بلغ عدد السوريات والسوريين الذين شرّدهم الزلزال في مناطق شمال غربي سوريا حتى أمس، الإثنين 13 شباط (فبراير) 2023، قرابة 150 ألف شخص، مع تواصل عمليات الإحصاء للوصول إلى الأعداد الكاملة، وذلك بحسب بيانٍ صادرٍ عن منسقو الاستجابة في سوريا. ويشير البيان أيضاً إلى أنّ عدد المباني التي تمّ توثيق تضرّرها بلغ أكثر من 12 ألف مسكن، مع إحصاء 8160 مسكناً ظهرت عليها التصدعات، وبالتالي تحتاج إلى الكشف عليها من فرقٍ هندسيةٍ لتقدير حجم الضرر وإمكانية إعادة استخدامها ومتطلبات ذلك. بدورها، قدرت الأمم المتحدة أعداد المتضررين بشكلٍ مباشر من الزلزال في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة النظام، حتى الآن، بقرابة 280 ألف شخص، مشيرةً إلى تأثير الفيضانات على ألف منزلٍ في قرية التلول بريف سلقين.
ونزح عددٌ من العوائل المشردة نحو مناطق أقل تضرراً بالزلزال في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، فيما بدأت عوائل أخرى بنصب الخيام الواصلة من السعودية وقطر وكردستان في المساحات الفارغة والأراضي الزراعية القريبة من المواقع المنكوبة، بينما لا تزال آلاف الأسر في العراء.
وفي مناطق سيطرة النظام، أدى الزلزال إلى تضرّر أكثر من 142 ألف شخص في اللاذقية، كما بلغ عدد الأبنية الطابقية المنهارة بشكلٍ كليّ 103، وهنالك 247 بناءً آيلاً للسقوط من المحتمل أن تُقدِم المحافظة على هدم معظمها خلال الأيام القادمة. وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الإدارة المحلية إلى افتتاح 275 مركزٍ للإيواء في مناطق سيطرة النظام: 235 منها في حلب، و32 في اللاذقية (47 وفق أرقام محافظة اللاذقية)، و5 في حماة، و2 في طرطوس، ومركزٍ واحدٍ في حمص. في حين قدّرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عدد الأشخاص المحتاجين للمأوى في سوريا جرّاء الزلزال بأكثر من 5 ملايين شخص.
وحتى الآن لم يتضح وجود آلياتٍ فعالة للتعامل مع تبعات هذه الكارثة على صعيد تأمين المنكوبين والمشردين وإيوائهم وتقديم الدعم الإغاثي الطارئ لهم. وذكرت مصادر محلية للجمهورية.نت أن الخيام قليلةٌ جداً في الشمال السوري حالياً، وقد ارتفعت أسعارها عقب حدوث الكارثة من 75 دولار أميركي إلى 300 دولار نتيجة جشع بعض التجار واستغلالهم للكارثة. ويعود سبب قلة الخيام في الأسواق إلى تراجع الطلب عليها بعد مرور سنوات على بدء النزوح السوري، وتوجه العديد من المنظمات المحلية إلى بناء مشاريع سكنية ونقل النازحين إليها لضمان حياة أكثر استقراراً وكرامة.
إن المشكلة الأساسية اليوم في التعامل مع الكارثة شمال غربي سوريا يتمثّل في نقص الخيام في ظل طقسٍ شديد البرودة، ونقص المحروقات والمواد الطبية. أما في مناطق سيطرة النظام، فمراكز الإيواء مؤقتةٌ جداً، كون معظمها من المدارس والمنشآت التي يُفترض أن تعاود ممارسة نشاطها خلال أيام، ولا وجود للمخيمات إطلاقاً، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان النظام سيقبل بإنشائها إلى حين التوّصل إلى حلولٍ أخرى.
معيقات الاستجابة
مما يعيق عمليات الاستجابة الإنسانية السريعة في مختلف المناطق المنكوبة؛ سعي الأطراف المسيطرة إلى حجز مكانٍ لها في العمليات، وبالتالي ليس فقط تعطيل إدخال المساعدات وربطها بتحقيق مكتسباتٍ سياسية ومادية، وإنما أن يكون لها تدخلٌ مباشرٌ حتى في عمل المنظمات المدنية. من ذلك ربط عمليات الإغاثة في مناطق سيطرة النظام بمكاتب المحافِظ وضرورة مرورها عبرها، والأنباء عن تدخلات من المجالس المحلية والهيئات السياسية في عمل المنظمات الإغاثية ضمن حدود شمال غربي سوريا الخارج عن سيطرة النظام. وبانتظار اتضاح الخطوات الإجرائية لتنسيق الجهود الأممية في عمليات الإغاثة في أعقاب اجتماع مجلس الأمن، تعترض عمليات نقل التبرعات الأهلية السورية حسابات سياسية للحكومات الأربع الموجودة حالياً في سوريا. قد تعطينا أزمة إدخال المحروقات والمواد الإغاثية إلى مناطق شمال غربي سوريا ومدينة حلب عبر خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية مثالاً جلياً على التعطيل السياسي للعمل الإغاثي على الصعيد المحلي.
وحتى من قبل المنظمات الإنسانية، تظهر حالة من الخلط بين ما هو سياسي وما هو إغاثي تقتضي المرحلة الراهنة التركيز عليه، إذ لا يبدو حكيماً من قبلها في هذه الساعات إصدار بيانات ذات طبيعة سياسية حول نوع المساعدات التي ينبغي السماح بدخولها وطرقات دخولها والمعابر التي يجب أن تدخل من خلالها. من ذلك أن الهلال الأحمر السوري العامل في مناطق سيطرة النظام سارع في أول بيان صحفي له بعد الزلزال للتركيز على الجوانب السياسية وأثر العقوبات الغربية على النظام السوري، كما أعلن فريق منسقو الاستجابة عن رفضه لدخول فريق الأمم المتحدة إلى شمال غربي سوريا. يبدو التصرف الأول منسجماً مع تبعية الهلال الأحمر للنظام السوري وانعدام استقلاليته، على أن الموقف الثاني، النابع من غضبٍ مفهوم يتشاركه عموم السوريين، يبدو تكراراً لما ينبغي تجنّبه في مثل هذه الأوقات العصيبة، إذ يتوجب دعم كل الجهود المفضية إلى تقديم العون للمنكوبين بالزلزال.
كما تظهر حالياً مشاكل غياب التنسيق بين الجهات الإغاثية والإنسانية العاملة على الأرض، وهذا واردٌ جداً بحكم هول الحدث وكارثيّته، على أنه من غير المقبول ألا تنسّق المنظمات المعنية، خصوصاً في شمال غربي سوريا، مع بعضها البعض بعد عشر سنوات من العمل الإنساني والإغاثي المتواصل، وذلك بغية تحسين ظروف الاستجابة من خلال مكاملة بياناتها ومقاطعتها والتحرك بشكلٍ منسّقٍ ومتّسق.
تشير مقابلاتٌ أجرتها الجمهورية.نت خلال اليومين الماضيين إلى أنّ غياب التنسيق يفضي حالياً إلى توزيعٍ متكررٍ للاحتياجات الإنسانية والإغاثية في النقاط نفسها من جانب منظماتٍ وفرقٍ إغاثية عديدة، مع إهمال نقاطٍ أخرى بسبب الفوضى وغياب التنسيق. لا بد من غرفة عملياتٍ مشتركة لتنسيق الاستجابة بين المنظمات المحلية والفرق الإغاثية، لا سيما التي وصلت من خارج سوريا، وكذلك مع آلية الاستجابة في شمال غربي سوريا التابعة للأمم المتحدة.
ترتيب الأولويات
في تطورٍ جديد، سمح النظام السوري للأمانة السورية للتنمية بجمع التبرعات من داخل وخارج سوريا عبر بثٍّ مباشرٍ لإذاعة شام إف إم بالاشتراك مع مجموعةٍ من الفنانين و«المؤثرين». وفي تكرارٍ لحملةٍ سابقة حملت عنوان «حتى آخر خيمة»، قرّر فريق ملهم التطوعي تغيير طبيعة حملة التبرعات التي بدأها بعد الزلزال مباشرةً لتحمل عنوان «قادرون»، وأن يكون هدفها بناء بيوتٍ للمتضررين من الزلزال. لا يبدو أن هذه الاستجابة هي الأمثل من ناحية التوقيت، فإعادة إعمار البيوت المهدمة وإسكان الناجين من الزلزال يجب أن تكون بأموال مقدمة من دول، وهو ما ينبغي أن يكون مسؤولية المانحين الدوليين، لا سيما خلال مؤتمر بروكسل الذي أُعلن عن انعقاده في شهر آذار (مارس) المقبل. ولأن هذه الجهود من مسؤولية الدول وتقتضي تخصيص مبالغ كبيرة لا يمكن إلا للدول أن تقدمها، فلا بد من التركيز على إيواء عشرات ألوف المشردين في العراء حالياً بدلاً من التفكير بإسكانهم بعد عام من الآن. قد يكون السبب الدافع لتغيير مسار حملة فريق ملهم، من هدفه الأولي لإغاثة منكوبي الزلزال، إلى بناء المساكن، هو الخذلان المستمر للسوريين من الجهات الأممية والدول المانحة، إلا إن حالة التشريد الحالية مختلفة السياق وغير مرتبطة بالصراع السوري، وتأتي نتيجةً لكارثة طبيعية، ولذا من واجب جميع الدول أن تقدم الأموال والالتزامات في سوريا بالقدر نفسه الذي ستقوم به في تركيا، ووفق احتياجات المنكوبين ومقدار الأضرار في البلدين.
ثمة اليوم أيضاً، على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع، تحركٌ أهلي سوري بزخمٍ كبير لجمع التبرعات والمواد الإغاثية في دول الشتات ليُصار إلى إيصالها نحو مدن الداخل السوري المنكوبة. لا بد من وضع أولوياتٍ وخطةٍ واضحةٍ لتكون هذه الجهود مثمرةً كما ينبغي، ومن ذلك التفكير بما يمكن إيصاله إلى سوريا فعلياً، وأكلاف شحنه والجدوى من إرساله. ليس حصيفاً جمع تبرعاتٍ عينية بقيمة 10 آلاف دولار، يمكن تأمين ما يماثلها من دولٍ مجاورة ومن داخل سوريا بطرقٍ أفضل اقتصادياً ولوجستياً، ثم شحنها إلى تركيا بكلفة قد تصل إلى مبلغٍ مماثلٍ لكلفة الشحنة ومع إمكانية ألا تصل بحكم إشكالية المعابر الموجودة. إن 20 ألف دولار على الأرض أكثر فائدةً من ذلك بكثير.
ينبغي أيضاً الإشارة للمرة المليون إلى أن توظيف صور الأطفال في حملات جمع التبرعات، مع تحويل الدعوة للتبرع إلى صيغة أشبه بالتسول أمرٌ مشين وينزع الكرامة عن المنكوبين. معيبٌ أن يقع البعض بعد كل هذه السنوات السورية القاسية في هذا الخطأ المتكرر، إذ لا ضرورة لوضع صورة طفلةٍ سوريةٍ لحثّ الناس على التبرع بالحليب. هذه سفاهة. يكفي أن يضرب الزلزال مدناً بأكملها ويشرّد الملايين ليجعل المنكوبين بحاجة إلى كل شيء.