لعلّ من مألوف السياسة أن يتسابق قادة الدول إلى توطيد علاقاتهم مع المنتصرين، سواء كان النصر على أعداء خارجيين أو خصوم داخليين، وأياً تكن الدماء التي سُفكت في سبيل النصر. كان هذا مألوفاً طوال التاريخ البشري المعروف، ولا يزال كذلك حتى بعد أن صار لمفاهيم حقوق الإنسان تأصيلٌ قانونيٌ وأثرٌ سياسي، وإن كانت تلك المفاهيم قد أخرجت هذا «المألوف» من نطاق الأمور «الطبيعية» فصار مشكوكاً في شرعيته الأخلاقية والسياسية. لكن حتى في مقاربة كهذه، أي بعد أن نحذف حقوق الإنسان من المعادلة، يبدو مثيراً للسخرية أن نتصور بشار الأسد زعيماً منتصراً يتسابق القادة إلى خطب ودّه.

وبالفعل، يبدو مشهد القادة الأتراك وهم يخطبون ودّ الأسديين مضحكاً رغم التراجيديا الهائلة المحيطة به. أما المضحك فهو أن أردوغان، الذي لطالما حرص على إظهار نفسه كندّ للدول العظمى وقادتها، يبحث اليوم عن إنقاذ مستقبله السياسي عند رئيس يحكم بالكاد نصف بلده بمساعدة عسكرية أجنبية مباشرة، ويتصرّف كزعيم شبكة للاتجار بالكبتاغون. وأما التراجيديا فهي تتمثّل أساساً في الدماء والآلام السورية الكثيرة التي تَسبّبَ ويتسبّبُ بها نهج تركيا السياسي في الشأن السوري، لكن لها وجوهاً أخرى كثيرة بعضها مُتعلّق بتركيا وسكّانها ومستقبلهم السياسي الاجتماعي.

فضلاً عن كون بشار الأسد زعيماً منتصراً فقط على قطاعات من شعبه، وبدعم غير محدود من دولتين كبيرتين، فهو فوق ذلك مجرم حرب طبّقت أخبار جرائمه الآفاق، ولم يعد هناك من ينكر بجدّية دموية نظامه، بل ينصرف الدفاع عنه في الغالب إلى القول إنه ليس المجرم الوحيد أو إن لجرائمه مبررات وظروفاً. اليوم، يمكن أن تكون مصالحةُ زعيم كهذا باباً لربح الانتخابات في تركيا، بل يتنافس قادة الحكومة مع قادة المعارضة في الإعلان عن مدى استعدادهم لهذه المصالحة. يقول هذا أشياء حزينة عن الأوضاع الاجتماعية في تركيا، وعن الثقافة السياسية السائدة في بلد يَحفل بالأزمات السياسية والاقتصادية، بينما تتحكم في نتائج انتخاباته مسألة الخلاص من لاجئين لا تتجاوز نسبتهم 5 بالمئة من مجموع السكان.

ولكن بصرف النظر عن هذا، ما الذي يمكن لبشار الأسد أن يُقدّمه لأردوغان والحزب الحاكم في تركيا، سوى أن مُصالحته قد تمنحهم أصواتاً إضافية في الانتخابات القادمة بوصفها وسيلة مُحتملة للخلاص من اللاجئين؟

يجري الحديث اليوم عن أربعة أشياء أساسية: ترتيبات تساعد في عودة اللاجئين، وإبعاد المسلحين الكرد عن الحدود التركية، وإيجاد حلّ لمستقبل المناطق السورية التي تسيطر عليها تركيا، وفتح طُرُق التجارة.

لا يستطيع النظام السوري الانخراط في ترتيبات جدية تساعد في عودة اللاجئين من تركيا، هذا لو افترضنا أنه يريد ذلك أصلاً. يحتاج هذا كفَّ يد الأجهزة الأمنية عن الاعتقال العشوائي والتعذيب والقتل، ويحتاج تَحسُّنَ الأوضاع الاقتصادية: الأولى غير ممكنة دون تغيير سياسي حقيقي خاض النظام حربه كلّها للحيلولة دون حدوثه، والثانية ليست مرتبطة بقرار يتخذّه النظام، بل بالعقوبات من جهة، وبتغيير النظام لكيفية إدارته للبلد من جهة أخرى وهو ما قلنا إنه خاض حربه كُلّها للحيلولة دون حدوثه. ولكن قبل ذلك، هل يريد النظام فعلاً عودة ملايين من بينهم كثيرون معارضون له، ما يزيد من أعبائه الأمنية فضلاً عن الاقتصادية؟

أما إنهاء سيطرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على المناطق المحاذية للحدود التركية، فهو يتطلّب سيطرة قوات النظام السوري عليها، الأمر الذي بدوره لا يتوقف على إرادة النظام وحلفائه، بل يحتاج موافقة أميركية وربما معركة مع مسلحي الاتحاد الديمقراطي الذين قد لا يقبلون بالتراجع عن كل مكاسبهم في سوريا بسهولة. فيما يتطلب إيجاد حلّ لمستقبل المناطق التي تسيطر عليها تركيا في سوريا تجاوز تعقيدات شتى، أبرزها مصير عشرات الآلاف المعارضين المدنيين والمقاتلين، ومصير ملايين معظمهم مهجرون أصلاً نتيجة بطش النظام ومجازره، ومصير منطقة عفرين وأهلها، فضلاً عن عقدة إدلب. جُلّ ما يمكن للنظام تقديمه لتركيا على هذا الصعيد هو منع عودة البنى السياسية والعسكرية الكردية إلى عفرين، والقبول بتحمّل العبء الأمني والاقتصادي لهذه المناطق دون خوض معارك كبرى أو ارتكاب مجازر تخلق أزمات جديدة على الحدود التركية. ولكن لنفترض أن النظام يريد ويستطيع ذلك، فأي مقابل يمكن للحكومة التركية أن تُقدِّمه سوى الاعتراف بشرعية حكمه وربما بعض المصالح الاقتصادية؟

يقودنا هذا إلى الملف الرابع، وهو فتح الطرق التجارية، وهي على أهميتها الاقتصادية للجانبين، وخاصة الجانب السوري، لا تحمل في ذاتها ما يخفف الأزمات الاقتصادية في البلدين بشكل حاسم ما لم تترافق مع تسهيلات دولية على صعيد شبكات التجارة والعقوبات، ومع إجراءات اقتصادية مثمرة لا يبدو النظام السوري قادراً على القيام بها ولا راغباً في ذلك. وهي في كل حال خدمة للنظام السوري أكثر ممّا هي مكسبٌ تركي.

يجري الحديث أيضاً عن مكاسب اقتصادية وسياسية لتركيا في العلاقة مع روسيا، لكن هذه أيضاً مشكوك في مدى أهميتها التي تتجاوز الربح الظرفي المؤقت، ويبدو غريباً أن تكون في ذاتها دافعاً لكل هذا السعي التركي المحموم لمصالحة بشار الأسد. في الواقع، تبدو تركيا في هذا الملفّ بلداً ضعيفاً أكثر من أي وقت مضى، بلداً يرتكب قادته أخطاء سياسية تكلفهم تدهور سمعتهم واقتصادهم، ثم يحاولون إصلاحها بأخطاء أخرى تكلفهم مزيداً من تدهور سمعتهم واقتصادهم.

ومن أوجه التراجيديا الداعية للتأمل أن هذا يحدث في ظل قيادة سياسية حققت إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ تركيا خلال العقد الأول من الألفية، ثم راح كل شيء يتدهور تحت حكمها بالتزامن مع صعود نزعتها السلطوية المعادية للديمقراطية، ومع ارتدادها إلى خنادق السياسات والخطابات القومية الضيّقة، ومع الفشل في السير على طريق حلّ القضية الكردية.

في الواقع، ليست الخطوات التركية باتجاه النظام السوري علامة على انتصار هذا الأخير، بل هي علامة على نهاية الأردوغانية ومشروعها السياسي، وهي نهاية يبدو أنها باتت واقعاً بصرف النظر عن نتائج الانتخابات القادمة، التي قد يربحها أردوغان متخلياً عن كل ملامح المشروع الذي جاء به إلى السلطة قبل نحو عقدين من الزمن. أما النظام السوري، فإن انتصاره على قوى الثورة والمعارضة لم يعد يحتاج علامات إضافية، كما أن فشله في تحويل انتصاره هذا إلى سياسة قابلة للاستمرار لا يحتاج بدوره علامات إضافية، وهو الفشل الذي لا يمكن أن تساعد القيادة التركيّة على تجاوزه مهما بلغ استعدادها لتبييض جرائم الحرب الأسدية مقابل مكاسب سياسية متواضعة.