ظل بشار الأسد منبوذاً من المجتمع الدولي لسنواتٍ كان يرتكب خلالها المجزرة تلو المجزرة، ويقتصر بريد هاتفه المُعلن على مكالماتٍ من روسيا وإيران وأبخازيا ودولٍ صغيرة روسية التبعية. حتى حين زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأراضي السورية لم يتوجه إلى قصره كما تقتضي الأعراف، إنما إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية قرب اللاذقية، لتخرج من هذه الزيارة صورٌ مهينةٌ للأسد وتعبّر عن تبعية أجيرٍ محلي للاعبٍ دولي.

أما بالنسبة للواصلين إلى قصره، فقد كانت زيارة رئيس أبخازيا غينادي غاغوليا وبالاً عليه، إذ أودى بحياته حادثٌ مروري فور عودته إلى بلاده. عمر البشير هو الآخر فقد منصبه وصار إلى السجن بعد زيارةٍ لهذا القصر بغية إعادة العلاقات مع ساكنيه. لا يبدو ما حدث للرجلين مُشجعاً على زيارة الأسد بعدها، لكنّ هذا لم يمنع وزير الخارجية الإماراتي من القدوم، ومن دعوة بشار لزيارة الإمارات أيضاً. على أنّ نظام الإمارات الذي لم يجد بأساً في التطبيع مع إسرائيل، وبالشروط التي فرضتها عليه، لن يغصّ بنظام بشار الأسد الذي كان يؤوي منذ بداية الثورة السورية أهم لصوصه ومحاسيبه وعوائلهم. 

سبق ذلك عناقٌ حار بين وزير الخارجية السابق وليد المعلم ووزير خارجية البحرين في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي العام الماضي حاولت الجزائر تعويم الأسد من خلال دعوته إلى القمة العربية التي عُقدت على أراضيها تحت ذريعة «توحيد الصف العربي»، لكنّ مسعاها انتهى إلى الفشل. وبهذا المصير أيضاً انتهى العهد القوي لميشيل عون في لبنان بعد آمالٍ ووعودٍ بزيارة سوريا ولقاء الأسد. على أن الأشهر الماضية قد شهدت نقلاتٍ نوعيةً في هذا الإطار، فالعاهل الأردني حاول التقارب مع النظام السوري بشكلٍ معلن فواجه رفضاً أميركياً تصعب مواجهة تبعات الالتفاف عليه، ثمّ تعقّدت المسألة أكثر مع نشاط الاتجار بالمخدرات من قبل النظام السوري عبر الأردن نحو دول الخليج. أخيراً جاء الدور على تركيا التي التقى وزير خارجيتها بوزير خارجية النظام في روسيا، وخرجت تصريحاتٌ عن لقاءٍ وشيكٍ يجري ترتيبه بين أردوغان والأسد، ثم أتى الزلزال الرهيب الذي ضرب البلدين.

إذاً، وحتى وقوع الزلزال، لم تنقطع المساعي على مدى عامين للتقارب مع بشار الأسد من أنظمة دولٍ عديدةٍ استطاعت تجاهل ما فعله بالسوريين من أجل مصالحها. وما أن وقع الزلزال حتى تفرّغت رئاسة الجمهورية السورية للاحتفاء بزياراتٍ ومكالماتٍ وبرقياتٍ تلقّاها الرئيس الذي كان منبوذاً حتى ساعاتٍ قليلةٍ مضت، ولم يسبق لهذا الدفق العاطفي الرسمي أن حمل هذا الزخم منذ العام 2011. كانت أولى الاتصالات من فلاديمير بوتين ومن رئيس دولة الإمارات، ثم كان لافتاً ورود اتصالاتٍ مصرية وأردنية وتونسية وفلسطينية وعراقية علنية على مستوى حكام هذه الدول، فضلاً عن وصول وزير خارجية الأردن إلى دمشق، ووفد لبناني برئاسة وزير الخارجية يرافقه عددٌ من الوزراء في زيارةٍ أثارت جدلاً داخلياً لبنانياً. أما السعودية، فكانت حريصةً على الابتعاد عن أي تواصلٍ معلنٍ ومباشرٍ مع النظام، حتى إن المساعدات التي قررت إرسالها جرى نقلُها عبر طائراتٍ إماراتية.

بمتابعة هذه المكالمات والزيارات ونوعيتها، يتضح أن رئاسة الجمهورية السورية حاولت تقديمها كما لو أن بشار الأسد يُعاد تعويمه على مستوى العالم، على أنها لا تحمل أي جديد. جميع قيادات هذه الدول كانت على اتصالٍ ببشار الأسد، ويتسرب أو يُعلن بين حينٍ وآخر عن الجزء المخابراتي من الاتصالات. ما استجد فعلياً هو أن الزلزال منح هذه الدول جرأة التصريح عن اتصالاتها بالأسد تحت مبررات «الإخوّة والعروبة في ظل هذه الفاجعة»، وهو ما قد يجعلها مبررةً أمام الدول التي ما زالت تصرّ على عدم القبول بتطبيع العلاقات مع الأسد. لذا لا قيمة فعلية لهذه الاتصالات، وكانت تحدث وستحدث على كل حال، غير إنّ الزلزال سمح لها أن تتكثّف خلال أيامٍ قصيرة، لتشكل مع بعضها خزياناً جماعياً لأنظمة هذه الدول.

أما المهم والمُخزي حقاً على المستوى السياسي، فهو الشكر الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة لبشار الأسد ونظامه على «السماح» للهيئات الأممية باستخدام معبري باب السلامة والراعي لمدة ثلاثة أشهر بعد هذه السنوات من أعمال الإبادة، وأن يأتي الشكر من أعلى هرم المؤسسة التي أصدرت هيئاتها عشرات التقارير الموثقة عن أبشع الجرائم التي ارتكبها بشار ونظامه.

التطور اللافت الآخر هو الرفع الأميركي الجزئي للعقوبات المفروضة على النظام لمدة ستة أشهر، ولربما كان الاتحاد الأوروبي سيخطو الخطوة نفسها لولا حسابات مرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا. لم تحقّق العقوبات الأميركية والغربية هدفها بإضعاف النظام بقدر ما أضعفت الشعب. هذا ما نعاينه يومياً من خلال متابعة أحوال أهلنا، على أن الرفع المتعجّل لها بطريقةٍ غير مدروسة يُظهر كيف أن الأسد وروسيا استطاعا ابتزاز الولايات المتحدة وتحميلها جزءاً كبيراً من فشل النظام في الاستجابة للكارثة، وذلك من خلال جعل الشعب المنكوب والمحتاج للمساعدة رهينةً لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية للنظام. إن شهور العفو الأميركي الستة المقبلة ستكون نافذةً للنظام لإعادة بناء قوته الاقتصادية وإحكام قبضته على السوريين، ولن تُفيد السوريين المحتاجين في شيء، ذلك أن النظام لن يضع معاشهم اليومي وتحسينه على رأس أولوياته خلالها. وهكذا، كما كانت العقوبات غير مدروسة النتائج، جاء رفعها المؤقت بطريقةٍ مماثلة. يالحظ بشار الأسد!