بحسٍ ساخر يتخفّى بين سطور رواية الياقوت، الصادرة عن دار العين عام 2022، يسرد لنا الكاتب أمجد الصبّان قصة بطله منسي الذي يقدم كل شيء في حياته ثمناً لرؤية الملك فاروق ومُجالسته ليوم واحد فقط. في هذه القصة العجيبة فقرةٌ ستكون بمثابة منهجٍ أو خريطةٍ لمقاربة الرحلة التي يقوم بها:

«اجتاح جسدي فورانٌ عارم، كأن دماً جديداً قد ضُخَّ في عروقي، أو كأن تراب النسيان الذي غطاني ينقشع فجأة. قلت لنفسي: هو دا اللي انت محتاجه يا منسي.

رحت أذرعُ الغرفة ذهاباً وإياباً، فرحاً بالتقاطي لرغبة جديدة، تعيد إليَّ الاهتمام بحياتي التي أصبحت ميتة، وتحوَّلتُ بسببها إلى شخص غريب، مسلوب الرأي، مسلوب القرار في بيتي. تآمر الجميع عليَّ كي أتحول إلى شخصٍ يقضي وقته على عتبة البيت، أراقب الرائح والغادي في انتظار عودة زوجتي من كدحها، لترمي لي الطعام كقِطٍ أجرَب؛ ولهذا كانت الرحلة ضرورية لي*.

أولاً؛ كي أبرهن على أن النبض لا زال في جسدي، والقدرة لا تزال في روحي. 

ثانياً؛ لأردَّ الصاعَ صاعَين لأولاد الكلب الذين همَّشوني. 

ثالثاً؛ لأن كل ما سأختبره سيضيفُ إلى عمري المزيد وإلى لساني الحكايات» 

صـ 23، 24؛ من رواية الياقوت، *التشديد من عندي

سنرى أن كل واحد من هذه الأسباب مسار يعتمد على «الرغبة الجديدة» التي جعلت في جسده «فوراناً عارماً» وأعادت الاهتمام بحياته الميتة. المسار الأول: النشاط الخيالي- الحيوي، المسار الثاني الدور الاجتماعي للرغبة مُحدَّدٌ في صيغة الانتقام، المسار الثالث هو سياسي ووجودي في آن واحد وأسميه بعنوان سيرة ماركيز أن تعيش لتحكي.

الرغبة الملكيّة

تبدأ الرواية بلحظة غريبة؛ نعرف من خلالها عن بطلها منذ البداية معلومة مهمة، وهي أن السفر، أو هذا السفر بالتحديد، أهم من أولاده، من بِكريته التي سنعرف بعد ذلك أنه سرق حلق ابنتها – حفيدته – في سبيله. يقول منسي في الصفحة التالية «لم تكُنِ التذكرة مجرد ورقة، بل صَكّ إعادة إحياء».

تبدأ الرواية إذاً برغبة، وموضوع هذه الرغبة هو الملك، الملك فاروق؛ يقرأ منسي إعلاناً في جريدة الأهرام عن قضاء يومٍ مع الملك فيقول: «أغلقتُ الجريدة فوراً كمَنِ اكتشف سِراً أو عرف بفضيحة تمسُّ سمعته» (صـ 22) تأخذ الرغبة هنا شكل السر أو الفضيحة، أو حتى زواج ملكي: «ذهبتُ إلى شيكوريل، وابتعتُ بعض الملابس الداخلية، ومنامةً بيضاءَ حريرية، وبذلةً إيطاليَّةً فاخرة، وطربوشاً جديداً، ثم ترجَّلت من التاكسي أمام فندق شيبرد». ليصف لحظة اللقاء نفسها بأنها «أهم من ألف ديك رومي لذيذ». (صـ 103)

لم تكن هذه المرّة الأولى لبزوغ هذه «الرغبة الملكيّة»، ففي مطلع شبابه أيضاً يسافر منسي مع صديقه العيوطي لرؤية الملك في يوم تتويجه مُعلِّقاً: «سأكون على الأقل تحت سطوة الملك الشاب، لا سلطة عُمْدتنا الكهل». (صـ 16).

يحكي منسي في أكثر من موضع كيف أن حياته فاشلة ومهمشة وممحوة، نلاحظ ذلك في مشهد مكتب المحامي حين يجلس أمام السكرتيرة أكثر من ساعة دون أن تلاحظ وجوده، فيلفت نظرها مُستعطِفاً (صـ 32)، لكنه، مع ذلك، لديه هذه الرغبة الملكيّة، الرغبة المتمادية المتجسدة في السفر ورؤية الملك: « مصيبتي الكبرى هي سيطرة رغباتي عليَّ، ثم تَعجُّلي لإشباعها من دون تدبير. لكنني لم آتِ إلى هنا كي أبيع الأرض تحقيقاً لرغبةٍ عشوائيَّةٍ اجتاحتني فجأة، ثم أكون قاسياً على نفسي، فالرحلة تستحق كل هذا الحمق وأكثر». (صـ 34)

هناك مشهد استعاري للرحلة التي سيقوم بها منسي، وعلاقتها بالآخرين وبقفزه لإشباعها دون تدبير، مُعرِّضاً نفسه إلى خطر المجهول: « خارج بناية محمد بك المحامي، كانت الدنيا تمطر بكثافة، فاحتميتُ بمدخل العمارة، وكلما طال سقوط المطر على الأرض، كانت سحابة من الكآبة تمطر على رأسي فلا أعرف لها سبباً. كان المحتمون بمدخل العمارة ينظرون نحوي كأنني أقف عارياً، ولمّا سئمتُ نظراتهم، خرجتُ من البناية ومشيتُ تحت المطر، لا أعرف إلى أي مكان أذهب». (صـ 39) 

في نفس الصفحة يحكي منسي عن رغبة أبيه في أمه الهاربة وليالي بحثه عنها لسنوات وهو يصطحبه معه، فيقول «كان يسير كالتائه لا يعرف إلى أين يتجه، يبكي بكاءاً صامتاً ويتطلع بعين زائغةٍ نحو المارَّة، مُردِّداً بيأس: أمَّك هربت مع راجل تاني‘». هذه الرغبة التي قدر أبوه على تحويلها إلى امرأة أخرى كان يريدها لخدمة ابنه، وفاءاً لدور اجتماعي، لكن يصل الأمر لأن يكون منسي خادماً لها. 

يقول المنسي: « لم أعرف الحب قَط. كان مفترضاً أن تعلمني أمي إياه، بدلاً من أن أقضي حياتي جاهلاً بمذاقه، أتخبَّط في الظلام بحثاً عنه دون أن أعرف كيف أستقبله وكيف أمنحه للآخرين». (صـ 82) الفقدان المبكر لمصدر الرغبة الأول – الأم – جعل الرغبة منطلقة في توحش، تريد الوصول لما هو أبعد دائماً دون السكون في البنية الاجتماعية التي تُموقِعها وتجعلها نافعة وغير مؤذية. لكنها مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، تكون منجاة لصاحبها؛ في إحدى المشاهد الفانتازية القليلة في الرواية، يخرج منسي لاستكمال رحلته إلى الملك فيجد عربة كبيرة تجرها أربعة أحصنة «ناصعة البياض، بعيون زرقاء بالغة الجمال» والتي « نبتت لها أجنحة، ورفرفت بقوة، فارتفعت عن الأرض وطارت فوق المركبات (…) كنت مدهوشاً، حتى تخيَّلت أنني في حُلم وليس الأمر حقيقيّاً (…) قلت: تعيش الأحصنة الملكية، تعيش.» (صـ 62) هذه هي بالفعل «أجنحة الرغبة» التي تدفع أحصنتها إلى هدفها فيما يشبه الحلم، وتكون الطائرة التي يستقلها هي «سفينة نوح»، بحسب تعبيره، التي ستأخذه، هو وناجين آخرين «إلى عالمٍ آخر أكثر هدوءاً وسلاماً». (صـ 62)

ثلاث مسارات

هذه الرغبة الملكيّة الفائقة هي جوهر شخصية منسي، التي مع تَجسُّدِها في شكل الرحلة الملكية ولقاء الملك، تُرجِع معها الأحلام والخيالات النرجسيّة الأولى، كأننا نتتبع قصة طفل لا رجلٍ بالغٍ وجَدّ، وبالتالي تأخذ هذه الرغبة المسار الأول، أي النشاط الخيالي-الحيوي: « استعدتُ جوهري للمرة الأولى منذ وقتٍ طويل، واسترجعتُ أحلام يقظتي القديمة، عندما كنتُ أحلم بأن أصبح ممثلاً كبيراً تتطلع إليه الأبصار، ويُشار إليه بالبنان، مُتوَّجاً». (صـ 36؛ التشديد من عندي) التتويج هو الخيال الملكي لمنسي المهمش، والذي يقابله إحباط الواقع « قالوا: «ما تضيَّعش وقتك وشوف لك حاجة تانية أحسن». يحكي المنسي في الفقرة التالية عن حبه للوحدة حيث يستطيع إطلاق خيالاته بعيداً عن الأعين التي جاهد طيلة حياته كي يكون تحت مرآها، خيالات «يقتص فيها من الدنيا» ويُحب نفسه، الناجحة هذه المرَّة والمميزة، فالخيال بالنسبة لمنسي هو الطريق إلى إخضاع العالم وإلى الانتقام منه.

لذا سيكون طريق الرغبة هو أيضاً المسار الثاني؛ مسار التمرد الاجتماعي والمعاقبة: « إن بيع الأرض يعني طردي نهائيّاً من كنف العائلة. لكن لا يهم. إن كانوا يظنون أنهم قادرون على معاقبتي، فأنا أستطيع إنهاء كل آمالهم». (صـ 31). وذلك في مقابل القيود والهيمنة التي تُفرض عليه: « يريدون تقييدي ولَيَّ عنقي كي أصبح مثل دابَّة مِطْواعة سهلة القياد، ويسهل القضاء عليَّ حين يلزم الأمر». نعرف بالتدريج إذاً لمَ فضَّلَ السفر عن ابنته الكبرى؛ لفشله في دوره الاجتماعي كأب، وفشل هذا الدور في إشباعه وإعطاء معنى لحياته: «كنت أوقن أن ابني يحتقرني، وأنا كذلك، لم أَستسغه ولم أهضمه». (صـ 38) يقول منسي في الرواية جملة غريبة تشي بوضوح بهذا المنطق في التفكير: « حتى زواجي لم يَكُنْ من أجل الحب أو غيره، بل كان نوعاً من الانتقام».  (صـ 82) قاصداً زوجة أبيه التي كان زواجه خطة للانتقام منها.

بالمقابل، أو بالأصل، هناك عقاب للرغبة المنفلتة، يصل إلى حد الرعب والإخصاء؛ في مشهد الجنّيتين أو الندّاهتين، يجري المنسي هرباً إلى بيته، لكن تلمح زوجة أبيه قضيبه تحت سرواله الأبيض المبتل، فيضربه أبوه ضرباً مُبرحاً ثم يحبسه في غرفته، ويعرف بعدها أن العيوطي الذي ضاجع الفتاتين تلك الليلة، قد فقد قضيبه في المضاجعة، ويشير منسي أن تذكره فقط لهذا الحادث يجعل قضيبه يسقط ميتاً بلا قومة. حتى الحب، الشكل المتسامي للرغبة، كان في نظره «أداةٍ للإذلال لا شرفَ فيها، فقد رأيت أبي ذليلاً بعد أن هجرته أمي، ورأيت ابن زوجته ذليلاً بعد أن هجرته أمه». (صـ 85)

وهنا يظهر دور المسار الثالث للرغبة الملكية، المسار السياسي-الوجودي؛ يقول منسي عن سفرته الأولى: «ظلّ هذا اليوم أكبر إنجاز في حياتنا، فكان كل كبير وصغير يأتينا للسؤال عن الملك». (صـ 17) يقرَّر منسي عيش تجارب هامة واستثنائيّة كي يستطيع أن يحكيها بعد ذلك؛ «أن تعيش لتحكي». بالفعل، يكتسب منسي سُلطة من جرّاء هذا السفر وبكون الملك هدفاً للسفر/موضوعاً للرغبة، يضيف المنسي: «كنا ملوكاً مؤقتين على أنفسنا وعلى المُنصتين لنا»، وعن السفرة الثانية يقول: « سيملؤني الفخر بعد أن أخوض هذه الرحلة، سأقول: كنتُ في رحلةٍ بذل الملك نفسه مجهوداً فيها كي يضمن راحتي وسعادتي، أو لقد قضيتُ يوماً ملكيّاً» (صـ 23)

هذا الموقع، موقع السُلطة الملكيّة، موقع مغوٍ، ويمارس إغوائه في هذه الرواية حتى أن الشعب لم يتعاطف مع خطاب الضباط الأحرار في الإذاعة، وخرجوا في مظاهرات لتأييد الملك، مما صنع تاريخاً بديلاً استمرت فيه الملكية كشكل سياسي لحكم مصر، وهي سُلطة محمية بالأمومة -مصدر الرغبة الأصلي: « وحين عادت الملكة نازلي من أمريكا، قررت إدارة الصراع كأُمٍّ حَنُونٍ تسعى لإنقاذ ابنها – هي دي الأمهات – ولم تثق بالمحيطين به». (صـ 55) يغير منسي من تلك الأمومة الحاضنة، كما يغير من ابنه الذي تدللـه أمه: « إضافة لذلك، كان الولد ابن أمه، التي أطلقت عليه ألقاباً مُخنَّثة، مثل نِنّ العين وروح القلب. أبكي أحياناً حين أسمع هذه الألقاب». (صـ 38). 

نرى في الصفحة التالية كيف أن غياب السُلطة عن قرية منسي، المتمثلة في ذهاب العمدة ورجاله إلى القاهرة لاستطلاع الأمر، جعلت الناس في مواجهة مع المجهول ذي «الأنياب الحادة»، ليقول عنها منسي أنها كانت أسوأ أيام حياته قاطبةً، «فللمرة الأولى، عرفت معنى ترقُّب المجهول، بل ومواجهته وجهاً لوجه. وعكس ما توقعت، فقد كان للمجهول أنيابٌ حادَّة، تتلذذ بتمزيق أرواحنا». (صـ 56)، لكن أيضاً ملاقاة السُلطة لها رهبتها، فيقول عنها منسي: «تجعلني هذه اللحظات أدرك مقدار ضعفي، وأعرف أن عليَّ تنفيذ الأوامر مرغماً، كشجرةٍ هزيلةٍ في مواجهةِ ريحٍ عاتية». (صـ 57) هذه الطبيعة المزدوجة للسُلطة تُشبّهُها بموضوع الرغبة. نرهب فقدان موضوع رغبتنا، لكننا نرهب لقاءه أيضاً.

يحكي منسي عن نفسه قائلاً: « دائماً ما تملَّكني الإحساس بأنني لا شيء. ومن ثَمَّ يسهُل رفضي وانتهاكي والقضاء عليَّ». (صـ 64) وبعد فشل سلطة النفوذ والمال والشهرة لتحقيق وجوده يذهب إلى سلطة الحكاية ليدفع ثمناً لها كل شيء: «وحين حاولتُ أن أصبح راوياً صاحب حكايات، كان عَليَّ أن أبيع أرضي وأهجر عائلتي، بلا قدرة على العودة مجدداً» (صـ 65)

التشابه والاختلاف

اكتساب السُلطة لن يكون فقط باكتساب الخبرة وحكيِها -سُلطة الحكي- لكن أيضاً بالتشبه بها: «يسأل الصغار: – هو فيه ملك بجَدّ يا عَمّ؟ أليس كائناً خرافيّاً كأُمِّنا الغولة؟ فأجيب: – شبهي تماماً». ويكون التمرد عليها هو رفض هذا الشبه: « سأفرغ وجهي تماماً من أي تعبير، ثم أقول بنبرة هادئة وجادة: أنا أحب نفسي لدرجة تمنعني من التشبُّه بأحد، حتى لو كان مَلِكاً. لكن بعد بعض التفكير تراجعت عن هذه الجملة، وأعرضت كذلك عن هذه الطريقة في الحديث؛ لأنني شعرت كأنني أقتبسُ طريقةَ حديثِ زعيم الضباط الأحرار، في كلماته الأخيرة، قبل لحظة إعدامه، كما وصفتها الجرائد». (صـ 60) ومع ذلك، تحتاج السُلطة الحفاظ على التمايز للحفاظ على نفسها، وهذا ما يجعل الضابط يرسم علامة بالطلاء على وجه منسي وآخرين.

التشابه مفهوم مركزي في الرواية – كانت إحدى مقترحات اسم للرواية «الأشباه»- يقرأ المنسي في جريدة سرية اسمها البيان عن أفراد يشبهون الملك، ويتساءل: «ما سيحدث إن التقى الملكان، الشبيه والحقيقي؟»، وهل يمكن وقتها التفرقة بينهما أم سُيخدَع الناس. يرفض المنسي هذه الفكرة «لم أكن أحب هذه النهاية، فالملك ملك». (صـ 20)

يقول لاكان: «المجنون ليس فقط الشحاذ الذي يظن نفسه ملكاً، بل أيضاً الملك الذي يظن نفسه ملكاً»، ويعني أن هناك موقعاً رمزياً – الملكيّة – تأخذه الذات وتتماهى معه، لكنها لا تكونه أبداً. هناك سؤال إذن عن إذا كان يشبه الملك نفسه؛ نرى ذلك في الرواية حين يلمح المنسي الملك فاروق – أو أحد أشباهه – على الرصيف المقابل، فيتساءل في استنكار – يصل إلى النفور والغصّة – كيف يكون الملك بهذا الاستهتار مما يفسد الحفل الذي دفع فيه كل ما يملك، يخاف المنسي هنا من عدم قدرة «الملك»، رمز السلطة وموضوع الرغبة الملكية، في الحفاظ على خيال هذه الرغبة، أي الحفاظ عليها، مما يعني هلاكه. ويقول حين يراه عن قرب بنبرة تشي بالإحباط: « يبدو الملك هَرِماً متعباً، يتجاوز وزنه مائتَيْ كيلوجرام، ويجلس متطلعاً إلى السقف في ملل، راغباً في أن ينتهي كل شيء فوراً. (…) كل هذا أضعفه وحوَّله إلى رجلٍ عابسٍ كئيب، فأصبحت هيئتُه غير لائقة بملك». (صـ 103، 104) كان الملك، بالفعل، لا يشبه نفسه: « كان شكل الملك قد تغير كثيراً، ومن فرط بدانته لا يظهر من ملامحه إلا خطوطُ عينيه وحوافُّ شفتيه، وشنب مدفوس في وجهه. كان من الصعب التعرُّف إليه» (صـ104). يفشل الملك أن يكون ملكاً، أي هدفاً لرغبة منسي يُحرِّره من مآسيه وقيوده، مما سيجعلها تتحول – أو تنكص – إلى شيء آخر بشكل لحظي: « نظرتُ إلى الفتاة التي كانت تسند رأسها على يدها وتمرر أصابعها بين شعرها، وترتدي بلوزةً حمراء، وعلى ملامحها شعورٌ بملَلٍ عارم. كانت هذه الفتاة تُصدر قوةَ جذبٍ غير مفهومة بالنسبة إليَّ». (صـ 105)

يرى منسي هذه الفتاة في بداية الحفل الملكي فيركض ناحيتها بلا سبب واضح، ثم يتتبعها بذهن مشتت، نافياً معرفته مصدر رغبته. يعرف بعد ذلك سرَّ انجذابه، وهو أنها تشبه أمه كما ظهرت له في الحلم. تشعر الفتاة بالإهانة وتصفعه لأنه وصفها بأنها «شَبَه». تفشل الرغبة في إشباع ذاتها لأن التشابه يكون قناعاً لا شيء تحته، أو « صورة ميتة لن تفعل أكثر من إهاجة الذكرى»، ولا تستطيع تحريره من الألم أو طمأنته في ليالي الوحدة القاحلة. (صـ 110) وهو ما حدث مع الملك فاروق، أي أن يتحول موضوع الرغبة المُخفَق إلى «ذكرى ثقيلة على القلب، ذكرى مؤلمة ولا معنى لها». (صـ 111) أو ما حدث مع البنوّة، والأبوة، والتمثيل، والعمل، أي فشل موضوع الرغبة أن يكون نفسه. 

هذا التشابه إذاً يهدِّد بضياع موضوع الرغبة، بخلطه بموضوعات أخرى؛ أحد الأسئلة الأساسية التي تطرحها الرغبة هي هوية ما ترغب فيه: ما أرغب به؟ من يكون هذا الذي أرغب به؟ هل يشبه آخر؟ هل يشبه نفسه؟ 

التشابه يكون إذاً تهديداً مزدوجاً للملكية، التي تعتمد بالأساس على الهيبة «– بيقولَّك المتمردين بيقلِّدوه عشان يكسروا هيبته». «– لأ بيقولَّك الناس ملعونة، بتصحَى تلاقي نفسها شبهه، أصل اللي ربنا بيكرهه بيخلّي منه شبه كتير». الخطر هنا هو تعداد موضوع الرغبة مما يفقدها فرادتها، وبالتالي قوة الرغبة الساعية إليها، كما أنها تهددها بالضياع والخديعة: «هناك كذلك خطر الخديعة. من يضمن لي أن يكون الملك الجالس على العرش هو النسخة الأصلية، لا أحد الأشباه؟ هززتُ رأسي لا إراديّاً حتى أُبعد الفكرة قبل أن تمكث في رأسي فتفسد عليَّ الرحلة كلها». (صـ 54) حين نادى منسي المضيفة على الطائرة سائلاً إياها إذا كانت متأكدة أن الذي في الإسكندرية هو الملك «بحق وحقيقي» (صـ 86) تجيبه، لا بالنفي، بل بأنها لا تعرف.

الصورة كرغبة مُجمَّدة

يمتلئ طريق الرغبة بالأخطار، فغير خطر الخديعة وزيف موضوع الرغبة، هناك خطر الموت الُملازِم، يقول المنسي: «تخيلتنا متجهين نحو المطار، نستمع في الأوتوبيس إلى موسيقى الفلامنكو بصوتٍ عالٍ، وأهزُّ رأسي باستمتاع، قبل أن تخترق طلقة قنَّاص نافوخي فأموت ويتدلى لساني». (صـ 54) ربما لذلك هناك في الرواية القصيرة خط السعي وراء «الصورة»، الرغبة في الصورة أو الصورة كموضوع للرغبة وكتجسيد لها أيضاً: الصورة كرغبة مجمدة. يبحث المنسي عن صورة قديمة التقطها مع العيوطي في سفرتهم الأولى، تحافظ على ذكرى ورغبة هذه الرحلة، ويتساءل إذا سيكون للصورة التي سيأخذها مع الملك سحرٌ يجعل ابنه فخوراً به، وتغفر له أسرته كل ما فات، باحثين عنه معلنين اشتياقهم له، فيرجع منتصراً إلى القرية ليخرّ الجميع تحت حصانه «حصان رغبته» مهللين ومقسمين بحياته. 

قبيل النهاية يحاول منسي صنع صورة أخرى تحاكي أمه، مصدر رغبته المفقود. يغامر بكل شيء بشكل جنوني فعلاً فقط لكي يلتقط صورة للفتاة التي يراها في الحفل تكون فيها مماثلة لأمه؛ ينزع مسدس الملك المنتحر ليخطفها ويخطف عربة بسائقها ليذهب بهما إلى محل تصوير: « – كل اللي عايزه منك صورة وانتي تبقي لابسة الباروكة دي، وهسيبك تمشي بعد كدا». (صـ 110) مهدداً حياته كلها بالضياع التام، مثلما فعل حين بدأ تنفيذ خطته لإشباع رغبته الملكية، التي أصبح موضوعها الآن صورة، صورة تشبه مصدرها الأول المفقود، لعلها تعيد له الأمان والهناء.في فقرة مؤثرة يتكلم منسي عن الحلم-الكابوس الذي رأى فيه أمه وألهمه فكرة التقاط الصورة: «ثم ما المشكلة في أن تضعني أمي في قدر للسلق على الحقيقة حتى، لا في الحلم؟ ألا يكفيني أنني سأتمتع برؤياها، وأنها ستمسكني من خَصري كي ترفعني للأعلى، وأنها إذا حملتني قد تُفلت منها رَبْتَةٌ على ظهري، فأحس بالطُّمأنينة، أو تلتقي عينانا فأحس بالأمان، حتى لو لثوانٍ قليلة». (صـ 42، 43) الصور المختلفة لموضوع الرغبة الملكية التي تسعى للاكتمال والأمان، تؤدي كلها للهلاك، لكنها في طريقها لذلك، ترسم لنا رحلة عجيبة تُستحَق أن تروى.