دخلت الانتفاضة الإيرانية شهرها الرابع. منظومة القمع والاعتقالات لم تتمكّن من كسر المنتفضين-ات. أكثر من 520 قتيلاً، وأكثر من 19000 معتقل-ة، وثّقتهم منظّمات حقوق الإنسان الإيرانية. النظام مستمرٌ في سياسة اليد الحديدية. انطلقت عمليات الإعدام بعد محاكمات صورية، وذهب ضحيتها عددٌ من الناشطين حتى كتابة هذه السطور. النظام ومُرشده علي خامنئي يواجهان تحديّات غير مسبوقة، والمنتفضون يواجهون تحديات أخرى من جهتهم. 

وبعد أشهر على انطلاقاتها لم تهدأ الاحتجاجات، إذ شكّلَ يوم الثامن من كانون الثاني (يناير) الجاري يوم تظاهرات واسعة، وذلك استجابة لدعوات إحياء الذكرى الثالثة لإسقاط الحرس الثوري للطائرة المدنية الأوكرانية. المؤكَّد حتى اليوم، أنّ هذه الانتفاضة تختلف حجماً وشكلاً ومضموناً عن حالات الاعتراض التي شهدتها إيران منذ 1999، ولا يمكن لها تنتهي وكأنَّ شيئاً لم يحصل. في الأيام الـ82 الأولى من الانتفاضة، من 17 أيلول (سبتمبر) إلى 7 كانون الأول (ديسمبر) 2022، شهدت 160 مدينة في 31 محافظة إيرانية (أي جميع المحافظات) 544 تظاهرة في الشوارع، كذلك نفّذ الطلاب 615 احتجاجاً في 143 جامعة، بحسب ما وثَّقته منظمة هرانا الإيرانية لحقوق الإنسان. 

الأهمّ، أن هذه الانتفاضة تُقدّم لموجات الانتفاضات المتتالية التي تشهدها المنطقة منذ 2011 -واتُّفقَ على تسميتها الربيع العربي- سقفاً سياسياً واجتماعياً غير معهود، وهو الاشتباك مع المؤسسة الدينية. إنّ علاقة التظاهرات الإيرانية بموجات الانتفاضات التي يشهدها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ ما يزيد على عقد، مبحثٌ طويلٌ لن يتمّ تناوله في هذا المقال، لكنه يستحق البحث فيه (هناك شبه إجماع على اعتبار التظاهرات في تونس نهاية العام 2010 هي اللحظة المؤسِّسة لهذه الموجات، لكنني أميلُ إلى اعتبار أنّ الثورة الخضراء في إيران العام 2009 هي اللحظة المؤسسة، فيما يذهب البعض إلى اعتبار تظاهرات لبنان في العام 2005 هي اللحظة التأسيسية).

تحديّات النظام السياسيّة ـ الاجتماعيّة

منذ اليوم الأول للتظاهرات التي تلت مقتل الشابة مهسا جينا أميني (22 عاماً)، رفع الإيرانيون والإيرانيات شعاراً واضحاً: «يسقط الديكتاتور» و«الموت لخامنئي». لم يَعُد هناك فئات اجتماعية ــ عدى مؤيدي النظام طبعاً ــ مستعدةٌ لقبول شكل النظام الحالي وحكم المرشد وولايته المطلقة، التي أُدخِلَت في الدستور الإيراني بعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، وليس عند تولي روح الله الخميني منصب المرشد. عملياً، كان علي خامنئي أول مرشد بصلاحيات مطلقة مكرّسة دستورياً في الجمهورية الإسلامية. 

وفي السنوات الأخيرة، تمكّنَ خامنئي وفريقُ عمله من المتشدّدين من إبعاد من يُطلَق عليهم تسمية «الإصلاحيين» تدريجياً، منذ الانقلاب الأبيض على الرئيس محمد خاتمي، وبلغ الأمر حدّه الأقصى مع استبعاد جميع المرشحين الإصلاحيين في انتخابات 2021 الرئاسية، بهدف ضمان فوزٍ سهلٍ لإبراهيم رئيسي، وهو الأمر الذي أغلق الباب نهائياً على أي دعوات لإصلاح النظام بدلاً من إسقاطه. خطوة خامنئي هذه أتت في سياق تحضير العملية الانتقالية التي ستَلي وفاته، وفي سياق تَحوّل إيران إلى دولة عسكرية. 

وظهر أثرُ هذا الخطأ مع محاولة خامنئي الشهر الماضي عبر علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني ومستشار المرشد علي خامنئي، التوسّطَ مع عائلتَي الرئيس الإيراني السابق الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني والراحل الخميني للمساعدة في محاولة تهدئة الوضع في الشوارع، وقد رفضت العائلتان القيام بذلك بحسب صحيفة وول ستريت جورنال

حتى كتابة هذه السطور، يُواجه النظام أزمة في التعامل مع التظاهرات. ففي حين يُعلن بعض المسؤولين في النظام عن رغبتهم في تخفيف القيود على النساء وحلِّ شرطة الأخلاق، يرى آخرون، مثل النائب حسين جلالي، عضو اللجنة الثقافية في البرلمان الإيراني والمُقرَّب من خامنئي، أنّ «الحجاب هو علم الجمهورية الإسلامية وتقويض الحجاب هو انهيار للجمهورية الإسلامية». وبعد أقلّ من شهر على الحديث عن حلِّ شرطة الأخلاق، تحدثَّت تقارير إعلامية عن عودة هذه الشرطة لاعتقال النساء في الشوارع، ونقلت وسائل إعلام إيرانية عن مصادر في الشرطة العودة إلى سياسة إرسال «الرسائل النصية التي تتعلّق بالحجاب الإلزامي لأصحاب السيارات». 

من جهته، حاول خامنئي إيجاد حلٍّ وسطيّ بين الطرحين، عبر دعوته إلى عدم اتّهام النساء اللواتي لا يلتزمنَ الحجاب بشكل كامل بعدم الالتزام الديني أو بأنهنّ معاديات للثورة، لكنه شدَّدَ على أنّ الحجاب سيبقى إلزامياً.

في سياق مُشابه، يتبادل مسؤولون رفيعون في النظام الاتهامات بعدم الدفاع عن النظام. إذا قال عضو مجلس خبراء القيادة في إيران، أحمد خاتمي، إنه في احتجاجات هذا العام «تعرَّضَ ولي الفقيه للإهانة لأول مرة، وهذا في الواقع إهانةُ للدينِ وخليفةِ إمام الزمان (المهدي)». بدوره، انتقد العميد الإيراني حميد أبازاري في فيديو مُسرَّب (هل سُرِّب عن قصد لتوجيه رسائل إلى بعض أجنحة النظام؟) عدم قيام جميع المسؤولين المدنيين والعسكريين بدورهم في مواجهة الانتفاضة واختيارهم الحياد. 

وفي مقابل هذه الرسائل الحادة، خرج رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، بمبادرة تسعى إلى التوصل إلى توافق بين كبار المسؤولين الإيرانيين لإجراء تغييرات في نظام الحكم، لكنه شدَّدَ على أنّ القضايا الاقتصادية هي على رأس الأولويات. يُذكَر أنّ قاليباف نفسه اتَّهم «وكالة الاستخبارات الأميركية والموساد الإسرائيلي بتنظيم أعمال الشغب في إيران»، في الأسبوع الأول من تشرين الأول (أكتوبر). مبادرة قاليباف جاءت بعد أيام على لقائه مع كبار مراجع التقليد (هرم القيادة الدينية) بمدينة قُمّ، وهُم: آيات الله جعفر سبحاني وناصر مكارم شيرازي وحسين نوري همداني وعبد الله جوادي آملي.

يُشير هذا التناقض في الرسائل والأفعال إلى إرباك داخل النظام لجهة التعامل مع التظاهرات. ويعود هذا الارتباك إلى أنّ التظاهرات فاجأت النظام في لحظة التحضير للمرحلة الانتقالية بعد خامنئي، وانتشرت جغرافياً وزمنياً أكثر من المُتوقَّع. وهو الأمر الذي وضع النظام الإسلامي في الحيرة التي تقع بها الأنظمة الديكتاتورية في الظروف المشابهة: إذا تعنّتت ورفضت الإصلاح سيؤدي ذلك إلى زيادة حالة الاعتراض؛ وفي حال قررت السير في بعض الإصلاحات، قد يُفسّر الشارع الأمر كحالة ضعف ــ سبقَ لخامنئي أن قال إن إعلان شاه إيران نيّته السير بإصلاحات كانت إشارة للحالة الثورية بأن النظام في حالة ضعف. 

يعود عمق أزمة نظام الحكم في إيران إلى أن التظاهرات، التي نتابعها، أعلنت المواجهة المباشرة مع المنظومة الدينية نفسها. وهو حدثٌ نشهده للمرة الأولى منذ النصف الثاني للقرن الماضي، حين بدأ صعود الإسلام السياسي، السنّي والشيعي، والذي شكّلَ انتصارُ الثورة الإيرانية عام 1979، وحسمُ الصراع الداخلي بين عناصرها لصالح التيار الإسلامي على حساب اليسار والقوميين الفرس، أحدَ أهم إنجازات الصعود الإسلامي هذا ومُحفّزاته.

ولوضعِ الأمور في سياقها، تمكّنَ النظام الإسلامي في طهران من تحويل بلاده إلى منظومة «تفريخ» لرجال الدين؛ حيث يوجد في إيران ما لا يقل عن 400 ألف خريج وخريجة دراساتِ شريعةٍ دينية سنوياً، ما يعني أن هناك شيخ-ة لكل 200 مواطن-ة. بالمقابل، هناك 80 ألف طبيب-ة في البلاد (طبيب-ة واحد لكل ألف مواطن-ة) و50 ألف محامي-ة (محامي-ة لكل 1600 مواطن). وفي العام 2013، تم إرسال أكثر من 70000 رجل دين من مختلف المؤسسات الدينية إلى المدارس في أنشطة تبشيرية.

بعيداً عن التفاؤل المُستحبّ لدى البعض من ضحايا النظام الإسلامي، لا يعني الاشتباك مع المؤسسة الدينية هزيمةَ هذه المؤسسة، لكنه يؤشّرُ إلى عدم قدرتها على التلطي خلف أدوات سياسية، وإلى نضوج سياسي في المنطقة يَختمر منذ سنوات طويلة، حول ضرورة التحرّر من سطوة المؤسسة الدينية على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سبيل البدء بعملية تحديث هذه المجتمعات. وهذا التحرُّر ليس تحرراً من الإيمان الفردي، بل من القيود التي تفرضها هذه المؤسسة وأدواتها على الحريات الفردية والجماعية، بشكل تتجاوز آثاره على الأفراد والمجتمعات حِدَّة القيود التي تفرضها الديكتاتوريات العسكرية أحياناً.

التحدي الثاني اقتصادي

في إطار مناوراته لاستيعاب الانتفاضة، يُقرّ النظام بوجود أزمة اقتصادية. لكنّ هذا الإقرار يقف عند حدود الأزمة الآنية من دون التعامل الجدّي مع جذور الأزمة، وهي تعود لطبيعة النظام الإيديولوجية والفساد اللذين يمنعان أي حلّ عملي للأزمة.

تشير أرقام الاقتصاد الإيراني حالياً بوضوح إلى الأزمة، بحيث لا يمكن لأحد أن يُنكرها ــ إلّا قلّة من مريدي النظام في لبنان وبعض دول المحور الإيراني. لم يبدأ التراجعُ الاقتصادي اليوم، بل شكّل مساراً حتمياً للسياسات الاقتصادية والخيارات السياسية التي اعتمدها النظام الإسلامي. تَمكَّنَ الخميني من السيطرة على الحكم، وأَقصى المختلفين معه إيديولوجياً (اليسار مثلاً) وأقربَ المقربين منه، حيث لم يبقَ أحدٌ ممن أحاطوا بالخميني على درج الطائرة التي حملته من باريس إلى طهران في الدوائر السياسية للحكم، بل قُتلوا أو سُجنوا أو تمّ نفيهم خارج البلاد. حينها أعلنَ عدداً من الوعود الاقتصادية التي لم يستطع النظامُ الوفاء بها، مثل توفير السكن والكهرباء والنقل العام والماء مجاناً لمن هم بحاجة، كما وعدَ بإلغاء الفوارق الطبقية في المجتمع. 

فشلت الحكومات الإيرانية في تقديم حلول للمشاكل الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية التي يُعاني منها المجتمع الإيراني. فلم تتحقق أيّ من شعارات الثورة الإسلامية، مثل تنويع الاقتصاد وتوسيع قاعدة الدول المُستورِدة للنفط الإيراني، وتطبيع شعار «لا شرق ولا غرب» في العلاقات الدولية، إذ تَحوَّلت إيران إلى دولة تعتمد بشكل واسع على علاقتها مع الصين وروسيا. 

وفي حين يحاول النظام ومؤيدوه إلقاء اللوم في التحديات الاقتصادية على العقوبات الأميركية والغربية، دون غيرها، فإن أحداً لا يُجادل في تأثير العقوبات، لكنّ التدقيق العلمي يدحض نظرية تحميل العقوبات المسؤولية كاملة. وهذا ما تدرسه ورقة بحثية نُشرت في العام 2021، وشارك في كتابتها الاقتصادي الإيراني المعروف هاشم بيساران، تناولت تقلّبات أسعار الصرف ونمو الإنتاج باعتبارهما من المؤشرات الرئيسية منذ العام 1989. وتتوصل الدراسة إلى أنّ 80 بالمئة من تقلّبات أسعار الصرف، و83 بالمئة من التغيّرات في معدلات نمو الإنتاج، لا يمكن تفسيرها بالعقوبات. كتب بيساران أنّ هذه «على الأرجح تتعلّقُ بالعديد من العوامل الكامنة الأخرى التي تُحرّك الاقتصاد الإيراني». في الواقع، إن «المؤسسات التي تُسيطر عليها الدولة، والبيروقراطية القاسية، والقطاع المصرفي المُبتلى بالمشاكل، هي عقوبات تفرضها إيران على نفسها»، كما تشير روزبيه بيروز، سيدة الأعمال البريطانية الإيرانية، في مقال لها في فاينانشال تايمز.

في العام 2009، كان 14 مليون إيراني (خُمس السكان حينها) تحت خط الفقر، بحسب ما ينقله راديو أوروبا الحرة عن البنك المركزي الإيراني، وبلغت نسبة التضخّم حينها 25 بالمئة. في العام 2021، نشر مكتب «دراسات الرفاه الاجتماعي»، التابع لوزارة التعاون والعمل، التقريرَ السنوي لمسح الفقر للعام الفارسي المُمتد من آذار (مارس) 2020 إلى آذار 2021، الذي يوضح «تدهورَ معيشة الشعب الإيراني»، ويَذكُر أنّ «ما يقرب من ثلث تعداد السكان يعيشون تحت خط الفقر»، بحسب ترجمة موقع جاده إيران. وأشارَ المقال، إلى أنّ هذا الأمر ساهم في رفع نسب الانتحار، حيث ارتفع عدد ضحايا الانتحار في إيران في العام ذاته مقارنة مع العام السابق بنسبة 4 بالمئة، «وبهذا يفقد 15 شخصاً على الأقل حياتهم يومياً نتيجة للانتحار». وفي الفترة الممتدة من آذار إلى تشرين الأول 2020، «فقد ثلاثة آلاف و589 شخصاً حياتهم نتيجة الانتحار». وبحسب تقرير لصحيفة جهان صنعت في آب (أغسطس) 2022، فقد تضاعف عدد الإيرانيين تحت خط الفقر ثلاث مرات؛ «حيث كان قبل الثورة [الإسلامية في العام 1979] 20 بالمئة واليوم أصبح 60 بالمئة».

مُقارنةُ حجم الاقتصاد الإيراني ما قبل الثورة وما بعدها مع الدول المشابهة يُعزّز هذه الرواية. بحسب رئيس غرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة في طهران مسعود خنصري، فإن اقتصاد الجارَتين، تركيا وإيران، كان متساوياً في العام 1979، لكنّ «تركيا الآن تجاوزت إيران بما لا يقلّ عن 500 مليار دولار سنوياً، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لتركيا 815.3 مليار دولار بينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران 231.5 مليار دولار». وفي مقال للخبيرة الاقتصادية نادرة شاملو، فإن إجمالي الناتج المحلي الإيراني (GDP)، وفقاً لتعادل القوة الشرائية (PPP)، بلغ 1.86% من إجمالي الناتج المحلي العالمي (GDP)، وفقاً لتعادل القوة الشرائية (PPP) في العام 1980، وذلك بحسب أرقام صندوق النقد الدولي. وبحلول العام 2021، «انخفضت حصتها إلى 0.8٪، وفي الإطار الزمني نفسه، ارتفعت حصة كوريا الجنوبية من 0.6 إلى 1.7 في المئة وتركيا من 1.2 إلى 2 في المئة». وبرأي شاملو، فإنّ هذا يعني أن إيران فقدت قوة اقتصادية كبيرة على المسرح العالمي مقارنةً بما كانت عليه في 1980.

وبحسب أرقام منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، فإن خسائر إيران في السنوات العشر الأخيرة بسبب التراجع في تصدير النفط، نتيجة العقوبات الغربية التي أتت على خلفية مشروع إيران النووي، بلغت نحو 450 مليار دولار. لكن الأمر الذي يُغفَل الانتباه إليه، هو فشل الحكومات المتعاقبة بالاستثمار في قطاع النفط. 

وبحسب تقرير لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن قدرة إيران القصوى على إنتاج النفط فيما لو رُفعت العقوبات عنها تبلغ 3.7 مليون برميل يومياً (بلغ إنتاج النفط عالمياً نحو 100 مليون برميل يومياً، ما يعني أن حصة إيران يمكن أن تصل بحدها الأقصى إلى 3.7% من الإنتاج العالمي)، بينما وصلت قُدرتها في خريف العام 1978 إلى 4.5 مليون برميل يومياً (ما وصلَ حينها إلى 7% من الإنتاج العالمي). تجدر الإشارة إلى أن إيران تملك 16.8% من مخزون النفط عالمياً. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، أعلنَ وزير النفط الإيراني جواد أوجی، أنّ بلاده تحتاج إلى استثمارات بقيمة 160 مليار دولار للإبقاء على قُدراتها الإنتاجية في قطاع النفط والغاز. في حين أنّ شركات النفط العالمية تُخفّض نسب الاستثمار في النفط لصالح الطاقة المتجددة. 

إلى جانب عدم الاستثمار في قطاع النفط، فشلت الحكومات المتعاقبة في الاستثمار في قطاع الكهرباء، حيث يعاني ثلث سكان البلاد (خصوصاً في الأرياف) من انقطاع الكهرباء، خصوصاً في فصل الصيف عندما يرتفع الطلب على الكهرباء. 

في مقابل عدم الاستثمار هذا، رَكّزت الحكومات على الاستثمار في البرنامج النووي، الذي كَلَّفَ البلاد خسائر غير مباشرة تبلغ مئات مليارات الدولارات (عقوبات، تهريب أموال، غياب الاستثمارات الدولية)، بينما لا ينتج البرنامج النووي الإيراني سوى 1 بالمئة من الكهرباء. 

تَراجُع الحالة الاقتصادية للمواطن الإيراني لا يعني تراجع حالة أبناء النظام ورموزه. ففي سلسلة تحقيقات لوكالة رويترز نُشرت في العام 2013، يسيطر خامنئي على مؤسسة «ستاد»، وهو اختصارٌ لاسم المؤسسة باللغة الفارسية: «ستاد إجرايي فرمان حضرت إمام» أو هيئة تنفيذ أوامر الإمام، التي أسَّسها المرشد الأعلى الأول للجمهورية الإسلامية روح الله الخميني قبل وفاته بقليل عام 1989، وذلك لإدارة أكثر من 2200 مؤسسة وشركة ومُلكية صادرها النظام عام 1979. 

وبحسب رويترز، تَحولَّت «في الأعوام الستة الأخيرة (أي فترة حكم أحمدي نجاد) إلى كيان تجاري عملاق يملك الآن حِصصاً في كل قطاعات الاقتصاد الإيراني تقريباً، بما في ذلك قطاعات المال والنفط والاتصالات وإنتاج حبوب منع الحمل، بلّ وحتى تربية النعام. ويصعب حساب القيمة الإجمالية لـ ستاد بسبب سرّية حساباتها، لكن ممتلكاتها من العقارات والحصص في الشركات وغيرها من الأصول لا تقلّ إجمالاً عن 95 مليار دولار (…)، وكل هذه الإمبراطورية الاقتصادية يُسيطر عليها شخص واحد ألا وهو خامنئي». 

ويتحدث تقرير رويترز الثالث عن الإجراءات الاقتصادية عام 2006: «مع تضخم عجز الموازنة العامة في ظلّ الرئيس المتشدّد محمود أحمدي نجاد، أصدر خامنئي أمراً تنفيذياً بخصخصة 80 بالمئة من أسهم بعض الشركات المملوكة للدولة. وكان من بين المؤسسات المُستهدَفة مصارف وشركاتٌ للتأمين وشركاتٌ للنفط والغاز. واعتبرَ خامنئي أنّ هذه الخطوة ستُغيّر دور الحكومة من المُلكية المباشرة للشركات وإدارتها إلى صُنع السياسة والإرشاد والرقابة. وخرجت ستاد في 2009 منتصرةً في أكبر عملية بيع لأصول مملوكة للدولة في إيران، وهي عملية خصخصة شركة الاتصالات الإيرانية».

تتقاطع تقارير رويترز هذه مع تقارير أخرى تتحدث عن سيطرة الحرس الثوري ومؤسساته، إضافة للمؤسسات الدينية وتلك التابعة لخامنئي، على نحو 40 بالمئة من الاقتصاد الإيراني (تخضع أيضاً لسلطة خامنئي ولا تدفع الضرائب ولا يحق للبرلمان التدقيق في موازناتها). وتتميّز هذه المؤسسات بسطوة علاقات القرابة، وقد نشرت بي بي سي الفارسية تحقيقاً عن هذه العلاقات العائلية، عرضَ أبرز الشخصيات في العائلات الحاكمة ووَرَثتهم، خصوصاً الأصهرة. ووصف بعض المسؤولين الإيرانيين الأمرَ بـ«حكم مافيا العائلات».

وقد تعرّفَ الإيرانيون والعالم على بعض جوانب حياة أبناء هذه الطبقة عبر حساب Rich Kids of Tehran (أبناء طهران الأغنياء)،  حيث نجد صوراً وفيديوهات قصيرة تختصر حياة الرفاهية؛ لكنّ التأثير الاقتصادي لهذه الطبقة يتجلّى في ما تَحدَّثَ عنه الكاتب والمُحلل الاقتصادي حميد حسيني، في مقابلة مع صحيفة مستقل، عن أسباب ارتفاع سعر الدولار والذهب في إيران خلال الأشهر الأخيرة، واضطرار الحكومة إلى عزل رئيس البنك المركزي، وتعيين شخص آخر بدلاً عنه بحثاً عن خلاص للأزمة، حيث لفت إلى أنه خلال فترة التظاهرات التي شهدتها البلاد خرج ما لا يقلّ عن 10 مليارات دولار من البلاد، مُضيفاً أنّ «المصادر غير الرسمية تؤكد أنّ هذا المبلغ يزيد على 30 مليار دولار، وليس 10 مليارات دولار كما تقول المصادر الرسمية». وتحدّثَ رئيس غرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة في طهران مسعود خنصري عن خروج 10 مليارات دولار بشكل سنوي، ولفت تقريرٌ نشرته مؤسسة إعلامية رسمية إلى خروج ما يزيد على 97 مليار دولار بين في السنوات العشرات الأخيرة حتى آذار 2022.

القطاع الآخر التي فشلت الحكومات المتعاقبة في التعامل الناجح معه هو قطاع الماء. وتُعاني إيران، مثل أغلب دول الشرق الأوسط، من أزمة مياه مع ارتفاع عدد السكان وتراجع كمية المياه المتوفرة، إن عبر المخزون الجوفي أو المتساقطات التي تراجعت بنسبة 20% في العقدين الأخيرين. ويرى بعض الخبراء أنّ 97 في المئة من إيران تُعاني من أزمة المياه. 

البحث في أسباب فشل الحكومات المتعاقبة يطول، لكنّ بعض المؤشرات ترسم صورة واضحة لهذا الفشل والأزمة التي أشعلت تظاهرات تشرين الثاني 2021، التي قمعها النظام بشكل عنيف. في العموم، تستهلك إيران 96 مليار متر مكعّب من المياه سنوياً، وهو يشكل 8% أكثر من كمية المياه المتجدّدة. يستهلك قطاع الزراعة في إيران أكثر من 90% من المياه المتجددة، وهي من الأعلى عالمياً، حيث يصل المعدل العالمي إلى 70%. وبحسب البنك الدولي، فقط 5% من الأراضي الزراعية تَستخدم التقنيات الحديثة في الريّ. وتستخدم إيران المياه الجارية والجوفية بشكل غير مدروس وواسع، ما أدى إلى تراجع مُستمرّ في نوعية المياه الجوفية، والمياه الجارية المتوفرة (75% من مياه الصرف الصحي لا تتمّ معالجتها ما يزيد من تلويث المياه الجوفية). 

ومن أبرز الأمثلة بحيرة أرومية في شمال غربي إيران، وهي كانت أكبر بحيرة في الشرق الأوسط وسادس أكبر بحيرة مالحة في العالم. بحسب المسؤولين البيئيين الإيرانيين، فإن البحيرة، التي تقلّص حجمها بنسبة تزيد على 80% في السنوات الثلاثين الأخيرة، في مواجهة خطر الجفاف الكامل.

تعتمد إيران في سياستها المائية على بناء السدود؛ يوجد حالياً نحو 300 سدّ عامل، و100 قيد البناء، و300 قيد الدراسة. ساهمت هذه السياسة في تعزيز أزمة المياه بدل حلّها، كما جرى في بحيرة أرومية، أو مع العراق، إذ ساهمت السدود الإيرانية في تعزيز أزمة المياه في البصرة (يُظهِرُ تحليلٌ تاريخيٌ لصور الأقمار الصناعية أجرته هيومن رايتس ووتش أنه حتى 1997 كان يوجد سدّان فقط يشتغلان داخل حوض تجميع نهر سيروان، الذي يتدفق جنوباً إلى سدّ حمرين العراقي. لكن بعد 1997، تم تشييد 12 سدّاً جديداً، 9 منها بعد 2011). 

رغم تشييد هذه السدود، إلا أنّ معظمها فارغ، لأن السدود لا تحلّ مشكلة سوء استخدام المياه وهدرها. ووفق آخر الإحصاءات الرسمية لشركة إدارة الموارد المائية الإيرانية، فإن سديّن مهمّين لإمداد مياه الشرب، وهما سدُّ لار في طهران وسدُّ إكباتان في همدان، يمتلكان احتياطاً بنسبة 2% فقط. وأفادت شركة إدارة الموارد المائية الإيرانية مؤخراً أنه من بين السدود المهمّة لإمداد مياه الشرب في البلاد، هناك 11 سداً فيها نسبة ملء أقل من 20%، كما أن أكثرَ من 80% من سعة خزانات هذه السدود فارغة. أما المحافظة الإيرانية التي تواجه أصعب تحديات المياه فهي محافظة خوزستان، التي تنتج 16% من الناتج المحلي الإيراني وتملك 80% من مخزون النفط. 

وجاءت موازنة حكومة إبراهيم رئيسي للعام الممتد من 21 آذار 2022 إلى 20 آذار 2023 في إطار تعزيز الأولويات ذاتها. ومن بين بنود ميزانية حكومة إبراهيم رئيسي المثيرة للاهتمام زيادة 143% في الأموال المُخصَّصة للحرس الثوري، الذي تتمثل مهمّته في «حماية الثورة الإسلامية»، بينما تقع مهمة حماية البلاد على عاتق الجيش التقليدي، الذي تلقّى زيادة بنسبة 50 بالمئة ـ متناسبة مع نسب التضخم. وحصلت أجهزة الدعاية التابعة للنظام، مثل مؤسسات الإذاعة والتلفزيون والمؤسسة الدينية، على زيادات كبيرة في موازناتها أعلى من تلك الخاصة بالوزارات التنفيذية التقليدية.

على سبيل المثال، يتلقى كيان واحد فقط، المؤسسة الدينية، موازنة تزيد على موازنة وكالة حماية البيئة، على الرغم من التحديات الهائلة لتغيُّر المناخ في إيران. إذ تُخصص الموازنة ما يقرب من 667 مليون دولار للدعاية الدينية، و7.6 مليار دولار للشرطة والأمن والجيش، بينما تمنح جامعة طهران فقط 34 مليون دولار ووزارة البيئة 72 مليون دولار فقط، وجاءت زيادة الرواتب بنسبة 10 في المئة فقط، ما يعني خسارة الرواتب لنسبة كبيرة من قيمتها بسبب التضخّم، الذي وصل إلى 48.5 بالمئة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بما يزيد عن 68 بالمئة، وبالتالي ازدياد أعداد الفقراء. 

وفي كانون الأول 2022، فشلت حكومة رئيسي في تحقيق الواردات التي تَضمنّتها الموازنة، إذ استطاعت الوصول إلى نحو ثلثي الواردات المُتوقَّعة، مع تحقيق 56% فقط من واردات النفط والغاز وثُلث الرسوم الجمركية التي تَضمنّتها موازنتها، وهو ما اضطرّها إلى طلب سحب أموال إضافية من الصندوق السيادي.

التحدي الثالث إقليمي

يستمرّ زخم التظاهرات الإيرانية الداعية لإسقاط النظام في طهران، وتصل فيديوهات يمكن للعين غير الخبيرة أن تعتقد للحظة أنها ضد خامنئي وحلفائه في العراق. منذ مقتل قاسم سليماني في كانون الثاني (يناير) 2020 في بغداد بصاروخ أميركي، تُعاني السياسة الخارجية الإيرانية في المحيط المباشر من تحديات كبيرة. لم يكن سليماني مجرد قائد عسكريّ لفيلق القدس، بل لعبَ دور وزير خارجية و/أو حاكم عسكري لعدد من دول الجوار: العراق، لبنان، اليمن، وسوريا. «كان سليماني يفرض شروطه عند ذهابي لأي تفاوض مع الآخرين بشأن سوريا، وأنا لم أتمكن من إقناعه بطلباتي. مثلاً طلبت منه عدم استخدام الطيران المدني في سوريا ورفض»؛ يختصر هذا التصريح المُسرَّب لوزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، دور سليماني السياسي.

جاء مقتلُ سليماني بعد أسابيع من الانتفاضة العراقية، التي رفعت شعارات واضحة ضد التدخل الإيراني الذي يصل إلى حدود الاحتلال غير المباشر. حتى اليوم فشل إسماعيل قاآني، خليفة سليماني، في ملء الفراغ الذي نتج عن اغتياله.

هدّدت هذه الانتفاضة المصالح الاقتصادية والأمنية لإيران في العراق. اقتصادياً، يستخدم النظام الإيراني العراق لعدد من الأهداف، أبرزها: تهريب النفط والتهرّب من العقوبات، استيراد البضائع الإيرانية (ضمناً الغاز والكهرباء)، وتهريب العملة الصعبة (خصوصاً الدولار) إلى إيران.

مؤخراً، تزايد الحديثُ عن تهريب الدولار من العراق إلى إيران وسوريا ولبنان خدمةً للمصالح الإيرانية. صحيفة لوفيغارو الفرنسية أشارت إلى نيّة الولايات المتحدة فرض عقوبات «ضد أكثر من 15 مصرفاً عراقياً خاصاً تَتبعُ في أغلبها لمؤسسات تابعة لأحزاب سياسية تدعمها شخصيات معروفة، مشيرةً إلى أنّ هذه البنوك تُهرّب أكثر من 100 مليون دولار أسبوعياً إلى أربعة دول مجاورة، أبرزها إيران إلى جانب كلّ من سوريا والأردن وتركيا»؛ وهو الأمر الذي تَحدَّث عنه النائب العراقي مثنى أمين. لجنة النزاهة البرلمانية في العراق كشفت عن تهريب نحو 350 مليار دولار من الخزينة العمومية خلال 17 عاماً. تهريب الأموال إلى إيران ليس جديداً، إذ سبق لوكالة رويترز أن نشرت تحقيقاً العام 2015 عن تهريب مليار دولار إلى إيران لمواجهة العقوبات الغربية.

أما في ما يخصّ النفط، فإن الحرس يستخدم المياه العراقية لتبديل صوري لهوية النفط الإيراني، بهدف بيعه وكأنه نفط عراقي للتهرّب من العقوبات. كذلك تستفيد إيران والمقربون منها في العراق (من بينهم حزب الله اللبناني) من عمليات سرقة النفط خصوصاً في البصرة. ومؤخراً فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على أعضاء شبكة لتهريب النفط لصالح حزب الله اللبناني وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.

ويتصدّر العراق لائحة مستوردي المنتجات غير النفطية من إيران، بحيث تُسيطر طهران على 17.5% من السوق العراقي. من دون الدخول في نقاش السياسات الاقتصادية للحكومات العراقية، التي ساهمت في ضرب الصناعة العراقية وفتح البلد أمام المنتجات الإيرانية ذات الجودة المتدنية، ثمة بابٌ أساسيٌ للعلاقة بين بغداد وطهران، وهو الصادرات الوهمية. ويورد تحقيق لموقع الجمهورية.نت مثالاً يُلخّص هذه القضية: «في العام 2016 استورد العراق خمسة ملايين كيلوغراماً من البندورة بقيمة وصلت إلى حوالي مليون دولار فقط، غير أنّ الرقم ارتفع في العام 2017 إلى 6.5 مليار كيلوغراماً من البندورة، وبكلفةٍ وصلت إلى مليار و600 مليون دولار، وهو رقمٌ يعادل ما استوردته كندا وبريطانيا وإسبانيا من هذه المادة في العام ذاته». 

مثالٌ آخر هو قيام العراق بحرق الغاز بدل استخدامه، فيما يستورد الغاز من إيران، وهناك ضغوط محلية ودولية لمعالجة هذا الأمر، لأسباب بيئية واقتصادية، مما سيحرم إيران من سوق أساسي للغاز، خصوصاً أنَّ نقل الغاز بالسفن يحتاج إلى تقنيات واستثمارات لتسييل الغاز.  

هذا «الاستثمار» الاقتصادي في العراق مُهدَّد مع تزايد النقمة الشعبية العراقية على إيران ووكلائها، ومع الضغوط الغربية، والأزمة الاقتصادية في العراق مثل ارتفاع صرف الدينار العراقي وازدياد مستويات البطالة. 

ولا تقتصر أهمية العراق على المستوى الاقتصادي، بل إنه أحد أبرز نماذج الحكم الإيراني للمنطقة، حيث يحكم وكلاء إيران بشكل كامل منذ حكومة نوري المالكي الأولى. ويعاني هذا النموذج تصدعات كبيرة بسبب النقمة الشعبية، والتصادم مع زعماء تقليديين كمقتدى الصدر. كذلك يشكّل العراق صلة الوصل البري مع سوريا ومن ثم لبنان.

في سوريا، حققت إيران «نصراً» عسكرياً، وهي تسعى لتثبيت وجودها الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي لم تُحققه حتى الآن، ما يجعل «الاستثمار» والتوسّع في سوريا مُكلِفاً لكن من دون مردود مالي، حيث وفّرت إيران منذ 2013 دعماً مباشراً وغير مباشر لدمشق؛ ومن بين ذلك خطوط ائتمان تجاوزت 6.6 مليار دولار لتمويل تصدير النفط الخام ومشتقاته. 

وعلى سبيل المثال، قال نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية، محمد أمير زاده إنّ «ضعف الدبلوماسية الاقتصادية الإيرانية، جعلت من المستحيل على طهران القيام بأداء دفاعي، حتى في المناطق التي نتمتع فيها بوجود قوي، إذ تمثل إيران 3 بالمئة فقط من الاقتصاد السوري، لكن تركيا تمثل 30 بالمئة من تجارة البلد». 

وتَحدَّثت صحيفة الشرق الأوسط عن ضغوط إيرانية إضافية على نظام الأسد للاستفادة من الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم في دمشق، فيما تتواصل المماطلة الإيرانية بشأن إمدادات الطاقة «وسط حيرة سوريّة حول أسباب التأخر، على عكس ما جرت العادة خلال العقد الماضي، إلى أن حدث الرهان على زيارة رئيسي إلى دمشق (…) وخلال الإعداد للزيارة، فوجئ الجانب السوري بسلسلة من الطلبات ومسوّدات الاتفاقات؛ بعضها يعود إلى اتفاقات سابقة وُقِّعَت خلال زيارة رئيس الوزراء السوري عماد خميس في بداية 2017، وبعضها الآخر جديد».

لبنانياً القصة مشابهة. حزب الله هو جوهرة المشروع الإيراني في المنطقة. منذ تظاهرات تشرين الأول 2019، وعلاقة حزب الله مع شريحة واسعة من اللبنانيين في أزمة جدّية، إذ بات يراه كثيرون حامياً وشريكاً مُضارِباً في الحكم ومنظومة الفساد والجريمة. وما دوره في حماية المتّهمين في تفجير مرفأ بيروت والنظام المصرفي إلا مثالٌ على ذلك. وقد تَجرَّأ اللبنانيون على رفع صوتهم عالياً في هذا السياق، وربما يكون مشهد مشنقة حسن نصرالله الرمزية في بيروت وحرق مكاتب لنوابه وصورٍ لسليماني محطات مُعبّرة. 

وسبق أن كشفت وزارة الخزانة الأميركية عن تورّط مصارف لبنانية (البنك اللبناني الكندي، جمّال ترست بنك) في العمل مع حزب الله، لكن ما لم يُكشَف عن دور هذه المصارف في المساهمة في تبييض أموال كارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية، وثّقه تحقيق لمجلة بوليتيكو عن مشروع كاسندرا. مع انهيار النظام المصرفي في لبنان، تتزايد الضغوط على حزب الله ودوره في تبييض الأموال ومساعدة الحرس الثوري للتهرب من العقوبات. والأهم هو ضرورة التدخل الإيراني للحفاظ على موقع حزب الله في لبنان.

خارج الإقليم، احتفلت إيران بالعلاقة الاستراتيجية مع الصين، ورفع وكلاؤها في المنطقة، من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات العراقية، شعار «التوجّه شرقاً». لكن قمّة واحدة في السعودية جمعت الرئيس الصيني مع الدول العربية، كانت كفيلة برفع مستوى التوتر الإيراني تجاه هذا التقارب. أعدّ موقع جاده إيران ملفاً مهماً عن ردود الفعل الإيرانية على هذه القمة. ونقل عن عضو المجلس التنفيذي لجمعية الاقتصاديين الإيرانية بيمان مولوي تعليقه على توقيع الشركات السعودية والصينية قبل أيام 34 عقداً استثمارياً في قطاعات مختلفة، وكذلك عقد شراء الصين للغاز من قطر، بالقول إنّ «الصينيين تركوا الاقتصاد الإيراني، لأنهم تقريباً لا يستثمرون في إيران، وإنما تقتصر مساهمتهم على المنتجات الاستهلاكية. فيما رأت صحيفة Nikki Asia أنّ المخاوف تتصاعد في إيران من أنّ علاقات الصين المتسارعة مع المملكة العربية السعودية تتعارض مع تعهد بكين طويل الأمد بالحياد.

من جهته، يُعاني الحليف الآخر لإيران، روسيا، تحديّات متزايدة في الحرب على أوكرانيا، ومن المتوقَّع أن يزيد الدعم الإيراني العسكري لموسكو من الضغوط الغربية ـ خصوصاً الأوروبية ـ على طهران، إضافة للضغوط الاقتصادية غير المباشرة التي تمثّلها هذه الحرب خصوصاً لجهة رفع أسعار المواد الغذائية

هل يصمد النظام؟

يُواجه النظام الإسلامي في إيران تحديات كثيرة، ما سبق هو جزءٌ منها. لا تعني هذه التحديات أن النظام لن يتمكن من الصمود في وجه هذه الموجة من التظاهرات، لكن من المؤكّد أنه فقد شرعيته بين الناس، وهذه التحديات تزيد من نقاط ضعفه وتؤشّر إلى أنّ موجات التظاهر لن تنتهي قريباً، حتى لو قُمِعَت مرحلياً، والمسار الذي بدأه الإيرانيون في صيف العام 2009 لا يزال مستمراً ولا يملك النظام إلا العُنف للردّ عليه.

قطاعات واسعة من الشعب الإيراني تُشارك في هذه التظاهرات؛ من طلاب الثانويات والجامعات وشباب المدن، إلى الحركة النسوية، والأقليات الإثنية (الكرد والعرب والبلوش) والأقليات الدينية (خصوصاّ السنّة)، فالحركة العمّالية التي نَفذّت حتى اليوم سلسلة من الإضرابات العمالية الناجحة، التي طالت أهم قطاع اقتصادي في البلد وهو قطاع البتروكيميائيات. 

لا يملك النظام أي جواب على مطالب هذه القطاعات، لا على المستوى الاقتصادي ولا المستويين الاجتماعي والسياسي، خصوصاً بالنسبة للفئة الشابة، التي تشكّل غالبية المجتمع الإيراني وتسعى جاهدة لمغادرة البلاد. فبين 150 ألف إلى 180 ألف شاب وشابة إيرانيين من الطبقة المتعلّمة يغادرون البلاد سنوياً، وهو ما يكلّف البلاد نحو 50 مليار دولار سنوياً. وفي عام 2020 هاجر 900 محاضر جامعي، وخلال أزمة كورونا هاجر نحو 3000 من العاملين في القطاع الصحي. وبين أعوام 2007 و2012، سُجّلت نسبة 96% من براءات الاختراع الإيرانية لمهاجرين إيرانيين، بالمقارنة، بلغت هذه النسبة 17% في الصين. يُذكَر أنّ نسبة البطالة بين الشباب تزيد عن 40%. 

أزمة النظام باتت بنيوية. الشعارات ضد خامنئي والسلطة الدينية تعبيرٌ عن عُمق هذه الأزمة التي لا يُمكن أن تُحَلّ عبر آليات القمع. ومنذ عام 1999 تشهد إيران تصاعداً لموجات الاحتجاج، إن بالعدد أو في سقف الخطاب السياسي، وهذا التصاعد سيستمر بسبب الفشل في الإجابة على التحديات. فسياسة التوسّع الخارجي التي يعتمدها النظام الإيراني استنزفت وستستمر باستنزاف القدرات الاقتصادية للبلاد، في الوقت الذي لا يرى الإيرانيون أي معنى أو قيمة لعمليات التوسّع هذه. وعمليات القمع المتتالية لهذه الموجات تُساهم في إضعاف النظام تدريجياً، وكسر حلقات الدفاع عَنه وعزلها. 

نحن وإيران على أبواب أشهر وسنوات مثيرة، ستترك أثراً على المنطقة أكبر من الأثر التي تركه الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وبعيداً عن التكهُّن بموعد سقوط النظام، إلا أن هناك محطّات أساسيّة، مثل وفاة خامنئي، ستشكّل منعطفاً، ولا يبدو أنّ مجتمعاتنا جاهزة للتعامل معها، إن في العراق أو في سوريا ولبنان. الأسئلة في هذا الجانب كثيرة، والتصدي لها واجبٌ علينا جميعاً، لكن هذا التصدي لا يجب أن يمنعنا من التعامل الإيجابي مع الانتفاضة الإيرانية، ففي النهاية يخوض الإيرانيون معركة شعوب الإقليم بالقدر الذي يخوضون فيه معركتهم. يمكن ذلك من خلال جعل تظاهراتهم حاضرة في يوميات دول الإقليم، والمبادرة إلى دعمها عبر تحركات في الشارع بدل الاقتصار على تضامن قلّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.