بِتوفّر مُنتِج قادر على تحمّل تكاليف إنتاجية كبيرة، من الممكن أن يخرج العمل الفني بصورة عالية الدقة وغنيّة، وموسيقى مؤثّرة مواكبة للصورة والحدث، لكن تلك المكوّنات الفنية ومكمّلاتها لم تعد كافية لوسم عمل ما بالنجاح، بل ولا حتّى بجزء منه؛ إنها أسهل ما يمكن توفيره اليوم بتوفّر المموّل والخبرات الأكاديمية والأدوات المتطورة. أما إكسير النجاح الفني الخالد للدراما التلفزيونية، القائم على ثالوث القصة أو الأحداث والحوار والأداء، فهو ما لا يمكن توفيره بتوفّر مُنتِج مغدق فقط.

ينطبق هذا على الزند، المسلسل السوري الأكثر حضوراً على ألسنة المتابعين اليوم، وربما على شاشات السوريين؛ العمل الذي يقع في قائمة الأكثر متابعة على منصّة شاهد التي أنتجت أكثر الأعمال شعبية، السورية والمصرية والخليجية وغيرها، في رمضان 2023.

ما يعرضه الزند، والمفترض أنه يروي من خلاله مرحلة تاريخية هامة في سوريا، هو صراع «التابع» ضد «السيّد»، «الفلاح ضد الإقطاعي»، «الثائر ضد المحتل». لم يخْلُ أي عمل درامي سوري ناقشَ مرحلة الاحتلال العثماني أو الفرنسي من تلك الجدليّة، التي نَدَر أن تخلو من مشكلة النمطيّة المفرطة سهلة الإنتاج، والتي تنطلق من أرضية حكائية مرنة لبناء القصص، صراع خير وشر يمكن تحته اختراع الشخصيات وتحريكها بسهولة. وهي تجارية من جهة أخرى؛ قادرة على البيع والجذب والتأثير الذي من خلاله يمكنها أن تُنصِّبَ نفسها مرجعاً للمرحلة التاريخية التي تناقشها، فتصبح حكاياتها أكثر حضوراً شعبياً من النص التاريخي الموثّق. ولا مشكلة أحياناً إن وقعت في التناقض معه، على مستوى الأحداث والبيئة العامة، حيث تبرر قصة صراع الخير ضد الشر كل تحريف تاريخي، أو خطأ، ما دامت تحافظ على النمط.

تتمسك قصة صراع عاصي الزند مع نورس باشا بالنمطيّة ذاتها التي ظهرت في أعمال مشابهة مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث تتناسب عكساً صفات هذا بذاك؛ سيكون الفلاح الثائر بلا شك كريماً شجاعاً شهماً صلب البنية، بسيطاً محبّاً عطوفاً عند الحاجة. وسيكون مالك الأرض بخيلاً دنيئاً رعديداً غدّاراً، متكبراً مقيتاً، وسواها من كل الصفات التي تستمدّ ملامحها من الشر والسوء الإنساني. ماذا لو كان الفلاح بصفاته الإيجابية مثلاً، سكّيراً عربيداً، أو صاحب ماض سيء؟ والإقطاعي بسلبياته محباً عطوفاً داخل بيته مثلاً؟ ألا يمكن بذلك بناء قصة أكثر واقعية، أو خلق خطوط دراميّة غير مكررة بحذافيرها منذ سنوات طويلة؟

بقيت يد كاتب النص حذرة في انزياحات الشخصيات خارج النمط، فاقترابُ الزند من الفعل الشرير إنما له سريعاً ما يعيده إلى سياق خيره. قطع الطرقات وفرض الأتاوات له مبررّه في الصعلكة، والعنف له مبرره بـ «الضرورة»، أما الخير فلا يمكن أن يُقارب «الباشا»؛ هو شريرٌ حتى في طريقة تنفّسه.

النمطيّة سابقة الذكر تطغى كلياً على الأداء، فمن المستغرب أن يُنسَب الأداء الاستثنائي المتميز إلى تيم حسن في دور عاصي الزند، أو إلى أنس طيارة في دور الباشا، في حين أنهما يؤديان شخصيات واضحة وكاملة المعالم وأحادية التوجه كتلك التي يؤديانها. وينطبق هذا على بقية الشخصيات ذات الحضور القوي في العمل.

لطالما كانت الشخصية النمطيّةُ سهلةَ الأداء، لا تتيح المساحة للممثّل كي يعبّر عن مقدرات مخالفة للمعتاد. ليس مطلوباً من الشجاع إلا المزيد من الشجاعة، ولا من إلا الشرير إلا الفائض من الشر. لا تتطلّب تلك المكوّنات إمكانيات مُبهرة في الأداء، وهو ليس انتقاصاً من إمكانيات حسن أو طيارة، أو غيرهما من أبطال العمل، بقدر ما هو تشخيص لحالة درامية من النادر بناء الإبداع الأدائي عليها. نادراً ما يخلَّد دور ممثّل عالمي بشخصيات أحادية الملامح، خاصة في ظل تطوّر أدوات الإنتاج واختلاف معايير النجاح الدرامي في السينما والتلفزيون في عصرنا الحالي. 

يتجاوز التنميط حدّ الشخصيات المفردة في الزند، لنرى تنميطاً لشخصية الفلاح بالعموم، وشخصية البدوي والمناضل السياسي. لم تخرج اللهجة أيضاً، والتي كانت من أكثر النقاط إثارةً للجدل حول العمل، عن ذلك التنميط، فاللهجة التي فتحت باباً واسعاً للانتقاد والتساؤل، تظهر أيضاً نمطيّة للغاية، مبالغاً بها حدّ أن يظهر بطل العمل وكأنه يسخر منها؛ تشديد القاف واستخدامها في مواقع لا تستخدم فيها عادةً «قهلا بدلاً من أهلا»، «قتّوسة بدلاً من أتّوسة». ينفلت ضابط اللهجة في قرية لا تتحدث كلها لهجة متطابقة، بل وتظهر في بعض المواقع وكأنها تصبّ في تمويه هوية صاحبها.

يكمل الزند مسيرة الهيبة، العمل الذي قدّمه المنتج والمخرج والبطل ذاته، في محاولة تكريس الشتيمة والحد من سلطة الأدب اللفظي التاريخية في الدراما السورية، وكذا في تكريس العنف الذي يتجاوز حدود القتل بالرصاص الذي تمتلئ به الأعمال التاريخية السورية منذ سنين طويلة. فنجد بعض أبطال العمل الأساسيين يبتدعون الشتائم في غير موقعها المناسب أحياناً؛ في المعركة الأساسية بين البطل وقاتل والده، بعد سنين طويلة مضت على آخر لقاء جمعهما، يستحضران الشتائم الجنسية المباشرة لبعضهما بعيداً عن عمق العلاقة الانتقامية التي تربط كليهما بالآخر، والتي علّها تتطلب حواراً أعمق من مجرّد الشتيمة؛ حواراً يسبق الدم الذي سيُسفك في مياه النهر في معركة مستقاة باحترافية فنية من أعمال عالمية، حيث المقاتل ضخم البنيان الذي يحمل المهدّة، والمسن ذي العين الواحدة، وحملة الفؤوس والسكاكين. شخصيات عادةً ما تحضر في معارك السلاح الأبيض في أفلام ومسلسلات الفايكنغ أو الغرب الأميركي.

في لقاءٍ لبطل العمل تيم حسن، خلال فيلم تسجيلي أُنتج خلال العام الماضي، يحكي ما خلف الكاميرا في مسلسل الهيبة ذائع الصيت، والذي يقدَّم في الفيلم بشكل ملحمي، قال الفنان إنه حاول مراراً تطوير وتمويه الشتيمة في المسلسل، بل وابتدع بعض الشتائم، وهو ما يبدو حاضراً بقوّة في العمل الحالي، مستمداً من شتائم معروفة في زماننا اليوم. وكثيرة هي الكلمات والجمل، بل والأسماء، التي استخدمت في المسلسل وهي بالغة الانتماء للحاضر، ولعلها صعبة الحضور في المرحلة التي تجري أحداث المسلسل فيها، أسماء مثل حلا وريما، أو كلمات مثل «ملعوبة» وغيرها الكثير.

يستكمل المسلسل جودة الصورة فيه، بالمعارك والمشاهد الدمويّة، فعينٌ تُفقأ بالسكين هنا، وأصابعَ تُهرَس بالرَحى هناك، ولعلّها من مكوّنات التشويق والصناعة الفنية المتطوّرة والحاضرة دون مبرِّر كاف أيضاً. معركة العاصي مثلاً، بكل ما فيها من اقتباسات من أعمال عالمية، كثُرت الإشادات بها، ومن الواضح أن خلفها مصمم معارك محترف، إلا أن أهليتها في السياق غير مكتملة. ما المبرر في أن يطلب رجل مسن بعين واحدة معركةً بالسلاح الأبيض في مياه النهر، من غريمه الشاب ذائع الصيت بالصلابة والحرفية بالقتال؟ يظهر أن المبرر هو الإبهار البصري، وإحراز التفوق على ظهر المَشاهد المفردة المصنوعة بحرفية، مقابل الخلل البنيوي في القصة واللقاءات والحوارات السريعة غير المبررة درامياً بشكل كاف.

الاحترافية في الاقتباس، لا تنعكس في كل مقتَبس، ففي الحلقة الرابعة عشر، والتي تُفرَد لسرقة بنك السلطنة في دمشق، يظهر الاقتباس من العمل العالمي لا كاسا دي بابيل بطريقة ساذجة غير موفّقة، بخطّة غير محكمة، يصعب فيها خلق شخصية «البروفيسور» أو «برلين»، أبطال العمل الإسباني الشهير، في عاصي الزند بشكل مفاجئ. كما لا يمنَح بطء وقع التفاصيل التشويق المرتَجى منه. بل وخروج العصابة السارقة بملابس موظفي البنك، كان مشهداً قاد المسلسل إلى مكان لم يكن من المتوقّع أن يصل إليه، كوميدياً بشكل غير مقصود. بدأ المسلسل جديّاً بقصّة كان أفضل ما فيها ربما، كونها تنتمي لبيئة محليّة محدّدة بمكوّناتها، فوضى اللهجات والحوارات والمشاهد السريعة العابرة لم تكن لتضربها بمقتل، إلا أن روح الاقتباس المتكررة هذه، خلعت عنها أي أصالة كانت تُحاكيها.

استند الزند بشكل من الأشكال إلى نجاح الهيبة تجارياً، خاصة أنه التكرار الأول لعوامل النجاح السابق ذاتها، حيث الصنّاع ذاتهم يكررون طرح البضاعة ذاتها عبر الوسيلة نفسها. لدرجة أن أحداً لم يستطع أن ينظر للزند بمعزل عن الهيبة بسبب مطابقة أداء تيم حسن بين العملين في الانطباعات والحركة وأسلوب الحديث. جبل في الهيبة وعاصي في الزند شجاعان يستخدمان القوّة لتحقيق أهدافهما الشرعيّة في الزند، والمشرعَنة درامياً في الهيبة.

في الزند تتفوق الموسيقى والأغاني على كل بقية المكوّنات، تَفوقٌ مصدره بلا شك «العتابا»، تلك الجملة الشعرية الموسيقية خالصة التعبير، والمُمعنة في الانتماء إلى الريف، والتي مدّت الموسيقى المستخدمة واستمدّت منها ما جاء مناسباً للصورة المليئة بالبيوت الحجرية والطرقات الزراعية والقمح والنهر. شارة العمل تستحقّ الإشادة بلا شك، لم تكن نمطيّة كباقي مكوّنات العمل، ولم تتّبع تاريخياً ما هو معتاد في الشارات المتشابهة بالأسلوب في أعمال درامية سورية كثيرة.

لاقى العمل ثناءاً ما زال مستمراً، خاصة لدى فنانين لم يشاركوا في العمل، لكنهم وجدوا فيه وبأعمال أخرى مُنتجة في الموسم الحالي، دليلاً عن نهضة جديدة في الدراما السورية، دليلٌ عادةً ما يتوفّر من خلال عمل درامي واحد أو أكثر سنوياً. لكنه لا يعني نهضة حقيقية بالضرورة. ولعّل أي نهضة، في أي سياق سوري اليوم، لا تُرتجى في الراهن المتعثّرعلى كافة الصعد. بل وإن رؤية أي مُنتَج سوري بعيداً عن راهن البلاد هي رؤية ضيقة بشكل ما.  

تصعب رؤية أي عمل درامي سوري يحاكي التاريخ أو الراهن بمعزل عن الواقع السوري، فكيف وبعمل كالزند تحمل لهجة أبطاله صدى في أذن المستمعين، ويتناول صراعاً طبقياً فيه تمرّد وسلطة، تلوح خلف ضباطه أعلام تركيّة أيضاً. يحسم المسلسل مدى انتمائه للراهن بحوار علّه الأكثر قابليّة للعزل عن زمانه المفترض ومواكبة للحاضر، حوار في ختام الحلقة الثامنة عشر بين البطل وناشط سياسي معارض للسلطنة، إذ يرفض البطل زج القرى في صراع مسلح ضد «العسكر»، في حين يجد الناشط أن المرحلة الراهنة هي فرصة تاريخية لن تتكرر، فيقول البطل بحكمة متناهية «كنت أحميهم. كم من الوقت سيصمدون ضد العسكر؟ كم سيموت منهم؟ وفي النهاية ماذا سيحصل؟ العائلات ستخسر شبانها، ولا شيء سيتغيّر».يتأثر الزند بنظريات السلطة الحاكمة في سوريا بلا شك، ويلتزم بأدبياتها؛ الخارج يحرق الداخل بأنامل المتآمرين، وما ثورة البسطاء لنيل حقوقهم إلا ثورة ضد الخارج وأدواته. هناك خير مطلق، وشر مطلق، بينهما يمكن رواية ألف حكاية.