في فجر السادس من شباط (فبراير)، اهتزّ لبنان دون أن يُسفر الاهتزاز عن أي إصاباتٍ، ولكن أُصيب الجميع بالخوف، وأُغلقت المدراس والجامعات ثلاثة أيام، و فتح بعض اللاجئين السوريين منازلهم للعزاء. أما في سوريا، فتعددت تبعات الزلزال: أعداد الضحايا بالآلاف داخل حدود البلاد وبين اللاجئين السوريين في تركيا، مفقودون ومفقودات تحت الأنقاض، تيتّمٌ وتشرّد، بالإضافة إلى تسييس الإغاثة الإنسانية وعرقلة وصولها.

وفي قلب هذا المشهد الكارثي، بدأ سوريون ولبنانيون وفلسطينيون مقيمون في لبنان، العمل إما افتراضياً أو على الأرض وبجهود فردية في التنسيق والحث على الدعم، وساهموا في بناء شبكات تنسيقٍ وتنظيم لجمع التبرعات العينية والنقدية وإرسالها إلى سوريا.

شبكات ممتدة إلى حلب واللاذقية

تأسس فريق عيون سورية التطوعي، الذي يضمّ لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وجنسيات أخرى أجنبية، في لبنان عام 2013 بهدف مساعدة اللاجئين السوريين في المخيمات. ولكن بعد الانهيار المالي اللبناني وبسبب تزايد أعداد المحتاجين للمساندة، بدأت أنشطته التطوعية تأخذ منحىً أكثر شموليةً، ليقدم الخدمات لكل مَن يقيم في لبنان. 

سبقت كارثة السادس من شباط عاصفةٌ قويةٌ أغرقت مخيمات اللاجئين السوريين في شمال لبنان، كان الفريق وقتها في جهوزية للاستجابة الطارئة للفيضانات، غير أنّ الزلزال سبّب للفريق حالةً من الإرباك والتشتت بين الاستجابة للحالات الطارئة في مخيمات اللاجئين السوريين، وبين ضرورة التفكير في آلية معينة لمساعدة متضررين-ات الزلزال على الرغم من الموارد المحدودة.

أنشأ الفريق حملة للتبرع عبر الإنترنت من خلال فعالياتٍ مختلفة في مناطق لبنانية عديدة، واختلفت أشكال التبرع بين المساهمات النقدية وإعداد الطعام وبيعه والتبرّع بالعائد المادي. أما الذين لم يستطيعوا التبرع، فعرضوا خدماتٍ تطوعية لوجستية، مع لفت الأنظار إلى أهمية أن تكون التبرعات العينية خفيفة الوزن ومن بين المواد الأكثر طلباً؛ كالأدوية وحليب الأطفال.

يقول بيسكي، وهو أحد متطوعي الفريق، في حديث للجمهورية.نت: «لم نتوقع هذا الإقبال على التبرع نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يعيشها الجميع في لبنان، لكنّ أعداد المتبرعين كانت كبيرة ومن جميع الجنسيات». أما الرهان الأكبر لدى الفريق، فتمثّل في ضمان وصول هذه المساعدات إلى المكان الصحيح، فصعوبة عملهم تبدأ من لبنان كونهم غير مسجلين فيها كمنظمة، وقد يتعرضون للملاحقة القانونية. ومن جهةٍ ثانية، هناك الموافقات الأمنية والعقبات البيروقراطية بالغة التعقيد في سوريا، والتي تنشط بمجرد التفكير في إيصال التبرعات من قبل أفراد الفريق أنفسهم. 

أحد التحديات أمام الفريق، بحسب بيسكي، كان رفضه القاطع لمرور المساعدات إلى سوريا عبر أذرع الأمانة السورية للتنمية، ويضيف بيسكي: «استطعنا بعدها التنسيق مع جمعية حليفة لنا في سوريا لمساعدتنا على إدخال الشحنة، والتي تضمّنت المساعدات التي جمعها فريق عيون سورية بالإضافة إلى مبادرات أخرى عملت عليها شبكات أهلية أخرى كنا قد نسقنا معها لإرسال التبرعات دفعةً واحدة». 

رافق القلق فريق عيون سورية طيلة العملية بخصوص طريقة توزيع المساعدات في مراكز الإيواء، فهم على تواصل مع الجميعات، لكن لا فكرة واضحة لديهم عن عملهم على الأرض مع المستفيدين، وهذا على الرغم من ذهاب إحدى متطوعات الفريق إلى سوريا بغرض الإشراف على العملية قدر المستطاع ودفع إيجارات منازل للمتضررين والمتضررات من الزلزال، مع الحرص على إنجاز العمل بكثيرٍ من الحذر والخوف من ملاحظة الأجهزة الأمنية السورية لنشاطهم.

«شبكات» ونساء مخيم شاتيلا

تقول مرام، وهي مهندسة مدنية لبنانية، إن الرغبة في إنشاء مبادرةٍ لدعم المتضررين من الزلزال كانت مجرد فكرةٍ تطورت مباشرةً من خلال إنشاء صفحةٍ على إنستغرام بتاريخ 7 شباط، اليوم الثاني للكارثة، و سُمّيت شبكات، وذلك بغرض التشبيك مع مبادراتٍ أخرى تحاول جمع التبرعات والتنسيق معها. تضيف مرام: «استثمرنا في خبرتنا في العمل الاجتماعي للتشبيك مع مبادراتٍ قد أُنشئت لتوّها بعد الزلزال، وكذلك مع أفراد وجمعيات يعملون في نطاق المجتمع المدني، ومع مؤسسات دينية، بقصد جمع المساعدات من كل الاتجاهات والمناطق وإرسالها إلى سوريا في شحنةٍ واحدة».

لم يكن لدى شبكات في البداية توجيه معيّن للتبرع، ولكن بعد تواصل المجموعة مع سوريين-ات في الداخل حصلتْ منهم-ن على قوائم بالمتطلبات الأكثر احتياجاً، وبناءً عليه قاموا بصياغة دعوة التبرع، وشملت حفاضات الأطفال والأدوية والفوط صحية بالإضافة إلى المبالغ النقدية. «كانت المشكلة الأساسية التي واجهتنا هي عدم وجود مستودع آمن لتجميع المساعدات، فاستخدمنا أكثر من مساحة، كان آخرها منزل أحد المتطوعين في المبادرة»، بحسب مرام. وبعد مراكمة التبرعات، تعيّن على فريق شبكات تأمين وسيلة لإيصال المساعدات إلى «أيادٍ أمينة». تعلّق مرام: «تمنيتُ لو كنت أستطيع الذهاب إلى سوريا والإشراف بنفسي على عملية التوزيع».

توزّعت نقاط جمع التبرعات التي أنشأها فريق شبكات في جنوب لبنان وبيروت ومخيم شاتيلا وكنيسة برمانا ومستودع أحد المحال التجارية في البقاع، ثم انطلقت في قافلةٍ نحو اللاذقية وحلب، وتمّ ذلك بالتعاون مع جمعية سورية تولّت إدخال الشحنة إلى سوريا ومتابعة العمل على الأرض مع متطوعين سوريين. وخُصّصت المبالغ النقدية لدفع إيجارات بعض المنازل للمتضررين من الزلزال.

وفي مخيم شاتيلا، تقول مسؤولة لجان المرأة الشعبية الفلسطينية منار شامية: «بعد أن رأينا فرق الإنقاذ وطائرات الدعم تتجه نحو تركيا، في حين يواجه السوريون الكارثة بمفردهم، بدأتُ في الصباح التالي للكارثة في التنسيق مع 85 امرأة يمثّلن 85 عائلة لجمع التبرعات. شرعنا في عملية الجمع على نطاقٍ ضيقٍ جداً، ثم قرّرنا توسيع رقعة المبادرة لتحقيق أكبر استفادة، فنشرنا دعوة التبرع على نطاق أوسع للجيران والمعارف والأقارب. كان هناك تفاعل كبير، ربما لأننا نعيش أيضاً في المخيم حالة مشابهة من التهميش والضغوط الحياتية».

شبكات كويرية تكافلية

على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبّدها السوريون إثر الزلزال الُمدمّر، فإنّ عدم وجود فهمٍ كافٍ لاحتياجات مجتمع الميم عين لام من قبل بعض المنظمات التي استجابت للكارثة في برامجها الإغاثية كان واضحاً، ونتج عن ذلك تدني نسبة وصول المساعدات إليهم-ن بسبب عدم ثقة الأفراد بالتواصل مع المبادرات والمنظمات لطلب المساعدة والافتقار إلى قنوات آمنة. أكدت هذا منظمة سين للعدالة الجنسية والجندرية في مقابلةٍ أجريناها مع عاملةٍ في المنظمة التي قامت بإنشاء مبادرةٍ لدعم أفراد مجتمع الميم عين لام المتضررين والمتضررات من الزلزال. توضّح العاملة: «كان يتوجب وجود فهمٍ أعمق للظروف الخاصة المحيطة بمجتمع الميم عين لام كمكوّن سوري له احتياجات معينة نتيجة كارثة مهولة، و ضمن سياق حساس للغاية».

في البداية لم تكن منظمة سين قادرةً على الاستجابة بشكلٍ سريع بسبب الصدمة وحجم الكارثة، فاتجهت نحو تقديم المعلومات وربط الأفراد المتضررين-ات مع أعضاء آخرين لتقديم مساعدات نقدية طارئة. أما الذين لم يكونوا قادرين على الدعم مادياً، فحاولوا إضافة خبراتهم-ن الشخصية لتيسير مساعدةٍ ما. تضيف العاملة في سين: «في المرحلة التالية كان لابد من البدء بالتفكير في تفعيل شبكات كويرية تضامنية على مستوىً آخر، وذلك بسبب مشاهداتنا لما يختبره المثليون-ات والعابرون-ات جنسياً على أرض الواقع، فضلاً عن آخرين وأخريات تواصلوا معنا لطلب المساعدة».

كانت الاحتياجات، في أغلبها، مشابهةً لما يحتاجه أي متضرر-ة من الزلزال من لباسٍ وغذاء، ولكن ينضوي تحت مظلة الاحتياجات تلك تأمين المكان الأكثر أماناً، وهو العقبة الأصعب، إذ يضطر كثيرون-ات في غيابه المكان الآمن للعودة إلى أماكن تركوها، وبالتالي التعامل مع الضغوط نفسها التي هربوا منها في السابق، فضلاً عن إخفاء هويتهم الجنسية أو/والجندرية، واضطرت النساء العابرات جنسياً للمبيت مع الرجال في مراكز الإيواء، أو أنهنّ فضّلن البقاء في المنزل أثناء الزلزال وبعد الهزات الارتدادية حتى عندما تصدّعت منازلهن، وذلك بسبب انتفاء الأماكن الآمنة فيزيائياً واجتماعياً، وإدراكهن لما يمكن أن يختبرنه بعد نزولهن إلى الشارع.

ومن جهة ثانية، برز عدم قدرتهم-ن على الوصول إلى خدمات الصحة الجنسية، وخاصةً الأدوية التي تتعلق بتنظيم عملية العبور. في هذا السياق، قال سامي الأغباشي (اسم مستعار لناشط كويري مقيم في شمال سوريا): «إن تأمين الخيم هو أهم الأولويات، ومن خلال تواصلي مع باقي أفراد مجتمع الميم، تبدو أغلب الاحتياجات مشتركة، مثل السكن والدعم المالي والطبي والنفسي». مضيفاً أنه «جرى إنقاذ أفرادٍ من مجتمع الميم من تحت الأنقاض وهم-ن بحالة صحية جيدة، لكنهم فقدوا كل شيء، ويحتاجون في الحد الأدنى لهواتف محمولة للتواصل مع المحيط». في هذا الإطار، قدمت منظمة سين له ولبعض الأفراد المتضررين-ات من الزلزال دعماً مادياً، كما تعمل حركة حراس المساواة على تكثيف الجهود في ما يخص تقديم الدعم النفسي.

أمام هذه الاحتياجات، انتقلت المنظمة من عملها على المبادرة كاستجابة طارئة إلى المرحلة الثانية، والعمل على المدى المتوسط لتقديم دعمٍ نفسي ومادي واجتماعي، كما أعدوا استماراتٍ لتقييم الاحتياجات العاجلة، كي يتمكن المتضررون-ات من خلالها طلب المساعدة. وكذلك كثّفوا حملات التبرع من خلال فعالياتٍ في بيروت وعبر شبكات تضامنية كويرية في أوروبا وأستراليا.

حقّقت بعض هذه التكتلات الأهلية والمؤسساتية تضامناً قلّما شوهد في السنوات الماضية، لا يمكننا إلا تشجيعه والرهان على استمراريته في مواجهة الظروف الصعبة التي تعيشها منطقتنا. ما تزال بعض المبادرات مستمرةً حتى اليوم، واقتصر بعضها الآخر على العمل خلال الأيام الأولى التي تلت الزلزال، ثم توقفوا بعد أن استُنزفت جهودهم. ويبقى من الجيد الاستفادة من هذه الشبكات ومحاولة توسيع أفقها والبناء عليه وعدم الاكتفاء بأن تكون تضامناً إسعافياً محدود الأمد.