ترك العنف الذي مارسه حزب البعث العربي الاشتراكي، بشقَّيْه العراقي والسوري، ندوباً غائرةً في ثقافة وذوات شعبي البلدين، سرعان ما تضع نفسها كأولوية عند التذكير بذاك الحزب، كما تلعب حداثة خروج تفاصيل دقيقة عن جرائم وحشية، يرقى الكثير منها ليكون جرائم إبادة جماعية، ارتكبها الحزب أثناء جميع مراحله دوراً في هذا؛ فصندوق بَندورا العراقي لم يُفتح إلا بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أما مثيله السوري فكان عليه الانتظار حتى ما بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011. مع ملاحظة أن كلا الصندوقين فُتح جزئياً فقط؛ وتزامن فتح هذه الصناديق مع أوضاع عنفيّة بالغة التوحش أخذت تُشكّل تمظهراتٍ متنوعةٍ، كان ولا يزال أبرزها النزاعات الإثنية والقومية، مما جعل أولوية الفاعلين السياسيين الدوليين تتجه غالباً لإيجاد حلول سريعة وسطحية تُقلّل النزيف في الأرواح والموارد. كما فاقم الأمر سوءاً تعقيدُ علاقات البلدين مع محيطهما الإقليمي من جهة، ومع باقي العالم من جهة أخرى، مما أدى لوجود فاعلين إقليميين ودوليين قليلي الرغبة في إجراء مراجعات دقيقة قد تكشف تورطهم في بعض ما حصل. يضاف إلى كل ذلك عجز الفاعلين في المعارضات السياسية في البلدين، ولأسباب كثيرة أبرزها العزل السياسي الذي مورس عليهم أثناء سنوات سلطة البعث، عن تشكيل جسم سياسي يحمل مشروعاً وطنياً يحقّق الحد الأدنى من الإجماع الوطني ويملك الوعي الضروري؛ ليس فقط لتكبد أعباء مهمة العمل على جميع المسارات الانتقالية، بل أيضاً للحُؤُول دون اجتزاء وتحوير حقائقها بحيث تصبح أدواتٍ تُوظَّف في سياقات شعبوية لخدمة مصالح ضيقة قد يتسم بعضها بالتضاد مع مفهومي الوطنية والسيادة.
ركزت الكثير من الأبحاث التي تناولت حزب البعث السوري، على أساليب ممارسته العنف والسياسة، فيما سنحاول هنا التقاط بعض النقاط التي كرّست و/أو أَسّست لأنماط العلاقة التي ربطت البعث، كحزب سياسي، و«نظام الحكم» مع الوظيفتين الشَرطيتين للدولة: احتكار العنف وتنظيم الاقتصاد. وكيف كانت أجهزة إدارة الدولة غرضاً للصعود الطبقي والكسب السياسي بطريقةٍ أعادت تشكيلها من أداةٍ باتجاهين تنظّم علاقة السلطة بالشعب، إلى أداة باتجاه واحد تساهم بفرض إرادة السلطة على الشعب.
تأسيس النمط
تطور الإطار المفاهيمي للدولة الحديثة بتطور السياسة والجماعات البشرية في الدول الأوروبية، ويقترح البعض أن جذور الدولة الأوروبية الحديثة بدأت منذ القرن السابع عشر، وتطوّر هذا الإطار مروراً بمعظم المدارس الفكرية؛ كالهيجلية والماركسية والليبرالية والميكافيلية وتنويعاتها. وما يزال الكثير من علماء الاجتماع يعملون على الإطار النظري للدولة الحديثة في يومنا الحاضر، ولكن منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تعالت كثيرٌ من الأصوات التي ترى عدم جواز تطبيق معايير ومنهجيات تطور الدولة الأوروبية حرفياً لدراسة دول العالم الثالثTilly, C., Evans, P. B., Rueschemeyer, D., & Skocpol, T. (1985). In War making and state making as organized crime. essay, Cambridge University Press.، ومنها بطبيعة الحال الدول العربيةنزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، المنظمة العربية للترجمة – بيروت 2010. ص71. في المجمل، تبقى عمومية الدولة بمعنى «الفاعل الذي يحتكر العنف ووسائل تطبيقه ضمن مجموعات بشرية في منطقة جغرافية محددة» عمومية لا يُختلف عليها بين أغلب المدارس الفكرية التي تناولتها.
وُلدت الدولة في سوريا الحالية قسراً نتيجة صراع كولونيالي وكمنتج كولونيالي. وبموجب اتفاقية بين العديد من الإجراءات المشابهة التي كانت تهدف إلى ضبط جديد للنزاعات بين العثمانية المندثرة والكولونيالية الصاعدة في تلك المنطقة. وبهذا أولاً: عُرِّفت الدولة في سوريا ووُجدت قانونياً قبل أن تكون مفهوماً منبثقاً من التفاعلات الاجتماعية للشعوب القاطنة ضمن حدودها الجغرافية، ثانيا: تشكَّل تعريفها في زمن طغت فيه هيمنةً أجنبيةً فرضت صيغةً لا تنهي النفوذ الأجنبي التركي (مسلم) وإنما تستبدله بآخر فرنسي (مسيحي)، وصْفَتُه الدينية المشار إليها ليست الوجه الوحيد في اغتراب الدولة، لكنها تعبيرٌ عن أحد الوجوه البارزة لنظرة فئات ليست بالقليلة للدولة. من هنا تأسست علاقة الفرد العربي على تضاد ما مع الدولة بكونها سلطة سياسية ساهم اغتراب أدوات إدارتها بتعزيز نفورها عن المجتمع عوضا عن التغلغل فيهالأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص76.
قال البروفيسور في العلوم السياسية نزيه الأيوبي (1944 – 1995) في معرض حديثه عن تشكل الدول العربية، إنها ورِثت العثمانيين بمعنى «الغازي»؛ أي قبائل البدوالأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص66. ما معناه أن السلطة السياسية لم تشكلها علاقات الإنتاج ضمن المجتمع (نمط التطور الرأسمالي الكلاسيكي)، بل كانت السلطة السياسية تصدر من علاقات تضامن أهلية (عصبية بالمعنى الخلدوني) بهدف السيطرة على الثروة والميزات الأخرىالأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص50. وبالتالي استخدمت السلطة الناشئة سلطتها المركزية لتحديد نمط الإنتاج، على عكس النمط الرأسمالي الكلاسيكي حيث تؤثر علاقات وأنماط الإنتاج بشكلٍ جوهري في تحديد شكل السلطة السياسية.
وأخيراً، كانت المجتمعات المحلية في سوريا مُنهكة بعد قرون من النزاعات شبه المستمرة منذ القرن السادس عشر، حين توسطت سوريا جغرافياً بين مراكز الثقل الإسلامية في مصر وتركيا والعراق ومن ورائها بلاد فارس، فقدّمت حدوداً جديدةً تضع أعباءً إضافية على طرق التجارة المعتادة، مما يزيد الإنهاك الاقتصاديحنا بطاطو، فلاحو سورية: أبناء وجهائها الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014. ص263. كما أن الحدود لم تُراع ديناميكية العلاقات القبلية وانتشاراتها الجغرافية، مما حدّ من مناطق النفوذ وأتاح الفرصة لظهور مراكز ثقل منافِسة ضمن القبيلة نفسها. في خضم كل هذا كانت المنطقة تُطوّر تأثّرها بنظريات الدولة القومية، مما مهد الأرض لتطور القومية العربية ونيلها انتشاراً غير قليل، حيث نُظر إليها كأداة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للإمبراطورية الإسلامية، وبقيت الحدود الفاصلة بين الأمة العربية والأمة الإسلامية رماديةً يشوبها الكثير من الخلط. يرى عبدالله العروي أن الحركة القومية وفقهاء هذه الحركة كانوا متعلقين بأفكار «طوباوية» منعتهم من التَفكّر في أهمية الدولةعبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة 2011. ص190.
في الرحم الطوباوي للحركات القومية هذا، تشكلت الأطر الفكرية الأولى لحزب البعث العربي في سوريا. بدأ «التبشير» بالبعث منذ العام 1939 على أيدي ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي وهم مجموعة أساتذة كانوا قد أنهَوا تعليمهم في السوربون وعادوا من فرنسا حديثاً متأثرين بمزيج من الأفكار الاشتراكية والقوميةحازم صاغية، البعث السوري: تاريخ موجز. دار الساقي، بيروت 2012. ص15. وكان نفورٌ ما يصف علاقة الثلاثة ببعضهم، على الأخص بين عفلق والأرسوزي. فكان الأول إنشائياً ركّز على وحدة دور اللغة والتاريخ والوجدان، الأمر الذي اعتبره الثاني كسلاً فكرياً، لأن الأرسوزي – الذي كان حادّ الطباع – يركّز متأثراً بأفكار عرقية على عنصر عربي متفوق. ودون عملٍ جاد على حل الخلاف الفكري بين الاثنين، تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 واضعاً الوثائق الأولى التي يُعرّف نفسه بها، ويعبر بواسطتها عن إيديولوجيا فضفاضة وإيمانية ورومانسية الصيغ، ركّزت في مبادئها الأساسية، كما يُرتّبها الدستور: على وحدة الأمة العربية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وجغرافياً، إذ «تزول الفوارق القائمة بين أبنائها بيَقَظَة الوجدان العربي»، وعلى قابلية الأمة العربية للتجدّد والانبعاث. كما قدَّست «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن»، ولكنها سبقت ذلك التقديس بأن حدّدت الحريات الفردية بـ«مدى الانسجام بين تطورها وبين المصلحة القومية»، كما شدّدت فيما بعد على «طبع كل مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والفنية بطابع قومي عربي»، وانتهت بالرسالة الخالدة للأمة العربية ودورها في الكفاح ضد الاستعمار، وعملها مع الأمم الأخرى «على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح». تُذكر الدولة أولاً في المبادئ العامة لدستور الحزب، لكنها ترِد فقط بصيغ تُعرّف لغة الدولة ورايتها، وتحدد النظام البرلماني الدستوري كسلطة تشريعية منتخبة مباشرة من الشعب يُكوّن نظام حكم لا مركزي للدولة [العربية]، وهي تكافح «سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية»، فلا يُسمح إلا بالرابطة القومية ضمن الدولة. كما أن «وسائل الإنتاج الكبيرة ووسائل النقل ملك للأمة، تديرها الدولة مباشرةً، وتُلغى الشركات والامتيازات الأجنبية». وعلى الدولة تحديد الملكيات الزراعية والصناعية والشخصية، بالإضافة إلى أجور العمال، بما يتناسب مع المصلحة القومية. وكان دستور حزب البعث العربي الاشتراكي قد حدد منهجيات أدوات عمله بأنه حزب اشتراكي «يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية»، وهو حزبٌ شعبي يؤمن بأن قدسية الدولة متوقفة على مدى حرية الجماهير في اختيارها، لكنه حزبٌ انقلابي لا يمكن أن تتحقق أهدافه الرئيسية إلا عن طريق الانقلاب، وأن «الانقلاب على الواقع الفاسد يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية».
في التكثيف أعلاه للدستور أمثلة واضحة على العديد من الصياغات شديدة العمومية، والقابلة لإعادة التأويل بسهولة، مما يعرّضها لخسارة وظيفتها المرجعية الضابطة والحامية بحيث تصبح هي نفسها توظيفية، وهو ما حصل لاحقاً في جميع الأحوال. إضافةً إلى ذلك كله، أنهت الإيديولوجيا البعثية دستورها بمادةٍ تقطع جميع إمكانيات النجاة المستقبلية، إذ منعت تعديل المبادئ الأساسية والعامة. وبالفعل لم يُعدَّل دستور حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه في 1947 حتى يومنا هذا، وبتوقّف تطوير الأطر المعرفية سيتوقف تطور مفاهيم كثيرة تمثل ديناميكيات العلاقات داخل المجتمعات، وعلى رأسها الدولة.
الإيديولوجيا عضوية في الحزب السياسي، فهي الروح/الوعي التراكمي، ما يجعل لحياة الحزبيّ معنى، وهي الوجدان/الخير العام وآليات الوصول إليه. وعندما يصبح الحزب السياسي هو الحزب الحاكم والقائد الأوحد، كما حدث في سوريا، فإن إيديولوجيته ستكون روح الدولة ووجدانها. لقد تشكلت إيديولوجيا البعث باندفاع عنيف، وأثّر فيها السياسي الآني الضاغط المترافق بقلة الخبرة والمعرفة، فنَحَتْ إلى الطوباوية لإسكات -طوعاً أو قسراً- المشاكل المرحلية. وباستذكار أن سوريا أصلا وُجدت جغرافياً وقانونياً وليس نتيجة تطور طبيعي للمجتمعات المحلية، فقد حَرَمت الطوباوية الوحدوية العربية الدولة السورية القطرية من شرعيةٍ كان ممكن اكتسابها وكانت بأمس الحاجة إليهاالعروي، مصدر مشار له سابقاً. ص190. فوق ذلك أتاحت إمكانية التأويل، ما سهل وضعها في خدمة الحفاظ على السلطة خلال جميع مراحل الحزب، وليس أدلّ على ذلك من أن الناس ما زالوا في سوريا إلى وقتنا الراهن يقضون سنوات طويلة في السجن بتهم إضعاف الشعور القومي ووهن عزيمة الأمة والتآمر على المجتمع الاشتراكي.
الرغبة في توسيع القاعدة الشعبية للبعث عند تأسيسه لعبت دوراً في عدم الاشتغال الحقيقي بين منظريه/مؤسسيه على إيجاد صيغ وسطى بين اختلافاتهم الفكرية، وذلك إلى درجة أن الاندماج في عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكي تمّ دون المساس بدستور الحزب. وكان المحامي والسياسي الحموي أكرم الحوراني اشتراكيا شعبوياً ذا نزعة جمهورية حاسمةصاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص25، نجح في تأسيس حزب جماهيري فلاحي الطابع أَوْصله إلى عضوية البرلمان. وأتى توسيع القاعدة الشعبية، من بين أشياء كثيرة، عبر القفز عن التعرّف الحقيقي على التمايزات الثقافية والاقتصادية بين المجتمعات السورية، فتغذّت الاختلافات الشخصية والفكرية على العلاقات العائلية والقبائلية والمناطقية. وفقاً لهذا كان يمكن أن نفسر انحياز البعثيين المنحدرين من لواء اسكندرون إلى صف زكي الرسوزي وليس ميشيل عفلق. ظهرت الكتل الحزبية المتنافسة في وقت مبكر جداً من حياة الحزب، ثم أصبحت نمطاً في بنيته ظل يلعب دوراً محورياً في تقلبات مراحله المختلفة. ومنذ استيلائه على السلطة، وجد هذا النمط طريقه إلى بنيوية أجهزة إدارة الدولة واستمر فيها حتى بعد أن استولى حافظ الأسد على الحزب وجعله، بممارسة إشراك أو عزل الآخرين، كتلةً واحدة.
بقليل من التعميم يمكن القول إن عشية الوحدة مع مصر عام 1958 كانت نزاعات الحزب الداخلية بين عسكري ومدني، شيوخ وشباب، يتضمن كلٌّ منها كتلاً لعبت الارتباطات المناطقية والإثنية دوراً هاماً في تشكيلها، تواجه حائطاً مسدوداً، فكان الحل بالقفز عن المشكلة عبر البوابة الطوباوية للوحدة العربية. وإن كان المطلوب من التخبط والتسابق الذي ارتكبه البعثيون أثناء طلب ود عبد الناصر تجاوز مشاكلهم الداخلية، فإنه أتى عليهم بوَبالٍ أكبر عندما اشترط الأخير على الحزب أن يحل نفسه، واضعاً البعثيين أمام أول امتحان عقائدي حقيقي لهم، اختاروا فيه التضحية بالتنظيم الحزبي المتهالك في سبيل القيمة الوحدوية العظمى. ولم تمض فترة طويلة على قرار البعثيين هذا حتى وجدوا أنفسهم خارج ساحة العمل السياسي، فبادروا إلى تشكيل خلية عسكرية سرية في مصر أسموها «اللجنة العسكرية»؛ ستلعب دورا محورياً في تنفيذ انفصال العام 1961 ومن ثم في إحداث تغييرات بنيوية في الدولة السورية. وكان مما سهّل الانفصال أن إنجازات دولة الوحدة بدورها لم تصل الحد الأدنى من الآمال التي بُنيت عليها، لكن تجربة الوحدة السورية – المصرية لم تنته دون أن تترك آثاراً عميقة في الدولة السورية، فقد تسبب قرار حل الأحزاب السياسية الذي أصر عليه عبد الناصر في إعادة خلط توازنات القوى السورية التي كانت تشكل أجهزة إدارة الدولة، كما أنها سببت تغيّراً بنيوياً في بنية أجهزة القمع (العنف) ووسائل تطبيقه، لعب فيه وزير الداخلية آنذاك العقيد عبد الحميد السراج دوراً محورياً، يضاف إليه فتح أبواب التسليح والتعاون العسكري مع دول الكتلة الاشتراكية. نتاج هذه التغييرات كان أن امتلك السوريون الأدوات التنظيمية لبناء الدولة المركزية كمدخل لإنهاء أزمة النخب السورية المتصارعة على السلطةHaydemann, S. (1999). Authoritarianism in Syria. Ithaca & London. Cornell University Press..
احتاج الرفاق البعثيون، وتحديداً لجنتهم العسكرية، سنتين بعد الانفصال ليعيدوا حزبهم شبه الميت إلى الحياة، كما ليجدوا مخارج فكرية لفشل تجربة الوحدة. وكانت إيديولوجيا البعث القابلة للتأويل مُساعِداً سخياً ليس في هذا فقط، بل أيضا في إعطائهم المرونة اللازمة لإعادة التموضع في الحياة السياسية والعسكرية السورية بما يكفي ليتحالف البعث مع الناصريين والمستقلين وينفّذوا انقلاباً عسكرياً يستولي البعث بموجبه على السلطة في العام 1963. ولأن الإيديولوجية نفسها عرّفته على أنه حزب انقلابي، لم يجد البعث صعوبةً في أن يسمي انقلابه العسكري ذاك «ثورة». وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ اللجنة العسكرية البعثية قد بدأت في العام 1959 نمط الاختراق، فكانت ترسل بعثيين سريين لاختراق الكتل المنافسة ومعرفة أخبارها، وهكذا كانت اللجنة غالباً ما تسبق أعداءها بخطوة. هذه الممارسة ستصبح في الثمانينيات وما بعدها، وبسبب امتزاجها بعنف الأجهزة الأمنية المنفلت، معاناةً مستمرة للشعب السوري، فالكل يمكن الشك بأنه «مخبر» لنظام يحصي على أفراد الشعب – بمن فيهم البعثيين – أنفاسه.
وإن لم يُخالط ثورة البعث تلك الكثير من الدماء، إلا أن الأشهُر والسنوات التي تلتها كانت مانيفيستو متواصل لتطبيق واستعراض العنف، فاللجنة العسكرية البعثية التي كانت نواة الانقلاب، والتي ستسيطر لاحقاً على جميع مفاصل السلطة والدولة، تحركت سريعاً لإقصاء جميع التشكيلات التي قد تنافسها على السلطة، مستخدمةً العقيد السنّي الحلبي أمين الحافظ وزيراً للداخلية لتعمل من ورائه. تسبّب طلب اللجنة العسكرية قمع الاضطرابات التي دعى لها الناصريون في أيار (مايو) 1963 من أمين الحافظ، بقتل ما يزيد عن 50 شخصاً. لقد عرفت سوريا ستة انقلابات سابقة لانقلاب 1963، كانت تنتهي بنفي الخاسرين فيها كملحقين بسفارات البلاد في الخارج، لكن المحاكمات الميدانية الشكلية والإعدامات الفورية بحق 27 ضابطاً، والتي أمر بها وزير الدفاع أمين الحافظ رداً على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الضابط الناصري جاسم علوان، عبّرت عن تغيّر عميق في منهجية احتكار الدولة للعنف، أجازته إيديولوجيا البعث التي وإن كانت قد نصّت على حصانة واستقلالية القضاء عن أي سلطة أخرى، إلا أنها لم تُشر بوضوح إلى كيفية معالجة الأمر إذا تعارضت الجريمة مع المصلحة القومية العليا. إلى جانب العنف العلني، فُرضت الأحكام العرفية التي ستستمر لنصف قرن من القهر المقونن والمشرع. كما أن ثورة البعث شرعنت لأول مرة في تاريخ الدولة إقامة ميليشيات «الحرس القومي» شبه العسكرية، والتي استُخدمت لأعمال قمع المدنيين باسم الحفاظ على الأمن، والتي كانت تُنسق مع وزارة الدفاع لكن تبعيتها كانت للجنة العسكرية، وكان هذا تأسيساً لنمط طويل من الجماعات شبه العسكرية التي لا تتبع للجيش بل إلى القيادات الأمنية الحزبية والمخابراتية؛ كميليشيا سرايا الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي ومعظم الميليشيات التي استُخدمت لقمع انتفاضة 2011 إلى درجة أن تحمل أحد هذه الميليشيات اسم «كتائب البعث». كما شهدت فترة نشوء الميليشيات شبه العسكرية قصف جامع السلطان في حماة رداً على انتفاضة صغيرة أعلنها الإخوان المسلمون والناصريون وجماعات أهلية عام 1964صاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص46، لَحِقه أيضاً أول تهجير قسري للسكان على مستوى أحياء بأكملها بحجة إعادة إعمار الأحياء المدمرة. سيتكرر ويزداد نمط العنف الأدائي هذا كمّاً ونوعاً في المدينة نفسها عام 1982، ومن ثم سيُعمّم على جميع المناطق المنتفضة بعد العام 2011.
خلال ستة أشهر من قيام ثورة الثامن من آذار، كانت اللجنة العسكرية البعثية قد تخلصت من كل منافسيها على السلطة، فاستخدمت تأويلات إيديولوجية أسبغتها على منافسيها كـ«الانفصاليين» و«المستقلين» و«الناصريين»، وكان هؤلاء يمثلون السنّة الحَضَريينصاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص41، في حين تشكلت نواة اللجنة العسكرية من المنحدرين من القرى والبلدات الريفية وتنتمي إلى طوائف أقليةبطاطو، مصدر مشار له سابقاً. ص283. نمط العزل هذا سيتكرر لاحقاً مستخدماً رطانات مشابهة لتطهير حزب البعث نفسه من كتل طائفية و/أو سياسية؛ كعزل الجناح المدني بتهمة «القيادة القومية»، أو لتصفية الخصوم السياسيين كوصم الإخوان المسلمين بتهمة «عملاء» ووصف مُنتفضي العام 2011 بـ«المندسين» و«الإرهابيين».
في المجمل، أسس بعث الستينيات أو «البعث الانتقالي»بطاطو، مصدر مشار له سابقاً. ص281 الأنماط الأساسية للهيمنة التي ستشكل لاحقاً أنماط دولة البعث الأسدي. خلال كل هذا لم يشعر البعثيون بأي وازعٍ لتطوير أطرهم المفاهيمية، بل تحوّلت اللجنة العسكرية إلى «مكتب الأمن القومي» التابع للقيادة القطرية عام 1966، وسيصبح هذا المكتب لاحقاً جهازاً يعمل على التنسيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية من خارج الدولة لأنه يتبع للقيادة القطرية لحزب البعث وليس لوزارة الدفاع أو الداخلية، ثم عمل المكتب الأمني بدوره في تلك المرحلة على توسع سلطة شُعبة الاستخبارات العسكرية مفتتحاً مرحلة تغوّل الأجهزة الأمنية متعاونةً ومتنافسةً على الدولة. تغير الاسم إلى «مكتب الأمن الوطني» عام 2012، لكنه بقي أعلى سلطة أمنية في البلاد.
استعان البعث في عام 1966 أثناء معركة عزل مؤسسيه عفلق والبيطار بالماركسيِين كياسين الحافظ، فأصدر «بعض المنطلقات النظرية» التي تبنّى الحزب بموجبها «اشتراكية ثورية» ستكون مُحرّك عمليات إعادة توزيع الأراضي والتأميم اللاحقة، ولكن هذا التأميم كان في حالات كثيرة يهدف لخفض التوتر السياسي، وزيادة القاعدة الشعبية عبر كسب الفلاحين وتسهيل السيطرة عليهم، ولم ترتبط سياسات التأميم بخطط تنموية أو استراتيجيات عامة بعيدة الأمد.
لقد انحصر الصراع على السلطة في سوريا منذ استلام البعث في 1963 وحتى 1970 داخل اللجنة العسكرية وعليها، وفي مرحلة حافظ الأسد، أصبح الصراع على من يكون الأكثر قُرباً من الرئيس. وفي كلتا المرحلتين كانت الدولة هي المجال الذي يتنافس المتصارعون فيه وعبره، لأن حزب البعث كان قد انتشر بين الطلاب والمعلمين والعسكر، وبعد إقصاء جماعة أكرم الحوراني، أصبح هؤلاء طبقةً وسطى لا ترى في الدولة وأجهزتها إلا طريقاً للصعود الطبقي (الجيش، الوظيفة العامة، البيروقراطية).
بعث الأسد
بعد عزل جميع خصومه الحزبيين ووصوله إلى السلطة في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، لم يتأخر حافظ الأسد بالاستيلاء على كل شيء، بما في ذلك الحزب. أنشأ وقاد الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم مجموعة الأحزاب السياسية في سوريا التي ارتضت مشاركته، فيما تكفّلت قواه الأمنية بعزل الذين لم يوافقوا. وشرعن الأسد حزبه بنيوياً في جسم الدولة عبر دستور البلاد عام 1973 بتحديده «الحزب القائد للدولة والمجتمع». ثم ترد في المادة 11 من الدستور نفسه عبارة «القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن حماية أرض الوطن وتحقيق أهداف الثورة» دون أي تعريف مؤطر لـ«منظمات الدفاع الأخرى هذه». في الوقت نفسه سيطر الأسد باسم البعث على جميع المنظمات والنقابات وحوّلها إلى ما يشبه مؤسسات بيروقراطية تابعة ومُغذّية للسلطة. حتى أن البعث نفسه كان قد تحول إلى مؤسسة في خدمة السلطة ليصبح الحديث عنه كتنظيم حزبي مخالفاً حتى لبعض مواد دستور الحزب شديدة المرونة التأويلية. وبينما حرص الأسد على زيادة عدد أبناء الطائفة العلوية في الجيش والأجهزة الأمنية وحصْر معظم القيادات بهم، أحاط نفسه بمجموعة من السنّة المخلصين له في الجناح البعثي المدني وأجهزة إدارة الدولة.
كان هدف الحزب الأول «الوحدة»، التي يتوقف على تحقّقها كل شيء، قد أصبح مَثار تهكم في الوعي الجمعي مع تمكن الأسد من السلطة، ولحق به الهدف الثاني «الحرية» سريعاً. بينما ستصمد «الاشتراكية» و«التصدي للإمبريالية» حتى العام 1991؛ حيث سقطت الأولى بإصدار قانون الاستثمار رقم 10 الذي بدأ بلَبرَلة غير منهجية للاقتصاد، وعلى إثره سرت بين بعض شيوعيي الحزبين المنضويَين في الجبهة الوطنية التقدمية دعابة أنهم «ينتمون للحزب الشيوعي السوري لصاحبه حزب البعث» في إشارة مريرة إلى التبعية والخصخصة المتناقضتين نظرياً مع الاشتراكية الثورية. أما الثانية فسقطت بقرار الأسد الانضمام إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في حرب الخليج الثانية، ثم قبوله المشاركة عام 1994 في عملية سلام لم تكتمل مع إسرائيل.
في المرحلتين السابقتين لم يستطع البعث بوصفه «نظام الحكم» أن يجدد نفسه بتجديد معرِّفات العلاقة مع المجتمعات التي يقودها، لأن التجديد يبدأ من تحدي الأطر الفكرية في وقت كانت إيديولوجيا البعث قد تهالكت. فأخذ البعث ودولته يكرران أنماطهما ولكن على مستويات أكبر كماً ونوعاً، مما زاد من صلابة نظام الحكم، ولكنه زاد أيضاً من هشاشة الدولة (العروي،2011). هذا التكرار، الذي مرده الأول انسداد الأفق، سيقود إلى «إلغاء جميع القنوات والوسائط المفترضة لممارسة السياسة التي كانت في الماضي أسلوب تشكيل كل الثنائيات كـ: الدولة والمجتمع، العام والخاص، الرسمي وغير الرسمي، الشخصي والعقلاني-القانوني، الديمقراطي والاستبدادي. مما يعيد المجتمع إلى وحدة سياسية أكثر صرامة، تطيع بدورها في الاسم والمحتوى والنية والاستراتيجيات ممارسة سياسية واحدة: «حكم السلالة»، وهو ما يسميه ياسين الحاج الصالح أيضا بـ«الدولة السلطانية المحدثة».
أبناء السلطة البعثية
كانت سوريا قد قطعت 10 سنوات من لَبرَلة غير ممنهجة وغير مؤطرة حين استلم بشار الأسد مقاليد الحكم في العام 2000. وإنْ حرص حافظ الأسد على حصر الربح غير المشروع في حلقة ضيقة من رجالات الدولة مدنيين وعسكريين وأمنيين، فإن الفساد في النصف الأخير من التسعينيات تغلغل وانتشر في جميع مستويات إدارة الدولة. وكان من بين ما نتج عن سياسات اللبرلة هذه نقطتين تجدر الإشارة إليهما: الأولى أنها أعادت تشكيل علاقات السلطة مع بعض أصحاب رؤوس الأموال من الوجهاء المدينيين السنّة – خاصةً في دمشق وحلب – الأمر الذي سيتطور لاحقاً إلى شبكات من الشراكات التجارية والعائلية المباشرة بين كبار ضباط الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال. والثانية أن معظم أبناء الحلقات الضيقة من الضباط ورجالات الدولة الذين كدَّسوا ثروات معتبرة في العقود السابقة كانوا قد أتمّوا دراستهم في أميركا وأوروبا وعادوا متأثرين بالليبرالية الاقتصادية والعولمة، وبالتالي فإن فكرة الحزب السياسي العقائدي غير جذابة لطموحاتهم، ففضلوا الاستثمارات الخاصة. وساعد التضخم البيروقراطي والانهيار شبه التام لمؤسسات القطاع العام الإنتاجية التي سيطر عليها وأدارها البعث سابقاً، على ازدهار الاستثمار الخاص مستفيداً من تسهيلات توفرها له العلاقات المعقدة مع السلطة.
في العام 2012 لم يعد حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع دستورياً بعد تعديل هذا الأخير، ورُفعت حالة الطوارئ، إلا أن هذا ليس تغييراً بقدر ما هو تسمية الأمور بمسمياتها؛ فحزب البعث العربي الاشتراكي كان انتهى منذ فترة إلى بوابة يعبر منها البيروقراطيون الأكثر إخلاصاً الذين لا يستطيعون شراء مواقعهم في أجهزة الدولة، وخزاناً لأفراد الميليشيات شبه العسكرية الأقل تكلفة.
دولة البعث
في القسم التالي سنستعرض بواسطة الرسوم البيانية بعض المؤشرات المعبرة عن أداء دولة البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963 حتى عام 2020، بالاعتماد على بيانات البنك الدولي – إلا إذا تمت الإشارة صراحةً لمصدر آخر-. في أغلب الرسوم استعضنا عن القيمة الحقيقية بالمعادل اللوغاريتمي، واستخدام المعادل اللوغاريتمي للقيمة جعل الرسم البياني أكثر وضوحاً، ما يسمح بمقارنة أفضل، لكنه لا يعكس الاختلافات الحقيقية بين القيم.
الشكل الأول: الناتج الإجمالي المحلي السوري
يمثّل الخط الأزرق الناتج المحلي الإجمالي مُقدّراً بالليرة السورية، بينما يمثل الخط الأخضر هذا الناتج مُقدّراً بالدولار الأميركي. ترمز المساحة المحصورة بين الخطين إلى الفارق في سعر الصرف بين العملتين، ويلاحَظ اتساع هذا الفارق بمرور السنوات. يكشف الخط الأخضر أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لم يكن ثابتاً كما يظهر بالعملة المحلية، حيث تظهر تغيرات حادة، كما في العام 1988.
الشكل الثاني: الإنفاق العسكري في سوريا
يظهر الشكل الإنفاق العسكري بين العامين 1960 و2011. أيضاً هنا يُظهر الخط الممثّل للإنفاق العسكري بالدولار الأمريكي اضطرابات لا يوضحها الخط الممثّل لنفس الإنفاق بالليرة السورية. الحقيقة أن الإنفاق العسكري في سوريا هبط بشكل حاد في المرحلة نفسها التي انخفض فيها الناتج الإجمالي المحلي في العام 1988، ولم يستعد نمطه التصاعدي منذ تلك السنة. قد يكون هذا الانخفاض مرتبطاً بمرحلة انهيار الكتلة الاشتراكية التي كانت المورد الرئيسي للسلاح.
الشكل الثالث: قيمة المستوردات السورية
يُظهر قيمة المستوردات سنوياً بالليرة السورية، ويُقرأ هذا الشكل بالتزامن مع الشكل الرابع. ولكن يلاحظ منه أن سورية استوردت في العام 2008 ما يعادل 80 مليار ليرة سورية. بينما انخفض الاستيراد متراجعاً 75 بالمئة عن قيمته في العام 2011 وقبل حزمات العقوبات الموسعة.
الشكل الرابع: الميزان التجاري بين الصادرات والواردات بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي السوري
يظهر الشكل النسبة المئوية التي يكابدها الميزان التجاري بين الصادرات والواردات في حال خسارته للإنتاج الإجمالي المحلي، كما يظهر نسبة دعمه للإنتاج في حالة الربح. أي أن 17 بالمئة من الناتج الإجمالي العام صُرف لتعويض خسارة الميزان التجاري. بينما شكّلت عائدات الميزان التجاري الرابح في عام 2002 ما قيمته 7 بالمئة من الإنتاج الإجمالي العام.
الشكل الخامس: صافي المساعدات الخارجية بهدف دعم التنمية في سوريا مقدرةً بالدولار الأميركي
يُظهر الشكل المساعدات التنموية الأجنبية التي قُدّمت إلى سوريا بين الأعوام 1960 و2020 مقدّرةً بالدولار الأميركي (جميع القيم في الشكل يجب ضربها بمليار لمعرفة قيمتها الحقيقية). بلغت هذه المساعدات 8.8 مليار دولار في العام 1990، وتضاعفت تقريباً إلى 16.7 مليار في عام 2012.
الشكل السادس: التوزّع السكاني
يُظهر الشكل أن بداية التغيّر في توزّع السكان بين الريف والمدينة حصل تقريباً في العام 1995، حين بدأت أعداد السكان في المدن تفوق أعدادهم في الأرياف.