عمَّ تبحث النساء لدى الرجال الأكبر سنًا؟

حين تسألين الناس لماذا الرجال يفضّلون المرأة الأصغر سنًا، سيأتيكِ الجواب غالبًا أن النساء الصغيرات أكثر جاذبية من الناحية الجنسية. أما حين تسألينهم لماذا النساء يفضّلن رجالًا أكبر سنًا، سوف يكون الجواب أكثر ترددًا: ربما النساء يُعجبنَ بالأقوى منهنّ. يبدو أننا نفترض أن الرجال لا يُعجبون بالأقوى منهم، وأن النساء لا يهتممنَ كثيرًا بجاذبية الرجال الجنسية، أو يعتقدنَ أن جاذبيتهم تدوم فترة أطول.

إذا أخذنا العلاقات التقليدية بعين الاعتبار، لن نستغربَ لمَ النساء كُنّ ولا زلنَ يبحثن عن رجلٍ من النوع الثقيل. فطالما أن استقلالية النساء الاقتصادية أمرٌ مستحيل من الناحية العملية، سيتعلق المستوى والضمان المعيشيان بشكل مباشر بمكانة الرجل الذي ستتزوجينه. فإذا كان دخله عاليًا، سوف يكون لديكِ خدمٌ يساعدنكِ بجزء من الأعمال المنزلية، أما إذا كان دخله منخفضًا، ستضطرين للركوع على ركبتيك كي تُنظفي أرض المطبخ. كذلك مكانتكِ الاجتماعية ترتبط بشكل مباشر بمكانة زوجك، حيث ما زالت العجائز يتذكرنَ كيف أن لقب المرأة في القرية لا يتعلق فقط بوضعها العائلي، بل بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها زوجها أو والدها. تُلقَّب زوجة كاتب العدل بالست، أما الفلاحة فيُقال عنها امرأة، ونساء الطبقة العاملة يُدعينَ آنسات. وما زلنا حتى الآن قادرين أن نحزر الطبقة الاجتماعية للرجل من خلال مهنته مباشرة، أما الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها المرأة، فتتعلق بأمرين: ما إذا كانت عاملة أم لا، وما إذا كانت مرتبطة برجل أم لا وبطبيعة مهنته. هذا يعني أن الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها النساء تصعد وتهبط عادة أكثر ممّا يحصل مع الرجال. كنتُ يومًا ما ابنة مدير، وتزوجتُ بعدها برجلٍ كان يعمل كمصلّح كهرباء وأصبح عاطلًا عن العمل، فهبطتُ معه حرفيًا عدة درجات على السلم الاجتماعي، مع أني الشخص نفسه ولم أَتغيَّر. ما زلت أذكر أني ركبتُ مرة مع زوجي في سفينة، فإذ بي أُحَوَّلُ إلى طابق النبلاء الأعلى بسبب معطفي الذي جلبته قبلًا معي من بيت أهلي. وحين اكتُشِف الخطأ، أخرجوني مرة ثانية من هناك. وغدوتُ لاحقًا مع ما يسمى هذه الأيام بـ «أمهات المعونة الاجتماعية»، وبعدها حصلتُ على موقع معقول، ولكن هذه المرة ليس عن طريق رجل. 

ما زال دخلُ النساء غير كافٍ بالنسبة لأغلبيتهنّ، لكن فكرة أن مكانة المرأة مرتبطة بزوجها لا تموت بسهولة، حتى بالنسبة للحاصلات على مرتبة خاصة بهنّ. ما زلتُ أذكر تلك المرأة المحترفة والمستقلة ماليًا، والتي تخلّت عن صديقها لأنها أحسّت أنها غير قادرة أن تفتخر به. يبدو أن رغبة النساء إلى شريك بمستوى تنبع جزئيًا عن حاجتهنّ للاستمتاع بالحديث معه، وتقاسُم بعض الاهتمامات معه، ولكن في الخفاء لا بد أن يتأثرنَ بكون النساء يُحاسَبن على أزواجهنّ. يبدو أن مكانة الزوج ما زالت بالنسبة للكثيرات أهمّ من مكانتهنّ التي حصلنَ عليها بأنفسهنّ. كما أعرف امرأة أخرى لا تبحث عن رجل بـ «مستوى». فرغم استقلالها، إلا أنها تعاشر منذ سنوات رجلًا لا يجاري مكانتها المهنية، ولكنه «يمتعها بالجنس»، ويكفيها لقضاء عطلة الأسبوع معه. بيد أنها لا تَظهر معه أبدًا في الحياة العامة، ولا في حفلات دور النشر، أو مهرجانات الكتب. هو لا يريد، تقول لي. هي أيضًا لا تريد، أقولُ لنفسي. 

لا بد أن التقاليد صعبةَ التغيير تلعب دورًا في تفضيل النساء وسطيًا للرجال الأعظم وزنًا. ولكن ثمة سببًا آخر في منتهى العادية. ذلك أني حين أتصفّح دعايات التواصل، أكتشف أن معظم النساء يرغبن شخصًا من العمر نفسه تقريبًا. ولكنهن لن يحصلن عليه، لأنه لا يريد. فالرجال يرغبون بامرأة شابة، وبما أن العلاقة تتطلب موافقة الطرفين، لا يبقى للنساء سوى الرجال الأكبر سنًا. كما أن هناك سببًا أكثر عمقًا قد لا نعيه دائمًا. ومن أجل أن أتطرق إليه، لا بد لي من الخروج عن الموضوع قليلًا. 

تُقدّم شودور، عالمة الاجتماع والمتمرّسة في التحليل النفسي، تعليلًا آخر لحاجة النساء إلى رجل أكبر سنًا. تقول إن حاجة الرجال والنساء إلى الحميمية والأمان تعود إلى سنوات الطفولة الباكرة. غير أن الرجال مُدرَّبون بشكل سيئ على مواكبة حاجة الآخر إلى الحميمية، إنهم يشعرون بالخوف والضيق حيال ذلك. لذلك تبحث النساء جزئيًا عن الرابطة الأساسية في مكان آخر: لدى النساء الأخريات. فحتى النساء الغيريات جنسانيًا يحرصنَ على روابط الثقة والحميمية مع النساء الأُخريات. وبخلاف الصبيان المضطرين لقطع التماهي مع المرأة الأولى في حياتهم، أي الأم، تتربى البنات ضمن رابطة حميمية مع امرأة، فهنّ غير مضطرات لقطع حبل التماهي معها، هذا يعني أن تلك الرابطة لا تنقطع أبدًا بشكل نهائي. وهكذا تحصل المرأة على جزء من الحميمية من النساء الأخريات، وعلى الجزء الآخر من خلال أمومتها: تكرار العلاقة الحصرية مع ذلك الآخر المتفرغ لها بشكل كامل. 

كذلك تبحث النساء جزئيًا عن الحميمية لدى الرجال. وتقول شودورو إن الاحتمال الأكبر أن يَجدنها لدى الأكبر سنًا، لأن الرجال يصبحون متسامحين بخصوص الحاجة إلى الحميمية كلما تقدم سنّهم، ولا يشعرون بالتهديد بسببها. كما يبدأ الرجال الأكبر سنًا بإدراك أن تسلق سلّم العمل ليس كل شيء في الحياة، لذلك يتعامل الواحد منهم مع أطفاله الذين أنجبتهم له فتاة شابة بشكل ألطف بكثير من تعاملهم مع أطفالهم من النساء السابقات. وكلما ارتفع عمر الرجال والنساء، تشابهت احتياجاتهم أكثر.  

في الحقيقة، لديَّ تحفظاتي على هذا الكلام. طبعًا ألاحظ أن الزوجين الأكبر سنًا، في حال تحمّلا بعضهما بعضًا حتى تلك المرحلة، يتعاملان بسلام أكبر من أي زوجين شابين. كما أرى مسنين لا يخجلون من الجلوس مع أحفادهم في حوض الرمل أو الذهاب لإحضار شيء من السوق. هذا يعني أن بعض الرجال قادرون أن ينمّوا سلوكًا أكثر «أنثوية»، حين يبتعدون عن عالم المنافسة ويسمحون لأنفسهم ببعض الراحة. ولكن هذا لا ينسحب على جميع الرجال، إذ كيف نبرر عدم رضا كثير من الرجال على زوجاتهم حين يتقدمنَ بالعمر مثلهم؟ فلنأخذ الكاتب الفرنسي ماتزنيف على سبيل المثال، فهو ليس نوع الرجل الذي يصبح أقلَّ خوفًا من الحميمية مع النساء حين يتقدم بالسن، إلا في حال انقلب إلى إنسان آخر. فهو يحتفي بحميميته مع أصدقائه بالدرجة الأولى، إنه نموذج الرجل الغيري جنسيًا إلى حد الإدمان، ولكن ما عدا ذلك فهو مثليّ اجتماعيًا وعاطفيًا. 

ولكن ربما تحتاج بعض النساء إلى رجلٍ «أب»، لأنهن يبحثنَ عن «الأم» ويَجدنها لدى الرجل الأكبر سنًا. أو يحتجنَ إعادة الرابطة مع الأب الذي كان أمثولة لهنّ: لا شيء يمنع أن نبحث في علاقاتنا العاطفية عن شيء كان لدينا، أو افتقدناه، في الماضي. ولعل تلك العلاقات تُشبع كلا الطرفين، رغم أنها ستبقى بضع سنوات وحيدة حين يتوفى شريكها قبلها. غير أني أعتقد أن شيئًا آخر يؤثر على ميل النساء إلى الرجال الأكبر سنًا، أو القبول بهم. يتعلق الأمر بظاهرة بتنا نسميها مؤخرًا «خوف النجاح».

ذلك أن كثيرًا من الباحثين كانوا يتساءلون حول سبب تراجع علامات الفتيات في سنّ المراهقة بعد أن كُنّ من المتفوقات في المدرسة. بمقدورنا التنبؤ بشكل معقول كيف ستكون حظوظ الفتيان الاجتماعية لاحقًا من خلال مستواهم الدراسي (لا أدري إذا كان كلامي ما زال صحيحًا نظرًا لارتفاع مستوى البطالة)، ولكن الأمر بالنسبة للفتيات أكثر تعقيدًا. حيث تَبدّى أن بعض التلميذات الموهوبات جدًا لم يحققنَ أي شي لاحقًا، على الأقل على المستوى الاجتماعي. يبدو أن بعضهنّ لم يستخدمنَ موهبتهنّ إلا في العثور على رجل موهوب، ودَفعه إلى الأمام، بدلًا من التركيز على مشوارهنّ المهني. في حين أن فتيات أخريات اخترنَ مهنة معينة، ولكنها كانت غالبًا أدنى من مستواهنّ التعليمي. واليوم بتنا نفهم السلسلة الطويلة من الأسباب التي تحمل النساء اللواتي لسنَ أقل ذكاء أو مقدرة من الرجال على الاكتفاء بمناصب متدنية في العمل. حيث أنهنّ لا يُؤهلنَ بشكل كاف بغرض اتّباع رغباتهنّ وتنمية حس المبادرة لديهنّ، لذلك تتجنب النساء أكثر من الرجال المواقف التنافسية، وبالأخص حين يكون التنافس مع الرجال. لربما من الأفضل تبديل السؤال حول ما إذا كانت النساء يُتقنَّ لعب الشطرنج، بسؤال آخر: هل تريد النساء لعب الشطرنج؟ هل يطمحنَ إلى الفوز؟ هل يطمحنَ إلى الفوز على رجل، مثلًا؟ ما زال التصوّر حول «الأنوثة» ينافي إلى حد الآن التصوّر حول «الموظف القيادي»، مع أن الأمر بدأ يتغير قليلًا مع ازدياد عدد النساء اللواتي وصلنَ إلى وظائف قيادية. وحين تستلم امرأةٌ جديدة منصبًا وزاريًا، لن نحتاج إلى البحث طويلًا في الجرائد حتى نجد المقالات التي تشير إلى كونها امرأة. وفي حال كانت الوزيرة مبادرة وتفعل ما يفعله الوزراء الرجال، سوف لن يتردد الصحفيون بالتشكيك بجاذبيتها. أما حين تكون لطيفة وجميلة، فسوف يشككون مباشرة بإمكانياتها. 

كما أن النساء يبحثنَ عادة عن عمل يعجبهنّ القيام به، ولا ينتبهنَ كثيرًا إلى المناصب. بالنسبة لهنّ، لا حاجة كبيرة إلى تسلق سلم العمل عاليًا. وغالبًا ما يخترنَ وظائف تتوافق مع صورة الأنوثة، كأنْ يفضّلن أن يكنّ ممرضات وليس طبيبات، أو طبيبات أسرة أو أطفال وليس اختصاصيات، أو مشاركات في عيادة جماعية مما يساعد على الحصول على أوقات فراغ أطول، أو يقمنَ بعمل يمكن التوفيق بينه وبين رعاية الأطفال. هذا يعني أن عدم تسلّم النساء مناصب عالية لا يتعلق فقط بالعنصرية الخارجية، بل كذلك بتركيز أقل على النجاح المجتمعي، وتأهيل اجتماعي غير تنافسي، واستدماجِ صورة معينة عن الأنوثة. ولكن هناك عنصر واحد يتم غالبًا تجاهله في جميع البحوث والتقديرات حول سبب عدم بروز النساء في المجتمع، وهو إمكانية التوفيق بين طموحك كامرأة وعلاقة معقولة مع الرجل. وهذا السؤال أعمق من المعضلة القديمة حول التوفيق بين العمل والأطفال، رغم ارتباطهما معًا. 

وقد اكتشفت الباحثة ماتينا هورنر في بداية السبعينات ظاهرة مثيرة. ذلك أنها بحثت في الدوافع الدراسية للفتيان والفتيات في المعاهد الأميركية، وتوصّلت إلى أن كلًا من الفتيان والفتيات يشكون من رُهاب الفشل، أي أنهم يخافون ألّا يحققوا توقعات الوالدين والمعلمين، ويرتبكون بشدة من احتمال رسوبهم في الامتحان. ولكن بالإضافة إلى ذلك، فالفتيات كنّ يشكين من الخوف أن يتميزن أكثر من اللزوم. وهذا ما أطلقتْ عليه «رهاب النجاح». فحين كانت تطلب من الفتيات أن يتخيلنَ المرأة الناجحة، كانت إجاباتهنّ سلبية في أغلب الأحيان: المرأة الناجحة بشعة وتعيسة ومحبطة ووحيدة، أي كل شيء لا يطمحن أن يُصبحنه. وبينما يعاني الفتيان من الشك ما إذا كانوا كفوئين فعلًا، تواجه الفتيات متطلبات متناقضة: ينبغي أن يصبحنَ كفؤات، ولكن إلى حدٍ معين فقط. بيد أن أكثر ما أثارني في البحث كان ما قرأته بين السطور، وهو أن بعض الفتيات لا يسمحنَ لأي شيء أن يقف في طريقهنّ. أتصور أنهنّ فتيات غير متوجهات بشكل أساسي إلى علاقة مع رجل، أو على الأقل يتلقينَ الدعم من عوائلهنّ كي يصبحنَ طموحات. حيث أننا نعلم على سبيل المثال أن كثيرًا من النساء الناجحات لديهنّ آباء لا يتقبلونهنّ فقط كنساء، بل ككائنات ذكية، فيتمكنّ من استدماج صورة عن أنفسهنّ لا تتنافر فيها الأنوثة مع الذكاء. كما قالت بعض النساء في بحث هورنو إن شريكهنّ يشجعهنّ على عدم التخلي عن الدراسة. ولكن المثير في الأمر أن العلاقات التي يحصل فيها ذلك، يكون كلا الشريكين متأكدَين أن الرجل هو الأذكى.  

لا حرج في أن تحاول، طالما الشريكان متأكدان أنه هو الأهم في العلاقة. وهذا ما نلاحظه كذلك حين ننظر في البحوث التي رصدت العلاقات التي يكون فيها كلا الشريكين منشغلَين بمسارهما الوظيفي. ذلك أن التوازن يكون هشًا بعض الشيء، وتبقى هي المسؤولة عن ألّا يختلَّ بشكل نهائي. كثير من الرجال والنساء ينظرون إلى العلاقة الزوجية كميزان: كلما ارتفعت وجاهتها، نقصت وجاهته. أي حين تكون، لا سمح الله، قادرة على تسيير أمور عملها أفضل منه، سوف تضطر إلى بذل مجهود كي لا يؤثر ذلك على إحساسه بقيمته الذاتية. ذلك أن خطرَ انتهاء العلاقة واقعي ومطروح دائمًا. واحتمال تحطُّم العلاقة أكبر حين لا يكون هو المسيطر، بل هي. أما حين يختل التوازن أكثر، فسوف تحتاج المرأة إلى التعويض بطريقة ما. وهكذا ترهق نفسها بإثبات أنه هو، وليس هي، الأذكى والأقدر، كي تُطمئنَ نفسها وتُطمئِنه وتُطمئِنَ المحيط. وليس بالضرورة أن يكون سلوكها واعيًا، ذلك أن كثيرات يعتقدن أن ثمة حدًا غير مرئي ينبغي عدم تجاوزه. وتقول سارة يوجيف التي قامت ببحث حول علاقات النساء المتعلمات: «تحتاج المرأة ذاتُ التعليم العالي أن ترى زوجها على أنه رجل ذكي بشكل لافت من أجل أن تتقبل إنجازاتها نفسيًا».

ومنذ ذلك الحين تم البحث كثيرًا في «خوف النجاح»، إذ لم يثبت لاحقًا بشكل دامغ أن الشابات ينطلقنَ سلفًا من أنهنّ سوف يصبحنَ غير محبوبات في حال كنّ كفؤات أكثر من اللزوم. قد يكون هناك شيءٌ تغيّرَ فعلًا في صورتنا عن ذواتنا، وصرنا لا نتوقع أن تكون المرأة الناجحة غير جذابة ووحيدة من حيث المبدأ. غير أن ظاهرة الفتيات اللواتي يحرصنَ على ألَّا يُظهرنَ مدى معرفتهنّ ما زالت موجودة حتى الآن. وقد وصفت ميكه ديفال في بحثها حول تلميذات الثانوية كيف أنهنّ يعتبرنَ عدم استعراض العلامات العالية «ذكاءً»، والأهم عدم تجاوز الصبيان المحبوبين. وقد أطلقت كومرافوسكي منذ أربعين عامًا على هذه الظاهرة اسم «لعبة التغابي»، والتي لم تنقرض حتى الآن. حتى أن البحوث التي تتناول النساء الموهوبات أثبتت أن ظاهرة التغابي ليست غريبة عليهنّ على الإطلاق، حيث أن الذكاء ليس محمودًا دائمًا بالنسبة للنساء، إلا في حال استطعنَ إخفاءه بشكل جيد جدًا. أما بالنسبة للصديقة التي حدثتكم عنها منذ قليل، فقد لاحظت ذلك من خلال الرجال الذين قابلَتهم إثر إعلان التواصل الذي نشرته: ينتهي التواعد حين تُخبر أنها حاصلة على درجة الدكتوراه، لذلك صارت تُخفي تلك المعلومة، إلّا في حال كان هو أيضًا دكتور. وقد حصل مرة أن أنهى رجل علاقته بصديقة لي قائلًا: أنتِ أذكى مني. يبدو أني أَحسستُهُ بذلك، قالت لي متحسّرة.

الذكاء لدى المرأة مقبول في حالة كان جليًا أنه أذكى منها، ونجاحها مقبول في حال كان هو ناجحًا قبلها وأكثر منها. ولذلك كتبت الشاعرة سيلفيا بلاث رسالة إلى والدتها إثر صدور ديوان زوجها الشاعر تيد هاغز: «أنا سعيدة بصدور كتابه أكثر مما لو كان كتابي! (…) كم أنا سعيدة أنهم قبلوا كتابه أولًا. هذا سيسهّل عليَّ الأمور في حال صدر كتابي قريبًا. وقتئذٍ سأكون قادرة على السرور بعد أن تأكدت أن تيد سبقني».

باختصار: تنطلقُ النساء من أنه من الأفضل للعلاقة أن يكون هو الأذكى والأنجحَ والسبّاق. وإن لم يكن  كذلك، فلا بأس أن نتصنّع الأمر. وهنا أعود إلى سؤال لماذا ترغب معظم النساء برجلٍ يكبرهنَّ سنًا، ولديه منصب وظيفي أعلى، ويكسب أكثر: كي لا يضطررن إلى الحذر من ألا يجرحنه، ألا يتفوقنَ عليه بذكائهنّ ونجاحهنّ. أما حين تكون المرأة مع رجل قد ثبُت أنه سيد العلاقة، فسوف تسمح لنفسها بتوسيع مساحتها بالطول والعرض، لأن هامش الحركة لديها أكبر.

قد يبدو من كلامي أن المرأة تقوم بخطوة محسوبة حين تختار رجلًا أكبر سنًا وله وزنه. غير أن اختيار الشريك لا يكون على تلك الدرجة من الوعي في أغلب الأحيان. أعتقد أنه ثمة ملاحظات دقيقة وغير واعية تلعب دورًا في مرحلة الشدّ والنبذ: نوع الفتاة التي تنال إعجاب أكثر الفتيان شعبية في الصف، والإزعاج الذي يكون من نصيب الفتاة المتفوقة (المُبالِغة باجتهادها كما يشاع عنها). وانتباه الفتاة إلى كون مظهرها محطّ إعجابٍ أكثر من إنجازها، حتى من قِبل والدها. فضلًا عن شتّى التوصيفات التي تحدّد من هي العانس غير المنتمية إلى جنسٍ معين. ولاحقًا لدينا أمثلة كثيرة عن المحاولات التخريبية التي يقوم بها الرجل، عن وعي أو غير وعي، حالما يشعر بتهديد إنجازات المرأة وطموحها. لذلك تعلمت الكثيرات أن يستبقنَ الأمور، وإحدى طرقهنّ هي أن يعشقنَ رجلًا لن يشعر بالخطر سريعًا. أي أن سبب اختيار النساء لشريك يكبرهنّ سنًا يكمن بالدرجة الأولى في أن رجال جيلهنّ لا يتقربون منهنّ، وبالدرجة الثانية في الاعتماد الاقتصادي طالما أن المرأة ما زالت غير واثقة من مقدرتها على الاستقلالية، وبالدرجة الثالثة في تقليد أن الظهور مع رجل أكبر سنًا هو الأفضل، وبخاصة حين يكون بعض المتقدمين بالسنّ أكثر لطفًا، وأخيرًا لأن المرأة تدرك تمامًا أن الرجل الأكبر سنًا والأعلى تعليمًا سوف يمنحها مجالًا أكبر للنمو. غير أن التجربة علّمتنا أن ثمة مفارقة هنا، لأن ذلك لن يتعدى حدودًا معينة. 

بيدَ أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الذي يجعل الرجال يستصعبون النساء المستقلّات، والنساء الأكبر سنًا، والنساء القويات، والنساء الموهوبات؟

عمَّ يبحث الرجال لدى النساء الأصغر سنًا؟ 

يملك البشر احتياجين أساسيين: الاستقلالية، أي السيطرة على حياتهم الشخصية ووجودهم؛ والارتباط، أي الاطمئنان والانتماء. ويمكن ترجمة ذلك بشكل تقريبي إلى العمل والحب. في الوضع السليم ثمة توازنٌ بين هذين الاحتياجين، فأحدهما لا يستبعد الآخر، بل على العكس، كلاهما يفترض الآخر. انظروا إلى الطفل الذي شرع لتوّه بتعلم الزحف والمشي: نجده في غاية السعادة لأنه قادرٌ على المشي من غير سند، ولكنه لا يكفّ عن الالتفات ليرى ما إذا كانت أمه ما زالت واقفة خلفه، فيرغب بالعودة إلى ذراعيها، لينطلق من هناك بمغامرته الجديدة. إنها تدريبات على التوازن بين الارتباط والاستقلالية. حين يكون لدينا شخص نعتمد عليه، أو عشّ نعود إليه، أو أسرة أو حبّ، سوف يَسهل الوقوف على قدمينا. وبالعكس سوف تُيسّر الاستقلالية الفعلية عقد الصلات مع الآخرين، والحب دون الخوف من زوالِ الحدود الشخصية والغرقِ في الآخر بشكل كامل.

الوضع المثالي أن نجد ذلك التوازن في أنفسنا وعلاقتنا مع المحيط، لأن الناس عبارة عن حيوانات اجتماعية ولا أحد يحتمل الوحدة الكاملة. غير أن الأمر ليس بسيطًا بالنسبة لمعظمنا، لأننا لا نفتأ نواصل محاولاتنا لتصحيح التوازن حين يصيبه الاختلال، أو حين نفقد سند العلاقة، أو حين نتهدد بفقدان جزء كبير من استقلاليتنا. 

تُعتبر نانسي شودورو إحدى أهم المنظّرات اللواتي وضّحنَ أن النماذج الأساسية، التي تحدد أساليب تعاملنا مع التوازن بين الاستقلالية والارتباط، قد تشكلّت في سنوات حياتنا الأولى. ثمة فروق فردية كبيرة في تعاملنا مع الأمر، وغالبيتها تتعلق فيما إذا كنا قد حصلنا على أمان ومساحة كافيين لممارسة استقلاليتنا. غير أن هناك كذلك بعض النماذج التقريبية التي تتناول اختلاف النمو لدى الجنسين. 

ما زال عاديًا أن يكون ارتباطنا الأول والأساسي مع امرأة، وحسب شودورو سيترك ذلك آثاره العميقة على تكويننا كرجال أو نساء. باختصار: تتعلم الفتيات أن يصبحنَ نساءً من خلال علاقتهنّ الحميمة مع امرأة موجودة، بينما يحتاج الصبيان إلى التخلي عن تماهيهم مع أمهاتهم كي يصبحوا رجالًا، ويحصل ذلك غالبًا من دون علاقة حميمية فعلية مع رجل، لأن الآباء يغيبون عادة أثناء طفولة أبنائهم. فيقضي الطفل الصغير وقتًا أطول بكثير مع الأم – أو مع نساء أخريات. يمكننا فهم كثير من الفروق بين الجنسين التي سنعتبرها لاحقًا «طبيعية» من خلال عملية التأهيل الأولى. ورغم ضرورة الحرص على ألا نتعامل بشكل غير دقيق مع تقسيم السِمات الشخصية بين الرجال والنساء، كما لو أنه لا توجد قواسم مشتركة بينهم (لدينا كذلك كثير من الفروق الفردية)، إلا أني قادرة على تمييز بضعة أنماط نسائية وأخرى رجالية. 

يكبر الصبي الصغير ليكتشف أنه ليس مثل أمه، ولن يصبح مثل أمه، كما أنها هي نفسها قد تشعره أنه «مختلف». ورغم أنه بدأ حياته، مثله مثل البنات، من خلال علاقة حميمية وتماهٍ عميق مع امرأة، إلا أنه سرعان ما سيضطر إلى التماهي مع شخص أكثر ضبابية، وأقل مرئية، وبعيدًا من الناحية العاطفية، وأحيانًا نادر الحضور. لذلك تصبح «الرجولة» صفة أقل استقرارًا واستدماجًا من «الأنوثة»، والفتيان أكثر حساسية حيال الصور النمطية الموجودة حول الرجولة – عادة يشاهد الأطفالُ التلفازَ أكثر من آبائهم. وهكذا تصبح الرجولة دفاعية في غياب إمكانات حقيقية للتماهي، أي أنها تعرّف نفسها بما هو ليس أنثويًا. وسأضرب مثالًا على ذلك: أحيانًا أعطي طلابي لائحة مكتوب عليها «أنا ……» عشر مرات، وأطلب منهم أن يكملوا الجُملة. هدفي هو إثبات أن النساء يُعرّفن أنفسهن أكثر من الرجال من خلال علاقتهنّ مع الآخرين، بينما يُعرّف الرجال أنفسهم باستقلالية أكبر، فيغلب أن يضعوا هويتهم المهنية في رأس القائمة. والحقّ أنه قلّما نسيَتْ النساء، اللواتي لديهنّ أطفال، أن يكتبنَ أنهنّ أمهات (غالبًا في رأس القائمة)، بينما يحصل أن يتجاوز الرجال، الذين لديهم أطفال، ذكرَ أنهم آباء أو «أزواج» أو «أصدقاء» أو «عشّاق». وقد طلبت إحدى طالباتي من ابنها أن يكمل الجُملة في اللائحة، فكتب: «أنا ولد»، وفي المرتبة الثانية: «أنا لستُ بنتًا».

حين نلخّص النقاط الرئيسة للتأهيل النمطي للرجال (أكرر أني لا أقول جميع الرجال هم هكذا بالضبط، ذلك أن الرجال الوسطيين قليلون في الواقع):

-يتعلم الرجال أن ينظروا إلى أنفسهم كمستقلين، أي أن حدود الأنا لديهم أكثر وضوحًا، بينما تُعرِّفُ النساء أنفسهنّ غالبًا ضمن علاقتهنّ مع الآخرين.

-تلك «الاستقلالية» دفاعية جزئيًا، وتحتاج إلى إثبات نفسها كل مرة من جديد.

-يتم تعريف الرجولة على أنها عكس الأنوثة.

-ينشأ الرجال على موقف مزدوج من المرأة. من ناحية يشتاق إليها، ويريد استرجاع أمه من خلال علاقته العاطفية الغيرية، فيستحوذ عليها هذه المرة لوحده، ولا يضطر إلى مقاسمتها مع شخص آخر أو أب. ومن ناحية ثانية يشعر بالخوف، فمن خلال تجربة طفولته يعرف أن المرأة لديها سلطة عليه، وبمقدورها أن تصنعه أو تكسره، وأن تحبطه بشدة وتُخيّب ظنّه وتحرمه من الحب، وأن تبتلعه فلا تتركه أبدًا.

وإذا لخّصتُ الحالة في كليشيه يسهل ترجمته إلى الفلكلور الشعبي، سأقول إن النساء أستاذات في صنع العلاقات وصيانتها، ولكنهنّ يعانينَ من ضعف الاستقلالية، بينما يعرف الرجال كيف يستقلون، ولكنهم يرتعدون هلعًا من الارتباط. ألم نتفق سلفًا على أن النساء يطمحنَ إلى الزواج، بينما يجاهد الرجال كي لا يعلقوا في الفخ؟ ألا نظنّ أن النساء مُعتمِدات والرجال مستقلّون؟ لطالما احتوت الكليشيهات على الحقيقة رغم شدة التبسيط. 

إن «الاستقلالية» و«الرجولة» أقرب إلى المرادفات بالنسبة للرجال، غير أن التجربة علَّمتنا أنها رجولةٌ تحتاج إلى إثبات مستمر من قِبل النساء. ينبغي على النساء أن يتصرّفنَ كنساء كي يُشعِرن الرجال أنهم رجال. ليس فقط ضمن العلاقات الخاصة، بل خارجها أيضًا. ففي كثير من «المهن الأنثوية النمطية»، كالسكرتيرة والبائعة والمضيفة، يكون التبسّم وبعض التغزّل والإعجاب من مكونات المهنة الرئيسة. وينسحب ذلك أيضًا على الاستعداد الرمزي الدائم الذي توحي به النساء الصغيرات في المجلات الإباحية المتشددة. 

وفي كيف يشعر الرجال يقول أنطوني أستراخان إن الرجولة النمطية لها عدة مكونات يمكن تحديدها بوضوح: 

-الرجل الحقيقي يتجنب أي مظهر من مظاهر «الأنوثة» في نفسه. بمعنى آخر: لا يعبّر عن مشاعر تجعله يبدو هشًا، ولا يعبّر على الملأ عن الحنية والعناية حيال النساء أو الرجال. ليست صدفة أن الرجال لا يسمحون بظهور بعض الانفعالات «الأنثوية» كالعَطف والحزن، إلا بعد أن يتمكنوا من إثبات رجولتهم بشكل قاطع: بعد تسجيل هدف، في المعركة، وبعد ركلات الترجيح النهائية. ولدينا كذلك الخوف من اكتشاف المثلية الجنسية في النفس والآخرين، والخوف من الظهور كـ«مخنّث»، ذلك الخوف الذي يشتعل أثناء القيام بأعمال أنثوية، كنشر الغسيل أمام عيون الجيران أو إطعام طفل.

-الرجل الحقيقي يَعمل ويكسب مالًا وقادرٌ على دفع مصاريف أُسرته. هو ناجح اجتماعيًا.

-الرجل الحقيقي قوي، وعدواني عند الضرورة، ولديه ثقة بنفسه، ويحبّ ممارسة الجنس دائمًا، ويستطيع ويعرف كيف يُشبع امرأة.

-الرجل الحقيقي لا يحتاج إلى مساعدة الآخرين.

-الرجل الحقيقي يحتاج إلى ممارسة الجنس مع امرأة، ولكنه فيما عدا ذلك قادرٌ على التخلي عنها. الرجل الحقيقي لا يسمح لنفسه أن يتعلّق بالنساء.

لحسن الحظ أنه لا يوجد كثير من الرجال الحقيقيين في الواقع، لأنهم سيُشكلون كارثة حقيقية لمحيطهم ولأنفسهم. لا يمكن عقد علاقة لطيفة مع رجل حقيقي، ومع ذلك تجول تلك التصورات حول الرجولة في رؤوس كثير من الرجال، وتُستَخدم كمسطرة لقياس أنفسهم وبعضهم بعضًا عليها. 

بيد أن ثمة رجالًا أَلهمتهم الحركة النسوية، فصاروا يدركون أن تصورات الرجولة مؤذية لهم ولعلاقتهم مع النساء. فكلما تشبث الرجال بها، تعرّضوا لحوادث ومخاطر أكبر، وماتوا في سنٍّ أصغر، وأدمنوا وأصيبوا بأزمات نفسية واكتئابات وانتحروا أكثر. وقد عبّر نورمان مايلر عن أن التمسك بتصورات الرجولة مُكلف للغاية: «أن تكون رجلًا يعني أن تواصل الصراع مع الحياة، لأنك غير قادر قط أن تتأكد من أنك غدوت رجلًا بالفعل».

لِمَ لا يُقلع الرجال عن تلك المحاولات إذن؟ الجواب في غاية البداهة: لأن نماذج الرجولة تمنح الرجال مكانة اجتماعية في مجتمعاتنا التي ما زالت ذكورية، كما أنه ليس من السهل تغيير السلوك حين يكون مرتبطًا بدوافع عميقة من هذا النوع وبالهوية. 

يقول أستراخان: «بالنسبة لمعظمنا، تترابط رجولتنا وتماهينا بعملنا وسيطرتنا إلى درجة تجعلنا نشعر بفقدان رجولتنا وهويتنا حين يظهر أن النساء قادرات على العمل نفسه أو ممارسة السلطة ذاتها». هذا هو سبب استصعاب كثير من الرجال التعامل مع المرأة القوية. صحيح أن زوجة أستراخان  كانت أصغر منه، ولكنها كانت صحفية مثله، بل جيدة أيضًا: «كان أسهلَ عليَّ أن أدعم زوجتي حين كانت أقل مني مهنيًا من لمّا غدت ندًا لي». طبعًا لم ينجُ زواجهما من المعركة التنافسية تلك. بعض الرجال يفقدون سيطرتهم على أنفسهم حين لا يستوفون تصورات الرجولة المستدمجة – أو حين تقوم النساء في محيطهم بتحديها. 

لو كان صحيحًا أن استدماجَ الهوية الذكورية أقل رسوخًا، فمن الواضح لماذا ينشغل كل هؤلاء الرجال بفحصها وإثباتها مدى الحياة. كثيرٌ من الطقوس التي يمارسها الرجال فيما بينهم مبنية على هذا القياس المستمر: مَن يستطيع أسرع، أبعد، أعلى، ومن يسدد أهدافًا أكثر؟ على سبيل المثال، كان همنغواي يحب استعراض رجولته والتفاخر على حسب تعبيره بأنه قادر على «التغلب على أي رجل آخر في الصيد والقتال وممارسة الجنس وشرب الخمر». من خلال سيرته يمكننا إدراك الثمن الباهظ لتلك الواجهة الذكورية الصلبة: النساء اللواتي هجرنه (المتفاخرون بعدد مرات ممارسة الجنس، أو بعدد نسائهم، هم عشاق فاشلون بالعموم)، وشجار مع الجميع، وموهبة حطمها الإدمان، وموت باكر.

إن متلازمة الرجولة تُبيّن مقاومة الرجال لتغلغل النساء في ما يسمى بمهن الرجال: البناء والشرطة والمطافئ والمناصب الإدارية العليا. هم لا يخشون أي منافسة، بل منافسة النساء على وجه التحديد: حين تكون النظرة إلى النفس مبنية على المهنة، وتكون المهنة مبنية على الرجولة، فإن كل منافسة من امرأة تشكل خطرًا على احترام الذات. 

لدينا عدة أبحاث حول القواسم المشتركة والاختلافات بخصوص القدرة على تجنب التوترات من قبل النساء والرجال. القواسم المشتركة: الجميع يعتبر المرض وعدم الاستقرار الاقتصادي وفقدان شخص محبوب من الأمور المسببة للتوتر. غير أنه توجد بعض الاختلافات المثيرة للاهتمام. فقد تحدّثَ باحثٌ رجل، جوزيف بليك، عمّا أسماه بـ«توتر الدور الجنسي»، أي ذلك التوتر الذي يَختبره الرجال حين لا يتطابق سلوكهم وإنجازاتهم مع تصورهم المُستدمَج حول الرجولة. 

وفي بحث حديث حول أسباب التوتر لدى الرجال، ظهرت خمسة عوامل مرتبطة مباشرة بمتلازمة الرجولة. العامل الأول: التقصير الجسدي، أي أن يكون الرجال أقل رياضية من الرجال الآخرين، أو أن يخسروا في مباراة رياضية، أو لا يتحمّلوا شرب الخمر، وأيضًا: السماع من شريكتك أنها غير راضية جنسيًا، أو ملاحظة أن أحدهم يعتقد أنك مثلي. العامل الثاني: التعبير عن المشاعر. فمن الأمور التي تجلب التوتر هي أن تضطر كرجل على مواساة رجل آخر أو تتم مواساتك من قبل رجل، أو أن تعترف أنك تخاف من شيء معين، أو أن يرى أطفالك أنك تبكي، وفي رأس القائمة: الاضطرار إلى إخبار شريكتك أنك تحبها. والعامل الثالث: العمل. من أهم مسببات التوتر هو عدم الكسب الكافي أو عدم التحاقكَ بعمل. غير أن الإحساس بالتعب الذي يمنعك عن ممارسة الجنس أو انتصاب القضيب عند الطلب، يُسببان التوتر أكثر من الإقالة عن العمل أو عدم الحصول على الترقية المستحقة. ومن الأمور التي تُولّد الشعور بالدونية الفكرية هي أن تضطر للعمل مع نساء أذكى منك، والأدهى طبعًا أن تتورط في «محادثة مع نِسوية». وتشكل التبعية لامرأة عاملًا قائمًا بذاته، حيث يأتي العمل تحت إمرة امرأة في رأس القائمة، أو العمل مع امرأة أفضل منك، أو الزواج من امرأة تكسب أكثر منك. وإن لم تكن متزوجًا، فمن مدعاة النزق للرجال أن يتعاملوا مع امرأة ناجحة اجتماعيًا أكثر منهم، أو أن يخسروا في الرياضة أمامها. ويُذكَر أن من مسببات التوتر أن تضطر للاعتراف أمام أصدقائك أن زوجتك تعمل لسدّ مصاريف الأسرة، أو تتعامل مع امرأة أطول منك. 

وهنا تتوضح لنا الدوافع العميقة للرجال الذين يرتبطون بنساء أصغر سنًا وأقل تعليمًا. ذلك أن الصورة الذاتية عن الرجولة مهزوزة، وتحتاج إلى الإثبات المرة تلو الأخرى عبر التفوق على النساء بشكل خاص. عقليًا، يتقبل الرجل أن تكون للنساء حقوق متساوية وقيمة متساوية، حتى أنه قد يعجبه التواصل مع امرأة ذكية وظريفة نوعًا ما. وقد يُقدّر أنها تكسب المال، فهذا من شأنه أن يسهّل عيشهما ويخفف عنه عبء الإنجاز الدائم إلى حدٍ معين. ولكن الأمور لن تبقى على ما يرام، حالما يتم تجاوز ذلك الحد. وقتئذ سيمرض أو يغضب، ولن تظل المرأة لطيفة في نظره، ولن تمنحه الإحساس الإيجابي المطلوب منها أن تمنحه إياه، وسيقع كامل اللوم عليها، فهي لم تعد قادرة على الحب. وطبعًا لن يتم تجاوز الحدّ بسرعة في حال كان واثقًا من ثقله «الرجولي» سلفًا.

وطبعًا لا يقع ذلك الحدّ في الحيّز نفسه بالنسبة لجميع الرجال. فبعضهم يستشيط من مجرد تجاوزٍ رمزي، فيشعرون بمساس كرامتهم حين يتضح مثلًا أن امرأة ما مثلية، أي أنها تفضّل النساء على الرجال، حتى ولو كان لا شيء يربطهم بها، أو حين تقرر بلدية أمستردام أن تُصلّح الوضع المائل من خلال تعيين نساء كمديرات للمدارس في الفترة القادمة. وبعضهم الآخر لا يشعر بالتهديد إلا بعد أن يمسّه الأمر بشكل مباشر. ولكني أعرف كذلك رجالًا، وهم ليسوا كُثُرًا، ممن لديهم إحساس عال بقيمتهم، بحيث لا يتأثرون لوجودهم إلى جانب امرأة تتقن شيئًا أفضل، أو تكسب أكثر، أو تكون أعظم شهرة منهم. وبمقدورنا في هذا السياق أن نصحّح سوء فهم عام: النساء الواعيات لا يقعنَ بالضرورة في عشق «الضعفاء»، لأن معظم النِسويات غير معنيات بالسيطرة على شخص آخر، وإنما بعدم الاضطرار إلى تصغير حجمهنّ أو كبت آرائهن في كل مرة، وبالحصول كنساء قويات على الدعم الذي يَحتجنه. كما أنه سرعان ما سينكشف الضعيف على أنه ذلك الذكوري الذي يرتدي روحه بالمقلوب. كم مرهقٌ أن نبقى متنبّهات كي لا ندوس على طرف أحدهم، فنضطر مع مرور الوقت إلى التجاهل أكثر فأكثر. وكم مهينٌ أن نُعتَبر «مسيطرات» حين نرفض تقزيمنا. لا يمكن أن نتحمل ذلك طويلًا.

لقد لاحظنا أنه ثمة فرقٌ كبيرٌ بين ما يقول كثير من الرجال وبين ما يفعلونه، أو بين ما يعتقدونه وما يحسّونه. ليست ثمة صلة وثيقة بين الأفكار التقدمية حول أدوار النساء والرجال والمساهمة الفعلية في أعمال المنزل. وانطلاقًا من ملاحظتي الشخصية، أعرف أن الذين يقولون إنهم مع تحرر المرأة ليسوا مضطرين إلى أن يغيروا سلوكهم حيال النساء المتحررات مقارنة مع الرجال المحافظين. إذ حصل مرة أن عملتُ مع رجلين. كان الرجل الأول (أ) يحب أن يستعرض أفكاره النِسوية. أما الرجل الثاني (ب) فكان أكثر تحفظًا. ولكني كنتُ أتشاجر طيلة الوقت مع سيد (أ)، لأنه كان لا يقتنع بأي شيء أقدمه، حتى لو كان في مجال تخصصي، وفي حال أثبتُ أنه ليس على حق، كان يفضّل أن يقف على رأسه من أن يعترف بخطئه. الصراع مع هذا الرجل كان متعبًا جدًا منذ البداية. أما سيد (ب)، فكان يصغي ويبدي ملاحظاته. وفي حال اختلفنا، كنا نبحث مَن منا لديه حجج أفضل من الآخر، أو على اطلاع أكبر بالحقائق. لم يكن بيني وبينه أي صراع على السلطة، ومن دون أن يسمي نفسه «تقدميًا» كان يتقبّل أن النساء ذوات خبرة أيضًا. 

الأمر أشبه بمؤامرة يحبس الرجال والنساء بعضهما بعضًا فيها. دوروثي دينرستاين، مختصة نفسية، تفترض مثل شودورو أن الاختلافات بين الرجل والمرأة يمكن فهمها بالدرجة الأولى من خلال الانتباه إلى حقيقة أن كلاهما تربيا على يد امرأة. وتضيف أن التوازن هشّ، بحيث يقوم رجال غير ناضجين ونساء غير ناضجات بخنق بعضهما بعضًا. وكل منهما غير ناضج بطريقته الخاصة: النساء يحتللنَ مكانة الأطفال في المجتمع، ويتصرّفنَ كأمهات في العلاقات الخاصة، والرجال يتصرفون كأطفال في علاقاتهم الخاصة، ولكنهم يحتلّون مكانة الأب اجتماعيًا. 

ليست تبعية المرأة واستقلالية الرجل سوى وهم، أو أمر معقّد في أحسن تقدير. تحت تبعية المرأة الاقتصادية للرجال تختفي تبعية الرجال العاطفية للنساء. وقد عبّرت ليليان روبين في كتابها غرباء حميمون كما يلي: «لزمن طويل أخطأنا حين ظننا أن استقلال الرجال الاقتصادي يعني استقلالهم العاطفي، وأن اعتماد النساء الاقتصادي مؤشر على اعتمادهنّ العاطفي. فالنساء يدركنَ أن أزواجهنّ، في نظرهنّ على الأقل، أشبه بالأطفال المحتاجين، رغم الوجه الآخر الذي يفضّلون عرضه على العالم. الموضوع ليس مطروحًا للنقاش العام، غير أنه معلوم في كواليس عالم النساء الوحيدات أو الصديقات الحميمات. قد يعبّرنَ بلطف (يا له من طفل أحيانًا)؛ أو بطريقة هدفها حمايته (زوجي يتألم حين أرى حزنه، لذلك أتصرف كما لو أني لم أنتبه، أو أتودد له أكثر)؛ أو بمحبة (يتصرف كما لو أنه ذئب غاضب، ولكني أعرف حقيقته)؛ أو بغضب: (الرجال متعلّقون بنا بشدة، ولكنهم لا يعترفون بذلك أبدًا. يضعون قناع الثقة بالنفس، ولكن حاولي أن تَكشفيهم وسيَظهرون على حقيقتهم)؛ وأحيانًا بتهكم (يتخفى خلف واجهة ملعونة، ولكنه من دونها ولدٌ بكّاء). مهما كانت تعبيراتهنّ، إلا أن تلك الكلمات لا تترك أدنى شك أن النساء مدركات لهشاشة الرجال وتعلُّقهم. في الواقع الرجال مستقلون ومعتمدون في آن، إلا أن الآليات الدفاعية التي استدمَجوها عبر الزمن تُخفي التبعية، كما تُرسخ بنيةُ المجتمع والأسرة أسطورةَ الاستقلالية».

باختصار: الرجال يحتاجون إلى النساء! معظم الرجال يحتاجون إلى النساء، غير أنه من غير المسموح الجهرُ بذلك. هم يفضّلون إنكار اعتمادهم، ولا يكتشفونه في أنفسهم إلا بعد أن تحاول النساء فضح تلك المؤامرة الصامتة. وقد لاحظ المختصّ والمعالج النفسي ميشيل مايرس أن الرجال هم الذين يتوجهون عادة إليه أثناء الطلاق أو بعد الانفصال. 

وطبعًا غالبًا ما يكون وضع النساء بعد الطلاق ليس مثاليًا. فكما لاحظنا، سوف يتراجع وضعها الاقتصادي بشكل كبير، وتكون مسؤولة على الأطفال، مما يضعف احتمال لقائها مع شخص آخر مقارنة مع طليقها. ومع ذلك، النساء هنّ اللواتي يصررن على الطلاق، ورغم تأثرهنّ العاطفي الكبير بالطلاق، إلا أن وضعهنّ يتحسّن مع الوقت أكثر من الرجال. وقد يدخل الرجال في أزمة عميقة، ويضطرب حالهم بشكل كامل، وبخاصة حين لا يكونون مقتنعين بالطلاق، ولم يرتبطوا بعدُ بشريكة جديدة. حتى أنّ بعضهم، بحسب مايرس، يصبح خطيرًا حين يشعر أنه هُجِر. لذلك يحاول كمعالج أن ينتبه إلى الأعراض التي قد تكون مؤشرًا على استخدام العنف فعليًا. عددٌ لا بأس به من الرجال قادرون على إيذاء طليقاتهم وأطفالهم. هذه هي الفئة التي تحدث فيها معظم حالات القتل أو محاولات القتل. طبعًا معظم الرجال المُطلَّقين ضد إرادتهم لا يقتلون أحدًا، ولكنهم غير قادرين على السيطرة على عدوانيتهم. وغالبًا ما تُترجَم تلك العدوانية إلى صراع حول الأطفال: بعض الرجال، الذين لم يكونوا مهتمين بأطفالهم أثناء الزواج، يطالبون فجأة بالأطفال، كي يتمكنوا من معاقبة زوجاتهم، أو يستردوا الشعور بالسيطرة على الوضع، أو يتجنبوا فقدان مكانتهم بشكل كامل. ولكن جزءًا أكبر من الرجال يقطعون علاقتهم بأطفالهم نهائيًا. 

الرجال المطلَّقون يصابون بالأمراض المرتبطة بالتوتر أكثر من المتزوجين، وكذلك ترتفع بينهم نسبة الإدمان والتعرض للحوادث والانتحار. ومهما حاولنا إقناع أنفسنا أن غرض الزواج هو حماية المرأة، إلا أن الرجل هو أول من يباشر بالبحث عن شريكة أخرى ويتزوج مرة ثانية. وغالبًا ما تكون الشريكة الجديدة أصغر سنًا. وحالما يدبّر حاله، سوف ينسى كم أنه غير قادر أن يبقى وحيدًا. وكلما ازدادت حاجة الشريكة الجديدة إليه، سوف لن يضطر إلى الاعتراف أمام نفسه أنه متعلق بها. حين ندرك ذلك الوضع، سوف نفهم شيئًا فشيئًا لماذا يعارض كل هؤلاء الرجال محاولات النساء التحررية، لماذا ردات فعلهم العاطفية قوية إلى تلك الدرجة، حتى لو كانوا متفهمين قليلًا من الناحية العقلية. استغرقَ الأمر معي طويلًا حتى فهمتُ لماذا يعجز رجالٌ أذكياء على الاعتراف أنهم يملكون سلطة أكبر من النساء. أليست الحقائق واضحة كعين الشمس، وألا يُشاع أن الرجال حسّاسون للحقائق؟ هل يحتاج الأمر أن أكرر أن النساء يكسبنَ مالًا أقل من الرجال، وأنهنّ يقمنَ بأعمال غير مأجورة أكثر من الرجال، وأن قوتهنّ السياسية أضعف وقلّما تسلّمنَ مناصب قيادية، وأنهنّ يعانينَ من العنف الجنسي، ولا أحد يدعمهنّ في المنزل؟ لقد تأخرتُ في فهم أن الأمور قد تكون موضوعية، ولكن هذا لا علاقة له بالسلطة التي يحسب الرجال أن النساء يملكنها عليهم. سلطة عاطفية، وسلطة جنسية، وسلطة الأمهات، وسلطة الامتناع عن الحب.

ما كنتُ أحسبه صفقة عادلة (القسمة العادلة، العلاقات المتساوية، التساوي بالقيمة)، كان بالنسبة للرجال بمثابة تقويض سافر لوضعهم. فالنساء اللواتي يكسبن مالًا، يجعلنه يشعر أن لا حاجة له. والنساء اللواتي ينافسنه في عمله، يقوّضنَ إحساسه بالقيمة المبنية على تصورات قديمة مؤداها أن الرجال وحدهم قادرون على القيادة، والرجال وحدهم قادرون على القيام بالأعمال الخطيرة أو الثقيلة. وفوق كل ذلك، تأتي لتخبرهم أنها لم تعد راضية عن علاقتها الجنسية، وأنها تريد أن تُغيّر شيئًا فيها، ألم يكن هذا المجال تحت سيادته الدائمة؟ وها هي تضع شروطًا من الناحية العاطفية أيضًا… حين ننظر إلى لائحة العوامل التي تجلب التوتر، سوف نجد أن كثيرًا من الأمور التي تشملها النساء ضمن القسمة العادلة، يَخبرها الرجال كهجوم كاسح.  

بعض الرجال لديهم حسٌ عال بقيمتهم الذاتية، وبالتالي هم أكثر تحملًا للتوترات. بيد أن كثيرين يشعرون بالهجوم على ذواتهم حالما تمتنع النساء عن عكس صورة أناهم بضِعفَي حجمها الطبيعي، كما عبّرت فرجينيا وولف ذات مرة. وقتئذ سوف يغريهم البحث عن امرأة من بين الكثيرات اللواتي لا يتوانين عن فعل ذلك. ومن هذا المنظور يمكننا فهم ظاهرة الذهاب إلى العاهرات أيضًا. قليلون هم الرجال الذين يعترفون أنهم يترددون على العاهرات بشكل منتظم أو بين الحين والآخر، ولكن الأمر لا يحتاج سوى إلى أن نحصي نساء المهنة والزبائن الذين يشتغلنَ بهم في اليوم الواحد، كي نتأكد أن أعدادهم هائلة. يبدو أن ذهاب الرجال إلى العاهرات من الأمور البدهية، لذلك لم يتم البحث حتى الآن في الأسباب. فالسؤال المطروح دائمًا هو لماذا ينتهي الأمر ببعض النساء إلى الدعارة، وليس ما الذي يبحث عنه الرجال لدى العاهرات. ألا يزور الرجال العاهرات من أجل الجنس، ما الغريب في ذلك؟ بعض الرجال يذهبون إلى العاهرات من أجل الجنس الذي لا يحصلون عليه في مكان آخر، لأنهم غير مرتبطين، أو لأن لديهم رغبات جنسية لا تلبيها زوجاتهم أو لا يطلبونها منهنّ. ولكن هذا ليس كل شيء. ذلك أن تينكه بوشر وهاري ده يونغ قاما ببحثٍ حول دوافع الرجال، واستنتجا في كتابهما زوّار العاهرات أن الرجال يبحثون بالدرجة الأولى عن الحميمية. غير أن ذلك لا يندرج ضمن مفهومي عن الحميمية، فأنا أرى أن الحميمية متبادلة بالضرورة، وهذا ما لا يحصل أثناء زيارة العاهرات، حتى ولو أبدعت العاهرة في خلق ذلك الوَهم. يزور الرجالُ العاهرات، لأنهم يرغبون أن يُنظَر إليهم كرجال محبوبين، وأن يَسمعوا أنهم عشاق رائعون، ويشعروا بأنهم رجال حقيقيون، أي أنهم بحاجة إلى من يرفعهم إلى السماء. يشتكون من أن زوجاتهم لم يعدنَ لطيفات معهم في المنزل (البعض يعترف أن زوجته كانت لطيفة من زمان)، ولو لم تنسى زوجاتهم معنى الحب لما أنفقوا أموالهم الطيبة على شيء بمقدورهم التمتع به مجانًا. لا تكمن احترافية العاهرة الجيدة في الفنون والأوضاع الجنسية فقط، بل بالدرجة الأولى في مقدرتها على تمسيد الأنا – وهذا هو بالضبط ما ينقص كل هؤلاء النساء العصريات.

يبدو أن الكاتبة النسوية شولاميث فايرستون، رغم تَطرُّفها، لم تخطئ الهدف تمامًا. فالرجال يرغبون في تلقي الحب فعلًا، ومعظمهم يريدون تلقي الحب من امرأة. ولكن رغبتهم تلك أشبه بالطفل الذي يخال نفسه مركز العالم، ويتمنى أن تكون أمه له وحده فقط. وفي الوقت ذاته، تُرينا نانسي شودورد أن تكرار ذلك الحب الأول مخيف أيضًا: فالأم قادرة على صنع ابنها وكسره، ونفوذها ساحق، وقوتها لا حدود لها (هكذا ينظر الطفل الصغير، ولكننا نكتشف لاحقًا، أو بمقدورنا أن نكتشف أن هذا ليس صحيحًا). ونحن نخشى ذلك النفوذ الأمومي. تكفينا نظرة إلى الفُكاهة الدارجة لسبر مدى عمق الأمر؛ لدينا على سبيل المثال تلك النكات الفظيعة حول الحماة والتي تُعبّر عن عدوانية لا يمكن تنفيسها حيال الأم، ففي آخر المطاف هؤلاء الحماوات لسن سوى أمهات. ولدينا كذلك رسوم الكرتون للمرأة الضخمة والمسيطرة إلى جانب رجل رقيق وقصير. رغم أن الرجال أطول من النساء بالعموم، إلا أن هذه هي الصورة التي يستبطنها الرجل حول العلاقة مع المرأة الأكبر سنًا: ففي مخيلته قد نَمَت تلك المرأة إلى أبعاد وحشية، فصار إلى جانبها عاجزًا وصغيرًا. لعلّه يشعر بمرارتها الدفينة، فيفزع منها. أو لعلها تغدو ببساطة أشبه بأمه كلما تقدم بها العمر، فتستنفر لديه كل مشاعر العجز المكبوتة في صغره. يبدو أن الرجال لديهم أسبابهم العميقة لتجنب النساء الواثقات والقويات والماهرات أكثر من اللزوم. غير أن اعتراف الرجل بخوفه منهنّ، أو ضيقه بهنّ، لن يتماشى مع صورته المستدمَجة عن نفسه كرجل مِقدام، وأحيانًا سيتناقض مع إيديولوجيا الشراكة المتساوية. لذلك قد يختار تَجنُّبَ المجازفة بصورته التقدمية عن نفسه من خلال تحويل الاتهام إلى الطرف الآخر: تلك النسويات المناكفات لم يعدن قادرات على الحب. وفي تلك الأثناء، يُحوِّل اهتمامه إلى امرأة ما زالت تعشق على مزاجه. امرأة تحتاج أن ترفع جفنيها إلى الأعلى حين تنظر إليه. امرأة أصغر سنًا، طالما البضاعة متوفرة.