يكاد لا يوجد سوري-ة في الثلاثينات من العمر وما فوق لا يعرف برنامج التلفزيون والناس، الذي اشتهر المذيع التلفزيوني عبد المعين عبد المجيد بتقديمه منذ العام 1988، فأصبحت شخصية عبد المجيد وبرنامجه جزءاً راسخاً من ذاكرة التلفزيون السوري وذاكرة السوريين-ات الذين كانوا على موعد مع حلقة أسبوعية من برنامجه المُنوَّع. 

كان برنامج التلفزيون والناس آنذاك من أوائل البرامج المُنوعة التي أنزلت الكاميرا إلى الشارع، لا لتُصّور المسيرات والاحتفالات بالمناسبات السياسية والأعياد الوطنية، بل لتصوّر الحياة اليومية للناس، فنقلت مقابلات مع الناس أثناء ساعات عملهم، واحتفالاتهم الاجتماعية والدينية، ورحلاتهم. طوّرَ المذيع عبد المعين عبد المجيد فكرة برنامج تلفزيون والناس طوال العقود الماضية، وفي هذه المقابلة يحدّثنا عن المجتمعات التي زارتها كاميرا تلفزيون والناس، وعن سياسات التلفزيون السوري الصّارمة التي استطاع تغيير بعضها والالتفاف حول بعضها الآخر، وعن آخر حلقات تلفزيون والناس في سوريا بعد قيام الثورة السورية وعن حياته اليوم في تركيا.

يُعد برنامج التلفزيون والناس من البرامج التلفزيونية التي تركت علامة فارقة في تاريخ التلفزيون السوري؛ كيف بدأت فكرة برنامج تلفزيون والناس التي تعود لعام 1988؟

في بدايات عملي في التلفزيون كنتُ أعمل معد ريبورتاجات لصالح برامج مختلفة، وجاء المدير العام عبد النبي حجازي واقترح فكرة برنامج قريب من الناس والشارع، وطلب مني ومن ثلاثة آخرين يعملون في التلفزيون، كان منهم عادل أبو شنب المعروف بـ «حكواتي دمشق»، تحضير حلقة تجريبية تعكس فكرة البرنامج. بدأتُ بتحضير الحلقة واعتمدتُ على المهارات التي اكتسبتُها في إعداد الريبورتاجات مثل التصوير والمقابلات، وأيضاً استندتُ إلى ما تَعلّمتُه من أساتذة مثل فهد كعكاتي المعروف بشخصية «أبو فهمي»، الذي سألتُه عن كيفية تصوير الناس في الأسواق دون تحضير مشهد مسبق. وكانت كلمته المفتاحية هي العفوية و«اترك الكاميرا تصوّر». وأذكرُ أيضاً أن إحدى الجُمل التي أثرت بي هي جملةٌ قالها القاص الشعبي حكمت محسن المعروف «بأبو رشدي»، عندما سُئل عمّا إذا كان يخشى أن تنضب القصص الشعبية التي يكتبها ويستوحي منها. وكان جوابه حينها: «طالما  أن أبو سعيد  بياع الفول، وفلان بياع البندورة، والحارس الليلي الفلاني موجودين. إذن أبو رشدي موجود». المغزى من هذا أن قصص الناس غزيرة ولا تنضب. واعتماداً على هاتين الفكرتين، صُوِّرت الحلقة التجريبية من برنامج التلفزيون والناس، وعندما رآها المدير العام قال لي متفاجئاً: «نحنا مو بسوريا».

إذن لستُ أنا من اقترح فكرة البرنامج، لكني طوّرت الأسلوب وطريقة التصوير مع الناس وفي الشارع. وتجرأت مثلاً أن أصوّر في إحدى مدارس دمشق، ذهبتُ إليهم متذرّعاً آنذاك بأنّي مُكلّفٌ حزبيٌ، وعندما طلبتُ من إحدى المدرّسات أن تتحدث أمام الكاميرا، طلبت مني أن أُمهلها بعض الوقت حتى ترتّب شعرها ومكياجها ولباسها وتتحضر للظهور أمام الكاميرا. في هذه الأثناء تركنا الكاميرا تصّور مشاهد من خلف الكواليس، وتم استخدامها في البرنامج. لم تكن هذه العفوية موجودة من قبل على التلفزيون السوري. 

في ظلّ هيمنة الرعب الأمني على الناس، خاصة في السنوات التي انطلق فيها برنامج التلفزيون والناس في الثمانينيات، ما هي الطرق التي اعتمدْتَها لإراحة الناس أمام الكاميرا وإقناعهم بالمشاركة في البرنامج؟

كانت هذه مشكلة كبيرة فعلاً، مهمةُ البحث عن ناس يقبلون التحدث أمام الكاميرا مهمةٌ صعبةٌ جداً. وبعد تجربتي مع الجمهور السوري، فهو يكاد يكون أصعبَ جمهور يمكن الوصول إليه. لذلك طوّرنا مجموعة أساليب للتقرّب من الناس وإراحَتهم أمام الكاميرا، على سبيل المثال، الحديث مع الأطفال الذين كانوا لا يظهرون على التلفزيون إلّا في برامج الطلائع. كانت العائلات تحب أن يتكلم أطفالها أمام الكاميرا، لكن هم أنفسهم يخشون أو يخجلون من الكاميرا. أذكر في إحدى السنوات أننا أردنا تصوير حلقة بمناسبة عيد الأم، كانت الأم تريد لابنها الصغير أن يتحدث أمام الكاميرا، واتفقتُ وقتها مع المصور أن نترك الكاميرا تسجّل كل شيء. وكانت الأم تلّقن ابنها وتعلّمه كيف يتصرف أمام الكاميرا بالإشارات والإيماء، صورَّتْ كاميرا التلفزيون والناس جميع هذه المشاهد العفوية وخرجنا بثمان دقائق عفوية وكوميدية أضحكتنا جميعاً.

كسبنا ثقة الجمهور تدريجياً وصار الناس يفتحون لنا أبواب بيوتهم حتى في أكثر المجتمعات المُحَافظة. حرصنا كفريق عمل على ترك سمعة حسنة لدى الناس، واحترام الآداب العامّة عند زيارتهم. أما العامل الأهم فهو المونتاج وإخراج الحلقات؛ كنتُ حريصاً على متابعة جميع مراحل المونتاج بنفسي، وقرّرتُ حينها ألا أظهر كمذيع في هذه الحلقات بل أحيّد نفسي لأكون مُشاهِداً، كنّا نقوم بمونتاج وإعادة ترتيب أجزاء من مشاركات الناس، التي كنّا نعتقد أنها قد تسبب لهم مشاكل أو تضعهم في مأزق اجتماعي أو سياسي ما. ما أريد قوله أننا حرصنا على احترام صورة الناس وإظهارهم بشكل لائق أمام الكاميرا. حتّى أن الناس أصبحوا يتوقعون حضور كاميرا التلفزيون والناس في المناسبات الاجتماعية. أذكر في إحدى المرّات أنه كانت هناك مناسبة افتتاح مطعم في دمشق، واقتربتُ من سيدتين كانتا في الحفلة، وألقيت التحية عليهنّ. فزِعتْ إحداهنّ، فاعتذرتُ منها وقلتُ: «آسف، كان بس بدي سلّم عليكي. صحة وهنا»، لكنها قالت لي: « قبل لحظات كنّا نحكي أنا ورفيقتي ونقول وينه عبد المعين عن هذا الافتتاح». والقصد أنه مع الوقت أصبح حضورنا بين الناس اعتيادياً ومتوقعاً. 

زارت كاميرا التلفزيون والناس أغلب المحافظات السورية، في مرحلة لم يكن البث من المحافظات والقرى البعيدة شائعاً بسبب مركزية دمشق والمدن الرئيسية، ونعرف جيداً تنوع المجتمعات السورية واختلافاتها. بحسب خبرتك الطويلة، كيف لاحظت اختلاف علاقة المجتمعات مع التلفزيون السوري؟ 

كان حضور المجتمع الدمشقي مركزياً في البرنامج، وهو الأمر الذي ساهم باستمرار البرنامج. كانت المجتمعات الأخرى في محافظات مثل السويداء، حلب، دير الزور أكثر مُحافَظةً أمام الكاميرا. صرنا ندخل إلى هذه المجتمعات عن طريق الوصول إلى أشخاص معروفين مثلاً من داخل هذه المجتمعات، ونكسب ثقتهم. ذهبتُ مع فريق العمل في إحدى المرات لنصوّر في مدينة حلب، سألنا الناس من نكون؟ وظنّوا أننا نُصّور لصالح القناة اللبنانية LBC. عندها تيّقنتُ أن التلفزيون السوري لم يخرج ليصوّر الناس في الشارع أبداً، لا سيما خارج دمشق. تُصوّر كاميرات التلفزيون مسيرةً، مؤتمراً، يومَ الفلاح…، لكن الناس لم يَرَوا أنفسهم في التلفزيون. 

تدريجياً، بدأنا نقترب من هذه المجتمعات، مثلاً نصوّر في مصياف، يسأل الناس عنّا في السلمية، أو صوّرنا في بانياس، يسألون عنّا في طرطوس. كان لدي قناعةٌ أن التلفزيون هو خدمةٌ للناس وملكٌ لهم. في بداية التسعينيات طرحتُ على نفسي سؤالاً؛ لماذا تغيب مجتمعات ريف الساحل وتغيب لهجتهم عن شاشة التلفزيون السوري؟ وما فعلته أنني ذهبت إلى ريف اللاذقية وطرطوس في فترة أعياد الطائفة العلويَة. تحدث الناس معنّا بعفوية وبلهجتهم، ويومها توجَّسَت إدارة البرنامج من بث الحلقة، وأجبت المدير حينها: «ليش حتى ما نبث الحلقة؟ هيدول كمان سوريين»؛ كانت لهجة أهل الساحل السوري شبه مغيّبة عن الإعلام والتلفزيون. في إحدى المرّات صَوّرنا في ريف دير الزور، وعندها وصلتنا تهديدات من ضباط ومسؤولين بحجة أن أهالي ريف دير الزور ليسوا بسطاء وهذه ليست دير الزور، لكننا صوّرنا مع فلاحين، وسوريا بمعظمها أريافٌ وليست مُدناً.

كيف كنت تتعامل مع الحدود الضيقة لحرية الإعلام والصحافة في سوريا؟ 

في الكثير من المقابلات، كنا نتحدث عن السياسة لكنها كانت تمر على الرقابة. مثلاً عندما كان يُطلب مني أن نُجيّر حلقة تلفزيون والناس لصالح مناسبة سياسية، مثال ذكرى حرب تشرين، التي صوّرتُ فيها مع سيدة مهجرّة من القنيطرة، تبيع خضاراً على الرصيف وخسرت بيتها على حساب انتصار حرب تشرين. كانت هذه الرسائل السياسية تمر دون أن ينتبه لها الرقيب. عادة ًفي برنامج التلفزيون والناس لم نصور مديحاً أو تبجيلاً للقيادة، ولم نكن نركز على صور الرئيس في الأماكن العامة أو المدارس، فكان الناس يشعرون أن هذا البرنامج لهم. وكنّا نحن طبعاً نتحمل مسؤولية هذه القرارات، ونبرر بعضها بحجة الشكل الفني وضرورات الإخراج. ومع بدايات الثورة السوريّة طُلب مني تصوير مجموعة حلقات، كانت الأحاديث مع الناس في بعض المقابلات ملغومة وتُفهم من السياق المعاني السياسية التي تتضمنها. 

متى قدّمت استقالتك من التلفزيون؟

قدّمتُ استقالتي في شهر نيسان (أبريل) من عام 2011، لم تُقبل الاستقالة حينها، وطُلب مني إنتاج حلقات يومية من برنامج التلفزيون الناس بدلاً من حلقة واحدة أسبوعياً. بالرغم من أنه ومع بدايات الثورة لم يكن ذلك ممكناً؛ برنامج التلفزيون والناس برنامج اجتماعي يُصوَّر في الشوارع التي كانت تشهد مظاهرات أو تشييعاً حينها. اضطررنا لتغيير شارة البرنامج لأنها لم تناسب أجواء وأحداث 2011 أبداً. حتى الشوارع التي يمكننا التصوير فيها كانت محدودة، ساحة الأمويين، أو المزة وبعض الأماكن الأخرى. لم يكن ممكناً أن نصور في نهر عيشة مثلاً، أو مناطق أبعد من مركز المدينة. حتى خلال هذه الفترة لم نكن نروّج لرواية النظام عن الثورة وعمّا كان يحدث وقتها. أصبح الاستمرار بالعمل في هذه الظروف صعباً، وبعدها بأشهر قدمت استقالتي. 

قبل برنامج تلفزيون والناس الذي يتم تصويره خارج الاستديو، كان لديك العديد من البرامج التلفزيونية الاجتماعية التي قدمتها في الاستديو. أي المكانين تفضل اليوم؟ 

لا أحب الاستديو. التصوير في الاستديو أسهل وهادئ أكثر. أما التصوير في الشارع أصعب، وكنّا نصور في البرد والشتاء وأحياناً نقطع مسافات طويلة سيراً على الأقدام. 

تُقيم الآن في تركيا، وقرّرت متابعة عملك كصحفي وإعلامي، وشاهدنا أجزاءً جديدة من التلفزيون الناس؛ ما الذي تغيّر مع انتقالك إلى تركيا؟ وكيف انعكس ذلك على ممارستك للمهنة؟ هل لا زلت تعمل بشكل يومي؟ 

لا نزال نصوّر حلقات من التلفزيون والناس تحت عنوان جديد وهو وين ماكنتوا تكونوا. لكن التصوير في تركيا عليه الكثير من التقييدات، لا يمكننا تصوير أعراس أو حفلات مثلاً. وممنوع التصوير في الأماكن العامّة، حتى استخراج تراخيص التصوير له مشاكل أخرى ومحددة بالساعات والأماكن، وضرورة الالتزام بالمواعيد أمرٌ يؤثر سلبياً على الطابع العفوي الذي امتاز به البرنامج. وأعمل أيضاً في تسجيل حلقات من برنامج ذاكرة سورية، وهو بودكاست نستضيف فيه أشخاصاً من عمر الـ50 وما فوق، يتحدثون عن المدن التي عاشوا فيها وعن حياتهم وعن التاريخ لكن من وجهة نظر الناس «العاديين»، أقصد أنهم ليسوا مؤرخين، ولا يعملون في المجال الثقافي. 

تحدثنا كثيراً عن برنامج التلفزيون والناس، لكنك أيضاً قدمت العديد من برامج التسلية، مثل برنامج منكم وإليكم والسلام عليكم وهو برنامج الكاميرا الخفية. وربما هو نوع برامج التسلية الأشهر حينها. كيف كان واقع برامج التسلية والمنوّعات بالعموم؟ 

أولاً، سياسة برامج التلفزيون السوري كانت تعتمد على تقسيم الشعب لفئات، مثلاً الأطفال لهم برامج الطلائع، إذن يُمنع إظهار أي طفل على التلفزيون بدون اللباس الطليعي الكامل. أيضاً يُمنع التصوير مع المعلمين والمعلمات إلّا في برنامج بناة الأجيال. الجيش لديه برنامج القوات المسلحة، الفلاحون لديهم برنامج أرضنا الخضراء. ثانياً، إعداد غالبية هذه البرامج لم يكن مُعتمِداً على المعايير الفنية، لا سيما وأن الكثير من الموظفين كانوا في التلفزيون بسبب محسوبيات وواسطات، والمشكلة أن هذه البرامج لم تكن تصوِّر لا حقيقة المعلّم ولا حقيقة الفلاح ولا حقيقة الطلاب. تقسيم المجتمع لشرائح بهذا الشكل كان عائقاً أمام صناعة برامج التسلية. ولأن صناعة هذه البرامج لم تكن ممتعة لا من ناحية المضمون ولا من ناحية الشكل، فقدَ الناس الاهتمام بالمشاهدة من شرائح مختلفة من المجتمع، بالتالي يتحمل ضعف الخبرات الفنية وقدرات الإخراج والتصوير التي كانت محدودة جزءاً من المسؤولية في هذا. 

أين يوجد اليوم أرشيف برنامج التلفزيون والناس؟

برنامجنا لم يُؤرشَف، لأنه وبحسب تصنيفات التلفزيون السوري، يُصنف على أنه برنامج ميداني أو ريبورتاجي. هذه البرامج لا تُؤرشَف وأجر العاملين فيها أقل، على عكس مثلاً البرامج الثقافية. في مكتبتي في سوريا، لدي أشرطة خاصة ملكي وليست ملك للتلفزيون، لكن شروط الأرشفة ليست صحية تماماً. أحاول إخراجها من سوريا لكن إلى حد الآن لم أنجح في ذلك. أما أرشيف التلفزيون السوري الأساسي فهو في عدرا، وسابقاً كانوا يسجلون على الأشرطة أكثر من مرة. للأسف هناك مواد أرشيفية هامّة ولم تنتج بعد، مثل حوار سجّلته مع نضال الأشقر أو مع محمد عبد الكريم أمير البزق. جميع هذه التسجيلات للأسف ليست موجودة لدي الآن.

نتابع اليوم على السوشيال ميديا العديد من الصفحات والبرامج التي تعتمد على كاميرا وميكروفون ومقابلات مع الناس في الشارع (vox pop) عن مواضيع مختلفة. هل تتابعها؟

أتابع التيكتوك كثيراً، وأردتُ أن أُحمّلَ مقاطع من برنامج وين ما كنتوا تكونوا. عمِلتُ أياماً معدودة على التيكتوك، لكن للأسف أَحتاجُ لخبرات تقنية ومساعدة في استخدام التيكتوك. بالرغم من أن أحد الفيديوهات التي نشرتها حصدت أكثر من مليونين و800 مشاهدة. آمل في الفترات القادمة أن أجد أحداً يساعدني في نشر المزيد من الفيديوهات القصيرة على التيكتوك.