ركّزت التغطية الإعلامية لزلزال 6 شباط على تركيا في المرتبة الأولى، ثم على سوريا، وذلك نظراً لعدد الضحايا المرتفع في تركيا مقارنةً بسوريا، وتبعاً للتقسيمات الجغرافية، ما جعلها قاصرةً عن تخصيص عناوينها لسوريين يعيشون على أراضٍ تركيّة رغم عددهم البالغ 1.7 مليون في الولايات المتضررة. قبل هذه الكارثة، كان السوريون يعيشون أوضاعاً قانونية واقتصادية هشّة، ثم ازدادت أحوالهم سوءاً بعدها.
في تركيا، تُطلق تسمية «اللاجئين» على جميع السوريين على نحو مُضلِّل. أما تقنياً، فيُعرَّف السوريون بحسب أوراقهم: 3.7 مليون حملة بطاقة الحماية المؤقتة (كمليك)، نحو 100 ألف من أصحاب الإقامات السياحية، و150 ألفاً من المجنسين. فيما يحمل مليون و700 ألف من السوريين تراخيص عمل. وتُحدِّد نوعية الأوراق مكانة الشخص السوري على سلّم الخوف؛ قدرته على التحرك والحصول على عمل، وإمكانية تعرّضه للترحيل من عدمها، ومعدل ضربات قلبه عند مصادفة رجل شرطة.
بحسب قانون الحماية المؤقتة، يُحظر على السوريين من حملة بطاقة (الكملك) التنقل والسفر إلى ولاياتٍ غير الولايات الصادرة عنها تلك البطاقة دون إذن سفر، وفي حال وجود الأشخاص أو إقامتهم في مدنٍ مغايرة دون استخراج إذن سفر، يتم ترحيلهم إلى مدنهم في المرة الأولى، وإن تكررت المخالفة يتم إيقاف التأمين الصحيّ للأفراد وبالتالي حرمانهم من حق العلاج المجاني، وفي حال تكرارها للمرة الثالثة يجري ترحيلهم خارج البلاد.
هذه الحقوق القاصرة تآكلت أيضاً خلال الأعوام الماضية، وصار ترحيل السوريين حتى وإن كانوا يحملون الأوراق «الصحيحة» أمراً محتملاً. ألقى سياسيون معارضون أتراك خطاباتٍ تحرّض على السوريين، وتعهدت الحكومة بإعادة توطين السوريين في شمالي سوريا، كما تصاعدت وتيرة الاعتداءات بحقهم حتى أودى آخرها بحياة ثلاثة عمالٍ شبّان أُحرقوا وهُم نيام. شهودٌ عيان تحدثوا للجمهورية.نت عن أحوال السوريين في الولايات الجنوبية المنكوبة: عن الحرمان من أبسط الحقوق، وعن التمييز والعنصرية التي يعيشونها بين أنقاض بيوتهم في أنطاكيا ومرعش وأديمان.
حملات تطوعية وأخرى عنصرية
منذ اليوم الأول للزلزال تطوع السوريون للمساعدة، اكتظ الطريق بين اسطنبول وأنطاكيا مروراً بأنقرة بسياراتٍ تحمل لوحاتُها الحرف M (من «مسافر» بالتركية) الذي يميز السيارات الأجنبية، تعود لمئات السوريين والسوريات القادمين من غرب تركيا وشمالها نحو جنوبها محمّلين بالمساعدات وأدوات الحفر. ونشطت مبادراتٌ سورية لا تحصى لإغاثة المنكوبين والتبرع لصالح المتضررين، وشارك مواطنون أتراك فيديوهاتٍ عدّة تشيد بجهود السوريين في أعمال الإغاثة. هذه المبادرات لم تكن على أيّة حال كافية لاحتواء العنصرية المتصاعدة.
«أطلِقوا الرصاص على السوريين في هاتاي!» هتفت مجموعةٌ من مشجعي نادي بشكتاش التركي، وانتشرت حملاتٌ عبر تويتر تدعو إلى عدم مساعدة السوريين ومنح الأفضلية للأتراك في تقديم الخدمات. الخطاب العنصري لم يقتصر على المستوى الشعبي، بل شمل تصريحاتٍ رسمية حكومية؛ رئيس بلدية مرسين أعلن رفضه استقبال السوريين المنكوبين عبر تويتر: «إن مكتب البلدية يقوم بإخلاء السوريين من السكن الجامعي ممّن تم إجلاؤهم من مناطق منكوبة، وسيتم استبدالهم بمواطنين أتراك. رغم طردنا لهم من السكن إلا أنهم يستمرون بالقدوم!». وتقدَّمَ حزبان معارضان في البرلمان التركي بمشروع قرارٍ تم رفضه، يقضي بترحيل اللاجئين السوريين بشكلٍ فوريٍّ من البلاد عقب الزلزال.
في منطقةٍ نائية، تبعد نحو أربع ساعاتٍ عن مرسين، صرخ رجل شرطة: «أنتم سبب الزلزال. أنتم، لم يمت أحدٌ منكم، نحن أهلنا ماتوا جميعهم. وأنتم أحياء. نحن نكرهكم. جميعنا نكرهكم» كما يقول أبو ياسر. كان قد احتُجز لساعاتٍ مع أطفاله وعددٍ من العائلات السورية داخل الحافلة التي أقلتهم من مركز الإيواء، بعد أن طردهم رئيس بلدية مرسين، وغضبت الشرطة حين نجح أحد الشبّان بفتح قفل الحافلة. ستة أيامٍ أمضاها أبو ياسر وعائلته على الطريق بعد نكبة أنطاكيا، ليتم طردهم بعدها من مركز الإيواء في مرسين قبل أن يمضوا فيه ليلةً واحدة، وذلك رغم أن أبو ياسر يحمل الجنسية التركية. تم توزيعهم مع نحو 1500 شخص آخر على باصات النقل، وأرسلوهم خارج المدينة.
يشرح لنا: «كنا 62 شخصاً، معنا عشرون طفلاً بينهم رُضَّع ومرضى، أحدهم مصابٌ بالسرطان، وبيننا عشرةٌ من العائلات الحاصلة على الجنسية التركية. قرابة الساعة 12 والربع بعد منتصف الليل، قالوا إنهم سيرسلوننا إلى مكانٍ أفضل يبعد أقل من ساعة، وسيرسلون زوجتي وطفلي فور وصولهم إلى المركز. بعد 3 ساعاتٍ على الطريق سألنا السائق عن وجهتنا، قال إنه لا يملك أي فكرة، فهو لم ينم منذ ثلاثة أيام ويذهب فقط بالاتجاه الذي قاموا بتحديده له. بعد أربع ساعاتٍ توقف الباص قرب إحدى القرى. خرجت امرأةٌ لاستقبالنا، أخبرتنا أن الرجال بإمكانهم النزول، أما النساء والأطفال فيتعين عليهن النزول في مكانٍ آخر يبعد 15 كلم عن القرية، وحين رفضنا تَرْكَ عائلاتنا، حضرت ثلاث سيارات شرطة وأمرونا بالبقاء في الحافلة حتى العاشرة صباحاً، موعد قدوم القائم مقام. غادر السائق، وتم إقفالها علينا».
لاحقاً، أُرسلت الحافلة إلى مركز الأمنيات التابع للمنطقة، وهناك أخبرهم مدير المركز بأن لديهم خيار العودة بالحافلة إلى القرية أو العثور على مكانٍ بأنفسهم، مُوضِحاً أنهم في حال ذهبوا إلى المرآب فسيستقبلهم أهل القرية بالعصيّ والحجارة، وبالفعل أكَّدَ لهم من ذهبوا بأن أهل القرية تجمعوا هناك ويتحضّرون لضربهم في حال قرروا النزول والمبيت.
في كهرمان مرعش، مركز الزلزال اللعين، تطوَّعَ أبو خالد، وهو أبٌ لستة أطفالٍ من ريف إدلب، لإنقاذ العالقين تحت الانقاض: «كان جيراننا من الأتراك بغاية الطيبة وقدّروا مساعدتنا كثيراً. لم يسأل أحدٌ عن جنسية من يقيمون في الأبنية، استطعنا معاً خلال الأيام الثلاثة الأولى إخراج العشرات من الأشخاص على قيد الحياة». ولكن في اليوم الثالث أطلت العنصرية برأسها من بين الأنقاض: «كنا نبحث مع عناصر الجندرمة لساعاتٍ متواصلة في أحد الأبنية، وحين عدنا من الاستراحة منعونا من الاقتراب. كان لا يزال هناك صوتٌ صادرٌ من البناء، وأخذنا نخبرهم أننا حفرنا الأنفاق تحت الأنقاض ونعرف كيف ندخل ونخرج، لكنهم قالوا: ابتعدوا، السوريين لورا. حاول بعض المواطنين الأتراك إقناعهم بتركنا نعمل وقالوا لهم: هؤلاء كانوا معنا منذ اليوم الأول، قبل مجيئكم أنتم، ولم يتركونا ولا لحظة! لكنهم أصروا: على السوريين الابتعاد، هذه هي التعليمات، هناك تَخوّفٌ من السرقة، وكان هذا أول موقفٍ عنصريّ أتعرضُ له». ثم تكررت الحوادث المماثلة: «كنا نتجه مع أحد الشبّان الأتراك نحو بناءٍ لمساعدة عائلته، وإذا بامرأةٍ تصرخ بنا: سوريون لصوص اذهبوا من هنا. والأمر ذاته واجهتُهُ حين ذهبتُ لشراء الطعام؛ قال لي البائع: سوري لبرا. وفي مركز الإغاثة أثناء التوزيع: السوري لورا، التركي يقرب».
بالنسبة إلى موسى المقيم في إزمير، كانت الأخبار الواردة من الجنوب أشقّ من أن يحتمل الجلوس والانتظار. سافر نحو مرعش برفقة ستةٍ من زملائه الأتراك العاملين في شركة هندسية مع معداتهم لتقديم المساعدة، وهناك انضمَّ إلى فريق الإنقاذ التركي وحصل على رخصةٍ رسمية لسببين؛ الأول كونه يحمل الجنسية التركية والثاني امتلاكه شهادة إسعافاتٍ اولية. انهمكَ موسى باستلام وإيصال التبرعات المالية للمتضررين، وتفصيل الخيام وإرسالها وتأمين الأدوية، والعمل يومياً على انتشال العالقين والبحث عن أشخاصٍ فُقد الاتصال معهم في مرعش عبر قائمة أسماءٍ زوده بها سوريون، وكذلك نشر أسماء الأشخاص الذين تم العثور عليهم على فيسبوك. عن منع السوريين من المشاركة في الإنقاذ علّق بقوله: «إن إبعاد السوريين عن مواقع العمل قد لا يعود بالضرورة لأسبابٍ عنصرية، بل قد يعود إلى التخوف من التسبب بكسورٍ أو حوادث لعدم توفر المهارات الكافية. شهدتُ بنفسي حالاتٍ مماثلة». ولدى سؤاله عمّا إذا كان من الصعب تعليم المتطوعين أساسيات ومحاذير انتشال العالقين؟ أجاب «لا ليس صعباً». ولدى سؤاله عمّا إذا كان بالإمكان تَعلُّمها خلال أقل من يوم؟ أجاب «نعم من الممكن». ولدى سؤاله عمّا إذا كان تدخل السوريين بعمليات الإنقاذ قد أحدث فارقاً في الأرواح الناجية، أجاب: بالتأكيد! وحين سألته إن كان بإمكاني استخدام اسمه الحقيقي في المادة رغم «طبيعتها»؟ قال٬ «إن الحديث عن هذا الأمر يستحق المخاطرة».
طوال عشرة أيام، تطوعت دعاء محمد، صحفية سورية، للعمل كمترجمة بين الأهالي وفرق الإنقاذ التركية. عن العنصرية قالت لنا: «كانت عائلتي بكركخان بهاتاي واضطروا لترك المنزل بسبب تضرر البناء في اليوم الأول للزلزال، وكان الوضع صعباً حينها. أتت سيارة إلى الحي لتوزيع الطعام فذهبت والدتي والأطفال إليها. قالوا لهم: أنتم سوريون، الطعام فقط للأتراك». أما في أنطاكيا فتقول دعاء: «كان الشبّان خائفين في أنطاكيا من التعرض للضرب والاتهام بالسرقة في الوقت الذي يبحثون فيه عن أقاربهم، كنت أتحدث إلى رجل بعينين مزرقّتين وأنفٍ مضمد، كان وجهه بحالةٍ سيئة جداً، اعتقدتُ أنه كان تحت الأنقاض، لكن تبين أنه تعرض للضرب بوحشية من قبل الجندرمة بينما كان ينتظر إخراج طفليه العالقين تحت الأنقاض، بعد أن اتهموه بالسرقة».
حرمان من المساعدات
تدّفقت المساعدات الدولية المادية والعينية بشكلٍ كبير إلى تركيا، من جميع الدول بلا استثناء، وعلى رأسها دولٌ عربية، لكن لم يصل السوريين منها سوى القليل. تشرف هيئة الإغاثة التركية (IHH) وآفاد (AFAD) على توزيع المساعدات الإغاثية وعمليات الإنقاذ والإيواء بشكلٍ كامل، وترفض التدخل من أيّ جهة. لا يوجد من يدعم السوريين المنكوبين في تركيا بشكلٍ رسمي، وبحسب بيانٍ صادرٍ عن المركز السوري للعدالة والمساءلة، فإن «الاستجابة التي تتطبّع بالتفرقة والتمييز في توزيع المساعدات، كما عليه الحال الآن، إنما تدفع بأشد المستضعفين في تركيا شيئاً فشيئاً إلى شفا الهاوية».
ميلاد الشهابي، صحفيٌّ سوري من حلب أمضى الأيام العشرة الأولى متنقلاً بالسيارة بين الولايات الجنوبية المنكوبة مع صحفيين آخرين، روى لنا كيف تصاعدت وازدادت حالات التمييز والعنصرية يوماً تلو الآخر بعد أن كانت غائبة في الأيام الثلاثة الأولى. في مرعش يقول ميلاد: «صادفنا عائلةً إدلبية لديها 20 شخصاً عالقاً تحت الأنقاض، يتوزعون في ثلاثة أبنية مهدمة، كانوا نحو 100 شخص بعد أن أتى أقاربهم وأصدقاؤهم للمساعدة. أثناء عملهم بالحفر ورفع الأنقاض بدأت المشاكل مع الفرق التركية، بدايةً حاولوا إبعادهم ومنعهم من استخراج الناس ومن العمل، لكنهم لم يصغوا واستمروا بالحفر، عادوا بعدها ليطلبوا استعارة معداتهم، أخذوا مقص الحديد ولم يعيدوه، أين المقص؟ يقولون لهم فقدناه، ثم عادوا واستعاروا الرفش، أين الرفش يا شباب؟ أيضاً يقولون ضاع، وهكذا. على إثرها نشب شجارٌ كبيرٌ بينهم وضربوا بعضهم فوق الأنقاض».
هذه العائلة السورية بمعداتها، رغم هذه المعوقات ورغم محاولات الفرق التركية منعها، استطاعت إخراج خمسة أشخاصٍ أحياء من أصل 15 شخصاً. أما في أديمان، كان السوريون الذين صادفهم ميلاد محرومين من الاحتياجات الأساسية في الكارثة، يشرح: «في أديمان كان الوضع سيئاً جداً، سوريون في اليوم الثامن في العراء، ليس لديهم خيم ولا خدمات، كلما طلبوا خيمةً يقولون لهم اذهبوا للولاية، وفي الولاية يقولون لهم اذهبوا للقائم مقام، وعند القائم مقام يقولون لهم اذهبوا الى المختار، وهكذا كل جهةٍ ترسلهم لمكانٍ آخر». سوء المعاملة لم يتوقف عند هذا الحد، يقول ميلاد: «أثناء التصوير في الحديقة رأينا عنصراً من الجندرمة وبرفقته أشخاصٌ من منظمة لا أعرف اسمها يقومون بتوزيع الحطب على السوريين، وبعد ذهاب الجهة الداعمة عادوا للخيم وأخذوا يصادرون أكياس الحطب منها». يعلق ميلاد: «رأينا الناس يتعرضون للإهانة أمامنا ولا يمكننا فعل شيء لأن البلد اليوم بحالة طوارئ»، ووفقاً له: «يمكن أن ينزعج منك الشرطي أو عنصر الجندرمة فيختلق أيّ سبب لطردك من المكان أو اعتقالك».
وبدون حالة طوارئ، سبق وأن رحّلت السلطات التركية لاجئين سوريين لأسبابٍ أبسط من ذلك، على سبيل المثال؛ بسبب تناول الموز على تيكتوك، مخالفة سير، أو دهس حيوان من غير قصد، أو بسبب أيّة مشكلة قد تتعرض لها وتؤدي بك للقضاء، إذ سيتم ترحيلك في نهاية المطاف. ووقفاً لهيومن رايتس ووتش، تم ترحيل مئات السوريين إلى بلادهم بالإكراه بين شباط وتموز 2022.
تعقيدات قانونية
التحدي الأصعب الذي واجه السوريين أثناء وعقب الكارثة؛ ولازال، هو عدم معرفتهم بالقوانين وصعوبة الحصول على معلوماتٍ صحيحة. منذ الأيام الأولى أنشأ السوريون مجموعاتٍ على واتساب وانستغرام للتثبت من الأخبار، في حين عمل صحفيون وصحفيات على التواصل يومياً مع اللجنة السورية التركية المشتركة المختصة بمتابعة شؤون اللاجئين في تركيا للضغط على دائرة الهجرة بهدف إصدار تعليماتٍ واضحة تخص السوريين خلال الكارثة. ومن بينهم ديما السيد، صحفيةٌ سورية مقيمة في اسطنبول، شرحت للجمهورية.نت التعقيد القانوني الحالي: «المشكلة مع القوانين في تركيا أنها لا تصدر ضمن لوائح تنفيذية ولا يتم تعميم القرار كما كان الحال في سوريا، لهذا نواجه كسوريين صعوبةً بالغةً في القرارات التي تصدر حالياً لأنها لا تعمم فوراً، وهذا الأمر يساهم كثيراً بانتشار الشائعات والأخبار غير الصحيحة، ويترك الأمر للموظف ومزاجه.
واحدٌ من الأمثلة هو قرار إلغاء إذن السفر، إذ كانت إدارة الهجرة قد أبلغت اللجنة السورية التركية المشتركة بإلغائه بشكل مباشر، لكن حين بدأ الناس بالتوافد للمطار تم منعهم من قبل الموظفين بحجة أن القرار لم يصلهم بعد، وذلك بسبب عدم تعميمه ونشره من قبل إدارة الهجرة، لذلك عدنا للتواصل مع اللجنة من أجل تعميمه». تقول ديما: «لم نتوقع أصلاً أن يكون هناك حاجة، لم نتوقع أنهم سيقومون بتطبيق قانون إداري في حالةٍ كهذه! نحن في خضمّ كارثةٍ بهذا الحجم! توقعنا أن يرأف الموظفون بحالنا، موقفٌ بشعٌ جداً، بيتك مدمر والأرض اهتزت بك، وهم يريدون تطبيق القانون؟».
عن التمييز والعنصرية تقول ديما: «تحدثنا مع اللجنة وإدارة الهجرة حول ما حدث، لكن لا يوجد أي تجاوب أو تقدم بعد، دائماً نتلقى ردوداً تطالبنا بتحمل مسؤولياتنا بهذا الشأن. يقولون أخفضوا أصواتكم، افعلوا هذا، تعلموا التركية، وهكذا. هناك أريحية بالحديث عن هذه الأمور مع إدارة الهجرة لكن دون فائدة».
رغم الجهد الذي بَذَلَته ديما وأصدقاؤها من أجل تعميم قرار إلغاء إذن السفر، لازال السوريون يُمنَعون من استخدام الطائرات بحجته. اضطرت عائلة «خالد» للبقاء مدة يومين في مطار غازي عنتاب قبل أن يتمكنوا من الصعود إلى الطائرة والقدوم إلى اسطنبول. يقول للجمهورية.نت: «في المطار طلب موظفو شركة الطيران من عائلتي إحضار إذن سفر حتى يتم إجراء الحجز، وبعد يومٍ كاملٍ من طلب إذن السفر عبر تطبيق الآي-دولت لم يكن هناك رد، لذا توجهوا إلى إدارة الهجرة للاستفسار عنه، قالوا لهم؛ لا يوجد إذن سفر، قال لهم شقيقي ماذا لو حدث زلزال مجدداً ومتنا هنا؟ فأجابه الموظف: هذا ليس شأني. عادوا إلى المطار وتحدث شقيقي معهم بالتركية، وطلب منهم السماح لوالديّ الكبيرين في السن وطفل عمره ستة أشهر بالذهاب جواً فقط. وبالفعل، تعاطف معه الموظفون ومنحوه البوردينغ. على باب الطائرة قال لهم موظفٌ آخر إن أولوية الصعود للأتراك ومنعهم من الصعود، في هذه الأثناء كان شقيقي يستمر بسؤالهم مع كل رحلةٍ جديدة: لماذا لا تسمحون لنا بالصعود؟ يجيبونه إنهم بحاجة إلى إذن السفر، وحين يقولون لهم أن القرار معلّق، يكون الجواب (خلي يلي علّق القرار يجي يطالعك). مع كل رحلةٍ يقولون: انتظر الرحلة التالية، وبعد استعطاف كل من في المطار سُمح لهم أخيراً بالصعود، وعلى باب الطائرة قال البوليس لموظف الهجرة: لماذا تسمح لهم بالصعود؟ على مسؤوليتك؟ فقال له شقيقي لماذا لا يسمح لي بالصعود؟ ولماذا تقول على مسؤوليتك، فأجابه: وبلكي رحتوا فجرتوا باسطنبول؟ من سيتحمل المسؤولية ؟ تخيلي، هكذا يتحدث إلى طفلٍ في السادسة عشر!».
العودة «الطوعية»
غياب الدعم الرسمي والتمييز والمعاملة العنصرية دفعت الآلاف من العائلات السورية المنكوبة للعودة إلى سوريا. بعد الزلزال أكدت الرئاسة التركية عزمها تعويض كل المتضررين، بالمنازل والسيارات والأعمال الزراعية والصناعية والخدمية، وذلك خلال ثلاثين يوماً من تقدير الأضرار، في حين لم يصدر تصريحٌ من أي جهةٍ حول استجابةٍ مماثلة تخص السوريين المتضررين، ولا استجابة تحميهم من موجة العنصرية المتصاعدة والاعتداءات المتكررة التي يتعرضون لها. «وائل» صحفيٌّ سوريٌّ مقيمٌ في ولاية إزمير قال للجمهورية.نت: «إن إعلان الإجازة إلى سوريا بشكلٍ مفاجئ هو تملصٌ واضحٌ وصريح من قبل الحكومة التركية من مسؤوليتها تجاه اللاجئين المتضررين من الزلزال. هؤلاء ينبغي أن يبقوا هنا وأن تتم إغاثتهم هنا، لا أن يتم إرسالهم إلى الشمال، إلى منطقةٍ منكوبةٍ أصلاً».
وسمحت المعابر الحدودية للسوريين من سكان الولايات المنكوبة بالتوجه نحو سوريا دون أن يُعتبر ذلك «عودة طوعية» بل «إجازة»، أي أنه ليس على المغادرين تسليم الكمليك لفترة لا تقل عن شهر ولا تزيد عن ستة أشهر، دون أن يفقدوا حقهم بالعودة الى تركيا إلا في حال تخلفوا عن العودة في الفترة المقررة. أثار هذا القرار لغطاً كبيراً، وحذّرت اللجنة السورية المشتركة بدورها مَن يعتزمون الذهاب إلى سوريا من منعهم من العودة إلى تركيا بسبب اختلاف التعليمات والمدة الزمنية والولايات المشمولة من معبرٍ لآخر، خاصةً مع إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار «العودة الطوعية» لما يزيد عن 40 ألف سوري. يضيف وائل: «حتى لو افترضنا أنها بالفعل إجازة، وليست عودةً طوعية، من يضمن عودة السوريين بعد 3 أو 6 أشهر؟ من يضمن ألّا يتبدل الواقع السياسي في تركيا في فترةٍ كهذه؟ ماذا عن إعادة الإعمار، كيف يثبتون ملكياتهم؟ البلاد في حالة طوارئ وانتخاباتٍ مقبلة، هذا ليس وضعاً مناسباً على الإطلاق لدفع السوريين لمغامرةٍ من هذا النوع».
اتفاقية الهجرة 2016
خلال الأعوام الماضية، خرج الرئيس التركي مهدداً أوروبا باللاجئين السوريين أكثر من مرة، لذا لا يجوز فصل الحديث عن الوضع الحالي للسوريين في تركيا عن السياق الدولي و«التمويل» الذي جعل كل هذه العنصرية ممكنة. اتفاقية الهجرة 2016 التي وقّعها الاتحاد الأوروبي مع تركيا، وبموجبها تعهدت تركيا بمنع السوريين من القدوم إلى أوروبا مقابل الدعم المادي الذي تقدمه دول الاتحاد لتركيا. «السوري لورا»، العبارة ذاتها التي سمعها الناس أمام أنقاض بيوتهم رددها الاتحاد الأوروبي قبل سنوات بموجب اتفاقيةٍ عنصرية أعادت ترتيب حياتهم بوصفهم وحوشاً ينبغي إبعادهم بأي ثمن عن قلعة أوروبا، دون أن يكون لهم رأي أو معرفة بما سيحدث تالياً.
بعد الاتفاقية، أُغلقت المعابر بشكلٍ نهائي بين سوريا وتركيا. وازدادت «حوادث» الضرب وإطلاق الرصاص على الحدود، وحملات الاعتقال العشوائية، وأُجبر سوريون على توقيع أوراق العودة الطوعية تحت الضرب والتهديد في مراكز الترحيل التي مولَّها الاتحاد الأوروبي بسخاء منذ عام 2016، وامتدت العنصرية من الحدود لتصل مراكز المدن، ولم يُصغ أحدٌ للمناشدات الحقوقية العديدة. لا ينبغي أن يستمر هذا، نحن لا نعلم ما الذي ينتظرنا في الأيام أو الأشهر القادمة، هناك من فقدوا أوراقهم الثبوتية، هناك عائلاتٌ تفرقت أثناء هذه الكارثة، بات الطفل في مكان، ووالداه في مكان. وهناك من خُطف أطفالهم وباتوا يتعرضون للتهديد وطلب الفدية. ما الذي ينتظرهم؟ هؤلاء ما هو مصيرهم؟ لا أحد يعلم.
هذا الحال، لا يمكن احتواؤه دون تغييرٍ جذريٍّ في القوانين. نحتاج استجابةً خاصة تتلاءم مع احتياجاتنا نحن، مع واقعنا نحن. لا يمكن احتواء الآثار الآنية ولا المديدة للزلزال دون تغييرٍ في القوانين وفي آليات إيصال المساعدات والاستجابة الانسانية، ولا دون حرصٍ وانتباهٍ والتفات للتمييز الذي يحصل. هذا الحال لا يمكن إصلاحه بدفع المزيد من التمويلات الأوروبية لتركيا، فيما نحن على أعتاب الانتخابات الرئاسية ولا نعرف أي مفاجآت تنتظرنا. هذه نكبةٌ سورية على أراضٍ تركية: لن تكون الأموال كافيةً دون تغيير في القوانين، نحن نحتاج إلى حماية.