منذ الثالث من تموز (يوليو) 2013، وبعد إزاحة الجيش للإسلاميين من الحُكم في مصر، وعلى ذمّة قضايا سياسيّة (جنائية باللفظ القانوني)، دخل عشرات الآلاف من الشباب والشابات المُعارضين السجون. كذلك، ومع اختلاف مُدد السجن وعدد مرات دخوله، خرج أيضاً عشرات الآلاف منه مرةً أُخرى منذ ذلك الوقت. عملية دخول وخروج السجن هنا هي عملية حيوية دينامية، بفعل آلة الاعتقال التي لم تتوقّف إلى الآن. ولكن ماذا فعل المُنعتقون من السجن بعد أن خرجوا إلى الحياة؟ تتعدد الإجابات بشأن مّا فعلوه، وهو ما يأخذنا أيضاً إلى سؤال: ما هي الدوافع التي حددت نوعية هذه الأفعال؟

أحاول طرح اشتباك حول ماذا فعلوا بشكل «براغماتي» في الممارسة العملية، إذ لسنا بصدد تحليل فلسفة السُلطة في التعاطي معهم، ولا بصدد نقاش ما وراء دوافعهم النفسية والفكرية، والتي على إثرها اتخذوا اتجاهات وممارسات عدّة. يحاول هذا المقال أن يوضح ما هي المسارات العملية التي سلكوها؟ ولماذا؟

وتوضيح هذه المسارات بشكل شامل ليس أمراً هيّناً، إذ يحتاج إلى رصد وتوثيق ميداني لعشرات الآلاف من الشباب، المُتباينين في طبقاتهم الفكرية والانتمَائية والاجتماعية والعمرية. لكن مع ذلك، ومن خلال ممارستي الميدانية والبحثية في السنوات القليلة الماضية، والتي كان جزءٌ منها يعتمد على التجربة الشخصية والبحثية، أستطيع بإيجاز أن أطرح  نقاشاً حول ما حدث وكيف حدث،ما أقصده بالممارسة الشخصية هو انخراطي في الاحتجاج، ومن ثم في الاجتماع والسُلطويّة السِّجنّية خلال مرحلة اعتقالي، ما ساعدني على الاختلاط بعشرات الشباب من توجهات مُختلفة، بقيت لدي صلة جيدة بهم ومعرفة بالتغيرات التي طرأت عليهم. أما الممارسة البحثية، فمن خلال دراستي المعنونة: شباب الإخوان المسلمين.. الجيل الثاني من المنشقين، إذ أجريت أكثر من مئة مُقابلة مع شباب أغلبهم خرج من السجن وبقيَ داخل مصر أو سافر خارجها. محاولاً رصد دوافعَ وحالاتٍ بعينها لا تقبل التعميم. نحن في صدد المُناقشة وطرح وجهات نظر تحاول الاقتراب أكثر إلى ما هُو واقعي، دون تحديد نسبية هذه الاتجاهات التي اتخذها الشباب بعد الخروج من السجن.أقصد هنا بالنسبية أعداد المسافرين قهراً (المنفيين) خارج مصر، وكذلك تحديد فئاتهم العمرية وأوضاعهم الحالية الاجتماعية والقانونية. لا توجد أي دراسات عملت على إحصاء هذا، حتى المنصات أو القنوات المُنطلقة والناطقة من الخارج، تحديداً تركيا وقطر، لم يصدر عنها أي أرقام بشأن المصريين «السياسيين» بالخارج.

 ما هي الاتجاهات؟

 يمكن تقسيم اتجاهات المُنعتقين من السجن إلى:

– خرجوا من السجن وأكملوا حياتهم داخل مصر، وهنا توجد عدة مسارات (احتمالات واقعية) لحياتهم.

– خرجوا من السجن وسافروا خارج مصر، وهنا تنوعت دوافع وماهية وأسباب السفر أيضاً.

 فيما يخص من بقوا داخل مصر، اختلفت الدوافع بما تحمله من أفكار وممارسات لديهم، إذ خرج البعض ولديه نيةٌ للعمل السياسي، بما يشمل العمل الحزبي/النقابي/العمالي، فضلاً عن العمل الدعوي/الثقافي دفاعا عن الحقوق الاجتماعية والإنسانية لدى مؤسسة ما أو بشكلٍ فردي، وكذلك العمل الصحافي والبحثي. كُل هؤلاء لديهم، بشكل أو بآخر، علاقة بالعمل السياسي التي تعمل السُلطة على تجفيفه طالما أنّه لا يتماشى معها وينتقد ممارساتها.

وثمة آخرون خرجوا مُقرِّرين أن يُكملوا حياتهم مودِّعين السياسة وكل ما يخصها من قريب أو من بعيد، سواء كانوا لا يتبنّونها من الأساس لكنهم اعتُقلوا لسبب أو لآخر، وسواء كان لهم قبل السجن نشاط دعوي/سياسي، لكنّهم اختاروا أن يتركوا أي صلة تربطهم بما يُعرّضهم لغَضب السُلطة، أي ما يُعرضهم للسجن مرة أخرى.

ما بعد السجن، سجن أو مَنفى

على هذا الأساس، يمكننا نقاش ما حدث لمن خرجوا وقرروا أن يبقوا في مصر. مَن لهم علاقة بالعمل السياسي، بمُختلف الاتجاهات الإيديولوجية والتنظيمية، ومن يعملون في مساحات بحثية وصحافية تخصّ الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكل ما ينضوي تحت الممارسة السُلطوية. كلّ هؤلاء معرضون دائماً لغضب السُلطة، المُتمثّل بالاختفاء القسري والتعذيب والسجن، بسبب عملهم من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم معتقلون سابقون. يجعل هذا حياتهم بالغة الصعوبة في الممارسة المهنّية (السياسية والبحثية والصحفية)، وحتى في التحركات الشارعيّة اليومية، خوفاً من الكمائن على الطُرقات والتفتيش الذاتي والشخصي في الشوارع والمقاهي، المُتمثل في الكشف عن البطاقة الشخصية «الهوية» وتفتيش الموبايل الشخصي «حسابات التواصل الاجتماعي»، ما يضعهم تحت ضغط نفسي ومادي كبير خوفاً من الاعتقال مرّة أخرى.

وهذا ما يجعل السفر أمراً ضرورياً لهم، لكن تُعرقله ظروف كثيرة، منها ما تكون عائلية، مثل حاجة العائلة إلى وجود هؤلاء الأشخاص بجوارها، ومنها ما يكون مادياً ومهنياً، حيث توفير فرصة عمل أو دراسة في الخارج أمرٌ غير هيّن. يُضاف إلى ذلك أمنَنة السُلطة المُستمرة للمعتقلين السابقين، وبشكل «قانوني»، إذ على البعض منهم أحكام مراقبة شرطية لعدة سنوات، حيث يبيتون في قسم الشرطة التابع لهم مدة 12 ساعة يومياً (من السادسة مساء حتى السادسة صباحا)، ومن يتخلّف منهم، يُثبَت له محضر «كسر مراقبة» ويتعرض لمحاكمة أُخرى، ويُعدّ في القانون هارباً من تنفيذ أحكام السُلطة القضائية.

هذا بالإضافة إلى ما يُعرف في دوائر المعتقلين السياسيين بـ«المُتابعة الأمنية»، حيث يَستدعي جهاز الأمن الوطني المُعتقلين السياسيين السابقين (وبدرجة أقل، من لهم أنشطة تديّنية أو سياسية حتى وإن لم يتم اعتقالهم من قبل) إلى إحدى المباني الشرطيّة، غالباً ما يكون قسم الشرطة التابع للهُوية الشخصية. يذهب المُعتقل في الميعاد المُحدد له، ويمكث هُناك لمدة يوم في العادة، لكن تختلف زمنية المكوث، حيث لا إجراء قانونياً في هذا. يذهب البعض، لمدة ساعات، وربما يوم أو أيام، وفي أحايين عدة يُحقَّق معهم من قبل ضباط من الأمن الوطني، ومن ثم يخرجون أو يُوضعون ضمن قضية جديدة ويُعرَضون على النيابة، أي أن المتابعة تُعد بمثابة اختفاء قسري، لكن يذهب المُعتقلون بأنفسهم إلى هذا الاختفاء بدل أن يتم القبض عليهم.

وللانفِلات من هذه الأمنَنة، ينتهج المعتقلون السياسيون سياسة عدم الرد على هذه الاستدعاءات أو التحجج بأي ظروف تمنعهم من الذهاب إلى المُتابعة، أو يتركون مدنهم التي يعيشون فيها ويذهبون إلى مدن أُخرى، وهذا للابتعاد عن مركزية المُراقبة الدائمة لهم. لكن بالتأكيد، لا يستطيع كل المعتقلين تغيير محل إقامتهم والانتقال لمدينة جديدة، بسبب التكاليف المادية، خاصة بالنسبة لمن لديهم أُسر، ما يجعل هؤلاء محلّهم لا يتحرّكون، خاضعين للأمننة التي لا مفرَّ منها، يدورون في فلك المتابعة والاعتقال بشكلٍ دوري، حيث يدخل الواحد منهم السجن ويخرج بضعة مرّات.

أما فيما يخص من خرجوا من السجن ولم يرتبطوا بأي عمل يخص السياسة، لا من قريب ولا من بعيد، وبأشكال مُختلفة ودّعوا العمل السياسي أو حتى لم يكن لهم صلة به من قبل. هؤلاء هُم أقل عُرضة لغضب السُلطة الأمنية في مصر، إذ إنّهم جففوا مجالات كثيرة تستدعي اعتقالهم وتعذيبهم واختفاءهم، وعاشوا كما يُقال (جوَّا الحيط)، ليس لهم علاقة سوى بدراستهم وعملهم البعيد كُل البعد عن السياسة. وبالرغم من هذا، لم يفلت هؤلاء من «المُتابعة الأمنية»، لأن فلسفة المُتابعة هنا تشمل الجميع، وليس من كان لهم نشاط سياسي من قبل أو من بعد الاعتقال، بل هو استدعاء من أجل الإخضاع الكامل والمُستمر بحق هذه الأجساد السياسية، بالمفهوم الشامل للسياسة، بما يشمل الحزبي والثقافي، والدعوي خاصة منه الإسلامي الحركي.

أما من سافروا خارج مصر، فهم كذلك مُقسَّمون، إلى من خرج ليُكمل حياته بعيداً عن السياسة وأروقتها، حياته الدراسية والمِهنية بشكل عادي، حتى وإن كان دافعُ خروجه هو الهروب من السُلطة التي تُهلَعه دائماً من خلال الاعتقال والمُراقبة والمُتابعة. والقسم الآخر، وهو مَحلّ نقاشنا، من خرجوا واستكمَلوا عملهم السياسي بكافة أشكاله، التنظيمية البحثية والصحفية والدراسية المُتخصصة، الحقوقية والإعلامية وغير ذلك من تقاطعات مع السياسة.

ربما كان الدافع الأول لسَفر المُعتقلين السابقين خارج مصر هو دافع الأمان الجسدي والنفسي من سُلطة الاعتقال المُهلِعة، فكما ذكرنا لا تترك السُلطات الأمنية المعتقل بعد خروجه، بل تبحث عنه، تستدعيه، تعتقله مراتٍ أُخرى، فيكون الحل الأمثل وإن كان صعباً على الكثيرين هو ترك أوطانهم والبحث عن بلد آخر. هذا بالتأكيد بالإضافة إلى دوافع أُخرى، كالعمل من أجل تحصيل مكانة مهنية ومادية أفضل، فضلاً عن الدراسة، ناهيك عن طلب اللجوء في دول أُخرى، خاصة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا.

 كانت تُركيا هي الدولة الأولى التي استقرّ فيها مُعظم الشباب الفارِّ من السُلطة في مصر، تليها دول أُخرى، مثل ماليزيا وقطر والسودان قبل إزاحة عمر البشير من السلطة. والولايات المُتحدة الأميركية ودول أوروبية. تصدّرت تُركيا وجهة السفر لوجود تكتّل إسلامي هُناك وفي قلبه الإخوان المُسلمون، فضلاً عن تأسيس منصات إعلامية وصحافية وبحثية ساعدت على توظيف الكثيرين لديها، وكذلك فضلاً عن التسجيل الدراسي السَهل التي تُوفره الدولة، وفرص العمل وإن كانت غير مُجزية. كُل هذا ساعد الشباب المصري في تقنين أوراق إقامته والعيش بشكلٍ أفضل مقارنةً بمصر، على الأقل من الناحية الأمنية.

 أيضاً استقرّ كثير من الشباب والشابات في الولايات المُتحدة الأميركية ودول أوروبية، سواء عن طريق الدراسة أو تأمين فرص عمل. وأيضاً من خلال طلبات اللجوء إليها، وهذا أمر جاء عبر طريقتين: أُولهما الذهاب إلى إحدى الدول الأوروبية وتقديم طلب لجوء من داخل المطار عند الوصول، ثُم تسمح له السُلطات أن يدخل البلد إلى حين البت في طلبه وإعطائه اللجوء من عَدمه. أما الثانية فهي عن طريق التقدم بطلب اللجوء في سفارة الدولة المُراد العيش فيها، وكذلك يخضع الطلب إلى كافة الإجراءات ومن ثم الموافقة من عدمِها. الوصول إلى دول اللجوء الأوربية لم يكن أمراً هيّناً أبداً، تطلّب أموالاَ باهظة، كذلك سلَك بعض الشباب الطُرق البرية للعبور بين الحدود بشكل غير نظامي، للوصول إلى الدولة المُراد اللجوء فيها.ضاق الحال بالشباب والشابات في دول مثل تُركيا وماليزيا والسودان، وسعوا بكل الطرق للوصول إلى أوروبا، كانت من بين هذه الطرق عندما سمحت دولة ألبانيا بدخول المصريين دون تأشيرة. عندئذ سافر البعض منهم، ومن هُناك خاضوا السفر شمالاً عبر البرِّ، مارّين بالجبَل الأسود وصربيا والمجر والنمسا، حتى وصلوا إلى بلجيكا وهولندا، حيث قدموا هناك طلبات اللجوء. رحلة استغرقت أياما كثيرة وشهدت مصاعب وأخطاراً.

أيضا يرتعب الكثير من الشباب في المنفى، وخاصة من صَدر بحقّهم أحكام سجن من السُلطة القضائية في مصر، من شبح الترحيل والتسليم الذي تقوم الدولة المُستضيفة أحياناً به، كما حدث مع كثيرين مثل الشاب محمد عبد الحفيظ. في شباط (فبراير) من عام 2019، قَدِم محمد من السودان إلى تركيا، وعند وصوله احتجزته السلطات التركية وقامت بترحيله إلى مصر، ليختفي قسرياً، وكان محكوما عليه غيابياً بالإعدام في إحدى القضايا. لذلك عند أي تقاربات سياسية بين النظام المصري الحالي وبين نظامي تركيا وقطر تحديداً، يخاف كثيرون من التعرّض للترحيل. هذا بالإضافة إلى تعطيلِ السفارات المصرية في دول كثيرة لبعض الإجراءات، حيث بات الجهاز الأمني في مصر يُشرف ويُدقق في معاملات المصريين بالخارج، بل ويُضيّق عليهم في عدم تجديد جوازات السفر أو مصادرتها أحياناً أخرى.

أيضاً قد لُوحظ لدى بضعة شباب مُستقلين، خلال وجودهم في تركيا تحديداً، أن عدم الانتماء إلى دوائر الإخوان المُسلمين هُناك، أو حتى انتقادهم بشكل علني، قد يحرم هذا اللامنتمي والمُنتقِد من حاضنة اجتماعية تُوفّرها جماعة الإخوان هناك، وتُوفِّرُ من خلالها فرص عملٍ ومساعدة في تقنين أوراق الإقامة وإجراءات تُساعد في سرعة جلب الاستقرار.

وفيما يخصّ حالة العمل السياسي، فقد أَجبر القمع السُلطوي بالتوازي مع موات التنظيم السياسي المصري، الكثير من الشباب في الداخل والخارج على الابتعاد عن السياسة، والخوف من الحديث عنها، بل أصبح مفهوم الخوف ذاته سياسة، «الخوف المُستثار من وعلى (الذات)».سلافوي جيجك، العنف: تأملات في وجوهه الستة، ترجمة فاضل جتكر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 بيروت 2017، ص 47. فَحُصِرَتْ كل الاهتمامات لديهم بالعيش تحت منظومة الاستهلاك الليبرالية التي تسعى إلى الربح وترفع من شأن الفردانية. هكذا ينتقل الجسد السياسي إلى جسد استهلاكي، إذ الجسد الثاني يُعطي له، أحياناً، نوعاً من الاعتراف وسط الاجتماعات السُلطوية.نعني بمَوات التنظيم السياسي أنه لم يؤسَس في الخارج تنظيم سياسي قوي كما ذكرنا. أما في الداخل، فعمل النظام المصري على إضعاف وتدمير الحياة السياسية في مصر، إذ دمّر الأحزاب السياسية ذات الطابع الإسلامي ودخل معها في خصومة صفرية. أما ما تبقى من أحزاب ذات طابع مُحافظ ويساري وليبرالي وديمقراطي، فقد عمل على إضعافها طيلة السنوات الماضية، حيث حاصر أنشطتها الدعوية والحزبية، وزُجَّ بالكثير من قياداتها وأفرادها النشطين في السجون. ومؤخراً تم الإفراج عن البعض منهم، ضمن ما يُعرف شكلياً بالحوار الوطني.

وحتى بعض من ظل يعمل ويدرس في مجالات خاصة بالعمل السياسي بأكمله وتقارباتِه المُتعددة، تحوّلت سياسته إلى شيء من السياسة السائلة (نسبة إلى زيغمونت باومان) إن جازت التسمية، سياسة وظيفية، لا سياسة حقيقية. إذ لم يتأسس تحالف سياسي تنظيمي مُعارض قوي، عابر لحدود المنفى، في كُل البلاد التي سافر إليها المُعارضون. بل أُسست عدة جبهات وتحالفات لم يكن لها خط سياسي شامل وواضح وقوي ومؤثر، مثل المجلس الثوري المصري، وهو لم يقدم أي شيء يُذكر، وفشل في التعبير عن جموع المُعارضة في الداخل أو الخارج. بمعنى أوضح، انقسم العاملون في المجال العام، خاصة في الخارج، إلى إعلاميين وحقوقيين وأكاديميين. الإعلاميون موظفون بالفعل، ليس لديهم منهج إعلامي موضوعي، بل مُقدمات نارية، وسرديات غير حقيقية، أو سرديات شعبوية، كما أنّها متناقضة إذ تتنوّع حسب سياسة الدولة المُستضيفة. على سبيل المثال، طالما مدحت القنوات المَحسوبة على جماعة الإخوان المُسلمين الدولة التركية ونظامها السياسي، ومن ثم انقلب عليها وأخرَسها إثر تقاربه مع النظام المصري، وهذا ما جعلها محل انتقادٍ كبير لدى شرائح مُتعددة الفكر والوظيفة.

أما العمل الحقوقي فقد انتُزع منه السياسي بامتياز، إذ أصبحَ التوثيق البُعدَ الأهمَّ في المسألة ككُل، وبات السياسي غير موجود عند البعض، وأصبح الهمّ في رصد الانتهاكات، وليس في العمل على إيقاف هذه الانتهاكات. بالتوازي مع عمل وانشغال بعض المُنظمات بالحقوق الفردانية (خاصة الجِندرية) وفقط، وتخلّيها عن الحقوق السياسية الجماعاتيّة، مثل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال هذا يتم فصل وتجزئة الحقوق كُلّها، فصل السياسي عن الحقوقي عن الجندري، وما كلّها إلا حقوق متداخلة ومتصلة السياق ببعضها، السياق الذي ترجع إشكاليته بشكل رئيسي إلى السُلطوية السياسية.

هذا أيضاً لا ينفي العمل على تأسيس منظمات حقوقية مؤخراً، ساعدت في رصد وتوثيق جيد لكافة الانتهاكات التي حدثت للمصريين. منها توثيق منظمة لجنة من أجل العدالة (committee for justice) انتهاكات السُلطة السِّجنية بحق السجناء الجنائيين على السواء مع السجناء السياسيين، وهذا شيء لا تفعله الكثير من المنظمات التي يقتصر عملها على توثيق الإنساني السياسي لا الإنساني بشكل عام.

من سياق آخر، وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2022، عُقد مؤتمر عن بعد عرف باسم مؤتمر الشتات المصري (Egyptian Diaspora)، والتي نظمته منظمة هِيومينا لحقوق الإنسان والمشاركة المدنية بالشراكة مع مؤسسة نساء من أجل العدالة. هَدِف هذا المؤتمر إلى مساعدة ومعرفة وضع المنفيين والمُشتتين خارج مصر، في بلدان مُختلفة، وهذا من خلال التعرف على تجاربهم المُختلفة مع المؤسسات والمُجتمعات والنُظم خارج مصر. في إحدى الجلسات، أوضحَ بضعة شباب في المنفى، وهم يعملون في الصحافة والبحث وحقوق الإنسان، معاناتهم في التعامل مع بعض مؤسسات حقوق الإنسان الداعمة لهم. خَلُصت الشكوى إلى أن هذه المُنظمات لا تدعمهم بشكل حقيقي، ولا تهتم بإدمَاجهم في المُجتمعات الجديدة التي انضموا إليها، سواء كان إدماجاً قانونياً متمثلّاً في إجراءات تقنين إقامتهم أو حتى إنسانياً ومهنياً، بل تضع المؤسسات أموالها في أشياء غير مناسبة ولا تؤهل الأفراد بشكل حقيقي، وكل ما تعمل عليه هو أن تصرف أموالاً وتجمع إيصالات لتُقدمها للممول وهكذا تدور العملية. وبحسب هؤلاء المنفيين فقد وضعهم هذا تحت ضغط نفسي نتيجة تعرضهم الدائم لأزمات متتالية. يشير هذا إلى مدى هشاشة التنظيم والإدارة لدى المؤسسات الحقوقية التي يفترض أن تحدّ من قمع السُلطويات قدر إمكانها، لا أن تكون سبباً في ضغط نفسي إضافي على المنفيين والمُعرّضين لخطر الترحيل والسجن.

وعن الأكاديميين، بات إغراء الترقّي الوظيفي هو الشاغل الأهم بالنسبة لكثيرين منهم، إذ يتولى البعض منهم مناصب عدّة تحريرية وشرفية وتدريسية في الجامعات ومراكز الأبحاث والصُحف وغير ذلك، ما أبعد العمل السياسي عن المَشهد عندهم، وأصبحت الثقافة محصورة لديهم في الكُتب والمقالات والندوات لا في الواقع العملي السياسي. واقتداءً بأساتذتهم، يتوجّه كثيرٌ من الشباب نحو ترك التفكير في الحل والعمل السياسيين، والسعي الحثيث نحو تحصيل الشهادات العلمية والعيش في ظل الأكاديميا العربية والغربية، بما أنّ الثانية تضمن ترقّياً وظيفياً ومادياً. وهذا ما ساهم في التيه السياسي لشباب ما بعد السجن والاستثناء، إذ لم توفر لهم النخبة السياسية والثقافية تنظيماً للعمل ضمن حيّزه، ولا استكمالاً للمسار الثوري التي كانت أولى مكاسبه خلال ثورة 25 يناير وتنحي المخلوع حسني مبارك.في التاسع من آب (أغسطس) عام 2021، أصدرت صحيفة ميدل إيست أي، فيلماً وثائقياً بعنوان المنفيون (Exiles)، وفيه بضعة وجوه مصرية تعمل في الصحافة والبحث والإعلام، تحديداً في قطر وتركيا ولندن، وهم في وقت سابق خرجوا من مصر ولا يستطيعون الرجوع إليها مرةً أُخرى بسبب التضييق الأمني الذي خرجوا جرّاءه. يتحدّثون في الفيلم عن اشتياقهم للوطن والأقارب والأصدقاء، عن مشاعر الاغتراب واليأس والأمل. يوجد آلاف غير هذه الوجوه، يعبرون بطرق أُخرى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بالكتابة والحكي، أو حتى لا يُعبرون، لكن الكُل يُجمِعون أن لا أحد منهم كان يتخيل أن يصل الأمر به إلى المنفى ومفارقة الوطن لسنوات لا أحد يعرف متى تنتهي.