بِقرار من رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان، تم تحديد موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا في الرابع عشر من شهر أيار (مايو) القادم، في حين كان الموعد المفترَض لإجرائها هو الثامن عشر من شهر حزيران (يونيو)، أي بعد مرور خمس سنوات كاملة على الانتخابات السابقة كما يحدد الدستور. لم تصدر اعتراضات ذات شأنٍ على تقديم الموعد، وإن كان الأمر قد خضع لبعض الجدل قبل ذلك، فقد كانت أحزاب المعارضة الرئيسية المجتمعة في إطار إئتلاف الأمة (millet ittifakı) قد أعلنت عن موافقتها المبدئية على تقديم الموعد شرط ألا يسبق السادس من شهر نيسان؛ موعد دخول قانون الانتخابات البرلمانية الجديد الذي أُقر في التاريخ نفسه من العام الماضي. وسنعود إلى سببِ ذلك لاحقاً.
جدل حول الرمزية التاريخية لموعد الانتخابات
كان اختيار السلطة لهذا التاريخ موضعَ تعليقات متناقضة من قبل أصواتٍ معارضة وأخرى موالية. ففي الرابع عشر من أيار عام 1950 أُجريت الانتخابات العامة في تركيا وفاز فيها الحزب الديمقراطي المعارض بقيادة عدنان مندريس بعدما خاض حملته الانتخابية تحت شعار «كفى! الكلمة الآن للشعب!»، مُنهياً بذلك تفرّد حزب الشعب الجمهوري بالسلطة طوال 27 عاماً متصلة.
من وجهة نظر السلطة التي اختارت هذا التاريخ الرمزي يُراد القول إن هزيمةً جديدةً ستلحق بحزب الشعب الجمهوري هذا العام، شبيهة بتلك التي تكبّدها في منتصف القرن حين فقد السلطة التي أمسك بها مُتفرداً منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. أما التعليقات المعارضة فقد رأت في اختيار هذا التاريخ فشلاً ذريعاً، لأنه يرمز إلى انتصار المعارضة على السلطة وإن اختلفت الأدوار. وهكذا تبنى حزب الشعب الجمهوري شعار خصمه القديم «كفى! الكلمة والسلطة للشعب!» مُرفَقاً بصورة كبيرة لزعيمه كمال كلجدار أوغلو عُلّقت على واجهة المبنى الرئيسي للحزب.
الواقع أن التمسّك بهذه الرمزية من قبل السلطة غير مفهوم حقاً؛ فهو يوحي كأن حزب الشعب الجمهوري موجودٌ في السلطة، وأن حزب العدالة والتنمية يسعى لإنهاء هذا الاحتكار والفوز بالسلطة، أي بعكس الواقع القائم الآن حيث يمسك أردوغان و«العدالة والتنمية» بالسلطة منذ 21 عاماً، بل إن الرئيس أردوغان تفرّد بكامل الصلاحيات التنفيذية في السنوات الخمس الماضية بعد تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي. من جهة أخرى، لا يمكن اعتبار «العدالة والتنمية» وريثاً سياسياً للحزب الديمقراطي اليوم، في الوقت الذي يضُم فيه التحالف المعارض حزباً باسم «الحزب الديموقراطي» الذي يعتبر نفسه وريث سميِّه القديم.
قد يمكن تفسير هذا «الخطأ» الرمزي بأمرين أو واحد منهما: الأول هو أن الحالة الروحية، إن جاز التعبير، للتيار المحافظ هي حالةُ مظلوميةٍ تاريخية تعود جذورها إلى بدايات تأسيس الجمهورية حين كان التيار العلماني مُمسِكاً بزمام الدولة، ولم تنته هذه الحالة بهزيمة «الشعب الجمهوري» في التاريخ المذكور أعلاه، بل امتدّت وصولاً إلى مطلع القرن الحالي؛ انقطع المسار الديمقراطي المتعثّر بثلاثة انقلابات عسكرية، وتعرض التيار الإسلامي الناشئ في أواخر الستينيات لاضطهاد سياسي متواتر، من خلال إغلاق الأحزاب التي أسسها الواحد تلو الآخر (النظام الجديد، السلامة القومية، الرفاه، الفضيلة). القطّاع الاجتماعي المحافظ المتدين كان على الدوام مُهمّشاً مقابل النخبة العلمانية. هذه الذاكرة الجمعية ربما لم تزل بعد أكثر من عقدين على حكم «العدالة والتنمية» وازدهار الجماعات الإسلامية في ظله. التفسير الثاني المحتمل هو قلق «العدالة والتنمية»، والرئيس أردوغان بالذات، من تراجع شعبيتهما باطراد مع وقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وعوامل أخرى، وهو ما قد يكون السبب المباشر لإحساسهما أنهما يخوضان معركة الانتخابات من موقع معارض.
الجدل حول حق أردوغان في الترشح لمنصب الرئاسة
شهد المسرح السياسي التركي أيضاً جدلاً حول حق أردوغان في الترشح لمنصب الرئاسة أساساً؛ فالدستور ينصُّ في مادته 101 على أنه يحق للشخص الواحد الترشح مرتين فقط للانتخابات الرئاسية. وتقوم دعوى الطاعنين بحقه في الترشح مجدداً على أن أردوغان سبق وترشح للمنصب مرتين، في 2014 و2018، والنص الصريح في الدستور يمنعه من الترشح للمرة الثالثة. في حين يدافع الناطقون باسم الحزب الحاكم عن حقه في الترشح بدعوى أن النظام السياسي قد تغير إلى النظام الرئاسي، وبالتالي أردوغان حَكَمَ لفترة رئاسية واحدة فقط بعد إقرار النظام الجديد. وبالفعل صادقت الهيئة العليا للانتخابات على ترشيح أردوغان، رافضةً الطعون المقدمة إليها بشأن ذلك.
مدى أهمية كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية
بعد أن تغيَّرَ النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، في استفتاءٍ أُجري في العام 2017، اجتمعت مُعظَم الصلاحيات التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، وتم إلغاء منصب رئيس الوزراء ليصبح مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية، وهو الذي يُعيّن الوزراء ويعزلهم، ولا يشترط فيهم الانتماء إلى حزب الأغلبية البرلمانية، ولا يقدمون الحساب للبرلمان. كذلك يُعيِّن الرئيس كلاً من حاكم المصرف المركزي ورئيس «الشؤون الدينية» التي هي بمثابة وزارة، ورئيس الهيئة العليا للتعليم الجامعي، ورئيس هيئة أركان الجيش.
في هذه الشروط الموصوفة تضاءلت أهمية البرلمان في النظام السياسي، واقتصرت مهمته على تشريع القوانين، أما الرقابة على عمل الحكومة فلا تتجاوز حق النواب في انتقاد ما يرَونه خاطئاً في مسلك السلطة التنفيذية، وتقديم الاقتراحات، أما حجب الثقة عن عملها فلم يعد من صلاحياته.
لذلك تكتسب الانتخابات الرئاسية أهمية حاسمة في تحديد مستقبل السياسة في تركيا، لكن ذلك لا يلغي أهمية الانتخابات النيابية، ففيها يتحدد حجم القاعدة الاجتماعية لكل حزب، وتفتح النيابة الباب أمام الشخص للارتقاء في ميدان السياسة، إضافة إلى الوظيفة التشريعية التي لا جدل حول أهميتها الكبيرة. لكن الأهمية السياسية للانتخابات البرلمانية القادمة تكمن أساساً في أن قوى المعارضة قد تعهدت بإعادة النظام البرلماني، وفي حال فازت هذه القوى في الانتخابات بأغلبية المقاعد، سوف تعمل على نزع معظم الصلاحيات التي يملكها الرئيس في النظام الساري حتى لو فاز أردوغان نفسه بهذا المنصب. الواقع أن النقطة الرئيسية في برنامج المعارضة تتمثل في العودة إلى النظام البرلماني، بعد خمس سنوات مما تراه فشلاً ذريعاً للنظام الجديد.
أطراف المعركة الانتخابية
يشارك في الانتخابات البرلمانية القادمة 34 حزباً سياسياً، منها خمسة فقط ممثلة في البرلمان الحالي، وهي بترتيب عدد نواب كل منها: العدالة والتنمية، الشعب الجمهوري، الشعوب الديموقراطي، الحركة القومية والحزب الخيّر. في حين يتنافس أربعة مرشحين – مبدئياً – على منصب رئيس الجمهورية، هم الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو، وزعيم حزب البلد محرّم إينجة، ومرشح حزب النصر سنان أوغان.
غير أن المعركة الانتخابية الأساسية من المتوقع أن تدور بين تحالف المعارضة المُسمّى «ائتلاف الأمة» وتحالف السلطة المُسمّى «ائتلاف الجمهور»، مع وجود تحالف ثالث معارض أيضاً هو «ائتلاف العمل والحرية» الذي يتشكل من مجموعة أحزاب يسارية صغيرة ويقوده حزب الشعوب الديمقراطي. أما التنافس على منصب الرئاسة فمن المتوقع أن يكون أساساً بين أردوغان وكلجدار أوغلو.
تحالف الأمة المعارض وبرنامجه
يتشكل تحالف الأمة المعارض بصورة رئيسية من حزب الشعب الجمهوري والحزب الخيّر مع مجموعة من الأحزاب الصغيرة، ويتصدّر برنامجه إعادة النظام البرلماني وإعادة الاعتبار لمبدأ الفصل بين السلطات وتعزيز الديمقراطية والحريات العامة.
تأسس حزب الشعب الجمهوري عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك ليكون حزب السلطة في نظام الحزب الواحد، واستمر في حكم تركيا 27 عاماً إلى حين خسارته في انتخابات تعددية جَرَت في عام 1950 على يد الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس. ويتبنّى الحزبُ «الفكر الكمالي»، وهو مزيجٌ من عَلمانية متشددة على النمط الفرنسي، وقومية تركية وتقديس دور الدولة مع مشروع لـ«عصرنة تركيا» لتصبح صنواً للدول الأوروبية المتقدمة، حيث حارب كلاً من التيار الديني والطرق الصوفية والتطلعات القومية الكردية. وبعدما خسر السلطة وفشل في الانتخابات اللاحقة، بات يستنجد بالجيش الذي قام بانقلابات عسكرية دورية كلما أحس بأن السلطة قد حادت عن «الأسس» العلمانية والقومية.
في عقد السبعينيات، شهد الحزب صعوداً جديداً بقيادة الراحل بولند أجاويد الذي ذهب بالحزب إلى يسار المشهد السياسي (يسار الوسط). لكن الانقلاب العسكري للعام 1980 قطع هذا المسار وزجّ بجميع قادة الأحزاب السياسية في السجون. بعد استعادة الحياة السياسية أعاد الحزب تشكيل نفسه لكنه لم يستعد زخمه أبداً بعد ذلك، مع احتفاظه بقاعدة اجتماعية ثابتة من الطبقة الوسطى ذات نمط الحياة الحديثة العلمانية. شارك بعدد من الحكومات الائتلافية في السبعينيات والتسعينيات، ثم تحول إلى حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان تحت قيادة دنيز بايكال بعد صعود «العدالة والتنمية» إلى السلطة في الألفية الجديدة. وبعد استبعاد بايكال من قيادة الحزب، انتُخب كمال كليجدار أوغلو لقيادته في 2010.
بعد هزائم حزبه المتكررة في الانتخابات، اتجه كليجدار أوغلو إلى سياسة أكثر انفتاحاً على قطاعات اجتماعية كانت إلى حينه مغلقة في وجه الحزب، وتزامن ذلك مع ازدياد النزعات السلطوية باطراد لدى حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، فتحالف في انتخابات العام 2018 مع الحزب الخيّر وحزب السعادة الإسلامي ومدَّ الجسور مع حزب الشعوب الديمقراطي. ومنذ شباط 2022 أسس «الطاولة السداسية» تحضيراً لانتخابات العام 2023، جمع حولها تيارات قومية ومحافظة ومن يمين الوسط، وهو يتنافس اليوم مع أردوغان على منصب الرئاسة.
انشق الحزب الخيّر بقيادة وزيرة الداخلية الأسبق مرال آكشنر عام 2017 عن حزب الحركة القومية بعد تحالف الأخير مع «العدالة والتنمية»، ولدى الوزيرة طموح في احتلال حزبها موقع «يمين الوسط» الذي احتله تاريخياً تيار الزعيم السياسي سليمان دميريل تحت اسم حزب العدالة في الستينيات والسبعينيات، وحزب الطريق القويم في نهاية الثمانينيات والتسعينيات، لكن التيار القومي العلماني هو الأقوى داخل قيادة الحزب.
«أعارها» كمال كليجدار أوغلو عشرين نائباً في البرلمان من حزبه ليتسنّى لحزبها خوض الانتخابات في العام 2018، فشكلت تحالفاً مع «الشعب الجمهوري» و«السعادة». وحين اقترح هذان الحزبان اسم الرئيس السابق عبد الله غل مرشحاً موحداً لـ«تحالف الأمة» لمنصب الرئاسة في مواجهة أردوغان، رشّحت نفسها لهذا المنصب وفشلت في الانتخابات فشلاً ذريعاً. ثم شاركت في «الطاولة السداسية» التي تحولّت إلى «ائتلاف الأمة» مطلع العام الحالي، وحين اتفقت الأحزاب الخمسة الأخرى على ترشيح كمال كليجدار أوغلو لمنصب الرئاسة أعلنت انفصالها عن الائتلاف في بيان غاضب هاجمت فيه أطرافه بشدة، ودعت كلاً من رئيسي بلديتي إسطنبول أكرم إمام اوغلو وأنقرة منصور ياواش للترشح لمنصب الرئاسة. وإذ رفضا معاً دعوتها (وهما من أعضاء حزب الشعب الجمهوري) عادت إلى الائتلاف ووافقت على مضض على ترشيح كليجدار أوغلو، بشرط أن يشارك إمام أوغلو ويواش في الحملة الرئاسية كنواب للرئيس كليجدار أوغلو.
يقضي بروتوكول الائتلاف فيما يخص الانتخابات الرئاسية بأن يكون للرئيس كليجدار أوغلو، في حال انتخابه، نواب رئيس هم قادة أحزاب الائتلاف، وأُضيف إليهم رئيسا بلديتي إسطنبول وأنقرة بناءً على طلب آكشنر. وتُبرّر آكشنر رفضها لترشيح كليجدار أوغلو بأنه لن يتمكن من النجاح في الانتخابات الرئاسية، وتعتبر أنها تقدم تنازلاً باقتراحها ترشيح شخص آخر من «الشعب الجمهوري» نفسه؛ هو أحد رئيسي البلديَتين المذكورتين بعد النجاح الكاسح الذي حققاه في الانتخابات البلدية في 2019 بفوزهما على مرشحي الحزب الحاكم الذي احتكر رئاسة هاتين البلديتين منذ التسعينيات.
كان انشقاق الحزب الخيّر عن التحالف المعارض بمثابة فضيحة مدوية أثلجت قلب السلطة القلقة من تراجع شعبيتها، وفسّرت الأوساط المعارضة موقفها بأنه دعمٌ غير مباشر لأردوغان وحزبه، مستعيدةً موقفها المماثل في الانتخابات الماضية، ومواقف أخرى لها في لحظات مفصلية كانفصالها عن الكادر المؤسس لـ«العدالة والتنمية» بعدما شاركت في صياغة برنامجه، وانشقاقها عن حزب الحركة القومية. وقد يكون طموحها الشخصي وراء هذه المواقف، فهي تسعى دائماً إلى مناصب أعلى في السلطة بعدما شغلت منصب وزير الداخلية في حكومة تانسو تشيلر في التسعينيات.
الأحزاب الأخرى في ائتلاف الأمة هي أحزابٌ هامشية، كحزب السعادة الإسلامي المحافظ، وحزب الديمقراطية والتقدم (اختصاراً حزب «دواء») بقيادة وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، وحزب المستقبل بقيادة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود اوغلو، وأخيراً الحزب الديمقراطي بقيادة غولتكين أويصال. غير أن أهمية وجود هذه الأحزاب في التحالف تكمن في أنها تخاطب حساسيات إيديولوجية سياسية واسعة، حيث يجمع التحالف كامل الطيف السياسي تقريباً باستثناء الكرد، ويراهن على قضم قسم من القاعدة الاجتماعية للسلطة المستاء منها.
نسج كليجدار أوغلو علاقة غير رسمية مع حزب الشعوب الديمقراطي، لكنه لم يستطع ضمه لتحالف المعارضة بسبب معارضة الحزب الخيّر الذي لا يقبل أي تحالف مع الممثل السياسي لكُرد البلاد. لكنه تمكن من الحصول على موافقته على دعم ترشيحه لرئاسة الجمهورية بصورة غير مباشرة، من خلال امتناعه عن التقدم بمرشحه الخاص.
قدَّم تحالف الأمة المعارض في أوائل العام الحالي «نص توافقات»؛ عبارة عن برنامج عمل لما ينوي القيام به في حال فوزه بالسلطة، استغرق إعداده قرابة العام من خلال التداولات بين زعماء أحزاب التحالف التي انعقدت دورياً كل شهر. البند الرئيسي في هذا النص هو العودة إلى النظام البرلماني مع تعزيزه بمزيد من القوة مقابل إعادة منصب الرئاسة إلى طابعه الأقرب إلى الرمزية ومع شرط حياد الرئيس السياسي الذي من المفترض أن يمثل كل الأمة.
ويَعتبر النصُّ النظامَ الرئاسي، كما تم اختباره في التطبيق العملي، سبباً رئيسياً لتدهور حال واعتبار مؤسسات الدولة، وشخصنةً للدولة من خلال التفرّد باتخاذ القرارات، وتحجيماً لدور البرلمان وللمشاركة السياسية، ونتج عنه تكريس الميول السلطوية وقضمٌ للحريات العامة والشخصية وإفراغٌ لمبدأ الفصل بين السلطات من مضمونه، وفقدان الثقة العامة بالنظام القضائي الذي تم تسييسه واستتباعه إلى حد كبير بالسلطة التنفيذية وغير ذلك من أوجه الخلل الذي اعترى الإدارة العامة.
إلى ذلك، تعتبر المعارضة أن جمع كل الصلاحيات في يد شخص واحد أدى أيضاً إلى الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم باطراد، ومن أوجهها البارزة انفلات التضخم المرتبط بالسياسة النقدية القائمة على نظرية «ارتفاع الفائدة هو ما يؤدي إلى التضخم» التي يتبناها أردوغان، ويتدخل في شؤون البنك المركزي ويحدد السياسة النقدية وفقاً لها. كما أن فقدان الاستقرار النقدي والهبوط المطرد في قيمة العملة المحلية والإخلال الكبير بمبدأ الفصل بين السلطات، أدت إلى عزوف رؤوس الأموال عن الاستثمار في الاقتصاد التركي، الأمر الذي أثر سلباً على العمالة وعلى النمو الاقتصادي.
انطلاقاً من هذه الانتقادات، يقوم «البرنامج الاقتصادي» للتحالف المعارض على عكس تلك المفاعيل من خلال إعادة الاعتبار إلى استقلالية القضاء والمؤسسات والعملة المحلية، والشفافية والقابلية للمحاسبة في الإدارة، وإلغاء بعض الإجراءات كـ«الودائع المصرفية بضمانة العملة الصعبة»، واشتراط بيع المستورد أربعين في المئة من إيراداته من العملات الصعبة إلى البنك المركزي.
يمكن تلخيص هذا «البرنامج» في أنه أساساً عبارة عن إصلاح سياسي – إداري يؤمّن بيئة ملائمة لجذب الاستثمارات، ولأرقام موجبة مستدامة في النمو السنوي، أكثر من كونه برنامجاً اقتصادياً. ذلك أن المتوقع من حكومة تشكّلها المعارضة أن تحافظ على ليبرالية اقتصادية منفتحة على العالم، هي نفسها الفلسفة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية. وبات متداولاً أن رئيس حزب «دواء» علي باباجان هو الذي من المتوقع أن يستلم إدارة الاقتصاد في حكومة المعارضة الحالية، وقد كان يحتل هذا الدور قبل سنوات في حكومات حزب العدالة والتنمية.
في موضوع اللاجئين (السوريين بصورة خاصة) لوحظ ابتعاد النص التوافقي للتحالف عن الخطاب الشعبوي المناهض الذي ساد على ألسنة الحزبين الرئيسيين فيه؛ الخيّر والشعب الجمهوري، فوعد بإعادتهم إلى بلدانهم في غضون عامين، من خلال التواصل مع «الحكومة السورية» والمساهمة الإيجابية في حل الصراع في سوريا حلاً سلمياً. أي أنه ربط بين إعادة اللاجئين السوريين وحل سياسي للصراع في سوريا.
في السياسة الخارجية، وعدت المعارضة، في نصها التوافقي، بترميم علاقات تركيا الإقليمية والدولية بعد الاختلال الذي أصابها، وبخاصة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، مع وجوب تطوير سياسة متوازنة بين الغرب وروسيا، واستعادة دور بنّاء للدبلوماسية التركية، بعيداً عن الدخول طرفاً في الصراعات الإقليمية والدولية، والمساهمة النشطة في حل الأزمات بالوسائل الدبلوماسية.
تحالف ائتلاف العمل والحرية
عموده الفقري حزب الشعوب الديمقراطي الذي يُعتبر المُمثل السياسي الرئيسي لكُرد تركيا، وتعتبره السلطة والتيارات القومية المتشددة واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً لدى الحكومة. ومعه في الائتلاف خمسة أحزاب يسارية ومنظمةُ مجتمع مدني غير ممثلين في البرلمان، منها حزب العمال التركي والحزب الشيوعي التركي وحزب اليسار الأخضر والحزب اليساري.
وقد تعرض هذا الحزب طوال تاريخه لقرارات حظر، فكانت كوادره تُعيد تشكيله بأسماء جديدة، مثله في ذلك مثل التيار الإسلامي. بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تموز (يوليو) 2016، تم اعتقال زعيمه صلاح الدين دمرتاش الذي لم تنته محاكمته إلى اليوم. وبقيادته دخل الحزب الانتخابات النيابية في 2015 على قوائمه الخاصة لأول مرة ففاز بنسبة 13 بالمئة من الأصوات ودخل البرلمان بنحو 80 نائباً. كان ذلك في ختام عملية «الحل السلمي» للقضية الكردية، الحل الذي أطلقه أردوغان قبل ذلك بعامين، ثم ارتد عليه بعد الانتخابات المذكورة وبات يعامل «الشعوب الديمقراطي» بعدائية شديدة، خاصة بعد تحالفه مع حزب الحركة القومية بقيادة بهجلي، فتم اعتقال عدد كبير من رؤساء البلديات التي فاز بها الحزب أو عزلِهم من مناصبهم وتعيين بُدلاء عنهم مقربين من السلطة، كذا تم اعتقال كثير من أعضاء الحزب أو مقربين منه في السنوات السابقة. يقوده اليوم مدحت سنجر (من أصول عربية) وبرفين بولدان وفقاً لنظام الرئاسة المشتركة الذي يتبعه الحزب (رئيسين مشتركين، رجل وامرأة). أصدر العام الماضي منظوره السياسي استعداداً للانتخابات القادمة وأعلن أنه منفتح على التحالفات على أساس المبادئ السياسية بصرف النظر عن الأحزاب وإيديولوجياتها واصطفافاتها، وحين لم يلقَ منظوره السياسي تجاوباً من تحالف المعارضة؛ أعلن أنه سيخوض الانتخابات الرئاسية بمرشحه الخاص. بعد إعلان التحالف المعارض لترشيح كليجدار أوغلو، قرر دعم الأخير في الانتخابات من خلال الامتناع عن ترشيح مرشحه الخاص. ثم أعلن أنه سيخوض الانتخابات النيابية على قوائم حليفه في ائتلاف العمل والحرية «الحزب اليساري الأخضر» ربما تحوّطاً من احتمال صدور قرار بحظر نشاط «الشعوب الديمقراطي» من المحكمة التي تحاكمه بتهم تتعلق بعلاقته المفترضة مع حزب العمال الكردستاني.
«حزب البلد» بقيادة محرّم إينجة
كان إينجة عضواً في حزب الشعب الجمهوري، برز اسمه حين قدّمه كليجدار أوغلو مرشحاً للحزب في الانتخابات الرئاسية للعام 2018، وتمكن من خلق شعبية كبيرة من خلال خطاباته البارعة في الحملة الانتخابية أمام حشود مليونية في بعض المدن الكبرى، ونال نحو 30 بالمئة من أصوات الناخبين، وهي نسبة أعلى مما يحققه حزبه عادةً في الانتخابات النيابية. لكنه اختفى عن الأنظار حين بدأ تعداد الأصوات في الصناديق ثم ظهر بعد ساعات ليعلن عن فوز منافسه أردوغان قبل اكتمال التعداد. شكلت هذه الحادثة نكسة كبيرة في شعبيته، لكنها لم تثبّط طموحه؛ فرشح نفسه لرئاسة الحزب في مؤتمره التالي في مواجهة كليجدار أوغلو وخسر في الانتخابات الحزبية. فـ«حرد» وانشق عن الحزب ليؤسس لاحقاً حزبه الخاص «حزب البلد»، وأعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية ومشاركة حزبه في الانتخابات النيابية. يصفه العارفون بأنه متقلب المزاج، ميّالٌ للسجال واكتساب الخصوم بسبب لسانه اللاذع، ولا يمكن توقع ما سيفعله. ارتفعت شعبيته، في أعقاب زلزال 6 شباط (فبراير) وفقاً لاستطلاعات الرأي، لأنه كان أول زعيم سياسي يصل إلى المناطق المنكوبة ويتضامن مع المتضررين. ويرى محللون أن قسماً كبيراً من شعبيته يأتي من الجيل الشاب (المعروف بالجيل Z) وهو جيل لا – سياسي apolitic يائس من كامل الطبقة السياسية في السلطة والمعارضة معاً، ومن المحتمل أن يكون له دور حاسم في الانتخابات النيابية والرئاسية إذا قرر المشاركة في التصويت.
وتنظر المعارضة إلى إينجة على أنه يساهم بطريقة غير مباشرة في احتمال فوز أردوغان في الرئاسيات، والتحالف الحاكم في البرلمانيات، لأنه يقسم الرأي العام المتطلع إلى التغيير ويقتطع جزءاً من كتلة الناخبين وهو ما يعزز احتمالات فوز تحالف السلطة بالنظر إلى أن استطلاعات الرأي، عموماً، تشير إلى تقاسم هذه الكتلة بالتساوي تقريباً بين السلطة والمعارضة كما بين المرشحَين الرئيسيَين لمنصب الرئاسة.
أثر الزلزال على النتائج المحتملة
امتلأت وسائل التواصل الإجتماعي بشكاوى مُرّة وغضب عارم من تباطؤ السلطة في التعامل مع الزلزال المدمر، إضافة إلى تحميلها مسؤولية الفساد في منح تراخيصَ بناءٍ لأبنية غير مقاومة للزلازل في بلد يمتلئ تاريخه بزلازل مدمرة أشهرها زلزال قرب إسطنبول في العام 1999، كان أحد تداعياته السياسية سقوط الائتلاف الحاكم آنذاك في أول انتخابات عامة أُجريت بعد 3 سنوات، ليفوز حزبٌ تأسس للتو هو العدالة والتنمية.
وكان لافتاً أن منظمات مجتمع مدني سارعت قبل منظمة الكوارث والهلال الأحمر الحكوميَين لإغاثة منكوبي الزلزال، وجمعت منظمة مجتمع مدني «أحباب» التي يرأسها مغني بوب شهير تبرعات بمبالغ كبيرة، وحظيت بثقة المتبرعين أكثر من الجهات الحكومية. في ملاعب كرة القدم رفع بعض جمهور الأندية لافتات تدعو الحكومة إلى الاستقالة. عبرت السلطة عن استيائها الشديد من منظمات المجتمع المدني التي سارعت إلى نجدة المنكوبين، واعتقلت الشرطة بعض رافعي اللافتات المذكورة.
هذه الأجواء زادت منسوبَ القلق لدى السلطة من تأثيرها المحتمل على نتائج الانتخابات، يضاف إلى التأثير السلبي الكبير للأزمة الاقتصادية وبخاصة التضخم المنفلت. بولند آرنج من القادة المؤسسين لحزب العدالة والتنمية ومستشار سابق للرئيس (تم إبعاده لاحقاً بسبب بعض الآراء النقدية التي اعتاد أن يطلقها من حين لآخر)، وقد ظهر على وسائل الإعلام وطالب بتأجيل موعد الانتخابات عاماً واحداً بسبب تعذّرٍ مُفترض لإجرائها بسبب تداعيات الزلزال. لكن جميع الأحزاب المعارضة وبعض وسائل الإعلام رفضت اقتراحه، فسُحب من التداول بهدوء قبل أن يعلن أردوغان الموعد النهائي للانتخابات.
ومن الآثار الجانبية للزلزال المدمر خفوت الأصوات المناهضة للاجئين (السوريين منهم بخاصة) بما في ذلك انخفاض تواتر تصريحات زعيم حزب النصر المتطرف أوميد أوزداغ من وسائل الإعلام وتراجع شعبية حزبه في استطلاعات الرأي. بالمقابل سجلت شهادات متواترة عن ممارسات معادية للسوريين من قبل الجهات الحكومية في عمليات نَجدة منكوبي الزلزال، كطردهم من خيم تم إعطاؤها لمنكوبين أتراك، أو اعتقال وضرب عدد من السوريين بشبهة النية في سلب ونهب المنازل المنكوبة؛ أي أن الآية انقلبت أثناء الزلزال عما كان سابقاً في التعاطي مع اللاجئين: إيجابية من الجهات الحكومية وعدائية في المجتمع، فتحول المجتمع نحو التعاطف مع المنكوبين وتراجعت الميول المعادية.
*****
أما المعارضة فقد سادتها أجواء التفاؤل بفعل ردود الفعل الشعبية الغاضبة التي فهمتها على أنها ستزيد من حظوظها في الفوز بنتيجة كبيرة على تحالف السلطة ومرشحه الرئاسي معاً.
لكن أحداً من المراقبين أو المحللين المستقلين لا يغامر بتوقع نتيجة صريحة في الانتخابات القادمة، وإنْ كان يغلب الرأي القائل إنَّ تحالف السلطة سيفقد الغالبية في البرلمان، وإنَّ الانتخابات الرئاسية ستحتاج إلى دورة ثانية تُجرى بعد أسبوعين من الأولى.
يبقى أن تحدد الأحزاب داخل كل تحالف استراتيجيتها في تشكيل القوائم المحلية في الانتخابات النيابية، هل تدخل في قوائم خاصة بكل حزب أم بلوائح مشتركة على اسم أحد الأحزاب. فلهذا الاختيار نتائج حاسمة من شأنها أن تقلب توزع القوى السياسية داخل البرلمان، بسبب التعديل الذي أجرته السلطة العام الماضي على القانون الانتخابي.
كان واضحاً أن قانون الانتخابات الجديد يهدف إلى إفراغ تحالف الأحزاب المعارضة من معناه، فبموجبه ينبغي على كل مرشح أن يحصل على نسبة من أصوات الناخبين للفوز بمقعد نيابي، من غير أن يستفيد من فائض الأصوات لدى مرشحين حلفاء في الدائرة نفسها كما كان القانون القديم يتيح له. كما ينص القانون الجديد على وجوب تقدم كل حزب بمرشحين في نصف عدد الولايات في تركيا على الأقل، وهو ما يمكن أن تعجز عنه بعض الأحزاب الصغيرة. لذلك سارع خبراء في الانتخابات إلى تحذير المعارضة من هذا الفخ الذي من شأنه أن يهدر أعداداً هائلة من أصوات الناخبين المعارضين، ودعو إلى حصر الترشيح في أقل ما يمكن من القوائم، مع مرونة في التعامل مع كل دائرة انتخابية وفقاً لشعبية كل حزب ومرشح. آخر موعد لتقديم القوائم كان في التاسع من شهر نيسان (أبريل) الجاري، وسيتّضح بعدها أيُّ تكتيك اتخذ كل تحالف وكل حزب.