هل يمكننا العيش في أكثر من زمان ومكان في الوقت ذاته؟ يبدو السؤال حول الأبعاد المتعددة مرتبطاً بأفلام الخيال العلمي، ولكن ومن منظور فيلم كل شيء في كل مكان في وقتٍ واحدEverything Everywhere All at Once يصبح ذلك ممكناً. هو فيلمٌ كوميدي عبثي، ترشّح لـ11 جائزة أوسكار، وحاز على خمسةٍ منها: أفضل فيلم، أفضل ممثل مساعد لـ كي هوي كوان، أفضل ممثلة مساعدة لـ جايمي لي كرتيز، أفضل ممثلة رئيسية لميشيل يوه.
الانتماء لكل مكان واللا انتماء في الوقت ذاته هو سمةٌ من سمات تجربة المهاجرين والمهاجرات إلى دولٍ وعوالم ذات هويات مختلفة، ويشكل هذا الموضوع محوراً من المحاور التي يعالجها الفيلم. يتحدّى القالب الذي اختاره المخرجان وكاتبا النص دانيال كوان ودانيال شاينرت (يُعرفان معاً باسم دانيلز) الأطر التقليدية، فهو مزيج من عناصر متنوعة تأسر المتابعات والمتابعين بطاقةٍ مندفعة لا يمكن ضبطها.
رأت صحيفة نيويورك تايمز أن الفيلم «دوامةٌ من فوضى الأجناس»، إذ يجمع بين الكوميديا السريالية والخيال العلمي، مع عناصر حركية من أفلام فنون القتال والرسوم المتحركة. لذا يصعب تصنيف هذا الفيلم ضمن فئةٍ محددة، بعض النقاد والمختصات وَضعنه في فئة الفانتازيا الخيالية، ويمكن تصنيفه أيضاً كفيلم كوميدي عن الهجرة والعائلة.
ضمن جدلية تسعى للتنوع في تمثيل الهوية في الميديا، وعلى ضوء الحراك المتنامي للأقليات، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، يأتي الفيلم كنموذج مُلهِم في سياق هذه الجهود.
تروي أحداث الفيلم قصة عائلة من أصول صينية، بشكلٍ خاص قصة السيدة إيفلين كوان، وهي سيدة في منتصف العمر، هاجرت مع زوجها وايموند وانغ قبل عقدين ليُديرا مغسلة في الولايات المتحدة الأميركية. تجد إيفلين نفسها في مواجهة مجموعة من الأحداث التي تعجز عن إيجاد حلول لها، ومنها تدقيق مصلحة الضرائب في حسابات المغسلة. توشك علاقتها الزوجية على الانهيار، مع مطالبة زوجها لها بالتوقيع على أوراق الطلاق. ومما يزيد تعقيد الأمور أن علاقتها بابنتها لا تسير بحسب رغبتها وتميل للتعقيد وعدم التفاهم بينهن، خاصة مع وجود والدها المسن، الذي جاء لحضور حفلة رأس السنة الصينية، والذي ينتمي لجيلٍ مختلفِ الفكر والعادات والتقاليد. وفي حضرة والدها، ترتبك إيفلين لعدم قدرتها على مصارحته بحقيقة جنسانية ابنتها، مدّعية أن حبيبة ابنتها هي مجرد صديقة أمامه.
لا يتم عرض أيٍّ من الأحداث السابقة ضمن حبكةٍ تقليدية، فالقصة عبارة عن انفجار من الصور والعوالم. أثناء وجود إيفلين مع زوجها عند موظفة الضرائب، تتحول الأحداث بشكل جذري، فمع شعور إيفلين بتوتر شديد من الموظفة الصارمة، يعطيها زوجها على نحوٍ مفاجئ جهازاً يحملها لبعد آخر. ليس الزوج هنا ذاته الذي تعرفه إيفلين، رغم عدم تغير شكله، إلا أنه نسخة «ألفا» من ذاته الواقعية.
يخبرها زوجها الألفا، وهما تحت ضغط الفرار من الحراس في مبنى الضرائب، بأن كل خيار تتخذه يخلق عوالم مختلفة عن الخيارات الأخرى، بالتالي بإمكانها الانتقال بين عوالم متعددة على ضوء ما اتخذته من خيارات، والتي تخلق سلسلة من الفضاءات الموازية. يقف عالم إيفلين الألفا، العالم الأساسي، وأبعاده المتعددة تحت تهديد جوبو تاباكي، وهي نسخة الألفا من ابنتها جوي. هذه النسخة التي تخلق دائرة على شكل قطعة خبز بيغل تهدد بابتلاع كل عوالم إيفلين الفضائية.
تبدأ إيفلين مع تتابع أحداث الفيلم بالتنقل بين عوالم وأزمان مختلفة تستعيد فيها أجزاء من الماضي والحاضر والمستقبل، وهي تخوض معارك قتالية مع شخوص مختلفة من واقعها. لكن هذه الشخصيات تظهر بأزياء مبالغ فيها، وبمظهر يشبه ما يرتديه سكان من كواكب أخرى. على شكل لوحات بصرية ساحرة في خيالها وجمالها المبهر، نجوب مع إيفلين في عوالمها الغريبة بسرعة محمومة تعكس مدى الضغط المهووس الذي تعيش تحت وطأته. تكتشف إيفلين في هذه العوالم خيارات أخرى قد اتخذتها وقادتها في تجارب أخرى، ومنها أن تكون مدربة كونغ فو. ومن خلال تقنية القفز بين الكواكب المتعددة وباستخدام فنون القتال المختلفة، تواجه ألفا إيفلين دوامة البغل المجنونة.
يناقش الفيلم مواضيع متعددة، ومنها صراع الأجيال والمنفى والهوية والعائلة والتقدم بالعمر، وتأتي هذه الأفكار ضمن إطارٍ فلسفي وجودي، ورؤية عبثية تتعزز بالخيار الإخراجي غير التقليدي، الذي يفرد مساحة على حجم أكوان مختلفة لتعقيدات أسئلة الهوية.
على خلفية نشاطٍ واسعٍ لأكاديميين-ات وصحافين-ات وناشطين-ات، يزداد الوعي بخلل تمثيل الشخصيات الآسيوية وغيابها عن الأدوار الأساسية ذات الفاعلية على المستوى الإعلامي في الولايات المتحدة، وتحضر هذه المسألة في خيارات الفيلم. هناك تطورات على هذا الصعيد دون شك، ومساعٍ دائمة لرصد هذه التطورات، إلا أن معظم أشكال التمثيل لا تزال تابعة لأفكار مسبقة، ولا تمثل حقيقة قدرة المجتمع الآسيوي الأميركي على تحقيق نجاحات متنوعة في مجالات مختلفة. فغالباً ما يتم تمثيل الرجال الآسيويين كشخصيات ضعيفة أو تملك اختصاصات علمية ومهن تكنولوجية بحيث يبدو صاحبها كمخترع مجنون غريب الأطوار اجتماعياً. كما يندر أن يجد الممثل الآسيوي لنفسه أدواراً ترتبط بالحب وبعلاقات جنسانية، فبحسب الممثل بيتر شينكودا وهو كندي من أصول آسيوية: «لقد ظهرتُ في 60 فيلماً ومشروعاً تلفزيونياً، في أغلب الحالات، لم تعبر شخصيتي عن أية رغبةٍ جنسية أو رومانسية. وفي اثنين فقط من أدواري كان لدى شخصيتي اهتمام بالحب، ومع ذلك، كان هذا الحب في كليهما محكوماً عليه بالفشل».
ليست مفاجأة طبعاً أن النساء الآسيويات يصوَّرن كشخصياتٍ خاضعة جنسياً، شخصيات شديدات الأنوثة وذات طبيعة غامضة تأتي جاذبيتها من التأكيد على كونها غريبة عن السياق الأميركي الذي نشأت فيه، مع وجود استثناءاتٍ مثل شخصية كريستينا (ساندرا أوه) في مسلسل Grey’s Anatomy. لكن في مقابل الأفلام التجارية التي تمثل المجتمع الآسيوي – الأميركي، يأتي فيلم كل شيء في كل مكان في وقتٍ واحد ليرسم صورة مغايرة عن التنميط المعتاد، راصداً تجربة هذه الفئة في كدحها اليومي وفي سعيها لإيجاد مكان على خارطة الهوية الأميركية. على الرغم من عمل إيفلين في مغسلة – وهو خيار قد يبدو في البداية تنميطاً بدوره مع كثرة إظهار الآسيويين كعائلات منغلقة تقوم بإدارة أعمالها الخاصة – ولكنها تمتلك أحلاماً وطموحات ورؤية تظهر غنى شخصيتها وأبعادها. ومع تعقيد سؤال قبول المثلية على مستوى العالم، لا تبدو عائلة إيفلين خارج السياق، مع سعي أفراد العائلة لاستيعاب هذه القضية وفهمها. وتشكل علاقة إيفلين مع كل من والدها وابنتها جسراً تحمل عبره الماضي إلى المستقبل، مع ما يبدو في البداية صراعاً بين قيمٍ متعارضة لأجيالٍ ومجتمعات مختلفة، ويتفكك مع تتالي أحداث الفيلم على المسارات الزمنية المختلفة، واصلاً الرؤية الإنسانية لصناع العمل، والتي تعلي من قيمة التسامح كحلٍ لترميم الصدع الثقافي بين هذه الأجيال والحضارات المختلفة.