منذ أيام، يحاول السوريون والسوريات العثور على أحبائهم تحت الأنقاض أو بين أروقة المشافي المقصوفة أصلاً في سوريا، أو تلك التي لا يتكلمون لغة العاملين فيها في تركيا. متروكين لجدالاتٍ وتبادل اتهاماتٍ بين فاشية النظام السوري، المتسبب الأول بانهيار البنى التحتية، عبر العنف المستمر خلال السنوات الماضية وقمع المنظمات المدنية وأيّة مبادرات إنقاذٍ ممكنة، وبيروقراطية الأمم المتحدة والدول المتقدمة والغنية التي استخدمت كل الحجج المتاحة لتبرير عدم دخول فرق الإنقاذ أو المساعدات لمدة ستة أيام بعد الزلزال إلى شمال غرب سوريا.
لثلاثة أيام، كانت أصوات من بقيو على قيد الحياة تتخافت تحت الأنقاض، لتتعالى أصوات عائلاتهم والتجمعات السورية اللاجئة، مطالبةً العالم بالتدخل، بإرسال المساعدات وفرق الإنقاذ. كان بالإمكان أفضل مما كان بكثير، وكان بالإمكان أن يكون كُثُرٌ على قيد الحياة بعد. إن كان الزلزال حدثاً لا يمكن تفاديه، فإن مسؤولية إنقاذ الأحياء تحت الأنقاض تقع على عاتق العالم كله، خصوصاً القادرين فيه.
نكتب هذا النداء لنكون «قاتلات للبهجة»استعارة من مصطلح سارة أحمد، الناشطة النسوية والكاتبة الانكليزية- الأسترالية من أصل باكستاني، والتي تعرف عن نفسها أنها نسوية قاتلة للبهجة. تجاه أخواتنا هذه المرة، في كل أنحاء العالم، نتساءل عن سبب خفوت الأصوات النسوية العالمية التي تدعو لإنقاذ أهلنا وشعبنا. يثير الضعف في الردود التضامنية أسئلةً حول المسار الذي يجب أن تسلكه النسوية التقاطعية لإعادة تفكيك هيكلية مفاضلات الضحايا بحسب لون بشرتهن، طبقتهن الاجتماعية، الحدود التي علقن ضمنها، الجنسية التي يحملنها، أو حتى طول مدّة النزاع الذي وقعت عليهن معاناته. نكتب لنُسائل التعوّد على الموت السوري، نحن اللواتي نناضل معكن لمقاومة التعوّد على العنف القائم على النوع الاجتماعي.
تقول جوديث باتلرفيلسوفة نسوية وكاتبة اكاديمية أمريكية صاحبة إصدارات عديدة في مجال الدراسات الجندرية ومؤثرة في الموجة النسوية الثالثة والحركة الكويرية. في كتابها قوة اللاعنف، «نعلم أنه ليس للأرواح القيمة ذاتها في هذا العالم، ولا يستجاب لتوثيق من جُرحوا ومن قُتلوا بالطريقة نفسها. فهناك حيوات تعتبر غير مستحقة للحداد أو غير جديرة به. وهنالك أسباب عديدة لعدم التساوي هذا، منها العنصرية، رهاب الأجانب، رهاب المثلية الجنسية ورهاب المتحولين جنسياً، كراهية النساء، والتجاهل الممنهج للفقراء والمحرومين». ولهذا نكتب هذا النداء، بما تبقى لدينا من أملٍ بالانتماء لحراكٍ جماعيّ عالمي يستطيع تخيّل عالمٍ أكثر عدالة، نكتب لنوثق خساراتنا ضمن دائرة اهتمام النسويات في أنحاء العالم، لنقول إننا وأهلنا نستحق أن يتحرك العالم لأجل إنقاذنا، إن حياتنا وحياة أهلنا تستحق أن يتوقف العالم للحداد عليها.
إنه لمن البديهيّ أن تكون كارثة الزلزال التي ضربت سوريا وتركيا شأناً نسوياً تقاطعياً، إذ تتداخل في طبقات الظلم الواقع على الناس سلوكيات عنصرية ممنهجة داخل تركيا في الاستجابة للكارثة، مع فقر أصحاب الأبنية التي تساقطت فوق رؤوسهم، والعنف السياسي المخزّن داخل الأبنية بسبب قصفٍ فاشي وقصف احتلالٍ روسي عدواني في سوريا، ومع عطلٍ أممي تبدو له حياة السوريين أقل أهمية من غيرها، فيتحرك ببطء شديد متحججاً بسيادة الدول. كيف لا تكون مقاومة ذلك كلّه إلا في صميم النضال النسوي التقاطعي؟
لماذا الزلزال شأن نسوي وتقاطعي؟
إن كان على المرأة امتلاك «غرفة خاصة بها»إشارة إلى كتاب فيرجينيا وولف «غرفة تخص المرء وحده» ١٩٢٩، والذي اعتبر بمثابة مانيفستو للحركة النقدية النسوية في القرن العشرين. كي تحتل مكانتها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فماذا لو لم يعد هنالك غرف من الأساس؟ أو انهارت الغرف على رؤوس قاطناتها وأسرهن؟ هل العمل النسوي اليوم محكوم بالضعف وقلة الحيلة (والمخيلة)، فلا يتعدى إصدار بيانات تضامنية خشبيّة، ولا يختلف عن أي عمل تقوم به أيّة مجموعة مدنية أخرى؟ وإن لم يتميز عملنا بطابع نسوي، ينظر إلى الأمر من منظور موازين القوى والعدالة الاجتماعية والقيام بفعل حقيقي ودور ملهم لجيل جديد من النسويات، فما جدواه؟
إن كارثةً طبيعيةً بحجم زلزالٍ كهذا تؤثر على الجميع بنفس الطريقة وتقتل وتشرد مئات الآلاف، وأثارها المتعاقبة ستستمر لأشهر طويلة ان لم تكن سنين قبل أن نصل إلى أي مرحلة من مراحل التعافي، ولذلك فإن واجب النسويات العمل على خلق تضامنٍ وفعلٍ حقيقي لدعم الضحايا على عدة أصعدة وضمن عدة مراحل، منها فوري؛ إسعافي ومباشر، وآخر ذو مدى أبعد لا ينتهي عند انتهاء الاهتمام اللحظي بالكارثة، ليُنسى ما جرى تلقائياً لحظة انشغال العالم بأزمة أخرى.
من موقعنا كسوريات في وجه ظلم هذا العالم، نطالب أَخَواتنا القادرات أكثر منا، إما على الحركة عبر الحدود أو الوصول إلى الموارد:
على المدى القصير:
- تشكيل مجموعات ضغطٍ تدعو لاجتماعاتٍ مع المسؤولين القادرين على الضغط لفتح المعابر والحدود، وضمان وصول المساعدات على اختلاف أشكالها لجميع المتضررين في كل الأماكن السوريّة، خصوصاً للفئات المستضعفة. ومشاركة نتائج هذه الاجتماعات مع شعوبنا وشعوبكن بشفافية تُسائل – بشجاعة لا تنقص النسويات – أولئك الذين تباطأوا عن إنقاذ من هم تحت الأنقاض.
- مساعدة المجموعات النسوية السورية وغير السورية الموجودة حول العالم للوصول، ومخاطبة برلمانات وحكومات الدول للضغط وإيصال أصوات الموجودات بالأماكن المنكوبة وذكر احتياجاتهن، ثم إيجاد حلول مبتكرة للشراكة تسمح بتخطي تعقيداتِ وعنصرية الفيزا وتقييد الحركة.
- دعم المنظمات النسوية العالمية التي تعمل بالشأن الإعلامي والمناصرة لضمان تغطية إعلامية نسوية عادلة. حتى الآن يتفق الجميع على أن تغطية ما يحصل في سوريا ضعيف للغاية (يعود ذلك بشكل كبير لمنع النظام أيّة تغطية إعلامية غير رسمية في المناطق المتضررة التي تقع تحت سيطرته)، لكن أيضاً يُلاحَظ غياب أو فقر الإعلام النسوي ضمن الأماكن التي تتاح التغطية فيها، وهو ما نحن بحاجةٍ إليه اليوم ولاحقاً.
- دعم مباشر للنسويات والمجموعات ذات الأجندة النسوية ليكنّ أيضاً جزءاً من حملات الاستجابة والقيام بالدور المتوقع منهن، إضافة إلى مساعدة من يعملون بشكل مباشر في مراكز الإيواء لوضع آليات تمنع التحرش في هذه الأماكن ضمن ما هو متاح وممكن.
- التركيز على دعم النسويات كأفراد ومجموعات (مدافعات عن حقوق الإنسان، صحفيات مستقلات، ناشطات وغيرهن) والموجودات في المناطق المتضررة كأولوية، ليتمكن بدورهن من التعافي ومتابعة نضالهن/ عملهن.
على المدى المتوسط:
- ها نحن اليوم، وبعد أيام قليلة من وقوع الزلزال، نسمع شهادات نساء وفتيات تعرضن للتحرش في مراكز الإيواء المؤقتة في سوريا بمختلف مناطقها وفي تركيا. وهذا غيض من فيض إذ سنشهد ارتفاعاً لمظاهرِ وحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، كون الكوارث تعمّق المشاكل البنيوية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها النساء والفتيات والفئات المستضعفة الأخرى مسبقاً، لذلك نطالب بزيادة الاهتمام والدعم لبرامج إغاثية نسوية تعمل على تعميق التقاطع بين العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستجابة للكارثة الطبيعية.
- التضامن مع السوريين والسوريات في تركيا كونهم جميعاً من الفئات الأكثر ضعفاً والأكثر تهميشاً خلال الاستجابة في تركيا، ناهيك عمّن هم وهن واقعات تحت قانون الحماية المؤقتة العنصري الذي يضع حمَلته في حالة انكشافٍ دائم بلا حقوقٍ مستقرة ولا مستقبل.
- دراسة احتياجات النساء والفتيات ومناصرتها بشكل مستمر، على الصعيد الإغاثي وما بعد الإغاثي، من حيث الإخلاء والإسكان والتعافي وإحياء سبل العيش وغيرها.
- مقاومة إنهاك المانحين والإصرار على إعطاء المتضررات والمتضررين ومجتمعاتهم الأولوية في تصميم وتنفيذ برامج التعافي الخاصة بهن.
- أخيراً وليس آخراً، العمل والحث على تشكيل لجانٍ مستقلة حقوقية وغيرها تعمل على محاسبة ومساءلة الأمم المتحدة لتقصيرها في الاستجابة في سوريا ومطالبتها بالتعويض والاعتذار من الضحايا وعائلاتهم.
على المدى الطويل:
دعوة للتفكير والحوار الجماعي حول استجابتنا للكوارث والأزمات عبر:
- تفعيل مخيلتنا السياسية في تفكيك النظم الأممية وتغييرها لتتوافق مع الاحتياجات حول العالم بشكل أكثر عدالة، والتفكير بآليات إنقاذٍ عابرة للدول وحصانتها الدولية وتحديات الحدود في الكوارث .
- إعادة التفكير بالهوية السياسية للنسوية العابرة للوطنيات والتضامن العابر للاختلافات، وكيفية تفعيل المجموعات النسوية الإقليمية وبين دول الجنوب بحيث تكون فاعلة على مستوى أزمة بهذا الحجم، وليس فقط ضمن أدبيات منشورة وأبحاث، ومقاومة الرغبة الانعزالية في الشؤون الداخلية فقط.
- تخيل دورٍ فعالٍ أكثر للحراك النسوي، بحيث يكون داعماً للفعل الجماعي التلقائي كالذي رأيناه في سوريا وتركيا في ظل تقصير الحكومات والأمم المتحدة وبطئ وعدم فعالية المنظمات الدولية الأخرى في أخذ العبء عن المنظمات الأهلية والمدنية التي قامت بالدور الأكبر إن لم يكن الوحيد في عمليات الإنقاذ والإغاثة.
نهايةً، عزاؤنا للضحايا، كل الضحايا في سوريا وفي تركيا، ولكل العائلات السورية والتركية والكردية، منهم رفيقات ورفاق لنا، نتمنى لو أُتيحت لنا فرصة للسفر واللقاء والحداد سويّاً. وننضم، ولو عن بعد، لإعلان الدفاع المدني السوري الحداد الرسمي في جميع أنحاء سوريا، منذ يوم الاثنين 13 شباط 2023، على أرواح ضحايا الزلزال في سوريا وجنوب تركيا.