كانت مدينة جنديرس بريف عفرين إحدى أكثر المدن السورية تأثراً بزلزال السادس من شباط (فبراير) الذي ضرب سوريا وتركيا، ومات فيها قرابة 1100 شخصاً نتيجة تضرّر 1110 أبنية، تهدّم منها بالكامل 278 مبنى معظمها طابقية. في حين أنقذت فرق الدفاع المدني 831 شخصاً من تحت الأنقاض، ونتج عن الزلزال تشرّد أكثر من 4 آلاف عائلة، توزّعَ 3 آلاف منها على 39 مخيماً أُنشئت لهذا الغرض، بينما بقيت 1050 عائلة دون مأوى حتى كتابة هذه السطور، وذلك بحسب تقريرٍ أصدره المجلس المحلي للمدينة.
واعتمدت الاستجابة لتداعيات الزلزال في جنديرس على مدار يومين بعد الكارثة على الفزعة والأعمال التطوعية الكيفية، مع غياب إدارةٍ فاعلةٍ تختصّ بتوجيه المتطوعين وفرق الإنقاذ. وعلى الرغم من الكوارث المتتالية التي شهدتها المنطقة خلال أزيد من 12 عاماً مضت، ظهرت خلال هذين اليومين عشوائية الاستجابة بعد الشلل الذي أصاب مجلس جنديرس المحلي نتيجة نقص الكوادر القادرة على العمل، لِتقتصر على شخصين فقط. أما بقية العناصر، فقد كانوا من بين المنكوبين في عوائلهم ومنازلهم، وذلك بحسب رياض الجاسم، المسؤول في غرفة عمليات إدارة كارثة جنديرس التي أنشئت ثالث أيام الكارثة بمبادرةٍ من بعض النشطاء.
بدأت عمليات الإنقاذ في المدينة أول الأمر بجهود الأهالي وبعض عناصر فرق الدفاع المدني في مركز جنديرس، وباستخدام آليات وبعض المعدات بسيطة. بينما تأخر وصول فرق إنقاذٍ مجهّزة إلى المدينة حتى منتصف اليوم الثاني، وذلك جرّاء انقطاع الكهرباء والإنترنت وشبكات الاتصال التركية. «لم يكن أحدٌ يتصور أن حجم الكارثة في جنديرس بهذا القدر»، هذا ما قاله صالح الجاسم الذي أنشأ بعد ساعاتٍ من الزلزال غرفةً عبر برنامج واتساب بعنوان «مساعدة جنديرس» بغية حشد وتنظيم جهود المتطوعين. وقد أُنشئت هذه الغرفة كمجموعة تطوعية بمحض الصدفة، وتوسّعت لتضم طلبةً جامعيين وموظفين وأطباء وممرضين وغيرهم. يضيف صالح الجاسم: «لم يكن لهذه الغرفة أي ارتباطٍ بالمجلس المحلي، وباتت تهتم بطلب المساعدة وتحديد نقاط الحاجة وحشد المتطوعين وتوجيههم».
ولم تقتصر الغرفة على جنديرس فقط، بل توسعت لاحقاً لتشمل كامل المناطق المتضررة من الزلزال في شمال غربي سوريا بحسب الجاسم، الذي أضاف: «رغم الإيجابيات الكثيرة لهذه الغرفة، إلا إنها تسبّبت في تكرار تقديم المساعدات في نفس النقطة من قبل أكثر من جهةٍ أو منظمة بدلاً من توسيع الاستجابة لتشمل مناطق أوسع».
لاحقاً، وفي اليوم الثالث من الكارثة، أُنشئت غرفة «إدارة عمليات الكارثة» التي ارتبطت بالمجلس المحلي في جنديرس من قبل الناشط علاء أيوب. يقول الأيوب للجمهورية.نت: «كان مُلاحظاً نقص الكوادر في المجلس المحلي وعشوائية عمليات الإنقاذ والإغاثة، لذا تأسّست الغرفة بالتعاون مع المجلس المحلي لتحشد أكثر من أربعين متطوع-ة لإدارة الاستجابة للكارثة». ويتابع الأيوب: «غياب التنظيم وسوء الإدارة منعنا من إنقاذ المزيد من الناس، بالإضافة إلى أنّ عشوائية الأعمال الإغاثية قد حرمَت كُثراً في أيام الكارثة الأولى من الحصول على مستحقاتهم. وبفضل الغرفة، جرى تكليف فريقٍ بعمليات الإحصاء للمباني المتضررة، والكشف على مدى قابليتها للسكن، وإحصاء المخيمات والمتضررين».
يُرجِع رياض الجاسم عدم تنظيم إدارة الكارثة، خاصةً في أيامها الأولى، إلى «تضرّر أعضاء المجلس المحلي من الزلزال، فضلاً عن ضعف إمكانيات المجلس». في حين أرجعها صالح الجاسم إلى «عدم وجود آليات إدارة طوارئ في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، وعدم تسلّم المنظمات الإنسانية زمام المبادرة وإدارة الكارثة بشكلٍ كلي خشية تحمّل المسؤولية، وكذلك نتيجة تنوّع سياسات تلك المنظمات وارتباطها غالباً بسياسات الجهات الداعمة لها».
من جهته، كان لدى عمار العبسي، مدير مكتب منظمة بنفسج في إعزاز، وجهة نظرٍ أخرى حيال سوء إدارة الكارثة: «مشكلتنا تتمثّل بغياب سلطةٍ حقيقيةٍ تشكل رأس الهرم وتكون قادرةً على إدارة المناطق المحررة في العموم والتعامل مع الظروف الطارئة. الحكومة السورية المؤقتة ليس لها حضورٌ على أرض الواقع، ومجالس المحافظات هلامية، رغم أن تشكيل غرفة طوارئ بعد الزلزال كان من المفترض أن يكون منوطاً بها». ويضيف العبسي في هذا الإطار: «من غير المعقول أن تكون منظمةٌ إنسانيةٌ هي التي تقود غرفة إدارة الكارثة».
وشهدت غرفة عمليات إدارة كارثة جنديرس «تبادلاً للاتهامات» بين مسؤولي بعض المنظمات التي اجتمعت في المجلس المحلي، وتركزت الاتهامات حول «محاولة إحدى المنظمات السيطرةَ على القرار في الغرفة بما يخدم تحقيق أهداف ومصالح مشاريعها دوناً عن باقي المنظمات»، وذلك بحسب مصدرٍ حضر الاجتماع وفضّل عدم ذكر اسمه. ويعمل في مدينة جنديرس العديد من المنظمات الإنسانية، أبرزها: بهار وإحسان وشفق وسيريا ريليف ومنظمة أطباء العالم (DDD) وميرسي وسوريا للإغاثة والتنمية (SRD) ومنظمة غول وأُنصر.
ويقول العبسي تعليقاً على الاجتماع الذي جرى في مجلس جنديرس المحلي: «مَن دعا للاجتماع هو مجلس محافظة حلب، ولم يكن لدى مجلس المحافظة ومجلس جنديرس المحلي رؤيةً واضحةً لإدارة الكارثة، مما أدى إلى تنوعٍ كبيرٍ في الآراء. كان اجتماعاً غير منضبط وسادته فوضى عارمة، ولم يخرج بنتيجة». كما نفى العبسي حدوث خلافاتٍ بين المنظمات «لأن الاجتماع كان عبارةً عن فوضى» على حد وصفه.
ومنذ سيطرة الجيش الوطني المدعوم تركياً على مدينة جنديرس، ارتبطت إدارة أيّة كارثةٍ في المنطقة، بشكلٍ رئيسيّ، بإدارة الطوارئ والكوارث التركية (آفاد)، والتي غابت كلياً أثناء الاستجابة لكارثة الزلزال نتيجة انشغالها بأعمال الإنقاذ في تركيا. ويصف الناشط المدني جميل صالح (فضّل استخدام اسمٍ مستعار لأسباب أمنية) عملَ آفاد بالعموم بـ«البيروقراطي والبطيء». وتدير آفاد عموم المخيمات في عفرين وريفها، وخاصةً مخيمات دير بلوط والمحمدية اللذين يتواجد فيهما قرابة 1500 عائلةٍ مهجرةٍ من دمشق وريفها وحماة، لكنها غابت تماماً عن المنطقة بعد الزلزال، واقتصر مجمل الحضور التركي في المنطقة على بعض الزيارة التي تلت الزلزال بأيامٍ لضباط ومسؤولين رافقهم فيها قادة فصائل في الجيش الوطني مثل محمد الجاسم (أبو عمشة) وسيف أبو بكر.
«ارتباط هذه المنطقة المباشر بالجانب التركي وآفاد منعَ من إنشاء إدارة كوارث حقيقية في المنطقة، فالأوامر يجب أن تأتي من الأتراك» يقول جميل صالح. كما يرى الناشط المدني أن «لدى الدفاع المدني القدرة على قيادة العمليات الطارئة، إلا أن إمكانياته محدودة أمام ما يحصل من كوارث في الشمال السوري. كما أن استعداد المنظمات الأخرى للعمل تحت مظلتها محدودٌ بتوافق ذلك مع سياسات كلّ منظمةٍ وأهدافها».
في المقابلات التي أجريناها، غابت الإشارة إلى أيّ دورٍ قامت به الحكومة السورية المؤقتة والائتلاف الوطني السوري كلياً، كما لم تكن الجهات المحلية التابعة لها على قدر المسؤولية. يعلِّق على ذلك نائب رئيس مجلس جنديرس المحلي، يزن الناصر، بالقول: «تُقدّم المجالس المحلية الخدمات التقليدية المتمثّلة في النظافة والمياه وتنظيم السجلات المدنية والإغاثية، وهي تعمل بموارد محدودة. لذا لا يملك المجلس المحلي الإمكانيات اللازمة لإدارة كارثةٍ بحجم ما شهدته جنديرس، وقد تسبّب الضرر الذي لحق بأعضاء المجلس وإصابة بعضهم أو وفاته نتيجة الزلزال فراغاً كبيراً حاولنا تغطيته من خلال متطوعين ضمن غرفة عمليات إدارة الكارثة في جنديرس».
وبخلاف غياب الحكومة المؤقتة، ظهرت حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام في جنديرس بعد يومين من الزلزال، وانتشرت آلياتٌ ثقيلةٌ تتبع لها في المنطقة، رغم أنها لا تقع تحت سيطرتها من الناحية النظرية، وإنما تديرها المجالس المحلية التي تنسّق مباشرةً مع الجانب التركي، وفي كثيرٍ من الأحيان دون المرور بالحكومة المؤقتة التي تتبع لها رسمياً. كما انتشرت صور لزعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني وهو يجري زيارةً للمدينة «ليُعاين آثار الزلزال»، زاعماً أنه أرسل إليها أكثر من 30 آلية ثقيلة لتشارك في عمليات إنقاذ وانتشال الضحايا.
ويشير معظم الذين التقيناهم إلى أنّ تشتت المتطوعين والجهات العاملة على تقديم الدعم للمتضررين، ودون توجيهٍ صحيحٍ من قبل إدارةٍ فاعلةٍ للكارثة، جعل ذلك الدعم يبدو أقل فاعليةً، فضلاً عن قلة هذا الدعم أساساً عند مقارنته بحجم الكارثة في المدينة.