يتضّحُ حجم الخسارات الإنسانية والاجتماعية التي خلّفها الزلزال الذي ضرب الأراضي السورية والتركية صباح يوم الإثنين، السادس من شباط (فبراير)، مع مرور الساعات والأيام. ومن المتوقع أن نشهد تضاعفاً في أعداد الضحايا، إذ لا تزال جثث عائلاتٍ بأكملها تحت الأنقاض، ولا يزال المصابون بإصاباتٍ جراحيةٍ معقدة يملؤون المستشفيات بانتظار التدخل الجراحي والطبي المناسبيَن. وقد تسبّب الزلزال بأضرار اقتصادية جسيمة، خاصةً في البنى التحتية والإسكان، إذ تُقدّر الأمم المتحدة عدد السوريين المتضررين من الزلزال بشكلٍ مباشر بقرابة 8.8 مليون إنسان.Flash Appeal: Syrian Arab Republic Earthquake (February – May 2023), ReliefWeb, February 14, 2023.

تصيب هذه الكارثة مجتمعاتٍ غير متعافيةٍ بعد من حربٍ طاحنة خلّفت ملايين الجرحى والنازحين من ديارهم إلى داخل وخارج سوريا، بل يصح القول إن غالبية هذه المجتمعات ما زالت تعيش في حالةٍ عسكريةٍ حربيةٍ أمنيةٍ معقّدة، تسيطر على حياة ملايين من السوريين، في كل من سوريا وتركيا، وتقرّرُ تفاصيلها.

في هذا المشهد البالغ التعقيد، تتبارى جميع الجهات المتحاربة في إلقاء المسؤولية على الآخرين، وتستخدم حججاً كثيرة تكرّرت خلال الحرب السورية، في محاولات بائسةٍ لتسجيل نقاط سياسية: الحواجز ونقاط العبور الحدودية، والعقوبات الاقتصادية، وتأخُّرُ استجابة المنظمات الدولية الإنسانية للكارثة (أو حتى إحجامها عن ذلك بشكلٍ كامل لأيام عديدة في الأراضي السورية خارج سيطرة النظام السوري)، وحتى لوم الله والقدر.

كان كثيرٌ من السوريين خارج إطار أي مساعدةٍ وتنسيقٍ إنساني إلى اليوم التاسع كما أوضح د.محمد كتّوب في مقاله في الجمهورية.نت أيضاً، وكأنّ السوريين في الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام السوري على كوكبٍ آخر: لا تشملهم مواد القانون الدولي الإنساني. أما وقد حصل الزلزال، لا بد من أن تتركز الاستجابة على تأمين الاحتياجات الأساسية للبقاء والحفاظ على الحياة والكرامة الإنسانية. ويُعَدُّ التعامل مع جثث الضحايا التي لا تزال تحت الأنقاض -دون إمكانية التأكد من عددها بعد- إحدى أولويات الصحة العامة في مثل هكذا كارثة. جهود الإنقاذ في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تتم حتى الآن على يد فرقٍ محلية تعمل بإمكانياتٍ متواضعة جداً، ودون أية مساعدةٍ  أو عونٍ تقني دولي. إضافةً إلى ذلك، هناك نقصٌ شديدٌ في المواد الضرورية للتعامل مع الجثث، ناهيك عن معدات إزالة الأنقاض، إذ تطالب العديد من الجماعات  والمنظمات المحلية بتوفير أكياسٍ خاصة بالجثث لدفن الضحايا والحفاظ على كرامتهم والحدّ من احتمال انتشار الأوبئة والأمراض. 

يُقدَّر عدد الجرحى في الأراضي السورية إلى الآن بحوالي 15 ألف مصاب حسب تصريحات على مواقع التواصل الاجتماعي من الصفحات الرسمية للدفاع المدني السوري ومكتب الإعلام في وزارة الصحة السورية.: 2300 إصابة حسب وزارة الصحة السورية، وأكثر من 12000 إصابة تم إخلاؤها ونقلها عبر منظمة الدفاع المدني السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري؛ مما لا شك فيه أن هذه الأرقام قابلة للارتفاع ومعها أرقام الوفيات، فقد خلّف الزلزال عشرات الآلاف من الإصابات، غالبيتها معقّدة جراحياً (عصبية – عظمية)، وتتطلب تدخلاتٍ معقدةً وسريعةً لرفع معدلات الناجين والحيلولة دون تطور هذه الاصابات الى إعاقات جسدية ونفسية تزيد العبء طويل الأمد على الناجين-ات، صحياً واجتماعياً. 

وعلى الرغم من الخبرة المتراكمة للعاملين في القطاع الصحي في مجمل المناطق السورية، وذلك جرّاء العمل المديد في منطقة منكوبة بالمعارك والمواجهات العسكرية، فإنّ هذه الخبرات محدودة ومشروطة بتوفّر التمويل والمعدات والوقود. يتم استقبال الإصابات والناجين-ات في المستشفيات، ولكن في ظل هذه الظروف يسارع العاملون إلى اعتماد نظام الفرز الطبي القائم على رفع أولوية الإصابات الأخطر والقابلة للإنقاذ ضمن القدرات المتوفرة، مما قد يؤدي إلى إهمال حالاتٍ تتعلق بأمان وكرامة الأطفال الذين تمّ إخلاؤهم أو إنقاذهم دون أهاليهم وعوائلهم. كذلك، سينعكس التركيز على الإصابات المباشرة حتماً على تهميش صحة النساء الحوامل، والنساء والرجال المصابات والمصابين بأمراض مزمنة، خاصةً أولئك الذين يعيشون دون عائلةٍ أو معيل.

يتجاوب المجتمع المحلي بسرعة رغم محدوديته مع هذه الحالات المتزايدة؛ يعمل فريق ملهم التطوعي في إدلب إلى جانب الأهالي من الناجين الذين تطوعوا لرصد هذه الحالات، ومحاولة إيواء أطفالٍ فقدوا عوائلهم وطلبِ التريّثِ في إخراجهم من المستشفيات بصحبة مَن يطلب أو يدّعي حضانتهم. وقد عمّمت الحكومة التركية بدورها طلباً عاماً بوقف تناقل أسماء وصور الأطفال دون عائلاتهم، إذ بدأت شبكات الاتجار بالأطفال والبشر باختطاف الأطفال من المستشفيات وتجمعات الإخلاء في جنوب البلاد. وعلى الرغم من الحاجة الماسّة لتوحيد جهود البحث وإيواء الأطفال الناجين دون أهاليهم، يتطلب هذا الأمر قدراتٍ على مستوى دولةٍ فاعلةٍ لا تتوافر في سوريا. ومع ذلك، يبذل المجتمع السوري جهداً مضنياً في التعاون على المستوى الجماعي في محاولة تأمين حياة وكرامة هؤلاء الناجين.  

لم تكن المستشفيات والمراكز الصحية شمال غربي سوريا قبل حدوث الزلزال تمتلك القدرة على التعامل مع عدد السكان الموجودين أصلاً؛ سكاناً ونازحين من باقي المناطق السورية. وكان المقتدرون من المرضى السوريين يسافرون ويعبرون الحدود مع تركيا للاستشفاء، أو يعتمدون خدمة صحية محدودة من المنظمات غير الحكومية التي أصبحت محدودة العمل في شمال سوريا خلال السنوات الثلاث السابقة. وليس وضع المستشفيات في مناطق سيطرة النظام السوري بحالٍ أفضل، إذ يعتمد غالبية السوريين على القطاع الطبي الخاص والأهلي، وعلى حوالات خارجية من الأقارب ودعمٍ من المنظمات الدينية والخيرية لتغطية نفقات الطبابة الخاصة والحاجات الدوائية المتزايدة. 

وحيث أن الشبكات القائمة من مخدمين صحيين طبيين ومُجتمعيين ما زالت مفككةً وتعتمد على مصادر تمويل غير ثابتة، تبقى المشاكل البنيوية المتعلقة بالفساد، واعتماد الأولوية العسكرية والأمنية في إدارة الموارد، وحصر الخدمات الطبية في مراكز المدن وللمقتدرين مادياً، عوائقَ أساسية أمام الحصول على الخدمات الصحية الُمنقِذة للحياة. ورغم هشاشتها، فقد أثبتت هذه الشبكات فعاليةً ومرونةً وقُدرةً على الاستجابة تفوق قدراتها المادية بفضل تعاضدٍ وتعاونٍ مجتمعي هائل. ولكن في أعقاب كارثة الزلزال، سيكون من المهم تأمين شبكاتٍ تضمن استمرارية الخدمات الصحية والدوائية للمصابين بالأمراض المزمنة، الذين يعتمدون على التدخل الصحي والدوائي بشكلٍ يومي للحفاظ على حياتهم وصحتهم مثل مرضى السكري والقلب والضغط و… إلخ. كما يمكن الاستثمار في الشبكات الموجودة قبل الزلزال ودعمها نحو التأسيس لخدماتٍ أكثر استقراراً وثباتاً، ما يستدعي الحاجة إلى سياساتٍ على مستوى البلد تُراعي العدالة وحقوق الإنسان في ضمان حياةٍ حرةٍ وكريمة.

الأولويات الحالية

خطر المياه الملوثة 

ومن الأولويات في المرحلة الحالية أيضاً توفير المياه الآمنة للشرب لملايين من المتضررين في كل من الأراضي السورية والتركية. إنّ الخطر الأساسي الذي انتقلنا إليه صحياً في هذه المرحلة من مواجهة الكارثة هو خطر تفشّي الأوبئة والأمراض المعدية من خلال المياه الملوثة. وبالفعل، طالبت الحكومة التركية الناس بعدم شرب مياه الشبكات العامة خوفاً من حدوث أي تصدّعٍ أو ضررٍ في الشبكة، ممّا قد يسبّب تلوثاً في المياه. ويعتمد الناس حالياً مياه الشرب المعبأة، ومع مرور الوقت سيكون تأمين هذه المياه تحدياً كبيراً للسلطات التركية والمنظمات الإنسانية العاملة في الاستجابة على الأرض. أما في سوريا، تفتقر المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري للشبكات العامة لمياه الشرب والاغتسال، وهذا أيضاً ينطبق على مناطق واسعة تقع تحت سيطرة النظام السوري وحلفائه، خاصةً في الريف السوري والمناطق المُستعادة إلى سيطرة جيش النظام والمليشيات التابعة له كما في مناطق واسعة في مدينة وريف حلب. 

تتقاطع مشكلة تأمين المياه الصالحة للشرب مع ضعف البنية التحتية أو دمارها بشكلٍ كامل، ومع الشحّ الكبير في الوقود الأساسي لتشغيل وإيصال المياه المتوفرة، وهذا يشمل وقودَ الطهي والوقود اللازم لتعقيم وغلي المياه، فالبلدُ يعاني من نقصٍ كبير في وقود الطبخ والتدفئة والطاقة الكهربائية. والقلق الأكبر هو انتشار الكوليرا في البلد،Cholera Further Exacerbates Vulnerabilities in Syria, World Health Organization – Regional Office for the Eastern Mediterranean. Accessed February 18, 2023. بسبب تلوث المياه وقلة سُبُل الفحص والتشخيص في المنشآت الصحية. الكوليرا ليست الوحيدة، فإصابات كوفيد 19 لم تتوقف، ولكن عملية إحصاء الإصابات هي التي توقّفت. تحت الظروف المناخية الحالية وغياب المأوى والتدفئة، سوف ترتفع الإصابات بالالتهابات التنفسية، خاصةً بين الأطفال في عمرٍ أقل من خمس سنوات، وبقاءُ هذه الإصابات دون معالجةٍ مناسبة قد يُسبّب تعقيداتٍ مُهدِّدةً للحياة. 

الغذاء والمأوى الآمن

توفير الغذاء وتأمين الوصول إلى المواد الغذائية الأساسية لملايين من المتضررين بالكارثة هو أيضاً من أولويات الاستجابة العاجلة، ويجب أن يشمل ذلك النازحين المتكررين والعوائل والأفراد المفتقدين للدخل الاقتصادي الثابت، وكذلك كثيرين من الذين لَحقت بهم خساراتٌ بفعل الكارثة والصدمة التي ضربت الاقتصاد؛ أي من الأعمال الجديدة والمؤقتة التي تم تأمينها رغم ظروف الحرب التي سادت قبل الزلزال. تُقدِّر الأمم المتحدة معدلات الفقر في سوريا عند 90 بالمئة من السكان، وقدَّرَت أن أكثر من 9 ملايين شخص بحاجة للمساعدات الإنسانية في 2022. إن نتائج الحرب المدمرة على الإنتاج الزراعي، والقدرة الشرائية للعوائل السورية، والاقتصاد المتهالك، ومنع مرور الأغذية والمساعدات الإنسانية، كانت أسباباً أساسية وراء انتشار الجوع والافتقار للغذاء في الأراضي السورية. والأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً بالجوع، إذ تزايدت معدلات سوء التغذية 150 بالمئة خلال العام 2022 في شمال سورياNorth east syria; child malnutrition increases over 150 amid worsening hunger crisis, Save the Children. المتضرر الآن من الزلزال.

كذلك، لا يزال من غير الواضح إذا ما كان الزلزال قد تسبب بأضرارٍ في السجون والمعتقلات الرسمية وغير الرسمية في المناطق المتضررة، فكما أننا اعتدنا من سلطة النظام السوري وقوى الأمر الواقع إهمال حال السجناء والمعتقلين وعوائلهم قبل وخلال الثورة والحرب السوريتَين، فإن التقليد مستمرٌ في عدم تحمّل مسؤولية السجناء والمعتقلين.

لسنا سواسيةً أمام الزلازل، كما لم نكن أمام الأوبئة والحرب

ترك الزلزال الآلاف من السوريين والسوريات دون مأوى، مما له تأثيراتٌ صحيةٌ واجتماعيةٌ كبيرة، خاصةً أن المناطق السورية المتأثّرة تواجه شتاءً قاسياً. بالإضافة للكرامة والأمان المحقَّقين بوجود المسكن، فإن مقتضيات الصحة العامة من حماية ونظافة ضد الأمراض السارية والالتهابات المزمنة والعنف والاستغلال للأطفال والعنف المبني على النوع الاجتماعي، تبدأ في الحد الأدنى بتأمين سكنٍ لائق، إذ تتركّز الحاجة حالياً على توفير أماكن آمنة اجتماعياً وصحياً للعوائل التي خسرت مأواها، وأولئك الذين تم إخلاؤهم نتيجة الخوف من المباني المُهدّدة بالسقوط والهزات الارتدادية التي لم تتوقف إلى الآن. وتتقاطع مسألة المأوى مع الحفاظ على أمن ووحدة العوائل، وبشكل خاص تأمين الحماية للنساء وصون حقوق الأطفال، فبالإضافة للحماية من ظروف المناخ القاسية ومخلّفات المباني، ينبغي أن يُوفّر المأوى الآمن للنساء والأطفال حيثما تنتشرُ حوادث التحرش والاعتداء الجنسي والاتجار بالبشر في الكوارث التي تكون فيها الجهات الحاكمة على الأرض ضعيفةً اجتماعياً ومؤسساتياً. وهذا ينطبق على كل الجهات المسيطرة على الأراضي السورية، والتي تفتقر في غالبيتها إلى أية مصداقية أو تمثيل اجتماعي أو ثقة. 

ويجب ألّا تغيب عن أذهاننا أهميةُ الإسعاف النفسي الأولي الذي تزداد الحاجة إليه لدى المتضررين بالزلزال بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، فالخسارات الشخصية والجماعية المتتالية حدّت وستحدُّ من قدرتنا كأفرادٍ ومجتمع على النجاة، وعلى دعم بعضنا البعض الآن وفي المستقبل. من المهم التركيز على الجوانب الإيجابية للاستجابة التي تضافرت خلال ساعاتٍ من حدوث الكارثة، والبناء عليها لمستقبلٍ يضمن استعداداً وقدرات جاهزةً أمام كوارث مشابهة: أن نؤسس لسوريا حيث لا إنسان يُحرَم من الحياة والصحة والكرامة بسبب ولاءٍ سياسي أو حاجزٍ عسكري. 

لقد سبق أن استُخدمَ الوصول الآمن للمياه والطاقة، بالإضافة إلى اللّقاحات والخدمات الطبية،A decade of destruction: attacks on health care in Syria | International Rescue Committee (IRC), 2021. من قبل الجهات المتحاربة للسيطرة على المدن والقرى وتجويع وتطويع الناس تحت السيطرة العسكرية؛ خاصةً من جانب الحكومة السورية، المسيطر الأساسي على شبكة الخدمات الصحية والبنى التحتية.تقرير خاص حول المناطق المحاصرة في سوريا، مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، 2017. إنّ التعامل مع المعوقات الهيكلية السياسية والعسكرية-الأمنية سيكون مرةً أخرى عاملَ ضمانِ أو فشلِ الاستجابة للحاجات الإنسانية على كل الأراضي السورية، وبالنسبة لجميع المقيمين فيها. وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، تسود فوضى الفصائل وارتهان القرار السياسي، فلا تجد المنظمات الإنسانية طرفاً سياسياً أو عسكرياً يضمن دخولاً أو وصولاً آمناً لفرق الإنقاذ وتقييم الحاجات، ولا يصل المكلومين في شمال سوريا إلا جثث السوريين الذين لقوا حتفهم على الأراضي التركية.

لا شكّ أننا اليوم في سوريا منكوبون بالزلزال، وبحربٍ تجاوزَ أَمَدُها عقداً كاملاً مع غيابٍ تامٍّ للسياسة. يجب أن نعمل حالياً على دعم المنظمات والمستشفيات العاملة، ويجب على المدى القصير البدء بتنسيق وجمع جهود توثيق أعداد الوفيات والإصابات والمفقودين، والعمل على مراقبة نوعية المياه المُقدَّمة -خاصةً في مناطق النزوح والمأوى غير المنظمة- والعمل على فهم وتوثيق ديناميكيات الهشاشة اجتماعياً وصحياً واقتصادياً، والتي قد تتعقّد وتتعمّق أكثر مع مرور الوقت ومع تفاعل كل هذه الكوارث والنزوحات المستمرة لملايين من السوريين.