هل يندرج كتاب تاريخ العصامية والجربعة للكاتب المصري محمد نعيم ضمن ما يمكن أن نسميه أدبيات الهزائم؟ وما الذي يميزه عن غيره؟ عن نقد ياسين الحافظ أو صادق جلال العظم في سوريا مثلاً، بعد هزيمة حزيران، أو ما كُتب عن الهزيمة في مصر؟ رغم تباعد الظروف وأحياناً البلد والتاريخ وشروط الهزيمة التي نتحدث عنها. وهل يمكن مقارنة الهزيمتين رغم الفارق من حيث طبيعة المعتدي، الاستعماري الأجنبي من جهة، والمحلي المتسلط المقوض للقيم الوطنية الجمهورية من جهة أخرى؟

وفي هذا السياق المقارن، ما هي الجربعة على وجه الدقة؟ هل هي قيمةٌ ثقافوية سلبية غير مُحدَّدة المعالم، ذاتٌ جمعية قابلة للهزيمة تعريفاً، وَقَفتْ وستقف حتماً عائقاً حيال تَشكُّل الجمهورية المواطنية الديمقراطية بحسب تعبير محمد نعيم، ويحاول هذا الأخير أن يستبصرها ويرسم لها المعالم المعاشة. هل تشبه في معالمها الإيديولوجية المهزومة الذهنية المتخلفة نفسها التي تحدث عنها أدباء الهزيمة سابقو الذكر؟ ونتساءل أخيراً إن كانت الجربعة، بعيداً عن الثقافوية الجلّادة للنفس هي، كما العصامية، مجرد محاولة لتأريخ الأخلاق المصرية    العامة الاجتماعية السياسية، مجرد عَرَض لشرط تاريخي تحكمه قوى سياسية واقتصادية وليست سبباً كامناً وراء الشرط عينه؟

يقدم محمد نعيم كتابه على أنه محاولة لفهم لحظات استعصاء استكمال الجمهورية المواطنية في مصر منذ لحظة تأسيسها اليوليوية، أي عام 1953، والتعدي المستمر على ما بقي منها رغم تأسيسها المبتسر، والتقويض المتسارع لها بعد محاولة تأسيس ثانية أثناء ثورة يناير 2011، ويذهب في محاولته إلى لحظة محمد علي في التاريخ المصري الحديث. لقد جعلت لحظة يناير 2011 ما قبلها يبدو بعيداً في التاريخ بحسب تعبير محمد نعيم نفسه، إذ كانت تَغيُّراً كبيراً شَرْعَنَ التساؤل عن التغيرات الكبرى التي قبله، حيث لم يعد من الممكن الاستمرار في مسار الحياة العامة بالطمأنينة ورتابة الماضي نفسهما. ومن بين موضوعات التساؤل هو معنى الشعب نفسه، هويته وتمثلاته واجتماعه المشترك وإمكانية استمراره، استمرار السلطة مع «الشعب» أو استمرار الاجتماع المشترك بين فئات «الشعب» نفسه، أو لنَقُلْ بين عناصر الأمة المصرية.

بعد مقدمته المكتوبة بالعامية، لتقريب المكتوب من المنطوق بحسب تعبيره، ولإرساء فكرة تناول الشأن العام من كافة المصريين على حد سواء دون الفاصل اللغوي السلطوي، يخوض محمد نعيم في ملاحظات طويلة عن التاريخ الاجتماعي وتاريخ الصعود الطبقي وتطور حياة المصريين في القرنين الماضيين. يحاول الكاتب أن يحدد ملامح «العصامية» بوصفها المنظومة القيمية الإيجابية أخلاقياً، والتي كان من شأنها أن تكون حاملاً لتطور عموم المصريين من فلاحين بسطاء إلى أفندية، ومن شأنها كذلك أن تؤسس لثوابت هوياتية مصرية: الصعود الاجتماعي المُستحَقّ بالاجتهاد والتعلم خاصة، والجهد والعمل للفلاحين وأبنائهم.

فيما تلا ذلك، يحاول أن يحدد معالم «الجربعة» ليس فقط بوصفها منظومة قيمية مجتمعية سلبية مفادها الوصولية وعدم الإيثار واستغلال العلاقات السلطوية المتنوعة، والمتناقضة مع العصامية بطبيعة الحال، ولكن أيضاً بوصفها التعبير المباشر الملموس والمُعَاش عن الشرط التاريخي السياسي المهزوم حيث لا ملامح لأمة متوحدة.   

في ملاحظاته الأنثروبولوجية الطويلة حول الأبعاد الرمزية والثقافية التي رافقت تطور المصريين خلال القرنيين الماضيين، يتطرق محمد نعيم إلى ديناميكيات التمايز الاجتماعي التي شهدها المجتمع المصري، من لون البشرة والتراوح في مدلولاتها بين البياض والسمار بحسب السياق وبحسب المتمايزين فيما بينهم، مصريين ومصريين أم مصريين وأجانب مستعمرين وخواجات أو رجال ونساء، إلى أساليب الاستهلاك، إلى العلاقة مع المُلكية والقيم الجمالية الملفتة في الكتاب حول «النيش» (البوفيه في لغتنا المشرقية) وما يُمثّله بوصفه سينوغرافيا متحفية لما حَصَّلته العائلة من مكتسبات ( ماديّة بشكل أساسي) عبر الزمن، وما يشكل بدوره «إرثاً» يُراكَم ويُورَّث. ويتطرق محمد نعيم كذلك إلى التمايزات اللغوية واللهجاتية في المجتمع المصري، ومركزية اللهجة القاهرية (رغم أن القاهرة ليست واحدة كما هو معلوم) على حساب اللهجات الجهوية والمناطقية، تمايزٌ يحاول المجتمع عبره أن يُصنِّفَ نفسه في قوالب تساعده على ضبط التداول الرمزي بين مختلف مكوناته. في مورد الملاحظات نفسه يتحدث محمد نعيم كذلك على العلاقة مع الوفر، والوفر الغذائي بشكل خاص الآتي بعد حرمان في حياة الفلاحين الفقراء من المصريين. العلاقة هذه علاقة قلقة محكومة دائماً بشعور الخوف من الجوع، ممّا يترتب عليه التَطيُّر والخوف من فقدان الأمان وبالتالي الخوف من الحسد .

في هذا المبحث الاجتماعي، الذي يحاول محمد نعيم أن يخط من خلاله ملامح الحياة الرمزية للمصريين، وكذلك ملامح هويتهم كأمّة (في موضوع لون البشرة على سبيل المثال)، يتساءل القارئ إن كان هناك مجتمعٌ بشريٌ لم يعرف آليات التمايز هذه على مستوى لون البشرة، أو المُلكية المادية والرمزية أو اللغة أو شيفرات تمايز الذائقات الجمالية القريبة جداً مما يورده محمد نعيم، على أقل تقدير في العالم العربي أو العالم المتوسطي اللذين نعرفهما أكثر من غيرهما. وقد يسأل القارئ كذلك عن الزمن الذي بزغت فيه هذه الآليات التمايزية، أليس متقارباً؟ بمعنى أنه مُوازٍ للعصر الصناعي الحديث وبروز الدول الأمم حول العالم المركزي الغربي. في تَملُّكِ الجمال، لا يختلف كثيراً ما يورده محمد نعيم عن بعض مّا أورده عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه التمايُز، الذي يشرح فيه الكثير من آليات تمايز المجتمع الفرنسي الحديث ، ولا يختلف كذلك عن بعض ما أورده الإنكليزي ريتشارد هوغرت في كتابه المترجم إلى العربية بنسختين، فوائد التعلم أو استعمالات القراءة والكتابة، عن الثقافة الشعبية الإنكليزية في ثلاثينيات القرن الماضي. حتى أن مقالة محمد نعيم المُطوَّلة تطرح نفس الإشكالية عن علاقة اليسار عموماً مع الثقافة الشعبية، هذه العلاقة التي تترواح بين الرغبوية في التغيير، تغيير هذه الثقافة القيمية من فوق، وبين اليأس الحتمي من التغيير. ولا يبدو سهلَ المنال، على سبيل المثال، التمسك بعصاميةِ استخدام اللغة العربية المصرية والتخفيف من حذلقة وجربعة إدخال الإنكليزية في كل جملة، في عصر تهيمن فيه الإنكليزية هيمنة إمبريالية على معظم لغات شباب العالم الذين يتعرضون لها على مدار الساعة.  

إلا أن أفضل ما يقدمه الكتاب هو تَملُّكُ الكاتب للأمثلة التي تُوضح كيف انتقلت هذه القيم الصاعدة للمصريين خلال القرنين الماضيين، من عصامية وجربعة، إلى إنتاج ثقافي جماهيري ساهم في صوغ «هوية» ما للأُمّة المصرية، هوية هشّة وبسيطة جداً في سرديتها على حد تعبير محمد نعيم، تتمثل في مجموع رجولة سمراء وجَدعَنة عصامية مُناهِضة للاستعمار الأجنبي لحماية العرض والأرض. هذا أفضل ما يمكن أن تُقدمه الدراسات الثقافية الناشئة في بلداننا، وهو التقاط التعبير الرمزي والثقافي في الأشعار وفنون الفرجة من سينما وتلفزيون وفي الغناء وفي الرسم. هذا التحقيب، بغض النظر عن مدى اقتناعنا بتعبيرَيّ العصامية والجربعة كمفهومَين شارِحَين، مهمٌ للغاية لأنه جديد ومن الثمار الثمينة للربيع العربي. أن نتجرأ على استبصار ذواتنا، و«نيشات» بيوتنا ولُغاتنا وتعبيراتنا العاطفية من خوف و حسد و«مداراة لشموعنا حتى تقيد» وانعزالنا عن الشأن العام و«مشينا الحيط الحيط»، كل ذلك هو تأسيسٌ لدراسات ثقافية محلية أكثر جرأة، وهو في رأيي أثمنُ ما يقدمه الكتاب: التقاطُ هذه التعابير الرمزية والثقافية وتوثيقها.

في الفصول التالية، يتضح للقارئ أكثر فأكثر أن تعبيرَي العصامية والجربعة هما مُجرّد تدبير فني لغوي يحاول الكاتب من خلالهما التحقيب وفهم تلاوين كل عقد من العقود التي سبقت ثورة يناير، بِدءاً من تأسيس الجمهورية اليوليوية في الخمسينات ومروراً بالستينات وتعقيداتها. الإنجاز الاجتماعي المناهض للقوى الامبريالية، ولكن كذلك تبلور المشروع الناصري بنسخته السلطوية أثناءها، وأسباب ذلك، حتى الوصول إلى الصحوة الإسلامية التي أَثَّرت بعمق في تاريخ مصر الحديث. في هذه الفصول الأخيرة نفهم أن الكاتب يبتعد عن الـ«نا» المهزومة الذاتية الثقافوية، وأنه يحاول أن يُشرِّحَ موضوعياً الشروط التاريخية الخارجة عن الذات المصرية، التي أدت للمآلات المعروفة، هزيمة حزيران 1967 والهيمنة الإمبريالية للمشروع الأميركي وتَمظهراته المجتمعية في السبعينات وفي الصحوة الإسلامية العالمية والمصريةُ منها.

الكتاب بهذا المعنى يحرز ابتعاداً عن أدبيات الهزيمة التي نعرفها، في وضع مسافة موضوعية مع الشروط التاريخية السياسية، إلى جانب أرشفته الإمبيريقية للتعبيرات الثقافية والهوياتية التي أتينا على ذكرها.