تُناقش الدراما العربية بصفة عامة والسوريّة بصفة خاصة قضايا تخص المرأة والمجتمع، وإن لم تكن الأعمال متقصدة بالضرورة هذا التوجه ولا تسمي نفسها أعمال نسوية، إلا أن رصد وتصوير التفاعلات الاجتماعية والعلاقات والسلطة البارزة من شأنه أن يسلط الضوء على قضايا نسوية كالهيمنة الذكورية والعنف ضد المرأة وتمثيل النساء في الخطاب العام، بالإضافة إلى تقسيم الأدوار المبني على التمييز الجنسي والجندري بين الرجل والمرأة.

شغلت أعمال البيئة الشامية حيزاً أساسياً في الأعمال الدرامية منذ انطلاقها عام 1992 على يد المخرج بسام الملا، من خلال مسلسل أيام شامية؛ قصة حي من أحياء دمشق في أواخر العهد العثماني وبداية عصر النهضة العربية، تَعرضُ العادات والتقاليد والعلاقات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، حيث لاقى المسلسل استحساناً كبيراً من الجمهور جَعَل المخرج يختصّ بها ويُنتج مجموعة من الأعمال التي تسير أحداثها في بيئة مدينة دمشق القديمة، وصولاً إلى إنتاجه مسلسل باب الحارة المستمر بطرح أجزاء جديدة حتى يومنا هذا.

واليوم، لا تزال أعمال البيئة الشامية تحتل مكانةً بارزةً في المشهد الدرامي، إذ لاقت قبولاً لدى الجمهور السوري وحتى العربي على مدى سنوات، خاصة وأنها تندرج في غالبيتها ضمن فئة المراجعة التاريخية لحقب زمنية في دمشق، بالإضافة إلى اتخاذها موقع الحكواتي في رَوْيها للحكايات الشعبية حول أبطال قاوَموا المستعمر وحملوا الكثير من الصفات بالغة الإيجابية من كرم ومروءة وشهامة وما إلى ذلك. كما نجحت هذه الأعمال في الوصول إلى كافة أطياف المجتمع نظراً لكونها تناسب فئات عمرية مختلفة، قابلة لطرح بعض مشاهدها في قالب كوميدي، معالجةً ثيمات كالصراع وعلاقات القوة، بالإضافة إلى معالجتها لمشاكل اجتماعية يمكن إسقاطها على مختلف الأزمنة.

ما الجديد؟

حتى العام 2021، الذي شهد إنتاج أكبر عدد من مسلسلات البيئة الشامية، كانت مسلسلات البيئة الشامية تعطي المساحة الأبرز للرجل، موليةً إياه قيادة الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، في حين تظهر النساء بأدوار محدودة لا تتعدى نطاق الاهتمام بأمور البيت، وتُطرح الشخصيات النسائية على أنها منقادة ومُنصاعة لأوامر الرجل، ليس لها حق في التعليم أو العمل، تتحدد مكانتها الاجتماعية بنَسَب أسرتها ومدى «أنوثتها»، ومهاراتها في التدبير المنزلي.

وإن لم تقدم دراما رمضان 2022 أي تقدم في السياق السابق، لا يمكننا تجاهل التحول الطفيف في أعمال الدراما الشامية في رمضان 2023. من خلال متابعة ثلاثة أعمال درامية شامية لهذا العام: حارة القبة الجزء الثالث والعربجي وزقاق الجن، لا نلمس إخراج النساء من عباءة الذكور المحيطين بهن فحسب، بل نلحظ انتقاداً شديد الوضوح للأبوية، والترميز للذكورة السامة وما يترتب عليها من عنف وإقصاء وتهميش للنساء والرجال من حولها في آن معاً، حيث رُسمت بعض الشخصيات بشكل أخرج النساء والرجال من نمطية كانت حتى وقت قريب، نمطية حتمية في أعمال البيئة الشامية.

تمتلك الشخصيات النسائية هذا العام سلطة على المال والجسد والعائلة، لديهن قدرة على التعبير عن رغباتهن العاطفية والجنسية والتحكم بمسارات حياتهن، كما يبرر السياق الدرامي «انحرافاتهن» عن الخط العام الأخلاقي المحكوم بالمجتمع، وتوضيح دور العنف ضدهن في جعلهن ضحايا هذا «الانحراف».

متحكمات مستقلات وصاحبات أملاك 

تظهر شخصية درية خانم في مسلسل العربجي (إخراج سيف الدين سبيعي)، والتي جسدتها نادين خوري، كطرف صراع رئيسي مقابل لشخصية أبو حمزة النشواتي التي جسَّدها سلوم حداد. درية ليست الطرف الخيّر بشكل خالص في الصراع، لكنها أيضاً صاحبة الحق، وطُرُقها الملتوية لتحصيل هذا الحق لم تكن من خلال «كيد النساء»، وإنما من خلال عنف مقابل لعنف طرف الصراع الآخر. ولا نشيد هنا بالعنف أو بتحول النساء من الصراع ضد المنظومة الأبوية الى الانخراط فيها، حيث أن درية خانم شخصية تتمثل سمات السلطة الأبوية دون شك، متحكمة في عائلتها وأولادها ومحيطها من خلال نفوذ عائلتها السلطوي (باشاوات) والاقتصادي (ملّاك وتجار)؛ تهدد بقطع القمح عن الناس وإخصاء الرجال وتأمر بالقتل، لكن لا يمكن تجاهل وضع امرأة في صراع ضمن منظومة قوى متوازنة بشكل ندر أن نراه مسبقاً في عمل درامي شامي.

كما نجد في المسلسل نفسه مثالاً آخر في شخصية الداية بدور التي جسدتها ديمة قندلفت، هي شخصية محورية ومحرك للشر بين طرفي النزاع الرئيسيين، امرأة مستقلة، تعمل وتعيش وحدها وتسعى كي تشق طريقها إلى «مرتبة الباشاوات والخوانم»، فتبادر بطلب الزواج من نوري النشواتي، الابن الأكبر لدريّة خانم، بشكل مباشر وصريح، كما تقدم خدمات مجانية لامرأة مُقْعدة تركها أولادها وحيدة، مقابل الحصول على «حجة» منزل هذه المرأة والخَطو خطوة نحو أن تصبح من «صاحبات الأملاك». وبالرغم من أن وسائل بدور قد تندرج نمطياً تحت ما يسمى كيد النساء، يُصوَّر هذا الكيد بشكل مُبرَّر في سياق العمل؛ كون بدور منحدرة من طبقة اجتماعية متواضعة، تحرص درية خانم على تذكيرها بذلك على امتداد الأحداث، ولا تملك أي سلطة أو نفوذ اقتصادي أو اجتماعي للنجاة في مجتمع يتحكم فيه القوي بالضعيف.

تابوهات الجنس والطهارة

قدم مسلسل حارة القبة (إخراج رشا شربتجي) في جزئيه الأول والثاني حكاية درامية ضمن بيئتين مختلفتين؛ الأولى ضمن الحارات الدمشقية التي انحصرت فيها مسلسلات البيئة الشامية وحقبة بداية القرن العشرين، والثانية في ضيعة في محيط دمشق خاضعة للسيطرة الإقطاعية، مسلطاً الضوء على الاختلافات الثقافية بين المدينة والقرية في تلك الحقبة، حيث كانت نساء القرية تعيش حياة أكثر انفتاحاً مقارنة بما يجري داخل الحارات الدمشقية.

أما الجزء الثالث الذي تم عرضه هذا العام وعادت أحداثه لتكون محصورة ضمن حدود حارة القبة الدمشقية، تطالعنا فيه شخصية سعاد خانم، التي جسدتها شكران مرتجى: امرأة مطلقة تجاوزت السن المناسب للزواج في تلك الحقبة، مستقلة مادياً بفضل عملها في مهنة الخياطة، وتقرر أن تطلب من داية الحارة أن تبحث لها عن عريس، في عكسٍ صارخ لما اعتدنا عليه في طلب النساء من الدايات البحث عن عروس لأبنائهن وحتى أزواجهن أحياناً. تلّمح سعاد في عدة مشاهد عن رغبتها الجنسية وفي إطار تحسّري ومؤلم لا كوميدي؛ تجيب الداية عندما تسألها عن سبب استعجالها على الزواج بتنهيدة مرافقة لجملة «اللّي بيعرف بيعرف»، كما أنها تختار شاباً في الثلاثين من عمره ليكون عريسها المرتقب، موضحةً أنها لن تحتمل تكرار تجربة زواجها الأولى من شخص غير قادر على «تغنيجها وتدليلها». إنها من المرات النادرة التي يرى فيها المُشاهد امرأة تُعبّر عن رغباتها واحتياجاتها الجنسية. يا للمفاجأة! النساء لديهن رغبات جنسية وتفضيلات أيضاً!

كما نجد «عاهرات» هذا الموسم الرمضاني ضحايا للمنظومة الذكورية. حيث جسدت إمارات رزق دور صبحية في مسلسل زقاق الجن (اخراج تامر اسحاق): لم تتضح كافة العوامل التي دفعت صبحية إلى أن تمتهن عمالة الجنس حتى الآن، لكن المسلسل يبدأ كل حلقة بمشهد من الماضي يبرر، مع سياق العمل ككل، لصبحيّة ما آلت إليه، ويُظهرها ضحية للشر الأكبر والمحوري في العمل؛ أبو نذير الذي يقوم بدوره أيمن زيدان وزوجها أبو عزو الذي لفَّقَ لها تهمة جريمة قتل ليبتزها ويُجبرها على العمل. تظهر صبحية في كافة مشاهدها بريئة وبعيدة جداً عن الشيطنة المُعتادة للشخصيات العاملة في هذا المجال، وهو أمرٌ لافت يطرح سؤالاً ندر أن عولجَ بشكل وافٍ درامياً حول دوافع العمل في هذه المهنة، كما يدفع الجمهور إلى التعاطف مع صاحباتها خاصة أثناء عرض ما تتعرض له من مخاطر تصل إلى الموت نتيجة العنف الجسدي والجنسي السادي الذي يمارسه بعض الرجال (الزبائن)، دون قدرة الضحية على الشكوى أو الدفاع عن نفسها.

بالطبع لا يتجاهل المسلسل بعض المفاهيم السائدة في تلك الحقبة، والتي مازالت سائدة حتى الآن، أمورٌ كالطهارة والعذرية والشرف لا يمكن الاستغناء عنها في سرد واقع تلك الحقبة، ووجودها ليس محل انتقاد، الجديد هو إظهارها على أنها سلبية، فيدافع الأخ الصالح (مروان) عن أخته (ملك) ويمنع قتلها مساعداً إياها على الهرب من محاولة جدها وأخوتها قتلها في مسلسل زقاق الجن، في حين أن الشخصيات الشريرة وحدها هي من تتمسك بتلك المفاهيم.

الرجال ضحايا

روّجت دراما البيئة الشامية عبر عقود للذكورة السامة، وقدمتها في قالب رجولي يتميز بالقوة، إلى جانب كونه أخلاقيٌ وعطوفٌ في إطارٍ مستحب، وطُرحت الشخصيات الرجالية في العادة بشكل جامد جعلها تملك السمات نفسها في أي مشهد درامي على اختلاف سياقه، كأن يتم تصوير الرجولة بما يقتصر على فظاظة الطبع وعلو الصوت وعبوس الوجه وإصدار الأوامر؛ كما في نماذج «أبو شهاب» أو «معتز» في باب الحارة. يدفعنا هذا لملاحظة الفارق في أعمال البيئة الشامية لهذا العام، والذي رغم بساطته وعدم إضافته الكثير، لا يمكننا التغافل عنه كتطور، إن لم يشكل فارقاً، يضع طريق صناعة الفارق نصب أعيننا.

تم طرح بعض الشخصيات الرجالية، الثانوية في الغالب، لكن الرئيسية أيضاً بشكل يوضح كيف يمكن أن يكون الرجال ضحايا الذكورة السامة شأنهم شأن النساء، حيث سُلِّط الضوء بشكل نقدي على بعض ممارسات السلطة الأبوية، وبشكل ترميزي للمآلات الكارثية الناتجة عنه؛ نرى في شخصية «نذير» التي جسدها شادي زيدان في مسلسل زقاق الجن: الابن «البار» الذي صوّره العمل كضعف، حيث يحاول بشتى السبل إرضاء والده «أبو نذير» (شخصية رمزية للسلطة المطلقة)، ويظهر نذير في أكثر المشاهد حساسية لدوره كأب، أثناء محاولة إقدام أبو نذير على قتل ابنته الوحيدة (ملك)، حيث ينهار نذير باكياً وهو يلوم ما تَعلَّمه خلال حياته عن ضرورة طاعة الوالدين بشكل أعمى: «أنا ماني قدران أطلع من تحت عباية أبي، بيجوز ماني فهمان ديني…. من وقت اللّي كنت بالكتّاب كانوا يفهموني أنو طاعة الأب من طاعة الرب».

وفي المسلسل نفسه نجد حفيد أبو نذير (مجدي)، شخصية مهزوزة وخائفة طوال الوقت. لا يتجرأ مجدي على الخروج من غرفته ليلاً وحده، فيحتاج إلى مساعدة زوجته إذا أراد قضاء حاجته، ينعته أبو نذير بـ«الشخاخ» حين تقف والدته في وجه حماها مذكرةً إياه أن ابنها أصبح هكذا نتيجةً لظلمه وقسوته ومعاقبته بالحبس في القبو المظلم المليئ بالفئران وهو صغير. لا أحد يقف في وجه أبو نذير (الشر المطلق) في المسلسل سوى النساء، زوجة ابنه وحفيدته ملك وزوجته السابقة شيماء وابنته نورية التي تبرَّأَ منها وغيرهن، بينما يخضع الرجال في عائلته وحارته للخوف من بطشه وسلطته.

شومان، أحد رجال أبو حمزة النشواتي في مسلسل العربجي، محكوم بشدة من زوجته، تتحكم في تصرفاته وتهينه وقد تضربه أحياناً، لا بد من التذكير أيضاً بأننا لا نعتبر هذا القلب في الأدوار وتحوّل النساء إلى ظالمات ومُعنِّفات بدلاً من الرجال هو أمر إيجابي، لكننا نسعى للتركيز على العوامل التي جعلت من امرأة قادرة على فعل ذلك، وفي حالة زوجه شومان فهي مالكة المنزل، لديها عائلة تحميها حيث تُذكِّرُ شومان في أكثر من مشهد بعواقب غضب والدها عليه، أي أنها هي من تُمثّل السلطة في المنظومة الأبوية هنا، وزوجها هو الضحية لذلك.

مشاهد متفرقة

من استطلاع نماذج الشخصيات وبعض خطوط الأحداث المذكورة، يمكن ملاحظة توجهٍ بارز في أعمال هذا العام لنقض عدة مفاهيم تحكم الأدوار التقليدية المرأة والرجل. ليست كل النساء عطوفات تحكمهن العواطف، أو مكيودات يقدمن على قرارات انفعالية، أو خنوعات وملتزمات بأنوثتهن ومسكونات بالخوف على عذريتهن. في المقابل ليس كل الرجال في موقع الظالمين أو المعنفين والمتسلطين، بل تعجنهم المنظومة كما تعجن النساء حين يفقدون إحدى امتيازاتهم من مال ونسب وسلطة وما إلى ذلك.

تم اختيار بضع شخصيات كعيّنة في هذا المقال، لكن يمكن التعمق أكثر حتى في الحوارات، زوايا التصوير، والحبكة الدرامية. حوارات بين الفتيات عن الحب، عن حرية الاختيار، رجال يدافعون عن حق نساء عائلاتهم بالاختيار، ويرفضون ما يسمى «غسل العار». زوجات يتخذن قرارات مخالفة لآراء أزواجهن وبنات يعاندن قرارات كبار العائلة. أزواج يطلبن النصح من زوجاتهن ويعترفون بحكمتهن ومعرفتهن في أمور أكثر منهم.

لا يوجد ماكياج غير مبرر في السياق الدرامي، ولا شوارب وعضلات وصراخ و«علقات» استعراضية، تتم شيطنة الرجال الذين يرغبون في ارتكاب «جرائم شرف» بدل أن يتم عرضهم على أنهم أبطال وأصحاب نخوة وشهامة، يوجد نساء لا تخشى الطلاق، ونساء تسعى للإجهاض وترفض الإنجاب. نساء يُنصبّنَ أنفسهنَّ وكيلات عن العروس في الزواج (درية تجيب الشيخ حين يسأل من هو وكيل العروس بكل ثقة: أنا وكيلة العروس، ولّا ما بيصير، ليجيب الشيخ مصدوماً: مبلا بيصير!) ونساء يتخذنَ زمام المبادرة في بعض المواقف التي تتطلب قوة (مثل شخصية شيماء، التي تجسدها أمل عرفة؛ خرجت ليلاً وحدها بحثاً عن ابن أخيها ورمت نفسها في النار لتنقذه)، كما يوجد مشاهد تظهر ملامح من الـ «أختية» بمفهومها المعاصر، نساء في مواقع متعاكسة يدعمن بعضهن، زوجة وضرتها (نورية وزهرة في العربجي)، ابنة زوج وخالتها زوجة أبيها (سمية وإخلاص في حارة القبة)، حماةٌ وكنَّتها (خولة وزوجات أبنائها في زقاق الجن).

يرتبط مصطلح الغرس المنتشر منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين بالنظرية التي تحاول تفسير الآثار الاجتماعية والمعرفية لوسائل الإعلام وبالأخص التلفزيون، فالغرس الثقافي بما يتضمنه من زرع وتنمية مكونات معرفية ونفسية عند التعرض للتلفزيون، هو حالةٌ خاصةٌ من عملية أوسع هي التنشئة الاجتماعية. بالتالي لا يمكن اعتبار الدراما مجرد وسيلة ترفيه، إنها قناة رئيسية لبث رسائل لترويج أو ترسيخ أفكار معينة تغرسها في الجمهور، رسائل قد تتبلور وتتحول إلى جملة من الأفكار والسلوكيات الراسخة لدى الفئة المستهدفة من الجمهور. في ظل صراع دراما مسلسلات واقع سوريا اليوم، والاصطفاف الموجود في سوريا وانعكاسه عليها، تدخل أعمال البيئة الشامية بما تحمله من حيادية إلى كل المنازل السورية، والتطور الذي لمسناه يشير إلى نيّة في التفاعل أكثر مع الجمهور، ونيّة للتجاوب مع الانتقادات وتحسين الخطاب بما يرافق تطور الوعي في مسائل تخص القيم المجتمعية والحريات الشخصية.