جديدة لم تدخلها الدراما السورية من قبل، ويساهم في ترسيخ صورة الحكم الأسدي بوصفه حكماً إبادياً متوحشاً. كذلك ينطلق كثيرون في احتفائهم بالعمل من شجاعة المشاركين فيه، فالإحالات إلى بشار الأسد ووالده وشقيقه وعمّه وزوجته ووالدته إحالات مباشرة رغم الفوارق في سيرة الشخصيات، ذلك بينما لا تزال العائلة الشهيرة بوحشيتها على رأس السلطة، بحيث أن تقديم شخصياتها بهذا الشكل يتطلب بالفعل شجاعة بالمعنيين السياسي والفني.

أما المهاجمون للمسلسل، فلعلّ أكثر حُججهم غرابة هي تلك التي تعتبره خدمة للنظام وتبييضاً لصفحة رئيسه بشار الأسد. وينطلق هذا الرأي من إظهار فرات حكيماً في المسلسل بالمقارنة مع شقيقه الأهوج، وإظهاره متزناً وعابساً بالمقارنة مع صورة «الضاحك الأهبل» لبشار الأسد في أوساط معارضيه، وإظهاره غير مسؤول عن جريمة اغتيال أحد السياسيين في الدولة الغربية المجاورة بالمقارنة مع مسؤولية بشار الأسد عن اغتيال رفيق الحريري. سيتراجع حضور هذا الرأي نسبياً منذ الحلقات التي يَظهر فيها فرات مسؤولاً عن جرائم بالغة الوحشية، لكن تداوله أصلاً يدعو للتأمّل في مدى انحباس كثيرين في أوساط معارضة النظام ضمن تصورات محددة عن معنى الوحشية وعن شخصية بشار الأسد، بحيث أن أي انزياح عن تلك التصورات يغدو فوراً تببيضاً لصفحة النظام ومؤامرة كبرى لتشويه الحقيقة. فرات متوحّشٌ منذ الحلقات الأولى للمسلسل بلا شكّ، لكنه كان أقل حماقة من شقيقه عاصي، ومن علامات الانحباس أن نجد صعوبة في قبول وجود من هو أكثر حماقة من بشار الأسد حتى في عمل درامي يُحاكي الشخصية ولا يدّعى نَسخها، مع أن بشار الأسد على الأرجح ليس أحمقاً ولا أهبلاً بالطريقة التي يحب أغلبنا أن يراها.

وبعيداً عن الآراء الحادّة التي تعتبر المسلسل مفيداً للنظام، فإن ثمة آراء كثيرة تنتقد المسلسل انطلاقاً من استغراب لجوئه إلى صناعة قصة موازية فيها شخصيات وأحداث مشابهة لتاريخ الأسديين بدل اللجوء إلى المباشرة، وآراء تهاجمه عند كل انزياح عن قصص الأسديين التي نعرفها، ما يشي بأن أصحاب هذه الآراء كانوا ينتظرون أن يشاهدوا حكاية الأسديين كما هي دون تحريف، وهو ما يفتح الباب على سؤال: هل كان بمقدور سامر رضوان والقائمين على إنتاج العمل أن يذهبوا باتجاه آخر غير الذي ذهبوا إليه؟

سيناريوهات أخرى

هل كان ممكناً إنتاج عمل درامي اليوم عن بشار الأسد وعائلته بأسمائهم الصريحة، ويحظى مع ذلك بجهة إنتاج ويُعرَض على فضائية عربية؟ تُواجه هذا الخيارَ عقباتٌ أساسية منها أننا لا نعرف أشياء كثيرة موثوقة عن عوالم الأسديين الداخلية بما يكفي لإنجاز عمل درامي بناء عليها، وأن أحداً في مناطق سيطرة النظام لن يجرؤ على متابعة مسلسل كهذا أو الحديث عنه، ذلك بينما يبدو أن القائمين على العمل يهدفون إلى أن تتم متابعة المسلسل في سوريا أيضاً. لكن العقبة الأساسية أمام هذا الخيار هي أن عملاً كهذا لن يرى النور ولن يُعرض أصلاً ضمن الظرف الراهن، والأرجح أنه ما كان ليجد جهة تنتجه ولا فضائية تعرضه حتى لو كانت مملوكة لجهة معارضة جذرياً للأسديين، لأن هذا قد يتركها في مواجهة دعاوى قضائية وربما إشكالات سياسية ودبلوماسية، فضلاً عن الطعن في العمل من كل الاتجاهات بسبب استحالة تطابقه مع التصورات والمعلومات الشائعة المتناقضة عن عوالم الأسديين.

هل كان يمكن أن تأتي حكاية المسلسل مُحاوَلةً لتقديم مقطع مطابق للواقع من سيرة الأسديين دون تسميتهم بالأسماء؟ كان هذا سيبدو خياراً غير مُبرَّر، فهو سيسقط حتماً في فخ الطعن فيه من كل الاتجاهات، وفي فخ الحاجة إلى استخدام مقدار كبير من الخيال لإغلاق الفراغات الكثيرة في الحكاية على نحو يكاد يقارب مقدار التخيّل الموجود في النسخة الحالية من العمل، هذا بينما هو أصلاً خاسرٌ لميزة تسمية الأسديين بأسمائهم.

على هذا، يبدو أن الفكرة الذي لجأ إليها سامر رضوان وصنّاع العمل فكرة ممتازة فعلاً: حكاية تستند إلى وقائع حقيقية معلومة من عصر الأسدين الأب والابن، مشحونة بوقائع وحبكات مُتخيَّلة يتم من خلالها تمرير الرؤى والأفكار السياسية المُراد تمريرها، بما يجعل المشاهدين واثقين من أنهم يشاهدون نسخة مُعدّلةً عن حكاية الحكم الأسدي، وفي الوقت نفسه واثقين أنها ليست حكاية الأسديين تماماً بما يبرر جميع الوقائع والأحداث المتخيّلة، وبما يفضي إلى إمكانية إنتاج المسلسل وعرضه ومتابعته على أوسع نطاق ممكن.

لكن هل تم تنفيذ تلك الفكرة الممتازة بشكل جيد؟ لم يحدث هذا نظراً لنقاط الضعف الكثيرة المشار إلى بعضها أعلاه، وفي القلب منها عدم استحضار كفاح الناس من أجل حقوقهم وكرامتهم وحريتهم بشكل كافٍ ومؤثرٍ في القصة المتخيّلة، وهو الأمر الذي كان سيفتح المسلسل على أبعاد تشكّل اختراقاً حقيقياً في التصورات الشائعة عن السياسة وكواليسها. صحيحٌ أن الكفاح المرير من أجل حياة أفضل في السنوات الماضية لم يأتِ بثماره بعد، وأن الحيوية السياسية المتفجرّة لأبناء المنطقة وبناتها تُسحَق تحت سطوة القوة المتوحشة والتفاهمات السياسية الدولية وانغلاق الأفق السياسي، لكن قصة المسلسل كانت تتسع لتمثيل هذه الحيوية واستحضارها بشكل أفضل بما لا يُقاس، فضلاً عن أن قصة المسلسل كانت تستحق عناية أكبر بكيفية صياغتها وإنتاجها وتقديمها، تحديداً لأنها فعلاً تدخل مساحة غير مسبوقة في الدراما السورية والعربية.

لا يمكن المطابقة تماماً بين شخصيات المسلسل وأركان الحكم في سوريا، لكن المسلسل أنجزَ اختراقاً مهماً عندما جعلنا نرى على الشاشة وحشيةً وفساداً رهيبين في مَشاهدَ تُحيل دون مواربة إلى عائلة الأسد، فكان هذا سرَّ نجاحه النسبي. لكن الاختراق جاء من فوق، وبقي هناك «فوق» في عوالم السياسة العليا المُتخيّلة ووفقاً للتصورات الشائعة عنها، ولعلّ ما نتمنى أن نراه قريباً هو اختراقٌ من تحت، نرى فيه الناس العاديين كيف يتحدثون في بيوتهم وخلال حياتهم اليومية العادية عن الأسديين وأشباههم، أو تصورات فنية إبداعية بشأن كيف يتفاعل الـ«تحت» مع الـ«فوق» لإنتاج الواقع الرهيب الذي نعيشه، أو تصورات تفتح الخيال بشأن كيفية تجاوز هذا الواقع.