لم يأخذ الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا فجر السادس من شباط بعين الاعتبار الأبعاد الجيوسياسية للصراع في سوريا. لم يفهم ديناميكيات الصراع داخل الحدود، ولم يعرف أن السوريين في تركيا يحتاجون تصريحاً ليزوروا بلدهم، ولا أن السوريين في سوريا يُقتَلون على يد الجندرما التركية وهُم يحاولون عبور الحدود. لم يأبه الزلزال بأن المساعدات الأممية تحتاج تفويضاً من مجلس الأمن لتحديد أي معبرٍ ستسلك إلى المتضررين. لم يقل أحدٌ للزلزال إن جثث ضحاياه ستعبر الحدود قبل أدوات البحث والإنقاذ، وإن رئيس البلاد سينتظر ثمانية أيام حتى يسمح للمساعدات بالدخول لمساعدة المتضررين من هزّاته، كما لم يعرف أن رئيس حكومة المعارضة لا يجرؤ على استقبال المساعدات دون إذن حاضنيه الأتراك.

على طرفي الحدود، في شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا، يقبع نموذج استجابة إنسانية فريد من نوعه، ومن الأكثر تعقيداً في العالم. تُغطَّى منطقة شمال سوريا عملياتياً وبرامجياً من تركيا، وتنفيذياً وحوكمياً من الفرق المحلية في سوريا، بينما يُقاد من دمشق شكلٌ معقدٌ من الاستجابة لم تخلقه الحدود بل أدوات النظام في الإفساد والسيطرة على المساعدات، وعلى رأسها الهيئة العليا للإغاثة التي يمر عبرها كل شيء مثلما يمر كل شيء عبر المعابر الحدودية في الشمال.

في الخامس من شباط، قبل الزلزال بيوم، لم يكن وضع الاستجابة الإنسانية داعياً للتفاؤل: 90 بالمئة من سكان شمال غرب سوريا مُعتمَدون على المساعدات الإنسانية؛ لم يتجاوز حجم المساعدات 60 بالمئة من احتياجات قطاع الغذاء خلال العام المنصرم؛ بينما لم يحصل القطاع الصحي على أكثر من 26 بالمئة من احتياجاته. 

لم يكن الوضع قبل الزلزال مستقراً إذاً، بل على العكس.. المنطقة منهكة إثرَ عقد من الحرب وتسييس المساعدات. خلال الساعات الأولى بعد الزلزال كانت تلك التعقيدات غائبة عنا خلال بحثنا عن أخبار الأصدقاء والزملاء في المنطقة المتضررة، ولكن سرعان ما اتّضحَ أن بإمكان الزلزال تجاوزَ الحدود وخطوط الصراع عندما يريد، عكس معدات الإنقاذ وفِرَقه. 

كانت مدينتا غازي عِنتاب وأنطاكيا التركيتان، حيث تدير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الاستجابة للشمال السوري، من أكثر المدن تأثُّراً بالزلزال، ما جعل الكوادر الإنسانية سواء الأممية أو الدولية أو الوطنية غير قادرة على التعامل مع الكارثة، وبالتالي كان لا بدّ لقيادة الأمم المتحدة أن تستخدم صلاحياتها لتوظيف كافة الآليات للتعامل مع الكارثة، لكنها لم تفعل.

من بين الأشياء التي كان بإمكان قيادة الأمم المتحدة، سواء القيادة الإقليمية أو الأمين العام ونائبه لشؤون الاستجابة في حالات الطوارئ، أن تقوم بها تفعيلُ آلية تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC، التي تسمح بتفعيل فِرَق على الأرض خلال 12 ساعة من الكارثة. كذلك كان من الممكن استخدام قدرات المجموعة الاستشارية الدولية لفرق البحث والإنقاذ INSARAG، ويُذكر أنه تم تفعيل هاتين الآليتين في تركيا، التي ورغم أنها تملك قدرات بحث وإنقاذ وإغاثة عالية جداً، إلّا أن حجم الكارثة استدعى تَدُخَّلَ كل الفرق الممكنة فيها. يتم تفعيل هذه الآليات إما بناء على طلب حكومة البلد الذي ضربته الكارثة، أو بناء على طلب من ممثل الأمم المتحدة المقيم في البلد. وتسمح هذه الآلية بوصول فرق ومعدات خلال 12 إلى 48 ساعة على أرض البلد المتضرر، وباستخدام كافة المعابر الممكنة للوصول إلى المتضررين من الكارثة. هذا ما فعلته تركيا بالفعل، ولكن سوريا لم تفعل. كما أنه كان من الواجب على الأمم المتحدة تفعيل فريق استثنائي لمساندة الفرق المتضررة.

يُصرِّحُ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث عبر حسابه على تويتر عن تيسير وصول 4948 خبير بحث وإنقاذ، خلال أقل من 72 ساعة للاستجابة للزلزال في تركيا وسوريا، وذلك من خلال آلية تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC. لم يصل أي منهم إلى سوريا في كافة مناطق السيطرة فيها، في حين وصلت إلى مناطق النظام 8 فرق بحث وإنقاذ و3 فرق طبية من الدول الصديقة للنظام السوري، التي فَعَّلَت جسوراً جوية من بلدانها أوصلت ما يزيد عن 132 طائرة إغاثة من 25 دولة. 

يَظهر بوضوح أن ذروة وصول هذه الطائرات كانت خلال الساعات الثماني والأربعين الأولى بعد الزلزال، وهي النافذة الزمنية المُنقِذة للحياة. وتشير مصادر محلية منخرطة في العمل الإنساني أن اللجنة العليا للإغاثة لم ترفع أياً من الإجراءات الأمنية التي تفرضها على عمليات الإغاثة في مناطق سيطرة النظام، ما يجعل المستفيد الحقيقي من هذه المساعدات هو مخازن النظام.

الدفاع المدني السوري أَكَّدَ بدوره عدم تلقيه أية معدات بحث وإنقاذ لدعم فِرَقه، التي لم تتوقف منذ الساعات الأولى عن عمليات البحث والإنقاذ، حيث تجاوز عدد الناجين الذين تم إنقاذهم على يدها 2950 شخصاً. في حين دخل إلى سوريا فريقان متطوعان، أحدهما من الجالية المصرية في تركيا، والثاني من فريق متطوعين إسباني وصل عبر منظمة إغاثية محلية. وفي اليوم الرابع للزلزال دخلت ست شاحنات أممية مجدولة مسبقاً قبل الزلزال، لتبدأ بعدها بعض الدول بإيصال المساعدات عبر المعابر الحدودية، لم يكن أيٌّ منها منقذاً للحياة حتى اليوم الثامن، بعد فوات الأوان، حين دخلت بضع مواد من منظمة الصحة العالمية. لقد فاقم الزلزال الوضع الإنساني على الأرض، حيث سُجِّلَت 57000 حركة نزوح جديدة، وأعلنت مديرية الصحة في إدلب عن استقبال ما يزيد عن 12000 إصابة خلال الأيام الأولى بعد الزلزال. 

ثمة ثلاث إشكاليات جعلت الاستجابة أكثر كارثية: الأولى أن الوكالات الأممية خَفَّضت مخزونها في مستودعات شركائها في شمال غرب سوريا منذ بضعة أشهر؛ والثانية أنها كانت قد أوقفت إحدى آليات جمع المعلومات في المنطقة في بداية العام، وبالتالي كان لديها ضعفٌ حتى في الوصول للمعلومات أثناء الكارثة؛ أما الثالثة والأكبر فهي أن منّصة عِنتاب، التي كانت مقرَّ نائب المدير الإقليمي للأمم المتحدة، كانت دون قيادة، إذ بقي هذا المنصب شاغراً منذ ما قبل شهرين وحتى الثالث عشر من شباط، أي بعد الزلزال بأسبوع. 

بقراءة بسيطة لتقارير التحديثات اليومية للأمم المتحدة عن استجابتها بين مناطق النظام ومناطق شمال غرب سوريا، نرى أن الأمم المتحدة قد وظَّفَت قدرات أعلى بكثير في مناطق سيطرة النظام، وقد يكون سبب ذلك أن دمشق، مركز قيادة العمليات الإنسانية لمناطق النظام، لم تتضرّر بالزلزال. لكن كانت البدائل لشمال غرب سوريا متاحة لدى الأمين العام للأمم المتحدة ونائبه.

معركة المعابر الحدودية للمساعدات الإنسانية كانت جليّة ومُتعمَّدة. تذرّعت الأمم المتحدة على مدار الأيام الأولى للزلزال بحالة الطرقات المتضررة بالزلزال، على الرغم من أن قطاع اللوجستيات في غازي عنتاب أطلق خريطة تفاعلية كانت تُظهِر بوضوح عدم وجود عراقيل لوصول المساعدات من موقع مستودعات الأمم المتحدة قرب الريحانية التركية، على بعد 5 كم من الحدود السورية. محاولات الأمم المتحدة المتكررة للتبرير بمعوقات قانونية أو لوجستية باءت بالفشل، وظهر بشكل واضح أن تأخُّر المساعدات متعمد ومُسيّس.

تَجلَّتْ هذه المعركة بأوضح صورها حين أعاد نائب الأمين العام للأمم المتحدة للأسد امتياز فتح المعابر وإغلاقها حين طلب منه ذلك، بينما كان مجلس الأمن قد فرض منذ 9 سنوات، عام 2014، مرورَ المساعدات عبر الحدود بغض النظر عن موافقة الحكومة السورية من خلال القرار 2139 وما تلاه من نسخ متعددة من القرارات. وبدل أن يستخدم الأمين العام للأمم المتحدة صلاحياته بتفعيل كافة المعابر الممكنة، انتظر ثمانية أيام حتى أعطى الأسد موافقته على استخدام معبرين آخرين إضافيين إلى باب الهوى، وهما معبرا الراعي و باب السلامة اللذين تسمح الحكومة التركية باستخدامهما أمام القوافل الإغاثية أساساً قبل هذا التصريح. يُذكَر أن مجموعة من الخبراء القانونيين حول العالم كانوا قد وقَّعوا رسالة تؤكد عدم الحاجة لتفويض مجلس الأمن، أو أي جهة أخرى، لمرور المساعدات. 

تملك كلٌّ من تركيا والولايات المتحدة قوات على الأرض، كما تملك الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى قدرات إمداد عالية في المنطقة. يفرض القانون الدولي الإنساني على هذه الدول تنفيذ، أو على الأقل تيسير، وصول مساعدات منقذة لحياة للمتضررين. كان بإمكان الولايات المتحدة أن تتدخل بكل تأكيد.

في النهاية، تُرِك السوريون وحيدين في مواجهة واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية منذ عقود. ستنجلي هذه الكارثة عن أرقام ضخمة تفوق التصريحات الحالية حين تستعيد المؤسسات قدرتها على الإحصاء وجمع البيانات، وستتشعب إلى مشاكل قانونية واجتماعية حول المفقودين والأيتام وتشتت العائلات وغيرها الكثير. 

الزلزال الذي عبرَ الحدود وخطوط الصراع لم ينجح في اختراق تسييس الاستجابة الإنسانية، بل على العكس، إذ حصل النظام السوري من خلاله على مكاسب سياسية، أقلّها رفع العقوبات جزئياً وبشكل مؤقت من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ومن ضمنها أيضاً استعادة القرار بشأن فتح المعابر أمام العمليات الأممية، وتهافت عدة دول للتواصل لعرض المساعدة، بينها السعودية والدنمارك وإيطاليا.

من أنقذ السوريين هم السوريون أنفسهم، بقدراتهم المحلية وحركتهم المرنة التي لم تُوقِفْها الحدود ولا خطوط الصراع. وكما عبرَ الزلزال، عَبرَت الحركةُ والقدرات لمدّ يد العون. لذلك يجب الدفع لتعزيز هذه القدرات، لأن الاستجابة للزلزال ما زالت في مرحلة الصدمة، وثمة ضرورة لأن يكون هناك تخطيط على المدى المتوسط و الطويل. لا يمكن لأي مجموعة بشرية أن تقف وحيدة في مواجهة هكذا كارثة، ولا يمكن أن تُحرَمَ منطقة منكوبة من حقها في وقوف البشرية إلى جانبها بسبب خطوط الصراع أو الخلفية السياسية أو الحدود بين البلدان. يجب أن تتحمل قيادة الأمم المتحدة في نيويورك وفي الإقليم مسؤولياتها عن الإهمال المتعمد الذي أزهق أرواحاً. لا بد من فتح تحقيق دولي للسعي من أجل حقوق الضحايا.