«المهم الصحة منيحة، سنة متلا متل غيرها، لا بأس لا بأس، الله يفرج شو بدي قول، ولا شي؛ مكانك راوح، كانت سنة مُرّة». بهذه الكلمات وصف لي سوريون وسوريات في لبنان حالَ السنة المُنقضية، ولئِن بدت تلك الإجابات واسعةً وغائمة، إلا أنها كانت متبوعةً بصمتٍ وشرود يَشيان بأحوالٍ غير مريحة.

صحيحٌ أنه يصعب التكهّن بأي انفراجٍ محتمل أو استشراف مستقبلٍ قريبٍ واضح المعالم، غير أن العام الفائت وضعنا أمام عتبة متغيراتٍ كبرى، ويبدو أن تصاعد الخطابات العنصرية ضد اللاجئين السوريين في لبنان كان جزءاً من تلك المتغيرات، ليشغل حيزاً كبيراً من همومهم، مُفاقِماً من رداءة عيشهم التي بلغت حدودها القصوى. كما شغلت هذه الخطابات منصات التواصل الاجتماعي وبعض المنظمات الحقوقية، التي لفتت إلى مدى تأثيرها على حيوات اللاجئين، وإلى انعكاسها على تعاطي المجتمع اللبناني المُضيف بأفراده ومؤسساته معهم.

لم يَنتُج عن محاولة تفكيك خطابات الكراهية والعنصرية في لبنان تغييراتٌ إيجابيةٌ وملموسةٌ يمكن البناء عليها لتحسين حياة اللاجئين السوريين وحفظ كرامتهم، لكنها تُقدم صورةً أكثر وضوحاً لفهم هيكلية العنصرية والعنف الواقعَين عليهم، والإشارة إلى المُمارسين ومصالحهم السياسية، فضلاً عن ملاحظة أكثرِ الفئات الاجتماعية من اللاجئين تضرراً جرّاء هذه الخطابات. وإنْ كانت تبِعات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية في لبنان مسبّباتٌ حقيقيةٌ لما يُعايشه اللاجئون السوريون في هذا البلد، من اختناقٍ وأزماتٍ كبيرة على جميع المستويات؛ تبقى الخطابات العنصرية محركاً رئيسياً لحلقات التضييق عليهم.

عنصرية مُمأسسة

من خلال مراجعةٍ مقتضبة لأبرز ما حمله العام الفائت، نجد أن مزيداً من الانتهاكات قد مورست ضد اللاجئين السوريين؛ بدءاً من قرارات ترحيلٍ تعسفية من قرىً لبنانية كعقابٍ جماعي، وهو ما حصل في بلدة عقتنيت نهاية العام المُنقضي إثر مقتل الشاب اللبناني إيلي متّى على يد شابين سوريين. لقد دفعَ استمرارُ التحريض من قبل رجال الدين شبّان البلدة إلى طرد نحو 120 سوري-ة منها، بالإضافة إلى تكثيف البلديات من استصدار قراراتٍ بمنعهم من التجول في مناطق إقامتهم خلال ساعاتٍ محددة، وذلك على امتداد المناطق اللبنانية، فضلاً عن حملات الاعتقال التي طالتهم، بحسب ما وثّقه مركز وصول لحقوق الإنسان (ACHR)، وكذلك ترحيل 153 لاجئاً من مناطق لبنانية مختلفة إلى سوريا منذ بداية عام 2022 وحتى تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عبر الأمن العام اللبناني. 

كما لا يمكننا تجاوز الحادثة المأساوية لوفاة اللاجئ السوري بشار عبد السعود في أقبية السجون اللبنانية، وذلك بسبب التعذيب من قبل جهاز أمن الدولة اللبناني، بعد أن جرى اعتقاله والتحقيق معه دون وجود إذنٍ قانوني ودون حضور محامٍ، بذريعة شُبهات عديدة مثل الانتماء إلى تنظيم داعش وتعاطي الكبتاغون. بعد ساعاتٍ قليلةٍ من التحقيق معه، أمسى بشار جثةً هامدة. أكد تقرير الطبيب الشرعي تعرّضه للضرب ووجود حروقٍ في مناطق مختلفة من جسده، بالإضافة إلى علاماتٍ تدل على تعذيبه بالصعق الكهربائي والإيذاء بأدواتٍ حادة أثناء التحقيق. كما تنفي النتيجة السلبية لتحاليله الطبية تعاطيه الكبتاغون، وبالتالي تظهر عدم صحة مزاعم المتورطين بقتله بأنه توفّي جرّاء إصابته بذبحةٍ قلبيةٍ بعد تناول حبّة كبتاغون. 

لم تنجم أيٌّ من تلك الفظائع المرتكبة عن فراغ، بل كانت انعكاساً وربما امتداداً للخطابات العنصرية والطائفية من قبل بعض السياسيين ورجال الدين. وحين نتحدث عن العنصرية ضد اللاجئين السوريين، لا يمكن إلا أن تكون الخطابات الطائفية لجبران باسيل، وزير الخارجية والمغتربين السابق وزعيم التيار الوطني الحر، حاضرةً معنا منذ عشر سنوات، ليُفسِح المجال بعدها في السنتين الأخيرتين لسياسيٍّ لبناني آخر سيُعيّن وزيراً، ويترجمَ في سياسته التي سينتهجها رغبةَ باسيل بسحق ما تبقى من إرادة اللاجئ السوري، إلا أنها ستكون ضمن أطرٍ لا تتضمن خطاب كراهية فحسب، بل أيضاً تطوير مشاريع للحثّ على العودة «الطوعية» إلى سوريا. 

في هذا المقال سأعلق على حلقةٍ من برنامجٍ تبثّه قناة الحرّة الأميركية الناطقة بالعربية، تستضيف فيها وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هيكتور حجّار من داخل مخيمات اللاجئين السوريين.

شَغَل هيكتور حجّار منصب وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة نجيب ميقاتي التي تم تشكيلها في أيلول (سبتمبر) 2021، وقد عمل سابقاً في ميادين الخدمات الاجتماعية والإنسانية، كما أسس مجموعاتٍ مثل جماعة الإخوة المُرسلين ورواد الأعمال والقادة المسيحيون وغيرها،  ليبرز بعدها كوجهٍ جديدٍ على الساحة السياسية اللبنانية. على أن تَوليتُه حقيبةً وزارية في إطار المحاصصة السياسية اللبنانية جاءت جزءاً من حصّة الرئيس السابق ميشال عون. وقد توجهت الأنظار إلى وزارته حينها نظراً لأهميتها المرحلية المرتبطة بظرف لبنان الراهن، مثل السعي لتحسين الخدمات الاجتماعية والنظر في الأوضاع الإنسانية للفئات الأكثر هشاشةً وتضرراً، لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت وآثاره التي طالت مفاصل الحياة الرئيسية في البلاد، وبالتزامن مع جائحة كورونا.

إلا أنّ حجّار لم ينتظرطويلاً ليُحدث جلبةً في الأوساط الإعلامية والمجتمع اللبناني عموماً، إذ بدأ جهوده بدعوة اللبنانيين إلى الاقتصاد في استخدام المناديل الورقية والاستغناء عن الحفّاضات للحدّ من التقهقر الاقتصادي، وذلك عوضاً عن اقتراح خططٍ وحلولٍ ذات معنى. ولاحقاً اختلف مع وزير المُهجّرين عصام شرف الدين حول أحقية أي الوزارتين بمتابعة ملف اللاجئين السوريين، خاصةً بعد زيارة شرف الدين إلى دمشق في آب (أغسطس) الماضي ولقائِه مسؤولين في النظام السوري، وما تحدث عنه حول «تحقيق تقدمٍ إيجابي» يتلّخص بترحيب النظام السوري بعودة اللاجئين. انتهى الخلاف، بعد مناوشاتٍ عديدة، بتقويض صلاحيات شرف الدين والتأكيد على صلاحيات حجّار بمتابعة ملف اللاجئين والتواصل مع مفوضية شؤون اللاجئين والدول المانحة من أجل «ضمان عودتهم إلى سوريا»، لينجح بعدها بالتفوق على جبران باسيل في التصريحات المعادية والمُحرِّضة على اللاجئين السوريين، مشيحاً بذلك الأنظار عن رداءة أدائه السياسي.

لجأ، اعتادَ، لن يعود

من أكبر مخيمات اللجوء السوري في لبنان، وتحديداً من البقاع الأوسط، بدأت جولة الوزير هيكتور حجّار وإلى جانبه المُحاوِرة. حاولت الكاميرات التقاط أكبر قدرٍ من المشاهد التي تصوّر ملامح العيش هناك، ومن بينها مشاهدُ لأطفالٍ حفاةٍ بثيابٍ رثة يتمرّغون في الأرض الموحلة والممزوجة بمياه الصرف الصحي، يقفزون ويضحكون، ثم يلحقون بالكاميرا. تتنقّل المذيعة بصعوبة في أرجاء المخيم، ثم تسأل بعض اللاجئين عن رغبتهم بالعودة إلى سوريا، خصوصاً أنها «صارت آمنة». علامات الاستياء تبدو شديدة الوضوح على وجوههم، ولعله استياءٌ من السؤال أكثر من كونه استياءً من حقيقة عدم وجود منطقة آمنة في سوريا. نفوا جميعاً رغبتهم بالعودة بشكلٍ قطعي، واختلفت الأسباب بين دمار أحيائهم ومنازلهم وبين المخاوف الأمنية المتصلة بالاعتقال أو السَوق إلى الخدمة الإلزامية.

يؤكد الظاهرون في الفيديو على استبعادهم من المساعدات الإنسانية التي تقدّمها الأمم المتحدة منذ نهاية العام الماضي، وذلك لأن عجزها عن الحصول على التمويل اللازم اضطرها إلى تقليص البرامج الأساسية. الجدير بالذكر أن المفوضية أكدت ذلك في تقريرٍ نشرته في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مشيرةً إلى أن  بعض العائلات ستُضطر إلى الاختيار بين الطعام والتدفئة، وبأنّ مستقبل المساعدات بات مجهولاً. وقد تُرجم هذا بالفعل عبر قرارٍ اتخذته مفوضية شؤون اللاجئين بوقف المساعدة النقدية و/أو الغذائية الشهرية عن قرابة 35 ألف أسرة سورية لاجئة في لبنان. ولأن هذه الإجابات الصادرة عن أفواه أصحابها تفضح الإدعاءات الكاذبة التي يريد العنصريون دائماً إظهارها، بدأ حجّار يلتف عليها، فعزا عدم رغبة السوريين بالعودة لبلادهم إلى «اعتيادهم وتأقلمهم على هذه الحياة والعيش في المخيمات، لأنهم  كالمساجين الذين اعتادوا الأسر ويأبون إطلاقهم نحو الحرية». ويحدث أن يذهب حجّار إلى أبعد من ذلك ويتحوّل إلى محللٍ نفسي يسبر دواخل اللاجئين السوريين محاولاً جعل إجابته أكثر منطقية، ليفسّر رغبتهم تلك بـ«الخشية من التغيير بعد عشر سنوات من السجن»، أما التفسير الأخير للوزير فيقوم على «تأثر اللاجئين وخوفهم من الإشاعات القائلة بأنهم ربما يلاقون حتفهم في سوريا»، ومؤكداً أن «السلطات اللبنانية والعالم أجمع بات يعرف أن الحرب في سوريا انتهت». ما يردده الوزير كلماتٌ شائعةٌ عموماً في لبنان، وغالباً ما نسمع هذه العبارات في الجامعات والشوارع والأسواق وفي كل مكان، وهي تتغافل قصداً عن التقارير الصادرة عن منظمات إنسانية وحقوقية تثبت العكس تماماً. 

في الدقيقة الثانية والثلاثين من الفيديو تجيب سيدةٌ من داخل خيمتها خلف سياجٍ حديديٍّ مُشبّك على عدم رغبتها بالعودة بسؤالٍ استنكاري، لا يحتمل تفسيره أوجهاً عديدة: «بدنا نروح عالدبح يعني؟». إذن احتمالية الموت التي نعيشها يومياً كحقيقةٍ لا لبس فيها لا تُشبه احتمالية الذبح التي تزداد كلما اقتربنا أكثر من العودة إلى سوريا، وهذا جزءٌ من النجاة التي يكون بين احتمالاتها أن نموت دون أن نمنح جلادنا فرصة أن ُينكّل بنا. وما يدفع اللاجئين إلى العيش بجوار قطعان الأغنام وأقنان الدجاج ومياه الصرف الصحي، التي دأب حجّار التركيزَ عليها وتصويرها كـ«همجيّة» متأصلة في نمط حياة السوري اللاجئ، هو تمسكٌ بالحياة وأملٌ بأي حياة، مهما كانت قاسية، بدلاً من الذبح. 

يشير حجّار بأصابعه نحو المخيمات بتهكمٍ واضح مصحوبٍ بنظرات قرف، واصفاً إياها بـ«مصدر الآفات الاجتماعية والنفسية». في الواقع لا يمكن إلا أن ينطوي كلامه على جانبٍ صحيح، فالأوضاع التي يختبرها هؤلاء الناس كارثية، ولكن بالعودة إلى مؤتمر بروكسل الأول لدعم سوريا والمنطقة عام 2016، نتذكّر أن لبنان لم يفِ بالتزاماته أمام الدول المانحة بمراجعة الأطر الناظمة لتصاريح العمل والإقامات القانونية التي تُسهّل عليهم حياتهم اليومية ويستطيعون من خلالها تسجيل أطفالهم في المدارس الرسمية. فبحسب تقرير مفوضية شؤون اللاجئين عام 2017، 74 بالمئة هي نسبة السوريين الذين لا يحملون إقامات نظامية. أما بالنسبة للعام 2022، فإن 16 بالمئة فقط هي نسبة الذين استطاعوا الحصول على إقامات نظامية، و0.5 بالمئة فقط استطاعوا استخراج أذونات عمل، وذلك بحسب مركز وصول لحقوق الإنسان. وفي السياق ذاته حصل لبنان على مليارات لتعليم اللاجئين السوريين في ظل غياب الشفافية والمساءلة، لنجد أنّ لا شيء من تلك الوعود قد تحقق، إذ استطاع 190 ألف طفل-ة من أصل 660 ألف الوصول للتعليم الأساسي لعام 2021. وبحسب اليونسيف، فإن 49 بالمئة؛ أي قرابة نصف الأطفال السوريين في لبنان، لم يلتحقوا بالتعليم الأساسي في العام 2022. أما العام 2023، فيبدأ أكثر كارثيةً مع إقرار مدير التربية عماد الأشقر، وبموافقة وزير التربية، إيقاف مدارس بعد الظهر للاجئين السوريين «عملاً بمبدأ المساواة بعدم التعلّم» بسبب إضراب المدارس الرسمية. غير أن هذا «المبدأ» لم يُطبّق عندما مُنع الطلاب السوريون من التعلم في سنوات سابقة، في حين قد تكون هذه الخطوة مجرد ابتزاز لبناني رسمي آخر من أجل الضغط على الدول المانحة في سبيل جلب مزيد من الأموال والهبات. هذا بينما يبقى مصير الأطفال السوريين مجهولاً، وتتجه أوضاع السوريين عموماً نحو انحدارٍ مستمرٍّ من مؤتمر بروكسل الأول وحتى السادس الذي جرى في أيار (مايو) 2022.

لطالما كان اللاجئون السوريون ورقةً تتلاعب بها السلطات اللبنانية للضغظ على المجتمع الدولي من أجل تحصيل المزيد من الأموال، كما أن حجّار لم يتوانَ مرةً في أيٍّ من مقابلاته عن ابتزاز المجتمع الدولي مستخدماً ملف اللاجئين السوريين، وحتى في تلك التي أجراها بينهم وفي مخيماتهم، ليبدو مشهده في نهاية المقابلة مألوفاً وهو يهدد المجتمع الدولي «بوصول اللاجئين السوريين إلى أوروبا عبر البحر وبطرق غير شرعية في حال استمروا في عرقلة عودتهم إلى سوريا».

التبجّح بالعنصرية

يُكمل حجّار سَيره مختالاً بين المخيّمات، بجواره الكاميرا ومنتهكاً حرمة المكان وهو يقتحم الخيام دون استئذان أصحابها، وكأنها أماكن مجردة من المعنى والخصوصية ولا أصحاب لها تربطهم بها ذاكرةٌ عمرها أكثر من عشرة أعوام. ينقضّ الوزير على اللاجئين لاستجوابهم عن سبب رغبتهم بالبقاء دون أن يمنح نفسه برهةً للتفكير بما يكابده هؤلاء الناس، مشيراً إلى قطعان الأغنام التي تشرب من مياه التصريف الصحي، مُردِفاً: «من هون بدا تجي الكوليرا»، في محاولةٍ لإضفاء شرعيةٍ على الإدعاء الشائع من قِبَل بعض السلطات اللبنانية في تحميل اللاجئين مسؤولية انتشار الكوليرا في البلاد. كانت منظمة الصحة العالمية قد ذكرت في تقريرٍ لها أنّها تأكدت من وجود ضمات الكوليرا في كل من بيروت وجبل لبنان بعد اكتشاف أول حالة في الشمال ونقلها إلى المستشفى، وهي مناطق بعيدة نسبياً عن مكان  إقامة اللاجئ السوري في عكّار شمالي لبنان، الذي اعتُبر أول حالة مُشخّصة بالكوليرا في لبنان.

أما بالنسبة إلى مياه الصرف الصحي العائمة، فيُذكَر في تقرير لقناة الحرّة داخل الحلقة ذاتها أن اليونيسيف المسؤولة عن تأمين المياه للسوريين في المخيمات لم تكن قادرةً على تفريغ حُفرِ التصريف الصحي بشكلٍ منتظم في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب التوقف المستمر لمحطات معالجة المياه في البلاد على خلفية أزمة الوقود، ونذكر هنا في إطار خطة لبنان للاستجابة للأزمة عام 2022 بأنّ قطاع المياه تلقّى نحو 107.3 مليون دولار لدعم اللاجئين واللبنانيين الأكثر هشاشةً.

قبل أن يبدأ هيكتور جولته في المخيمات يقول للمذيعة التي رافقته في الجولة: «عن يلي منسميهم نازحين أصبحوا مستثمرين، تحولوا من نازحين إلى مستثمرين»، ليدخل إلى الشق المتعلّق بقانون العمل، والشروط الصحية التي ينبغي توافرها في أماكن العمل دون التطرق إلى الشروط التعجيزية التي تصل إلى استحالة تحقّقها لدى معظم اللاجئين السوريين. تسأل المذيعة عن إمكانية العيش وسط هذا التضييق، إلا أنه يجيب بأن ذلك «منعاً من مزاحمة اللبناني على أعماله وخشية الدخول في عملية توطين»، ويُنهي بالقول: «يجب تصعيب الأوضاع لدفعهم نحو العودة إلى سوريا». وفي هذا مغالطةٌ كبيرةٌ في مفهومه عن «النازح» الذي يجب عليه أن يكون مسلوب الإرادة وعاطلاً عن العمل وبائساً، لا يعمل سوى سخرةً في أراضي اللبنانيين.

غرّد حجّار عَقب زيارته لمخيم اللاجئين: «عندما يتحول النازح إلى رجل أعمال… دكاكين، مزارع، مسالخ ومطاعم… عيّنة من المخالفات تشاهدونها من قلب بعض مخيّمات البقاع الأوسط». تثير تغريدته هذه أقداراً متساويةً من السخرية والسخط، فللوزيرِ قدرةٌ على الانفصال عن الواقع وتحويره، تجعلنا نرتبك ونُصاب بالحيرة بينما نبحث عن مطاعم ورجال أعمال في هذه المخيمات. بل المروّع أكثر أن تكون المحلات المتلاصقة ببعضها، والتي تم تثبيت أسقفها المصنوعة من شوادر قماشية مقدمة من مفوضية الأمم ببضع دواليب سيارات، هي الاستثمارات التي يملكها رجال أعمالٍ بحسب الوزير، وبأن تكون أعداد الأغنام القليلة الظاهرة خلال وجوده في المخيم كنايةً عن وجود رؤوس أموال وتجّار.

علاوةً على هذا، تأخد هذه التغريدة، وما يمكن أن تسببه من ذعرٍ وعنفٍ في الوقت الذي بلغت فيه نسبة البطالة بين اللبنانيين قرابة الـ 30 بالمئة، بُعداً وطنياً حريصاً على «زيادة فرص العمل للبنانيين»، وتضع مخالفيها من اللبنانيّين في مرمى الاتهام بالتخوين وانعدام الوطنيّة.

وللمفارقة، يعترف حجّار بإيقافه مشاريع دمج اللاجئين السوريين، وبحرمان مئة ألف طالب-ة سوري-ة من الدراسة في المدارس الخاصة، وتعطيل مشاريع تحويل اللاجئين إلى «أرباب أعمال»، بالإضافة إلى إيقاف بعض الجمعيات عن تقديم المساعدات للاجئين، ويُقرّ بأنّـ«هم» يقاومون العالم من خلال هذه القرارات. هذا كلامٌ صريحٌ من وزيرٍ لبناني بانتهاك حقوق الإنسان عبر ممارسة سياسات الإذلال بحرمان اللاجئين من حقوقهم في الحياة وسلب كرامتهم، ثم اتهام المجتمع الدولي بـ«جريمة العصر» لأنه يريد إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان «على الرغم من أوضاعهم الكارثية».

الوزير حجّار ليس سوى صورة واحدة عن بُنيةٍ سياسيةٍ عنصرية في لبنان، ظلّت طوال العقد الأخير متمسكةً بخطابها العدائي للاجئين السوريين، محملةً إياهم أسباب الأزمات الاِقتصادية والاِجتماعية في البلاد. ولم تتمكن مناشدات المنظمات الإنسانية والحقوقية، ولا تنديدها بالإجراءات التمييزيّة التي باتت مُمأسسة، من دفع هذه السلطات للعدول عن قراراتها، ولا سيما خُطّة العودة الطوعية بالتنسيق مع نظام الأسد، في حين يبقى اللاجئون مُغيّبين عن تلك النقاشات، ويتقلّبون بين أيدي صنّاع المصائر الذين يقرّرون مَن هو «النازح» الذي عليه أن يبقى، ومن الذي عليه أن يعود بقافلةٍ نحو المكان الذي فرّ منه.