لم يُعلن الحداد، ولم تُنكس الأعلام، وحدها صورةٌ مُدرجةٌ في لوحة الإعلانات المتحركة وسط ساحة الأمويين تُكرّر كل عشر ثوانٍ جملة: «حداد على أرواح ضحايا الزلزال الذي ضرب سوريا»، وتلتف حولها ببلادة سيارات شرطة المرور وعناصر آمرية الطيران. تحتاج أن تقطع تلك الساحة، ومن بعدها ساحة الروضة، موغلاً في طريقك نحو العفيف حيث يتجمهر شبّان وشابات فريق عقمها التطوعي، يجهّزون كلّ ما يخطر على البال من مساهمات أهالي دمشق لنقلها وتوزيعها على منكوبي حلب واللاذقية وحماة. بعدها بإمكانك التوجه نزولاً نحو الجسر الأبيض حيث أُغلقت الكثير من المحال التجارية حتى تدرك الحداد. هناك ستجد الحزانى.

بعد مرور أكثر من أسبوعٍ على الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، بدأت الحياة تأخذ مجرىً طبيعياً في دمشق، تزامناً مع بدء عمليات الكشف على السلامة الهيكلية للمباني بعد هلع الأهالي إثر انهيار بناءٍ سكني في حرستا بريف دمشق، الواقعة على بعد 5 كيلومترات من مركز العاصمة.

إلى ذلك، تستمر حملات جمع التبرعات العينية عن طريق المبادرات الأهلية -مثل فريق عقّمها التطوعي- والمؤسسات الحكومية التي تعمل من خلال مكتب المحافظة، ومقرات حزب البعث التي لا تعد حكوميةً وفقاً للدستور، لكنها لا تنفصل عنها فعلياً.

الاستجابة الأهلية تُنقذ العائلات

وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا، يوم الإثنين 13 شباط (فبراير) الجاري، نزوح نحو 100 عائلة من حلب واللاذقية إلى محافظتي دمشق وريف دمشق الملتصقتين جغرافياً. وعلى الرغم من توّقع تضاعف الأعداد في الأيام المقبلة، لم تفعّل كلتا المحافظتين أيّة استجابةٍ تُذكر حتى الآن. وقال متطوعٌ من جماهير نادي الوحدة الرياضي الدمشقي للجمهورية.نت: «بعد كل جهودنا لتأمين مركز إيواءٍ ضمن نادي الوحدة الرياضي بدمشق والشروع باستقبال العائلات، رفضتْ المحافظة السماح بافتتاحه دون شرح الأسباب، على مبدأ دبروا حالكم لحالكم».

بعد أكثر من عقدٍ على اشتداد وطأة الأوضاع الإنسانية في سوريا، ومواقف مُخجلة لحكومة النظام السوري، كان آخرها عدم إعلان الحداد، بات متوقعاً عدم تقديم حلولٍ لأي مشكلةٍ تُذكر، حتى لو كانت لضحايا من خارج إطار «الصراع» ونتيجة كارثةٍ طبيعيةٍ ستشرّد ملايين السوريين. وهذا ما دفع مئات العائلات للمساعدة، فهي تعرف مُسبقاً أن لا أمل يُرجى سوى عبر التكافل الاجتماعي. ولحسن الحظ، بعد أعوامٍ على نكباتٍ متلاحقة حلّت بالمجتمع الأهلي السوري، ما يزال يحاول المساعدة.

من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، استطاعت الشبكات الأهلية المتُشكلة تلقائياً والمتوزّعة بين الأراضي السورية والشتات، تأسيس خارطة تواصلٍ فورية وتفعيل استجابة فعّالة، وذلك من خلال نشر نقاط تجمّع العائلات المشردة في الشوارع بحثاً عن مأوى في أحياء التضامن والزاهرة ودف الشوك وجسر فيكتوريا، فضلاً عن مناطق تابعة لريف دمشق مثل أشرفية صحنايا وجرمانا.

ويجري النشر بمساعدة أحد المتطوعين-ات على الأرض، إذ يرافق العائلة وينشر تفاصيل الحالة مع رقم جواله إلى حين تأمين المساعدة المطلوبة، بعدها يُحذف المنشور أو يُكتب أعلاه «تمّ تأمين الحالة»، لتتوالى التعليقات المُهنّئة والداعمة. وبالكثافة نفسها، انتشرت إعلاناتٌ لثلاثة فنادق في المرجة فتحت أبوابها للمتضررين، كما فتح سكان دمشق وريفها أبواب بيوتهم للاستضافة، أو عرضوا بيوتاً فارغةً وقابلةً للسكن، حتى إن أحد الناشطين طلب المساعدة في تنظيف بيتٍ في ركن الدين قبل استضافة عائلة، فلبّاه الأصدقاء خلال ساعات قليلة.

تضافرت جهود المبادرات الفردية مع فريق عقّمها الذي أعلن من خلال مؤسِّسه عن استعداد الفريق لتأمين احتياجات العائلات الواصلة إلى دمشق، وكتب على فيسبوك: «نحن بدأنا المرحلة الثانية من الاستجابة، أي أشخاص أو عائلات وصلت للشام ومحيطها، من أهلنا المتضررين بالمحافظات، في خط ساخن لاستقبال حالاتهم».

أعاق انتشار العديد من الإعلانات الكاذبة عن بيوت مفتوحة للسكن مجاناً عمل المتطوعين، لكنّ إمكانية التضامن الجمعي التي حقّقتها مواقع التواصل اقترحت حلولاً لتحسين جهود الإغاثة، فتطوع مجموعةٌ من الناشطين في الداخل السوري وفي الشتات للاتصال والتأكد من موثوقية إعلانات الاستضافة قبل تداولها.

من جهتها، قابلت الحكومة السورية الجهود الشعبية بالفُتات، فضمن ما أسمته «الاستجابة الفورية لكارثة الزلزال وتأمين المسكن للمتضررين في المحافظات المنكوبة»، دعا وزير الأشغال العامة والإسكان سهيل عبد اللطيف الشركات الإنشائية إلى التجهيز الفوري لـ300 وحدة سكنية مُسبقة الصنع بهدف إيواء عشرات ألوف المشردين. في حين تجعل أذرع السلطة المتمثلة بحزب البعث العمل مستحيلاً. في أشرفية صحنايا، ولضمان وصول التبرعات والمساعدات إلى مقر الحزب والتصرف بها وفق مزاجهم، تكدّست هذه الكميات مدة أسبوعٍ كامل وتم استهلاك جزءٍ منها، وذلك بحسب شهادات متطوعين تحدثوا إلى الجمهورية.نت.

وفي سبيل ذلك، اعتمد الحزب على تشويه سمعة القائمين على جمع التبرعات وإظهارهم بهيئة فاسدين، أو عمدَ إلى إخافتهم من خلال أشخاص مُقربين من الحزب. يقول أحد الشبان: «بيكفي يجيبو شب يخوفوه بكلمتين لحتى كلنا نسمع»

ويتابع المتطوعون في دمشق عملهم بطرق تتحايل على المعوقات المفروضة بفضل شبكة الأصدقاء والمعارف الموثوقة، ومن استقبال اتصالات مباشرة من النازحين بعد أن نشروا أرقام هواتفهم.، لكن أقصى ما أمكنهم توفيره للنازحين حتى الآن سلة غذائية، أو حليب للأطفال، وبعض الاحتياجات اليومية، بمساهمات من الأهالي.

بكرا منرجع على بيوتنا

تشير الإحصائيات الأممية إلى وجود 6.7 مليون نازح داخلياً في الوقت الراهن في جميع أنحاء البلاد، وهذا الرقم مرشحٌ للتضاعف مع تقدير عدد الأشخاص المحتاجين للمأوى جرّاء الزلزال بأكثر من 5 ملايين شخص.

لجأ بعض النازحين الحلبيين إلى بيوت أقاربهم من المُهجرين السابقين الذين أُرغموا على البقاء لأنّ منازلهم قد دُمرت خلال قصف النظام على حلب، ويعيش قسمٌ منهم في جرمانا والهامة والكسوة داخل بيوتٍ غير مكسوّة (على العظم) وغير صالحة للسكن البشري، ويقتات أغلبهم على الحد الأدنى الذي توفّره سللٌ غذائية تقدّمها المنظمات الإنسانية.

وتتكدس عائلاتٌ أخرى في غرفةٍ واحدةٍ بعد وصول أسعار الإيجارات في دمشق لأرقام خيالية، تعدّت في ضواحي دمشق نصف مليون ليرة سورية للشقق الصغيرة غير المفروشة، وتصل إلى قرابة مليوني ليرة سورية في مركز العاصمة، وتتجاوز خمسة ملايين ليرة في الأحياء «الراقية».

خزّنت موجات النزوح الجماعية في ذاكرة السوريين مرارة مراكز الإيواء، وعجزوا عن نسيان أن العودة إلى المنزل بعد الاقتلاع منه قد تتعذّر، لذلك نزحت مئات العائلات ممن شردهم الزلزال إلى المحافظات الأكثر استقراراً، بحثاً عن منزلٍ يصون الكرامة.

وفي حين أن الأولوية القصوى هي لتأمين السكن ومستلزماته، تغرق الشوارع بالمساعدات الآنية المعدة للاستهلاك، ومَن دفع كل مدخراته مقابل غرفةٍ على هامش المدينة، وجد نفسه أمام عقبة تأثيثٍ جديد.


على هامش المدينة، تنتظر أم أحمد أختَها وأولادها الخمسة الناجين من الزلزال، لتستقبلهم في غرفةٍ أسمنتية بإحدى ضواحي العاصمة. تجمع الثياب القديمة من التبرعات وتخيط بعضها لسد فتحات الجدران، وتربط قسما ثانياً ببعض الأغصان الخشبية لتشعل النار عند وصولهم: «ما بعرف شو بدّي طعميهم بكرة، بس عالقليلة يدفوا».