في عمليات الاستجابة للكوارث، لا تتحدد النتائج فقط في كميّة ونوعيّة المساعدات، ولكن أيضاً في توقيت وصول هذه المساعدات. إنّ تأخُّرَ المساعدات الدوليّة، خاصةً من الأمم المتحدّة، كلّف الكثير من الأرواح في الشمال الغربي من سوريا، كما إنّه أعاد للواجهة التساؤلات حول دور الأمم المتحدة وآليات عملها وفشلها المزمن في إدارة الأزمة الانسانيّة السوريّة. اليوم، مع الزلزال الذي هدّ جدران السوريين وقوّضَ الأسقفَ على عوائلهم وآمالهم على حد سواء، فإنّه يحق لهم أكثر من أيّ وقت مضى أن يحاكموا المنظمات الأمميّة، رمزياً فوق ركام بيوتهم وأمام جثث ضحاياهم، وعملياً بالطرق القانونيّة في المحاكم الدوليّة.
أحدثَ الزلزال الأخير في جنوب تركيا وشمال سوريا هزّة هائلة على الصعيد الإغاثي لمّا نستوعب أبعادها بعد، وعلى ما يبدو سيكون لهذه الكارثة ارتدادات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة قد تُغيّر ديناميكيات الصراع في/على سوريا، ناهيك عن تأثيراتها على قرابة 3.5 مليون لاجئ سوري يعيشون في تركيا، يُطحن الكثير منهم يومياً بين حجري رحى المعارضة والحكومة.
أظهر الزلزال بشكل خاص ضُعف وهشاشة الأوضاع الانسانيّة والمعيشيّة والقانونيّة للسوريين في تركيا وفي مناطق سيطرة المعارضة. فمن ناحية، تُركت هذه المناطق لتواجه الزلزال وحيدةً بمقدرات متواضعة جداً ومعابر مغلقة، حيث اختفت عائلات كاملة للأبد وتُركَ الناجون لغدٍ قاتم. ومن ناحية أخرى، يبدو أنّ التأخّر في عمليات إدخال المساعدات، سواءً من طرف الحكومة التركيّة – المنكوبة أيضاً على أيّ حال – أو من المنظمات الدوليّة وعلى رأسها الأمم المتحدّة، كان متعمّداً نتيجة الخضوع لحسابات سياسيّة أكثر منها إنسانيّة، مما قد يوحي بتغيّر في طريقة التعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في دمشق.
وفق الأرقام غير النهائيّة اليوم، سجّلت مناطق الشمال الغربي أكثر من 5000 وفاة و أكثر من 11000 إصابة، في حين وصل أكثر من 1300 جثمان لضحايا قضوا في تركيا كي يتم دفنهم في الشمال الغربي. من الضروري الإشارة إلى أنّه هذه الأرقام سترتفع في قادم الأيام مع انتشال المزيد من الضحايا من تحت الأنقاض، كما أنّه ليس جميع الناجين المقبولين حالياً في المشافي سيتمكنون من النجاة. من المتوقّع أيضاً أنّ أعداد الإعاقات قد تكون بالآلاف.
سنوات الإغاثة العجاف
تُعدّ سوريا واحدة من أعقد الأزمات الإنسانيّة في التاريخ الحديث، ساهمت فيها تشابكات سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، سواءً للقوى المحلية أو الخارجية. إنّ استمرارَ نظام الأسد في لعب دور المُتلقي «الشرعيّ»، وأحياناً الوحيد، للمساعدات المخصصة للشعب السوري، رغم أنّ الملايين منهم هم ضحايا هذا النظام نفسه، قد يكون أخطر عُقَدة في الكارثة الإنسانيّة السورية.
منذ بداية الثورة السورية في العام 2011، سَمِّها كما تشاء حرباً أو أزمةً أو كارثةً، لم تكن العمليات الإغاثيّة معزولةً عن التسيس والخداع والفساد للحصول على مكاسب سياسيّة وعسكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة. شكّلت أموال المساعدات، ما يزيد على 40 مليار دولار من الدول الغربية وحدها، مصدراً أساسياً لتمويل اقتصاد النظام وعملياته وأداةً لاستعادة شيءٍ من الشرعيّة وتنظيف ملفات جرائمه وانتهاكاته المشينة. تلك الجرائم التي، ولسخرية الأمم المتحدة من السوريين، تمّ توثيق جزء كبير منها عبر فرق الأمم المتحدة نفسها، حيث، على سبيل المثال، وثّقَ تقريرٌ للجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا بشكل جليّ أنّ «لدى اللجنة أسباباً معقولة للاعتقاد بأن الحكومة السوريّة تواصل ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في الاختفاء القسري والقتل والتعذيب والعنف الجنسي والسجن… وفي بعض الحالات قد تشكّل هذه الأفعال أيضاً جرائم حرب».
الأمم المتحدة في سوريا
بالعموم، تنخرط الأمم المتحدة في الاستجابة للكوارث الانسانيّة على الساحة الدوليّة «وفقاً لمبادئ الإنسانيّة والحياد والنزاهة». على أيّ حال، لم تستطع هذه المبادئ أن تمنع الفشل الذريع للمنظمات الأمميّة في سوريا، حيث انزاحت برامج الاستجابة عن هذه المبادئ بشكل كبير ومتكرر، ناهيك عن التوّرط أحياناً في قضايا فساد واحتيال ومحاباة للنظام، لم يكن آخرها فضيحة مديرة بعثة منظمة الصحة العالميّة في دمشق.
ليس الهدف هنا التشكيك في نزاهة الأمم المتحدة، ولكنه من الضروري انتقاد الفهم البيروقراطي الجامد والكسل المهنيّ والاخلاقيّ للأمم المتحدة في سوريا، والذي حوّلَ ملايين السوريين إلى ضحايا لهذه المساعدات، كما هم ضحايا للحرب.
كثيرةٌ هي الانتقادات لدور الأمم المتحدة وتفسيراتها لمبادئها الناظمة في السياق السوري. إلّا أنني سأركّز هنا على نقطتين أرى أنّهما أصل «الشرور» في الحالة السوريّة.
«احترام سيادة الدولة»
يشير قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 46/182 في العام 1991 بوضوح إلى «احترام سيادة الدول وسلامتها الاقليميّة ووحدتها الوطنيّة». بطبيعة الحال، لا يمكن -في الظروف الاعتياديّة- التدخّل في سيادة الدول ووحدة أراضيها، فهو في غالب الأحيان شأن سياديّ ووطني، ولكن هذا المبدأ يحتاج إلى تفسير أكثر تخصصاً وواقعيّة في الحالة السوريّة بسبب توّرط النظام السوري في حرب دمويّة ضد المدنيين وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، ترقى في كثير من الأحيان لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة.
حسب هذا المبدأ، لا يمكن لوكالات الأمم المتحدة (وكذلك المنظمات الاغاثية الدوليّة) تقديم المساعدة للمتضررين إلا عبر التنسيق مع النظام وبموافقته، كما أنه لا يمكن لهذه المنظمات تقييم الاحتياجات أو زيارة المناطق المنكوبة أو تقرير نوعيّة وكميّة وتوقيت المساعدات دون إذنٍ مسبق من النظام. إنّ تفسير الأمم المتحدة لمبدأ احترام السيادة شكّل ببساطة غطاءً مناسباً لتشريع وقوننة نقل المساعدات إلى النظام بشكل شبه حصري، واضعاً الضحايا تحت رحمة جلّاديهم، وأموال الإغاثة في جيوب القتلة ومُنتهكي حقوق الإنسان.
بحكم دورها ونطاق تفويضها وعملها، فإنّ الأمم المتحدة على دراية بعمليات التسييس والاستغلال والفساد واسعة النطاق للمساعدات الدوليّة، حيث تدفقت مبالغُ هائلة من أموال الإغاثة إلى جيوب المتنفذّين من النظام، بمن فيهم عائلة الأسد نفسها. حسب دراسة في العام 2022، تبيّنََ أن النظام يحصل على 51% من كل دولار يدخل إلى سوريا كمساعدات دوليّة، وهذه المبالغ الهائلة يتم استعمالها في دعم اقتصاد الحرب وتعزيز قبضة النظام الأمنيّة من جديد.
في لحظة فارقة من الكارثة السوريّة، تبنّى مجلس الأمن في العام 2014 القرارين 2139 و2165 لتمرير المساعدات عبر الحدود دون موافقة مسبقة من النظام. رغم أنّ هذا القرار أمّنَ طُرُقاً قانونيّة ورسميّة لتمرير المساعدات، إلّا أنّه يمكن الجدل أنّ دور الأمم المتحدة لم يتغير بشكل يعوّل عليه.
على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على تدخّل الأمم المتحدة في سوريا، لم يُقدِّم مشرعوها وراسمو سياساتها إجابة معقولة لسؤال ملايين الهاربين من جحيم النظام: لماذا يجب احترام هذا المبدأ في الحالة السورية؟ وهل فعلاً يمكن تفسير مبدأ احترام سيادة الدول بالتعامل المباشر مع نظام متورط في حرب أهليّة ومتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانيّة؟
«تتحمّل كل دولة في المقام الأول مسؤولية الاعتناء بضحايا الكوارث الطبيعية والطوارئ الاخرى التي تقع على أراضيها»
من حيث المبدأ، لا شك أنّ الحكومات المتضررة هي في موقع أفضل لمواجهة الأزمات الإنسانيّة والكوارث الطبيعيّة على أراضيها، وهي أيضاً في موقع أفضل لطلب المساعدة من المجتمع الدوليّ وإعلان حالات الطوارئ أو المناطق المنكوبة أو الحداد على الضحايا، فهي تملك السلطة، والقدرات التشريعيّة والتنفيذيّة، وإمكانيات الوصول والانتشار والاستجابة والمتابعة التي لا تمتلكها أي مؤسسة أو منظمة خارجيّة. مرة أخرى، السؤال المهم في الحالة السورية، والذي يتجنب مشرّعو الأمم المتحدة وصانعو سياساتها الإجابة عنه: هل فعلاً يجب أن يُحترم هذا المبدأ في السياق السوري، بمعنى هل إنّ النظام السوري في موقع يخوّله قيادة العمليات الإغاثيّة لكامل الأراضي السوريّة، بما فيها المناطق التي لجأ إليها ضحاياه؟
على ما يبدو أنّ الأمم المتحدة تتجنّب حقيقة أن النظام في دمشق لاعبٌ أساسي في الحرب القائمة، بمعنى أنّه ليس طرفاً محايداً أو متأثراً بصراع خارجي، بل هو صانع لهذه الحرب ومتورط بها من ألِفها إلى يائها. تشير عشرات التقارير الحقوقية والقانونية الرصينة (بعضها صادر عن لجان وفرق تابعة للأمم المتحدة نفسها) إلى تورّط نظام الأسد من قمّته إلى قعره في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة، ومسؤوليته المباشرة عن استعمال السلاح الكيماوي والبراميل المتفجّرة ضد المدنيين وتدمير مدن بأكملها وقتل مئات الآلاف وإخفاء مئات الآلاف، من بين جرائم أخرى يطول تعدادها.
في السياق السوري، يكاد يكون هذا المبدأ ساقطاً قانونياً وأخلاقياً وعملياً، وبدلاً من اعتبار مفهوم سيادة الدولة «إلهاً» لا يمكن المساس به، يتوجّب على الأمم المتحدة أن تفسّر هذا المبدأ ضمن سياق حقوق الإنسان وحقيقة تورّط النظام في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وليس ضمن أيّ سياق آخر.
من ناحية أخرى، ليس سرّاً أن الساحة السورية قد تقسّمت بشدة خلال سنيّ الحرب. يتنازع على الساحة السورية حالياً على الأقل أربعة أطراف، لكل منها بُناها الحوكميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وقوىً إقليمية ودولية تدعمها، والأهم مواقف متباينة تجاه النظام في دمشق: مناطق سيطرة النظام – مناطق سيطرة المعارضة – مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة – ومناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم تركياً. يضاف لها مناطق أصغر يُتنازع عليها بين مختلف الأطراف. في مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا، على سبيل المثال، يعيش عدّة ملايين، الغالبية الساحقة منهم هم ضحايا هذه «الدولة» ومهجّروها وجرحى عملياتها العسكريّة ضدهم. إن ربط المساعدات الأمميّة المقدّمة لهم بموافقة النظام تجعل من النظام هو الخصم وهو الحكَم في آن. سُئلتُ مرّة من قبل باحثين غربيين أن أشرح هذه النقطة بمثال، فخطر ببالي إنّ إدخال مساعدات الأمم المتحدة إلى شمال غرب سوريا عبر موافقة وتنسيق مسبق من نظام الأسد، يشبه تماماً تقديم المساعدات لضحايا الهولوكوست عبر موافقة وتنسيق مسبق من نظام هتلر.
في النهاية، لا يمكن إنكار أنّ النزاع المعقّد في سوريا -وبالتالي الكوارث الإنسانيّة الناجمة عنه- خلق معضلة عالميّة في عمليات الاستجابة، إلّا أن ذلك لا يمكن أن يُبرّر بأي حال من الأحوال تجاهل الأمم المتحدة للسجلّ الدموي لنظام الأسد في مجال حقوق الإنسان، وتورّطه بجرائم مروّعة بشكل ممنهج ضد المدنيين. إنّ جرائم النظام الموثّقة، حتى من قبل فِرق الأمم المتحدة نفسها، تضع سرديّة النظام حول مفهوم السيادة ودوره القيادي لعمليات الإغاثة في موقع المُساءلة والتجريم، وتحوّل الأمم المتحدة من مجرد شاهد إلى شريك. بعد أكثر من عشر سنوات من التدخّل في سوريا، يستحق السوريون تفسيراً نزيهاً من الأمم المتحدة يوضح لملايين الضحايا والمهجّرين لماذا تُركت مساعداتهم تحت رحمة جلاديهم.