«حقائب مدرسية، دفاتر وكرّاسات، وأكياس مونة؛ كلها أو ما تبقى منها يدل على الحياة التي كانت هنا البارحة. أَسيرُ بين الركام باكياً، متتبعاً صوتاً ينبئ بحياةٍ قد تُزهق بعد قليلٍ تحت الأنقاض، فانقضاء الزمن لا يعني إلا مزيداً من الموت»، هذا ما قاله عبد الرحمن (اسم مستعار) الذي يعمل في إحدى منظمات المجتمع المدني في مدينة سرمدا. 

بعد الزلزال الُمدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا، حاول عبد الرحمن كغيره من أبناء المدينة إنقاذ العالقين تحت الركام بكل ما أوتي من قوة. أما سرمدا، فهي مدينةٌ صغيرةٌ تابعةٌ لناحية الدانا، وتعتبر سوقاً رئيسياً لقربها من معبر باب الهوى، وقد تضاعفَ عددُ سكانها بشكلٍ كبير بسبب النزوح إليها من مناطق قريبة أو حتى من محافظاتٍ أخرى. ولذلك يحيط بها عددٌ كبيرٌ من المخيمات التي آوت هؤلاء النازحين. 

نالت سرمدا نصيبها من الدمار الذي خلّفه الزلزال بشرياً ومادياً، وانهارت فيها بعض المباني بالكامل، وتأذّت مبانٍ أخرى، واقتصرَ الضرر على تصدعاتٍ وأضرارٍ طفيفة بحاجة إلى صيانة في القسم الأعظم من المدينة.

بحسب تقريرٍ تقييمي مبدئي للأضرار في مدينة سرمدا، حصلت عليه الجمهورية.نت من مصادر محلية، قالت وزارة الإدارة المحلية والخدمات في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام التي تسيطر على المنطقة إن الأضرار تركّزت بشكلٍ أساسي في القسم الجنوبي من المدينة، وذلك بسبب محاذاته لمسيلٍ مائي تجري فيه خطوط الصرف الصحي ومياه الأمطار، وقد تفاقم الوضع بسبب العاصفة الأخيرة التي ضربت المنطقة مشكّلةً مستنقعاتٍ مائية كثيرة قرب المباني السكنية. وبالتالي فإن جميع الأبنية التي انهارت بشكلٍ كاملٍ تتموضع في تلك البقعة، وهي التي قضى فيها أكبر عددٍ من الضحايا. وكذلك انهارت أبنيةٌ أخرى تقع على مسار المسيل المائي بشكلٍ جزئي، وينبغي إزالتها فوراً لأنها آيلةٌ للسقوط وتشكّل خطراً على المباني القريبة منها.

بدوره، وثَّقَ مكتب تنسيق المساعدات في شمال غرب سوريا حتى الثلاثاء 21 شباط (فبراير) نحو 66 ضحيةً في سرمدا، وبلغت الإصابات 990 إصابة، كما أشار المكتب إلى تهدّم اثنين من المرافق الصحية.

وبحسب متطوعٍ في الدفاع المدني تحدّثَ إلى الجمهورية.نت: بلغ عدد المباني التي انهارت بشكلٍ كلي نحو 15 مبنى، ومعظم هذه الأبنية تقع في التجمع السكني الواقع على المسيل المائي في أرضٍ غير صالحة للبناء أصلاً أو بالقرب منه، غير أن عملية البناء غالباً ما تمت بطرقٍ ملتوية رغم التحذيرات، وذلك بحسب شهاداتٍ حصلنا عليها من بعض سكان سرمدا ممّن تحدثنا إليهم. فيما قدّر المتطوّع عدد المباني المتضررة بشكلٍ جزئي في المدينة بنحو 43 مبنى.

ويقول العامل المدني عبد الرحمن: «كان حجم الدمار وامتداده مرعباً، معيقاً قدرة أفراد الدفاع المدني على إنقاذ الجميع». أثناء عمليات الإنقاذ، حاول المدنيون المشاركة وتقسّموا فرقاً، بعضها للبحث عن ناجين مُحتملين، وبعضها ساهم في عمليات الانتشال. يعلّق عبد الرحمن: «على الرغم من أعدادهم الكبيرة لم يستطيعوا إزاحة حجر واحد، إذ غالباً ما واجهوا كتلاً كبيرةً من الأنقاض متراكمةً بعضها فوق بعض ويستحيل رفعها إلا بآليات ثقيلة». ويذكر حادثةً مؤلمة، وهي سماعهم صوت رجلٍ من تحت الأبنية المتهدمة، فتجمعوا آنذاك وحاولوا رفع الأنقاض بأيديهم دون جدوى، إلى أن جلب أحد العاملين في الإنشاءات الهندسية تركس يملكه للمساعدة في إنقاذ الرجل، ولكنّه كان قد فارق الحياة. 

البحث عن استجابة

يقول الصحفي محمد جلال المقيم في سرمدا في مقابلةٍ أجريناها معه: «كان المشهد مهولاً في الساعات الأولى، واضطُرت بعض العائلات التي استطاعت النجاة إلى النزوح نحو أماكن أقل تضرراً عند بعض الأقارب والأصدقاء. كما أنّ قسماً كبيراً من العوائل تشرّد وذهب للإقامة في مراكز إيواء مؤقتة وسط المدينة، مثل الحديقة العامة ومستودعٍ كان يُستخدم سابقاً لتخزين الأعلاف».

وبحسب بيانٍ صادرٍ عن حكومة الإنقاذ، تركّزت مراكز الإيواء في «الكمونة»، وهي تجمعاتٌ ملاصقةٌ لمدينة سرمدا فيها أعدادٌ كبيرةٌ من المخيمات. وضمّت هذه المنطقة ثلاثة مراكز إيواء، هي «ملحق الخيرات» و«مخيم وقف الديانة» و«تجمع اسطنبول»، كما تم استخدام بعض البيوت الإسمنتية الجاهزة.

في السياق ذاته، يخبرنا محمد جلال أنه بعد إدراك الحاجة إلى استجابةٍ إغاثيةٍ طارئة للكارثة، بدأت منظماتٌ محليةٌ باستخدام المخزون المخصص للنازحين المقيمين في سرمدا قبل الزلزال، والموجود في مستودعات المنظمات بالداخل، والذي يعاني أصلاً من النقص، وبدأت عملية توزيع وجباتٍ غذائيةٍ ومواد تدفئة، فضلاً عن بعض مستلزمات الإيواء مثل الفرش والأغطية.

وقدّمت منظمات مثل people in need مساعداتٍ نقدية بقيمة 150 دولار أميركي لـ1200 عائلة من المتضررين في كل من سرمدا والأتارب، كما شاركت منظماتٌ مثل لجنة الإنقاذ الدولية ووطن في الاستجابة الطارئة. وبعد أيامٍ من الكارثة، دخل المجلس المحلي للمدينة والمديرية التابعة لحكومة الإنقاذ في عملية تنظيم المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى المناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع تركيا.

تهدّم مدارس حديثة البناء

يقول العامل المدني عبد الرحمن: «في ساعات الصباح الأولى التي تلت الزلزال، لم يكن لدينا تصوّرٌ واضحٌ عن حجم الكارثة التي ضربت المنطقة بسبب العاصفة وانقطاع الإنترنت والتيار الكهربائي، مما أدى إلى صعوبةٍ في التواصل لمعرفة الأماكن المتضررة». و بحسب جولته على المدارس لاحقاً برفقة المهندسين لتقييم حجم الضرر، يخبرنا أن المدارس التي تضررت حديثةٌ ومبنيةٌ في السنوات الأخيرة بعد التضخم السكاني الكبير في المنطقة بفعل ازدياد أعداد الُمهجّرين إليها من مناطق مختلفة، وجميعها ذات طابق واحد وأغلبها بأسقف مُستعارة. أما القسم الآخر القديم من المدارس فقد كان أكثر متانةً ولم يتأثّر بالهزّات العنيفة للزلزال، لأنها مبنية على أسسٍ هندسية جيدة وذات أقبية للحالات الطارئة.

بلغ عدد المدارس التي تضررت بفعل الزلزال الأول 29 مدرسة، من بينها واحدةٌ هُدمت بشكلٍ كامل، و22 مدرسة تضرّرت بشكلٍ جزئي، فيما حصلت تشققاتٌ بسيطة في ستة مدارس أخرى.

 في الإطار ذاته، يخبرنا أيضاً أنه سيتم استئناف التعليم في سرمدا الأسبوع المقبل، دون أن يُغفل الأثر النفسي على الأطفال الذين اختبروا الكارثة ممن فقدوا أفراداً من عائلاتهم وزملائهم، ويتوقّع تسرّب نسبةٍ كبيرةٍ من الطلاب بسبب التشرد. بالمقابل، يتوقّع توافد بعض الطلاب من مناطق تضررت بشكلٍ هائلٍ مثل جنديرس للتعلّم في سرمدا، موضحاً: «يتوجب علينا الاستعداد لتدفّق دفعاتٍ جديدةٍ من الطلاب قد تأتي من المناطق المنكوبة، وهذا سيخلق تحدياتٍ إضافية في مدارس تعاني أساساً من وجود أعدادٍ كبيرة من الطلبة في الشعب الصفّية. ومن الممكن أن تُستحدَث شعبٌ إضافيةٌ ضمن بعض المدارس وفق الإمكانيات والموارد المتاحة، لكن بالتأكيد لن تتوقف عملية استقبال الطلاب الجدد».

أولويات المرحلة القادمة

 قابلنا المدير التنفيذي في صنّاع الأمل، وهي مؤسسةٌ تنمويةٌ محلية بدأت عملها في الشمال السوري عام 2016، ليطلِعنا على الأوضاع الراهنة والمستقبل القريب لعملهم في المنطقة. أخبرنا أن الأولوية حالياً هي «للتفكير في آليات استجابة سريعة من أجل إعادة النازحين المتضررين من الزلزال والموجودين حالياً في مراكز إيواء، لذلك بدأنا التشبيك مع الفرق الهندسية في منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية لإجراء عملية مسحٍ شاملٍ لجميع المنازل، والقيام بالصيانة والترميم إلى أن تصبح آمنةً وقابلةً للسكن».

في نهاية الحديث أكد مدير المؤسسة على أهمية «ديمومة الاستجابة»، والتي لا ينبغي أن تقتصر على تأمين المواد الإغاثية وتجهيز مراكز إيواء مؤقتة، فالأجدى من ذلك هو «البحث عن حلول مستدامة للمتضررين، وخاصة الذين هُدمت منازلهم بالكامل».

طعم الخذلان

يشعر السوريون حول العالم اليوم بالاستياء واليأس من غياب التدخل الدولي والأممي الفاعل لإنقاذ ضحايا الزلزال، ولا يبدّد هذه المشاعر بشكلٍ مؤقتٍ إلا تلك اللحظات التي يُعلن فيها عن شفاء بعض الإصابات. في حين يظهرُ الخذلان الذي اختبره المنسيون في الشمال السوري جلياً في رغبة بعضهم بعدم الاكتراث للإعلام أو تلبية رغبة الصحفيات والصحفيين في إجراء مقابلات. وأثناء كتابة هذا التقرير، رفض عددٌ من المتضررين-ات في سرمدا مجرد التحدث عمّا عايشوه خلال الأيام الماضية. 

يقول فيصل، من سكان سرمدا: «نزحنا مرتين: الأولى عندما هجّرنا نظام الأسد والغارات الروسية على حي  الوعر في حمص بعد حصارٍ دام أربع سنوات ووصلنا إلى سرمدا؛ والثانية بسبب الزلزال». وتضيف والدته: «استفقنا على الزلزال الأول عندما بدأت النوافذ تهتز بقوة، فهممنا بالخروج، وكلما تقدمنا نحو باب المنزل كانت الجدران تتصدع من خلفنا. عندما نزلنا إلى الشارع عرفتُ من الجيران عن امرأةٍ مسنّةٍ يتجاوز عمرها 75 سنة تجد صعوبةً في الحركة، وهي وحيدةٌ في منزلها. كنت أعلم أني لو تركتها ربما ستُصاب بالأذى، فصعدتُ إلى منزلها وحملتها ونزلت».

تابع فيصل: «وقفنا قبالة المبنى وعيوننا شاخصةٌ إليه، فيما كان البرد ينال من عظامنا، وانهار نصف المبنى أرضاً أمام أعيننا بعد وقتٍ قليل». 

ما تزال عائلة أم فيصل تقيم منذ بداية الكارثة عند بعض الأقارب، وقدّمت لهم إحدى المنظمات مساعدةً نقديةً رمزية وسلةً غذائيةً لمرةٍ واحدة: «بعدنا عم نعيش الحدث وتداعياته. التفكير بالمستقبل القريب شبه معدوم، والهزات الارتدادية ماعم توقف. نحن بمرحلة الخوف من هلق ومن بكرة»، هكذا أنهى فيصل المقابلة.