«صوت الزلزال، وانهيار المباني وتَحرُّكها كأرجوحة، مشاهدُ لن تنمحي من ذاكرتنا»، يتكرر هذا التعليق لدى سكان المناطق التي تضرّرت بفعل الزلزال فجر يوم الإثنين السادس من شهر شباط (فبراير). اليوم، يعاني الناجون والناجيات في الشمال السوري من الخوف والقلق والتوتر من الهزات الارتدادية والأصوات القوية، فضلاً عن أعراض ما بعد الصدمة وشرود الذهن والصداع المتواصل والدوار والإرهاق الجسدي، في حين يتواصل شكلٌ آخر من المعاناة النفسية المتصلة بتواجدهم في مناطق منكوبة ومشاهدتهم لجثث ضحايا الزلزال المنتشلة أمام أعينهم.
يسكن غسان الشامي مع عائلته وعائلة شقيقه ووالدهما في منزلٍ طيني الجدران وأسمنتي السطح في ريف جسر الشغور، قدّمه لهم الأحد الأقارب دون مقابلٍ مالي بعد أن هجّرهم نظام الأسد من ريف دمشق. يقول الشامي إن منزله قد تصدّع وتشقّق سطحه الأسمنتي نتيجة الهزات الأرضية، مما عطل نظام تصريف مياه الأمطار التي تهطل على السطح، فصارت المياه تسقط على الجدران الطينية لتجعل البيت مهدداً بالسقوط في حال استمرار هطول مياه الأمطار دون إيجاد حلٍّ لتصريفها، لا سميا أن الملحق العلوي من البيت قد انهارت جدرانه عندما ظل مهجوراً لسنواتٍ قبل أن يسكنوه.
ويبلغ عدد أفراد عائلة الشامي ووالده وعائلة شقيقه المقيمين في المنزل 10 أشخاص، يعيشون حياةً ريفيةً بسيطة ويحصلون على المياه من بئرٍ في المنزل المنزل، كما أنهم يزرعون حقلاً صغيراً لتأمين مصاريفهم، بالإضافة إلى العمل في طلاء المنازل. ويقول غسان إن أحوالهم المادية لا تسمح لهم بالانتقال من البيت المتصدع، إذ سيضطرون شهرياً لدفع الإيجار وتكاليف نقل المياه فضلاً عن المصاريف الأخرى.
الأمان في الخيام
«الخيمة أصبحت أكثر أمانا من المنازل»، هذا ما قالته أم عبيدة المُهجرة هي الأخرى من دمشق إلى جسر الشغور. ونتيجة خوفها من الزلزال الذي هزّ منزلها القريب من مجرى نهر العاصي، لم تعد أم عبيدة قادرةً على اتخاذ قرار العودة إلى منزلها في الطابق الثاني من المبنى خوفاً على حياة أسرتها، وانتقلت إلى منزلِ أرضي على أطراف مدينة جسر الشغور بداخله فيه فسحةٌ سماويةٌ، حصلت عليه مؤقتاً من أحد أقربائها دون مقابل، وذلك بعد أن أبلغت فرق الدفاع المدني بعض الأهالي بضرورة إخلاء منازلهم خوفاً من احتمالية فيضان نهر العاصي بعد فتح النظام السوري لسد الرستن خوفاً من حدوث تصدعاتٍ في السد نتيجة الزلزال. ما سهل عليها إيجاد مأوىً مؤقت هو وجود العديد من البيوت الفارغة في جسر الشغور وريفها، وذلك لأن المنطقة قريبةٌ من مناطق سيطرة النظام السوري، وبالتالي يخشى الكثير من الأهالي السكنَ فيها.
تقول أم عبيدة: «فقدت والدي قبل أيامٍ من حدوث الزلزال، ولم أعد أحتمل فقدان عزيزٍ آخر من عائلتي، وأكبر مخاوفي أن يصاب أحد أفراد عائلتي بمكروه، خصوصاً أني أتابع أخباراً كثيرةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتنبأ بوقوع زلازل وشيكة بقوى مختلفة».
بالفعل، حظيت الإشاعات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بمتابعةٍ واسعة، وجرى تناقلها على الألسن، مما زاد من الخوف والضغط النفسي لدى السكان. وقد امتلأ الفيسبوك السوري بعد الزلزالين الأول والثاني بتنبؤات عن حدوث زلازل أخرى، في حين وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن الزلازل «ستتواصل إلى حين انفصال القارات عن بعضها»، مما أثار الرعب في نفوس الأهالي وأجبرهم على اتخاذ تدابير وقائية، مثل النزوح إلى المخيمات القريبة أو نحو أقارب يسكنون في بيوت غير طابقية، وذلك رغم عدم تضرّر منازلهم أو تصدعها.
تأثّر أدوات العمل
يعمل محمود الفواز من ريف جسر الشغور الشرقي في صيد الأسماك منذ حوالي سنتين، ولكي يشتري معدات الصيد والشباك والقارب باع مصاغ زوجته واستدان من أحد أصدقائه باقي المبلغ. تعرضت شباك الفواز للجرف بعد الزلزال نتيجة فيضان نهر العاصي ليلاً، ولم يستطع إنقاذ أيٍّ من معداته التي اعتاد على نصبها في الليل وجني الصيد في ساعات الصباح الباكر. يقول الفواز: «فقدت بعد الزلزال معداتٍ بقيمة ألف دولار أميركي، وحتى الآن لم أفِ ديوني لزوجتي وصديقي». فقد الفواز مصدر رزقه الوحيد، والذي كان يجني من خلاله شهرياً قرابة 200 دولار أميركي.
يشير الفواز في حديثه للجمهورية.نت أنه لم يعد بإمكانه شراء شباكٍ جديدة، فقد كان يعمل ويصرف ثمن ما يبيعه لشراء احتياجات المعيشة: «لا يوجد من أستدين منه مبلغاً من المال حتى أجدد شباكي ومعدات الصيد، لذلك سيقتصر عملي على الصيد بالصنارة وشبكة قديمة تحتاج إلى إصلاح»، يضيف الفواز.
حال الفواز لا يختلف عن حال عديدين من أهالي منطقة جسر الشغور، فقد تضررت محلاتٌ تجارية ومستودعات ومحاصيل زراعية وأعلاف في المدينة وريفها بسبب الزلزال وفيضان نهر العاصي، وبذلك تكون أعدادٌ من الأسر قد فقدت مصدر رزقها الوحيد وليس لديها القدرة على تدارك الخسارة أو تعويضها.
أولويات قطاع الصحة
تلا الكارثة إعلان حالة الطوارئ في الشمال السوري من قبل فرق الإنقاذ والمؤسسات الصحية والمستشفيات، وجرى تأجيل مواعيد عملياتٍ جراحية وتوقّف خروج الحالات المرضية الطارئة إلى تركيا، مما تسبب بتزايد المخاوف بما يتعلق بالحالات الإسعافية المستعجلة. أم نور سيدةٌ عشرينيةٌ من جسر الشغور كانت ولادتها وشيكةً بالتزامن مع وقوع الزلزال، وصادف موعد ولادتها يوم حدوثه. تقول: «ذهبت إلى المستشفى مع زوجي، لكن الكوادر الطبية لم تستقبلنا بسبب إعلان حالة الطوارئ، وبعد تنقّلي بين عدة مشافٍ فقدتُ أمل الولادة في مستشفى مجهز بخدمات طبية». عادت أم نور إلى بيتها وأجرت عملية الولادة بمساعدة قابلةٍ قانونية، وحالة مولودها الصحية جيدة. تضيف واصفةً حالها يوم الزلزال: «كنت متوترةً للغاية، وهو ما عسّر ولادتي وجعلها تمتد لساعات».
أم محمد هي الأخرى وضعت مولودها الثاني قبل ساعاتٍ من حدوث الزلزال، ولكنها اضطُرت للنزول إلى الشارع مع رضيعها في ظل البرد والعاصفة المطرية التي ضربت المنطقة يوم الزلزال، وقضيا ساعاتٍ طويلة في الساحة العامة بمدينة جسر الشغور. تقول: «كنت أحمل رضيعي بيد ولوازمه باليد الأخرى، ورغم حالتي الصحية السيئة، فإن هول ما حدث جعلني لا أشعر بأي ألمٍ حين غادرت المنزل مع أولادي. تضرّر منزلي بشكلٍ جزئي، ولم أتمكن من العودة إليه حتى اليوم». تخاف أم محمد أن تكون العودة إلى منزلها غير ممكنة، وتخاف أن تسكن خيمةً تفقد فيها راحتها واستقلاليتها.
تتواصل الحياة والكوارث
حدّدت سارة وخطيبها الذان يعيشان في ريف جسر الشغور الغربي موعد زفافهما في السادس من شباط، وجهّزوا كل متطلبات الاحتفال بهذا اليوم الذي لن يتكرّر. ولكن بعد حدوث الزلزال فجر يوم العرس، أُلغيت الحفلة واقتصر الزفاف على انتقال العروس والعريس من منازل عوائلهم إلى بيت الزوجية، ودون أي مظهرٍ من مظاهر الاحتفال. لا تخفي سارة حزنها من تزامن الحدثين: «تصادف يوم عرسنا مع نكبةٍ كبيرة. لم أكن سعيدةً في يوم فرحي الذي كان فاجعةً لأناسٍ آخرين. كانت أسماء الضحايا تتالي، وتُنعى أسرٌ كاملة».
يحاول أهالي جسر الشغور الانتقال إلى منازل أرضية وغير طابقية خوفاً على حياتهم وحياة أطفالهم، ويفضلون الانتقال من منازلهم التي تصدعت خوفاً من هزاتٍ ارتدادية تأتي على كامل هذه المنازل، خصوصاً بعد أن عاينوا كيف تعجز فرق الإنقاذ قليلة العدد في الشمال السوري عن إخراج جميع العائلات المتضررة دفعةً واحدة، ويدركون تماماً أن لا أمل بتدخلٍ خارجي للإنقاذ.
دمر الزلزال منزل أم شذى في قرية الملند بريف جسر الشغور الشمالي، وقد خرجت بأعجوبةٍ، كما تقول، مع زوجها وطفلتها ذات السنوات الأربع من المبنى وهو ينهار. تقول: «أصيبت طفلتي بأزمةٍ نفسية، وصارت دائمة الصمت وتحاول الانتباه إلى كل حركة وتسأل عما يحدث. عندما تهتز الأرض بالهزات الارتدادية نصمت ولا نخبرها، لكنها تشعر وتسألنا: ‘ما هذا؟’، فلا نجد أمامنا سوى احتضانها وإشعارها بأن كل شيءٍ بخير».
تسكن أسرة أم شذى اليوم لدى أقارب للعائلة ريثما يجدون منزلاً غير طابقي أو بأساساتٍ متينةٍ قادرةٍ على احتمال الهزات، خصوصاً أن خوفهم قد تضاعف بعد موت جميع أفراد العائلة التي كانت تسكن معهم في المبنى ذاته».
وحين تحدثنا إلى السيدة أم عروة (65 عاماً)، أخبرتنا أنها، ومنذ حدوث الزلزال، فقدت التواصل مع ابنها الذي يعيش في الجنوب التركي ويتكفّل بإعالتها، وهي تخاف أن يصلها نبأ موته في أي لحظة، وكلّها أملٌ بأن يرد على رسائلها ويطمئنها. كانت أم عروة تتجاهل ما يُعرض على مواقع التواصل، خصوصاً عندما يخبرها من حولها أن بعض فرق الإنقاذ التركية ترفض انتشال السوريين ويتكفل سوريون آخرون بتشكيل فرق تطوعية لإخراج بعضهم البعض. تدعو أم عروة اللهَ أن يهيئ لابنها من يُخرجه في حال كان تحت الأنقاض، وأن يحميه لها في غربته إذا كان قد نجا.
يوم الجمعة، السابع عشر من شباط (فبراير)، أُذيع نبأ موت ابنها ووصل جثمانه إلى جسر الشغور مع اثنين من أقاربه.