مثل الكثير من عائلات المغيبين والمغيبات والمختفين والمختفيات في سوريا، تَحمّلَتْ عائلتي أيضاً سنوات من المعاناة والألم. كنتُ البنت الوحيدة بين ستة إخوة شباب أحاطوني بكثير من الحب، وفي فترة ليست طويلة خسرت خمسةً منهم. بعضهم قُتل، غُيّبَ قسراً أو خُطف؛ اختفوا دون أي أثر.

بدأ ذلك باستشهاد أوّلَ أشقائي، زهير، أثناء المظاهرات المندّدة بالنظام السوري في بداية عام 2012، وبعد شهرين، جاء اعتقال عقبة وإخفاؤه على يد المخابرات السورية، وبعد بضعة أشهر استشهاد عبيدة برصاص قنّاص أثناء عمله كمسعف في إنقاذ الناس من تحت الركام، تلاه قنص أخي تشرين داخل منزله. كلُّ هذه المآسي حدثت لنا خلال فترة لم تتجاوز العشرة أشهر في العام 2012، لكنها لم تنتهِ. في منتصف 2014 تم إخفاء أصغر إخوتي، بشار، على يد تنظيم داعش حين دخل التنظيم إلى مدينتي، دير الزور، ولم نعرف مصيره حتى اليوم.

ترك أخوتي وراءهم عائلةً كبيرة، زوجاتٍ وأطفالاً وأباً وأمّاً. لم يكن لدينا أي خيار آخر عدا الرحيل عن منازلنا، وتَرْك كل ما نملك خلفنا.

بعد لجوئي إلى تركيا، عرفتُ مصير أخي عقبة من خلال التعرّف عليه بين صور آلاف المعتقلين المُعذَّبين، التي سرّبها قيصر المنشق عن النظام في آذار (مارس) 2015. ما حدث لعائلتي كان من الممكن تجنّبه لو أننا عرفنا مصير عقبة لحظة وفاته. كان من الممكن أن نهرب، لكننا بقينا في سوريا منتظرين خروجه، في حين أظهرت الصورة التي سرَّبها قيصر أنه توفى قبل موت عبيدة وتشرين وقبل اختطاف بشار. ما حدث قد حدث، ما يهمّ الآن أننا يجب ألّا نتأخر أكثر في مساعدة أُسرٍ أخرى على تجنّب مصير مشابه لما حدث لعائلتي.

بدأتُ رحلتي سعياً نحو العدالة. ساهمتُ مع مجموعة من العائلات التي عانت مثل عائلتي في تأسيس رابطة عائلات قيصر، التي ما لبثت أن انخرطت في عمل جماعي مع روابط أخرى للناجين وضحايا الإخفاء القسري وأُسرهم في سوريا. ومعاً، قُمنا بإطلاق ميثاق الحقيقة والعدالة، الذي فرَّقَ بين عدالةٍ قريبة المدى تستوجب إجراءات عاجلة وفورية، وعدالةٍ بعيدة المدى. ولأن الكشف عن مصير المفقودين أولوية قصوى لنا كأهالٍ للضحايا، أطلقنا دراسة حول إمكانية إيجاد آلية دولية، هدفها كشف مصير عشرات الآلاف من المغيبين قسراً والمفقودين في سوريا.

في المُطالبات التي وجهناها إلى المجتمع الدولي، اقترحنا أن تكون المؤسسة دولية لاعتبارات عملية وقانونية، فمسألة معالجة مشكلة الإخفاء القسري مسؤوليةٌ أصيلة وأساسية ومستمرة من مسؤوليات أيّة دولة، كما تُعتبر وبشكل أساسي من مسؤوليات المجتمع الدولي حسب الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، وإضافة إلى ذلك، يُعتبر الإخفاء القسري جريمةٌ ضد القوانين الدولية.

إن عملية كشف المصير ستكون عمليةً طويلة الأمد ومعقّدة، خاصةً في ظروف استخدام المنتهكين وسائل متقدّمة لإخفاء آثار جرائمهم، وتدمير جثث المَخفيين قسراً وتعقيد عملية البحث عنهم؛ مثل حرق الجثامين، واستخدام الكلس، ورمي الجثامين في الآبار أو الحفر كحفرة الهوتة أو مثل ما حدث في مجزرة التضامن. وهو أمرٌ يستدعي استخدام تقنيات ومنهجيات متعددة في عملية كشف المصير، كما يستدعي تكاتف جميع الجهود المتوفرة من المنظمات والمؤسسات الدولية والمحلية، للمساهمة في هذا العمل تحت إطارٍ موّحد ومظلّةٍ دولية. إن حجم الأزمة وتعقيداتها يجعلان التكفُّل بها مستحيلاً على جهة واحدة فقط، مهما كانت إمكانياتها. ستسمح هذه المؤسسة بتوحيد الجهود الهادفة لكشف المصير في سورية، ومنع تشتتّها وضياع المعلومات المُحصّلة في هذا المجال. 

ومن شأن مركزية المرجعية في الكشف عن مصير المختفين، المساعدة في الحدّ من معاناة أهلهم، الناتجة عن تشتّت وتعدّد الجهات العاملة على هذه القضية، واختلاف منهجياتها ومقارباتها، إذ ستقدّم لهم الآلية نوعاً من المحطة الموحدة.

من جهة أخرى، ونتيجة الحجم الهائل للاستقطاب السياسي في الكارثة السورية، لا بدّ أن تكون الآلية إنسانية. إن استقلالية هذه الآلية واختصاصها العالمي سيوفرّان لها إمكانية كسب الثقة، وجمع الخبرات والموارد على طاولة واحدة ضمن إطار عملٍ واحد، بما في ذلك تنسيق جهود اللاعبين الدوليين ممّن لم ينسّقوا الجهود بشكل كافٍ سابقاً. يسهّل الاختصاص العالمي للآلية عملية مشاركة البيانات معها، ويسمح لها بالتواصل مع جميع السلطات الرسمية وسلطات الأمر الواقع بصفةٍ مستقلة أو رسمية، بهدف التعاون على توفير وجمع معلومات عن المخفيين قسراً للكشف عن مصيرهم.

أسفرت هذه المطالب عن طلبٍ وجّهته الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الأمين العام للمنظّمة، للقيام «بدراسة عن كيفية تعزيز الجهود، بما في ذلك من خلال الآليات والتدابير القائمة، لتوضيح مصير وأماكن وجود المفقودين في الجمهورية العربية السورية، والتعرّف على الرُفات البشرية وتقديم الدعم لأسرهم، بالتشاور مع مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واستناداً إلى توصيات لجنة التحقيق، بمشاركة كاملة ومُجدية للضحايا والناجين وأسرهم، وبالتشاور مع الجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة»، وذلك بحسب الفقرة 64 من قرار الجمعية العامة 76/228 الصادر في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021.

استجابةً للطلب، نشر الأمين العام للأمم المتحدة في 30 آب (أغسطس) 2022 تقريراً دعا فيه إلى «إنشاء مؤسسة جديدة مكرّسة لتوضيح مصير وأماكن وجود الأشخاص الذين يُعتقد بشكل معقول أنهم في عداد المفقودين في سورية، وتقديم الدعم الكافي للضحايا والناجين وعائلات المفقودين». جاء ذلك بناءً على مشاورات مكثّفة قامت بها المفوضية السامية لحقوق الإنسان مع روابط الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وقد أخذت الدراسة، التي وجّه الأمين العام المتحدة طلباً بإجرائها، بعين الاعتبار الطرقَ التي أوجدناها رغم قلّة مواردنا لمساعدة بعض العائلات في كشف مصير ذويها، مثل نظام السوفت وير الذي طوّرناه في رابطة عائلات قيصر ليُطابق الوجوه ويجنّب العائلات ألم البحث ضمن صور قيصر كاملة، أو ما تقوم به رابطة صيدنايا في تحليل وجمع المعلومات من الناجين والمنشقين، ما أدى للكشف عن مصير ما يزيد عن 200 شخص. ونتجت الدراسة بحق عن فهمٍ كافٍ وواضح لكل الصعوبات التي تواجه العائلات، وأكدت على مقاربة مرتكزة على الضحايا. لذا فإننا نجد أن التوصية جاءت كخطوة أساسية للتقدّم في هذه القضية، ورغم إدراكنا أن السياق السياسي لهذه القضية معقّدٌ للغاية، وإدراكنا أيضاً أنه لن يكون هناك حلٌّ سريع، فإننا نرى أن الكيان الدولي الذي أوصى الأمين العام بإنشائه في تقريره يستطيع القيام بالمهام التالية:

– إنشاء فرق دعم قانوني وإداري لزوجات وذوي المختفين قسراً.

– إنشاء أُطُرٍ للتعاون مع الجهات الفاعلة في هذا الملف، خاصةً الجهات التي تمتلك بيانات حول المفقودين.

– استكمال طلبات البحث الموجودة بخصوص المفقودين.

– استقبال وفحص طلبات البحث الجديدة .

– اتخاذ خطوات لتوضيح مصير المفقودين وأماكن تواجدهم من خلال جميع السبل المتاحة.

– تحديد احتياجات عائلات الضحايا والناجين، وتقديم دعم يُراعي المساواة بين الجنسين.

– إنشاء فريق دعم قانوني وإداري لزوجات وذوي المعتقلين تعسّفاً، لتمكينهم من الاستحصال على الوثائق والمستندات الرسمية. وتخصيص برامج لتمكين ذوي الضحايا، وإيلاء اهتمام خاصّ بالتعليم والتعليم المهني، لا سيّما للنساء، لمساعدتهنّ على تجاوز التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالاختفاء.

– إيجاد قنوات تَواصل فعّالة مع عائلات الضحايا والناجين.

إن المنهجية الإنسانية التي طالبنا بها كروابط ضحايا (عائلات وناجين) كانت نتيجة قراءاتنا للسياق السوري وتعقيداته، ورغبة منّا بتشميل كل الضحايا. إن المؤسسة التي نطالب بها يجب أن تكون عابرة للحدود، فلن ننسى السوريين المختفين الذين قد يكون تنظيم داعش نقلهم خارج حدود البلد، كما لن ننسى الفلسطينيين والفلسطينيات من المغيَّبين، ولن ننسى الإيزديات العراقيات اللاتي أخفاهنّ التنظيم في سورية، وجميع الذين غُيِّبوا أو فقدوا داخل سورية مثل الأب باولو دالوليو وغيره.

إنني الابنة الوحيدة بين ستة إخوة شباب أحاطوني بكل الحب الذي لا أستطيع وصفه بكلمات قليلة، وخلال فترة قصيرة خسرت خمسةً منهم، تركوا خلفهم 20 شخصاً جلّهم أطفال ونساء،  حياتهم دُمِّرت. كان من الممكن أن أستسلم لمأساتي، وأجلس مكتوفة اليدين، لكني قرّرت إكراماً لهم أن أناضل من أجل كل العائلات، كي يستطيعوا استكمال حياتهم.

اليوم، نحن مجموعةٌ من روابط الضحايا، نعمل معاً بشكل متقارب ومتناسق، نمثّل صوتنا ونمتلك القدرة على التعبير عن رؤيتنا ومطالبنا، ونحثّ جميع المعنيين والمهتمين على أخذ زمام المبادرة والعمل على الإسراع في تنفيذ توصية الأمين العام للأمم المتحدة، ومستعدون للتواصل معكم والإجابة على جميع الأسئلة التي تطرحونها. ويبقى الأهم أن نُرفق التصريحات بعمل.