ننظر لما يحصل في إيران بشيء من الأمل وكثير من التضامن مع أُناس مثلنا، لا يطيقون العيش تحت نظام وحشي مستبد وإمبريالي. مشاهد الثورة في إيران تُظهر خطاً نسوياً واضحاً في الشارع، إلى جانب العديد من المجموعات العمّالية والإثنية الأخرى المظلومة من النظام.

في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) الماضي انتشر مقالٌ مترجم من الفارسية إلى الإنكليزية (الترجمة العربية لفادي بردويل نشرها موقع ميغافون)، يتناول توظيف الصورة في لحظة الثورة من جانب نسوي، ويُذكِّر في بعض نقاطه بالسجال الذي قام بين المثقفين السوريين على الصورة. تبقى إشكالية الصورة في علاقتها مع الحركات السياسية في الشارع إحدى الأسئلة المركزية في مجتمعاتنا اليوم، خصوصاً مع هيمنة الصورة في تشكيل الوعي السياسي والتعريف بقضايا سياسية خارج النطاق المحلي.

في السياق الإيراني وخصوصيته الثورية، تربط L (كاتبة النص) بين الصورة وتناسل الأفعال الاحتجاجية، كما تربط أيضاً بين الصورة والإصرار على أن الثورة في إيران اليوم ليست مُلك أحد، وأن الثوار هناك يرفضون اختزال الثورة بالأشخاص أو حتى بقضية واحدة معينة. في السياق العربي وبعد عشر سنوات من اندلاع الثورات في بلادنا، نجد أنفسنا في آن واحد منجذبين إلى شجاعة الإيرانيات والإيرانيين، وبعيدين عنهم. تفصلنا هوّة هائلة عنهم بالرغم من القرب الجغرافي. التبادل الثقافي بيننا، واللغوي بين العربية والفارسية، أصبح في السنوات الأخيرة حكراً على الشراكة في الطغيان بين النظام في إيران وبين تشكيلات من جماعات أهلية عربية أساسية في بلدان مثل  لبنان وسوريا والعراق واليمن، متعاملة معه. ولِافتراقنا جذورٌ تاريخية أعمق مما آلت إليه الثورة الإيرانية في العقود الأخيرة، فمنذ دخولنا في الحداثة على يد الاستعمار الغربي أصبح التواصل اللغوي بين العربية والفارسية محدوداً جداً. وكما تكتب سونيلا موباي، فإن «الضآلة التي آل إلیھا التبادل الثقافي والمعرفي بین كل ھذه الثقافات» قلّما تحصل مباشرة دون الاعتماد على لغة وسيطة كالإنكليزية. 

تلِّح علينا ثوراتنا ومصائرنا السياسية المتشابكة أن نعمل على تجاوز انشطارنا التاريخي عن بعضنا البعض، مما يتيح لنا تبادل المهارات والأفكار والصداقات كاستراتيجية أساسية في تغيير أقاليم الطغيان المُهدِرة لدمنا وحيواتنا. قد لا يكون لدينا بديل عن الإنكليزية لجَسْر الانقطاع في مرحلتنا التاريخية هذه. يعي بردويل الأهمية السياسية لهذا التواصل، فيتجاوز الهوة اللغوية الفاصلة بين شعوبنا ويضع في يدي القراء العرب، وخصوصاً الثوريين بينهم، نصاً مركزياً لتحليل العلاقة الثورية بين الصورة والشارع، علاقة تهمنا أيضاً في نضالنا ضد الأنظمة الحاكمة. هذا العمل لا ينفي ملاحظة فرانز فانون بأنه «عندما يمتلك الإنسان اللغة، يمتلك معها بشكل غير مباشر ذلك العالم الذي تعبر عنه وتشير إليه هذه اللغة». (بشرة سوداء أقنعة بيضاء، الفصل الأول) ولا ينفي ضرورة حَثّ طلابنا وأنفسنا على تعلم لغات جيراننا الإقليميين، كإحدى السبل التحررية الضرورية في صراع طويل الأمد من أجل استعادة حقوقنا السياسية والمطلبية والتعبيرية والشخصية من قبضة طُغاة يستغلوننا ويمتهنون أجسامنا ومجتمعاتنا يومياً.

في هذا الملف القصير، دعوتُ بعض الأصدقاء لقراءة نص L كمدخل للتفكير بما يحصل في إيران في سياق ما حصل لنا. لا يحاول هذا الملف أن يُقدّم للقراء العرب صورة واضحة عن المآلات الدموية للانتفاضة المستمرة في إيران، وإنما يحاول أن يفتح أسئلة عن جهلنا بأحوال بعضنا، وأن يخلق فضاءً مشتركاً حيث لا يبقى التواصل بين شعوبنا أسيرَ حدودنا اللغوية وانهزامنا أمام ثقافات الطغيان العاصفة بنا منذ القرن التاسع عشر. ندعو في هذا الملف بعض الكتّاب المهتمين بوظيفة الصورة السياسية أن يتفاعلوا مع نص L من خلال التفكير في زمنيّاتنا المختلفة من جهة، ومن جهة أخرى من خلال النظر في تقاطعات التفكير بالصورة في سياق ثوري، كما اختبرناها يوم كنا في الشارع نشارك العالم يوميات رفضنا للسلطة المهيمنة على حياتنا.

صور متقاطعة

فادي بردويل (أكاديمي من لبنان)

صورٌ من جديد. صورٌ من بَعدِ أكثر من عقد على بداية فيضانها. صور من بَعدِ ما تحوّلت الثورات إلى مستودع بصري ضخم، نحتار من أي باب ندخله وكيف نرتبّه ولماذا. صورٌ من بَعد إشباع. صور من بعد تخمة. هل بإمكان الصور أن تؤثّر فينا بعد؟ 

نحن الذين، من بَعدِ ما جرفتنا الصور، أخذنا مسافة منها. حاولنا الإحاطة بها، فبدأنا بتسميتها كما يفعل الأطفال: صور الحشود، صور المظاهرات، صور الوجوه-الأيقونة، صور القمع، صور القبضات المرفوعة، صور الهراوات المتساقطة، صور الجثث المشوّهة، صور الوحدة الوطنية…ثمّ أخذنا مسافة أكثر وبوّبناها: الصورة-السلعة، الصورة-الاستشراقية، الصورة-التعبوية، الصورة -الأدلّة، الصورة-الشاعريّة، الصورة-الإنسانية… تناقشنا في التعارض ما بين ضرورة التوثيق وبين احترام كرامة الناس، حيّة كانت أم ميتة. واختلفنا حول إذا ما تحوّل فعل التوثيق إلى سلعة للاستهلاك الإعلامي قبل أن يصبح مادة أوليّة لأعمال فنية تُعرض في مهرجانات دولية.

تصلنا صور الانتفاضة الإيرانية بعد كلّ ذلك. فتَستأنف اندهاش البدايات. تُشعل رغبات بتنا نخاف استثارتها مجدداً. صور تشبه صورنا الأولى في استهدافها لرموز النظام المقدسّة. ولكنّها لا تشبهها أيضاً. صور أكثر تجريداً. أيقونات بلا وجوه. أشكال مختلفة في وحدتها وموحّدة في اختلافها. 

أفراد. حجاب يحترق. عمامة في الهواء. فوطة صحيّة تحجب كاميرا مراقبة. مجموعات صغيرة. رقصة. أجساد صامتة. شواهد قبور. فريق رياضي صامت. رياضيّة تمثّل بلادها في الخارج بلا حجابها. قبلة وسط زحمة سير. إيماءات بسيطة. مقصّ شعر افتراضي خاطف. صور تخلق واقعاً. صور تستثير رغباتٍ باستنساخها. صور بلا سياق. بلا تعليق. بلا مترجمين. بلا حواشي. تجريدها يدفعها باتجاه كونية سريعة الانتشار (ڤيرال). تمسّ بباسطتها القادرة على التكثيف عصباً عميقاً، حميماً. الثورة بما هي رغبة بتغيير الحياة. بما هي تحرير للأجساد وإعادة تشكيل للبنى الشعورية. صور يَرُّد تجريدها على ربط النظام الخاص بالعام. يقاوم تكثيفها سيطرته على أجساد النساء. صور تواجه عسس مراقبة الحياة ومعاقبتها.

صور من جديد. لا. صور جديدة. تُظّهر تقاطعات عديدة: الشارع/الجسد، العام/الحميم، الڤيرال الكوني/خصوصيّة النظام، نقل الحدث/صناعة الواقع، الداخل/الخارج، التمثيل/الانشقاق، منطق التسلسل/فرادة الخلق، اسقاط النظام/تغيير الحياة.

سيلفي الثورة

ربيع مروة (مسرحي من لبنان)

أن تكون فاعلاً في الشارع  يعني أن هناك إحتمالاً لدخولك إلى عالم الصورة، وبالتالي أن تصير مادةً للمشاهدة. لا أحسب أنه بإمكاننا أن نكون فاعلين في قلب الحدث ومشاهدين له في نفس الوقت. المُشاهدة في قلب الحدث كفيلة بخروجنا عنه وبالتالي انسحابنا من أن نكون فاعلين فيه، حتّى لو كانت مدّة هذه المشاهدة للحظة واحدة. 

طبعاً بإمكان المشاهدة أن تكون هي الحدث نفسه، ولكنها مسألة مختلفة عن تلك التي أحاول الكتابة عنها في هذا النص القصير، والتي أثارتها «L»  في بداية نصها الطويل والملهم، وتتحدث فيها عن «الهوّة الفاصلة بين مشاهدة صور وفيديوهات الاحتجاجات عبر الإنترنت والتواجد في الشارع (…)  ما بين الحيّز الإفتراضي والواقع في الشارع». 

أحد مكامن الخلل التي قد تحدث أثناء الاحتجاجات الشعبية في الساحات العامة هو وقوعها في أَسر الصورة وسحرها، بحيث تتحول الشوارع والساحات إلى استديو تصوير للحدث نفسه، ويتحوّل معها المحتجّون والثائرون أنفسهم إلى مصورين لحدثهم ومشاهديهِ في نفس الوقت. فيصير المصوّر والموديل والمشاهد هم الشخص نفسه. حالة من الافتتان بالحدث قد تصل إلى حدود النرجسية الثورية، التي تتجلّى بالإفراط في إلتقاط الصور الذاتية وتحميلها على شبكات التواصل الإجتماعي في اللحظة نفسها ومن قلب الحدث نفسه. وكأننا في نقل مباشر وحيّ من الشارع.    

الخلل هو حين يتحوّل هدف الاحتجاجات الرئيس إلى مناسبة لالتقاط الصور الاحتفائية وأخذ السيلفي.

يبدو لي أن هذا بعض ما حدث أثناء إنتفاضة لبنان في تشرين الأول 2019، وتحديداً في ساحات وسط مدينة بيروت التي تحوّلت إلى مناسبة لأخذ الصور الذاتية للتوكيد والتثبيت على فعل المشاركة. نَزلنا كُثُراً إلى الساحات، والهواتفُ الذكية بأيدينا لنلتقط صوراً لنا نبدو فيها فرحين بأنفسنا بالمشاركة في حدثٍ كبيرٍ مفعمٍ بالأمل والتغيير. انتفاضة، أحببنا أن نرى فيها ثورةً كالثورات التي درسنا عنها في كتب التاريخ. استأنسنا بالتقاط الصور. كنّا مأخوذين بعددنا الكبير وبتنوّعنا ورغبتنا الجامحة في التغيير إلى حد الدهشة. وكأن اجتماعنا معاً كان عجيبةً من عجائب الدنيا؛ مفاجأةً أذهلتنا جميعاً إلى درجة أنها أنستنا الهدف الذي نزلنا من أجله أو تناسيناه عمداً خوفاً من التغيير الكبير الذي طالبنا به. لذا رحنا نتلطّى خلف صور ذاتية نرجسية لأننا لم نكن بعد مهيّئين للثورة، ولا لنسويتها الرائدة ولا مثليّتها العلنيّة السافرة، ولا حتّى لشعارها الأوحد الذي هتفنا به جميعنا وبصوت واحد: «كلن يعني كلّن». صرنا نتلهّى بالتقاط الصور وتحميلها على شبكات التواصل الإجتماعي، نشاهدها بافتتان وإعجاب ذاتي وشذوذٍ نرجسي نشتهي به أنفسنا.

يبدو لي وكأننا، نحن اللبنانيون، لدينا مقدرة عجيبة في تحويل الأحداث والكوارث والمناسبات على أنواعها إلى ألبومات صور، نظهر فيها كضحايا ومضطهدين وثائرين وأبطال وشهداء وقديسين… إنما ليس كأرانب…

الثورة فعل يحدث خارج الصورة. هي أيضاً فعل تَحرّرٍ من سحر الصورة نفسها وإطارها ورمزيتها وأيقوناتها. 

الصورة وسيلة للثورة وليست غايتها. 

لكَم أتوق لأن نتابع ما بدأناه ولكن  دون سيلفي للثورة ودون وجوهنا الشخصية وربما دون كاميراتنا بالخالص، أو على الأقل أن نتعلّم كيف ننتج صوراً مقاومةً كالتي تتحدث عنها L في شهادتها الملهمة فعلاً.

ثورة مضاعف

مروى أرسانيوس (فنانة ومخرجة وباحثة من لبنان)

أول شيء نتعلمه من التنظيم السياسي هو أن الثورة مزدوجة. ونعمل بجد لرؤية المُضاعَف. إنها ليست مضاعفة مثل انعكاس المرآة أو الإسقاط المزدوج للصورة نفسها على شاشتين متجاورتين. إنه تصور مزدوج لمحور تصادم مختلف؛ هناك صورة النظام أو النظام الأبوي الذي نثور ضده وهناك بطريركية الرفاق. نتعلم في وقت مبكر جداً أن نرى المزدوج. الازدواج ليس ظلاً، فالشقاق الداخلي هو الذي يجعل الثورة ممكنة. إذا كانت الثورة تقسم الصورة إلى صورتين، فإن الإدراك المزدوج يقسم الصورة الثورية إلى أربع صور. بمجرد رؤية المضاعف يصبح من الصعب عدم رؤيته.

صور الثورات تنتقل من مكان إلى آخر، تنتقل عبر شاشاتنا، وفي كل واحدة منها تتراكم كل صور الثورات السابقة. كل صورة ثورية تحمل فيها كل الصور السابقة. إنها صورة داخل صورة تنقسم إلى قسمين وأربعة وأكثر.

حَملَتْ صورة النساء اللواتي يلوحن بالحجاب في جنازة جينا أميني في سقز أكثر من أربعة عقود من النساء الكرديات المُنظَّمات، وقَرنًا من الاضطرابات النسوية التي قسمت الصورة. صورة جين جيان آزادي والتنظيم النسائي الكردي هي صورة داخل صورة خارج الدولة تهز الدولة الإيرانية من صميمها..

ثورة الأجساد

ياسين الحاج صالح (كاتب من سوريا)

الثورات أفعال أجساد، تحفزها انفعالات ثائرة. التطلعات العليا للثورات تمر حتماً عبر الانفعالات والأجساد، فلا يقتصر الأمر على أن الجسدي الانفعالي لا يتعارض مع هذه التطلعات، بل هما معاً وجها الثورة المباشر وغير المباشر. هذا الأخير قد يأخذ ظهوره زمناً.

لكن الثورة الإيرانية التي جمعت بين الاحتشاد وانتزاع نساء الحُجُبَ عن رؤوسهن وإشهار أجسادهن في فضاءات عامة، ثم في قلع عمامات رجال دين عن رؤوسهم، تُقرِّبُ الجسدي الانفعالي من التطلعات الجمعية، بالنظر إلى أن الحجاب والعمامة رمزان للسلطة الدينية القسرية. هذه أفعال حرية لأن من يقوم بها هو «الشعب»، جمعية المواطنين المضطهدين، وليس الدولة التي تحجب وتُعمِّم، وتضرب وتعتقل وتُعذب وتقتل. 

شعار الثورة الإيرانية: امرأة، حياة، حرية، يبدو وجودياً أكثر مما هو تاريخي. فالمرأة مفردة تحيل إلى كائن واقعي معروف، وليس إلى قيمة مما هو مألوف الشعارات. ومثل ذلك مفردة حياة، وإن تكن أكثر تجريداً، فهي تحيل إلى أعم ما يجمع الأحياء أو البايوسفير. لكن ما يحيل إلى واقع يصير قيمة حين يكون المُحال إليه موضع تمييز، مما هو حال النساء دوماً، وحال الحياة في زمن المشكلة البيئية. وهكذا تصير «امرأة» قيمةً، وكذلك الحياة، فضلاً عن الحرية بطبيعة الحال. تجتمع في الشعار ثلاثة سجلّات: نسوي وبيئي وديمقراطي ليبرالي. 

بنظرة عامة إلى صور الثورة الإيرانية، يبدو أن هناك حركة باتجاه ما هو جسدي ووجودي (أنطولوجي)، والأكيد أن ذلك وثيق الصلة بما تعترض عليه: حكم ديني، ذو بعد ألفي ومهدوي وإمبراطوري. المحايث يثور على المتعالي، والدنيا على الدين.

حياة تستفيض

ليسا دِمل (قيّمة فنية وباحثة من ألمانيا)

قضيت مدةً أخشى – خلافًا لمعتقداتي الأناركية – أنّ الطريقة الوحيدة لمعالجة الاستغلال النيوكولونيالي، واستخراج الموارد الخاصة بصانعي الصور المواطنين الدارج منذ عام 2011، هي الحرص الشديد على حقوق الملكية الفكرية وفرض الاعتراف بالمؤلّف/صاحب-ة الصورة وتسييل الشهادات المصوّرة مالياً. كلا، إذ إنّ الانتفاضة الإيرانية «المتمحورة حول الصورة»، وكما تلخّصها L بنظرتها الثاقبة، أُثبِت أنني على خطأ. فهذا الحراك الثوري يمارس التصوير ممارسة بعيدة كل البعد عن الرسملة وفرض الهيمنة، متّبعاً بذلك مفهوماً نسوياً مرناً وجماعياً للتفرّد يسعى نحو تشاركية مَجازية يجوز فيها الاختلاف بدون فصل.

الشغف هو نقطة الانطلاقة لما تسمّيه L «انتفاضة ما زالت نسائية» ولتُربتها الخاصة. إنه شغفُ الالتحاقِ بسيل/وابل الصور، شغفُ أن «تُصبحَ تلكَ الصورة»، أن تكون «تلكَ المرأةَ صاحبةَ ذلكَ الشكل المقاوم». تشير هذه الماهية الصورية للشكل إلى نقلة من مركزية الوجه إلى اختفاء الوجوه، من الفردانية المُدرَّعة إلى العمومية في اللبس العادي، «من الجسد الجميل إلى الشكل المُلهِم». شكلانيًا، ما يقتضيه القمع العنيف والاعتبارات الأمنية، كالتصوير من المنظور الخلفي وبَكسَلَة الملامح وإخفاء الهوية، يُستَرَدُّ ليصير لغة بصرية وطاقة سياسية تخريبيتيْن. ما إن يتحرر الشكل الثوري من قيود الوجه والاسم حتى يَتجمْعَنَ ويستحيلَ حاويةً يجب ملؤها، وضعية يجب تجسيدها، صورة يجب الحلول بها، وموقفاً يجب تفعيله. بالتالي، لا تقول L «بتحوّل الذات إلى جسد مثالي» بل إلى «كل جسد» أي نشر السياسات الجسمانية للنساء على طول كل شارع في إيران وما بعد إيران.

تفتح لنا غريزة الشغف النسائي والنَسَوي مساحات جديدة لإمكانية خلق أشكال مقاومة جديدة بسلسلة لا متناهية من الصيرورة. فيبرز مفهومٌ جديدٌ للأجساد (النسائية)، بحيث يزيح تمثيلُها الثوري الأنا، فلا تعود الأنا «أناي» أو «أناكِ»، بل تُنسَب إلى نضال مشترك. تتضافر هذه الروابط العلائقية والاتكالات المتبادلة، بحسب فهمي، في نمط من التعاطي المجتمعي يتمّ أداؤه عبر ممارسات للتعبير والسلب الشكلييْن. إنّ السلب هو عملية فرار متعمد من حظيرة السيطرة الاستبدادية والفردانية التملكية، والدخول إلى أنماط من الجماعة ترفض هي بدورها أنماطاً من السلب القمعي والبنيوي/الجذري.

لعلّ الهوّة التي تصفها L «بين أنا-المشاهِدة وأنا-في-الشارع» هي بالضبط/تحديداً الموقع الذي تتحقق فيه الانكشافات المتعددة لكل امرأة، بحيث تتعرف هي على ذاتها بحالة لا تكون فيها مسلوبة من ذاتها، أي الشعور بأنها أقل من مفرد وأكثر منه في آن واحد. وعليه، يمكننا فهم الشغف كبواقٍ جسمانية دائمة، كفائض أو كاحتياط، كحياة تستفيض عن الحدّ وهي تلملم ذاتها لتعيد تشكيل وترتيب ذاتها خارج تلك الذات.

أريد أن أكون تلك الصورة

آدم حاج يحيى (باحث وقيّم فني من فلسطين)

تندلع في لحظة. نُبصر صورة ثورية تُشعل فينا الرغبة في الأداء والخلق. لحظة واحدة تحمل وجوداً لم يُسمح به منذ زمنٍ بعيد. حيث تجد الجماهير المتفرقة نفسها خلف أبواب بيوتها المغلقة من الخارج بدلاً من داخلها. نعود إلى الشوارع، لننتفض بدون سابق إصرار أو تصميم موقنين أنها لحظتنا للعودة. من الخطأ أن نعتقد أننا لم نخطط لهذه اللحظة، إذ وجدنا أنفسنا في خانة أشكال التآمر غير الملموسة دون تخطيط أو إعلان، ولكننا اتفقنا عليها حول طاولات نقاشٍ جَمَعنا عليها الاضطهاد وأدارها اللاوعي. كما هي الحال في انتفاضة الكرامة في فلسطين والثورة المستمرة في السودان، يُظهِر لنا حراك إيران المستجد كيف توقظ الصورة رغبتنا بالتحرر.

في لحظات كهذه حيث ننظر ونستجيب، تتحول الصورة إلى أداة ووسيلة في أيدي المضطهدين حيث تُنشر عبرها الإشارات والرموز. صور كهذه قادرة على تحرير رغباتنا المحبوسة والمُخدَّرة والمنومة، إذ إنها تبرهن أن الرغبات لن تقتصر فقط على النقص والفقدان، بل تحمل في كيانها ميزات مثمرة وخلّاقة. وراء هذا النقص تكمن وفرة من الامكانيّات غير المنفية وغير المستكشفة وغير المرئية وغير المستغلَّة وغير المعترف بها. فإن أحاديّة هذا «النقص» هي التي تُنسب إليها رغباتنا التائهة، والتي بدورها تقيّد وتسجن تداول الرغبة ووجودها.

تُظهر لنا صور العصيان حال رغباتنا المتفككة، التي تم نفيها عن إنتاجيتها من أجل استغلال غزارتها: نحن لا نطالب بالحريّة التي لا نملكها وإنما نصنع التحرر الذي نتوق إليه من موقعنا كمَحرومين من الحرية. صور كهذه ليست كغيرها، فهي تُحافظ على كينونتها السياسية التحررية، لتترك فينا وحَولنا أثراً معدياً، يُنقَل عبر فعل النظر، ويتجسد في انتشال رغباتنا المنوّمة من منفاها العتيق، لنستعيد قدرتنا على خلق واقع جديد يمكن إدراج الحياة والاختيار فيه. في قلب هذا الحدث، تتحول الصورة إلى رمز يدل الطريق على اقتصاد شَهواتي حيث الرغبة تعمل من أجل إنتاج أنظمة اجتماعية تناهض واقع الحال – رافضة للمضارع. عودة المكبوت هي عودة الرغبة المكبوتة.

أريد أن أكون تلك المرأة صاحبة الشكل المقاوم، تلك المرأة التي رأيتُ في الصورة

أريد أن أكون الصورة، أريد أن أعيد خلقها 

تقاوم نساء إيران التخدير الرأسمالي لرغباتهنّ من خلال إتقانهنّ لفن الصور التي يستعملنها للانتفاض على أساليب النظام الأبوي الرقابي. صورهنّ خالية من الوجوه ولكنها قوية في رموزها وقدرتها على القيادة، إذ تُحجب فيها هويتهن ولكنها تدق طبول المعركة في قلب كل من يراها. بينما تُنتج الأنظمة صوراً لنا كأداة للإمعان في قمعنا والتحكم بنا. وبينما تخترق الرأسمالية قدرتنا على التوحد من خلال إنتاج صور فردية وأيقونية لنا، تُفعّل نساء إيران الصورة كرمز للشَغَب. تقع صور الثورجيّات في وجدان مستقبل ثوري قيد الإنشاء، كما تمتد منها أسس وبنى تحتيّة لمجتمع جديد، برغباته واحتياجاته، يُطيح بالبنية الاجتماعية القمعية المتهالكة، ويرسم في سمائها أحلاماً بنظامٍ اجتماعيٍ مغايرٍ جديد ذو اقتصاد شهواتي غير مملوك. 

تَحرَّرنا من التفكير بالموت وتركناه خلفنا

فعلُ تَناقُل الصور الذي يقوده محجوبو الوجوه في انتفاضة أو «انقلاب» إيران، يحمل في طياته رسالةً مَضمونُها أن وجوههم وأسماءهم هي الطريق لنعيهم وتذكرهم. هم بنات وأبناء الشوارع الذين يرفضون أن يصبحوا ذكرى، ولا حتى يريدون أن يصبحوا أبطالاً. لكنهم يطلبون منا أن نراهم كمحاربين وأن نعترف بتَوقهم للحرية. يثورون على تسييج التاريخ لهم وتسليعهم كأيقونات ورموز، بينما يصرّون على إشارات معينة ودعوات للمشاركة من خلال الصور. نعرف من هي مهسا، نعرف اسمها ووجهها لأنها قُتِلت، كما نعرف آخرين ممّن عانوا أو كان مصيرهم أن تكون معاناتهم تشبه معاناتها. بينما نشهد على تدفق صور القبضات الكردية المرفوعة المصوَّرة من الخلف إلى جانب صور مُبكسَلَة لحرق الحجاب والسيارات، نصلّي ألّا نتعرف أبداً على أسماء ووجوه الناس في شوارع إيران، وأن نستمع دوماً لصورهم وما يشيرون إليه وما يعلموننا إياه، إلى أن تنطلق ثورة جديدة في قدرتنا على الرؤية. 

غياب الصور

سلمى شامل (باحثة من مصر)

أُميل شاشة كمبيوتري كي أَحجبه عن نظر أمي الداخلة إلى غرفتي بدون أن تدق على الباب. أخبئ عنها صورة امرأة عارية لا أعرفها يحصرها جمعٌ من مئات الرجال. الصورة ليست لجسم. إنها صورة لقطعة لحم، تَلكزها الأكواع، مُشلّحة، مسحولة، ويتدافع عليها المئات من الرجال المجهولين. ستنمحي هذه الصورة عن الوجود بطلب من السلطات المصرية. بعد عشر سنوات، ستنشر صديقتي ياسمين الرافعي كتاب Radius عن مجموعة التدخل النسوية التي أسَّسناها في وسط ميدان التحرير كي نُسعف نساء لا نعرفهنّ، كُنَّ يتعرضَن للضرب والتحرش والاغتصاب من رجال لا نتعرّف عليهم في مظاهرات لم ننوي أن نشارك فيها بالأساس، بينما كانت ثورتنا تعاني لكي تبقى حية. في ذاك الكتاب، سيتحول لحمي إلى اسم مستعار، والاسم المستعار هذا سيصبح جسماً له ذكريات مشوهة. وفي هذا العقد من الزمن الذي يفصل اللحم والاسم المستعار، ستضمحل الصور أكثر وأكثر.

في قلب النص، تكتب L عن رغبة الأجساد بأن تصبح صوراً. الرغبة ليست ليصبحن صوراً تلتقط الأحداث والصراعات وإنما يرغبن بأن يصبحن صوراً تعطي المركز للجسم، صوراً تستحوذ على تاريخ الأجساد، أجساد تعيد حساب المسافة بين النظر والحضور. تقول L إن الرغبة في صور ذات مركزية جسمانية هي في قلب الثورة النسوية. هل هذا يعني أن الرغبة بأن لا نصبح صورة واقعٌ في قلب الثورة المضادة؟ ماذا يحصل للجسم عندما لا يعود يرغب بالصور؟ ماذا يحصل للأجسام في غياب الصور؟

لا صور لجسم علاء عبد الفتاح بعد سبعة أشهر من الإضراب عن الطعام. لا يوجد صور لتَحوُّل جسمه إلى لحم يعود ويأتي من الموت. لا يوجد صور للاقتصادي أيمن هدهود الذي اختفى وعاد وظهر ميتاً في مستشفى العباسية للأمراض النفسية في القاهرة. لا توجد صور لقاعات المحاكم في القاهرة، ولا صور من داخل السجون. نرتاح قليلاً مع غياب الصور، وأيضاً نشعر بالانتهاك. يُسعفنا أننا لا نشهد الألم الذي يتعرض له أحبابنا، لكننا مُنتهَكَون بهذا التنافر بين النظر والحضور. لا أقوى على استهلاك الصور من المدن والقرى والشوارع الإيرانية. هناك حاجز، مسافة محايدة يَجترحها التضاد بين قدرتي على الاستيعاب ومحتوى الصور. هل يكون الفعل تحررياً عندما تتصدع ترسانتي الدفاعية؟ هل أتجاوز نفسي؟ أن أُدخِل صور الآخرين كي أملأ الفراغ المُتولِّدَ عن غياب صورنا؟