للوهلة الأولى تبدو الإجابة على السؤال بسيطة: حريةُ الأربعة، أو حصولنا على أجسادهم إن كانوا قد قُتلوا؛ فالكشف الكامل عن الحقيقة بخصوص مصيرهم وتفاصيل سنوات الغياب؛ ثم تقديم الجناة إلى محكمة نزيهة موثوقة لينالوا العقاب المُستحق. هذه الأبعاد الثلاثة مهمة، لأنها الحد الأدنى من إنصاف المرأتين والرجلين بعد تسع سنوات من التغييب.

1

حريتهم تُتيح لهم أن يَرووا قصتهم بأنفسهم، بكل تفاصيلها. لا يتركون قول الحقيقة في شأن قضيتهم لغيرهم، ولا حتى لنا، نحن أحبابهم الملتاعون. نحن نُمثّلهم في غيابهم، فإن حَضَروا مثّلوا هم أنفسهم وتكلموا بألسنتهم. وستكون مروياتهم جزءاً من المروية العامة عن كفاح السوريين المرير والمتعدد الجبهات. والأرجح أن ذلك بالذات، أي رواية الحقيقة عن الجريمة بلسان ضحاياها، هو ما أراد الجناة تَجنُّبَهُ بأي ثمن، سواء بالاستمرار في تغييب سميرة ورزان ووائل وناظم، أو ربما بقتلهم وتغييب أجسادهم ذاتها. 

فإن كانت سميرة ورزان ووائل وناظم شهداء، فأول ما نريده هو أن نحصل على أجسادهم، وأن نعرف لها مثوىً أخيراً نودِّعهم فيه الوداع اللائق، بما يساعدنا على الحِداد واستئناف حياةٍ ما. وإلّا نَحكي بلا توقف قصة الأجساد المحرومة من الموت بعد أن حُرِمَ أصحابُها من الحياة، ونُدرِجها في إطار قصتنا العامة الرهيبة. بحد ذاته التفكير في هذا الشأن شديد القسوة، لكننا بعد تسع سنوات على تغييبهم لا نستطيع تجنب مواجهة أنفسنا بهذه القسوة التي لا تُعادل شيئاً مما واجهه أحبابنا أنفسهم.

غير الأجساد المقتولة للمرأتين والرجلين، ما نريده هو أن نروي نحن، ممثلوهم، القصة التي قُتِلوا كي لا يَرووها، بكل تفاصيلها. هذا الُبعد الثاني من العدالة ليس حاضراً بقدر ما ينبغي في الكلام على مفهوم العدالة في أوساطنا، أعني البُعَد الخاص برواية ما حدث: مَن ومتى وأين وكيف، ولماذا، وعبر أي مداولات ومسارات؟ هذا مهم من أجل تسمية الجناة وإخزائهم، أشخاصاً وتوجهاً، ومن أجل الاعتراف بألم الضحايا وأهاليهم، ثم من أجل العِبرة العامة. وفي قضية مفصلية، جاءت في خضمّ ثورة شعبية، غَدَرَ فيها تشكيل ديني سياسي بثائرين لا يشاركونه المثال، بينما الجميع تحت الحصار، أقول: في قضية كهذه، رواية كل تفاصيل الجريمة مهمة من أجل الإحاطة بتاريخ وتكوين هذا التشكيل، الذي كان وأمثاله من عوامل تدمير الثورة السورية من داخلها.

3

إلى أي عدالة يُقدَّمُ الجناة؟ الأمر مُعقَّد هنا أيضاً. ليس هناك عدالة سورية يُركَن إليها اليوم، وليس هناك آلية دولية للتحقيق في القضية واستجواب المشتبه بهم وتقديم الجناة المُحتمَلين لمحكمة عادلة. 

في سيناريو مثالي يمكن تخيل محكمة علنية، يصوغ قواعد عملها ومعايير عدالتها سوريون، وفق تصور للعدالة يملك ذاكرة ومخيلة سوريين، وحساسٌ لآلام السوريين، ويكون جزءاً من عملية قضائية تدوم الوقت الكافي، وتوفر للعموم السوري كامل الحقيقة عن الجريمة، وتُعاقِب الجناة العقاب المُستحَقّ، مستفيدة من خبرات بلدان عرفت جريمة التغييب القسري مثلنا في تحديد العقاب المُستحَقّ. نحن نعرف اسم المجرم الأكبر: سمير كعكة، «شرعي» جيش الإسلام، وهو مقيم في بلدة الباب في الشمال السوري اليوم، ونعلم اسم أمني التشكيل المذكور: عمر الديراني، وهم في الباب أيضاً، ونعرف أسماء أحد جلاوزتهما: حسين الشاذلي، المسؤول عن تهديد رزان بالقتل في أيلول 2013، ونعرف اسم الشخص الذي دخل على كمبيوتر رزان في أحد مقرات جيش الإسلام: يونس النسرين. وهؤلاء الأربعة مفاتيحُ كافية مبدئياً للتوسّع في التحقيق في هذه الجريمة، وغيرها.     

ليس في عدالة غير سوريّة، من الصنف الذي يمكن أن يُتاح وفق القوانين الوطنية في ألمانيا أو فرنسا أو غيرهما، أو حتى وفق محكمة دولية خاصة في لاهاي أو غيرها، ما يتيح لنا امتلاك القضية ومَفصلَتها مع ذاكرتنا الوطنية، ومع سياسة منصفة وديمقراطية في سورية. محكمة خاصة لهذه القضية أفضلُ بكثير من القوانين المحلية في بلدان غربية، لكنها تبقى أقرب إلى عمليات الأمم المتحدة منها إلى جزء من تاريخ النضال من أجل العدالة والحرية في سورية. مشكلة هذه العدالات الممكنة لا تتمثّلُ في أنها قد لا تكون قاسية بقدر قسوة الجريمة المرتكبة، بل في أجنبيتها الحقوقية والسياسية قبل الأجنبية اللغوية والجغرافية، وبالتالي في صعوبة أخذ عبرة منها وصعوبة مَفصلَتها مع الذاكرة الوطنية السورية. 

لكن هل العدالة أصلاً ممكنة، حتى لو أن هذا السيناريو المثالي تَحقَّقَ في العالم الواقعي؟ ما هو الجزاء العادل لغياب سميرة خلال تسع سنوات، رحلَ فيه والداها وشقيقتها؟ وكذلك والدا ناظم ووائل؟ ما هو الجزاء العادل لِلَوعة الأربعة بعيداً عنا، وعدم معرفتهم طوال هذا الوقت شيئاً عنا، ولِلَوعتنا نحن، لا نعرف طوال هذه السنوات شيئاً عن مصيرهم؟ وهل ثمة عدالة ممكنة، أياً يكن عقاب الجناة، إن كان أحبابنا قُتلوا بعد حين من تغييبهم، أو بعد سنوات من التغييب، كحلّ من طرف الجناة لمشكلة معرفة الحقيقة عنهم؟ 

ليس هناك جزاء عادل للّوعة والألم. ولعل فكرة العدالة الكاملة أو الإلهية تَولَّدَتْ عن ذلك، ليس عن امتناع العدالة الجزائية بحد ذاته، بل عن تدارك ما ينقص أَكملَ عدالة جزائية ممكنة، أعني الاعتراف باللوعة والألم والدموع، وتطييب نفوس من عانوا منهما. 

على أن عدالة بشرية دنيوية ممكنةٌ دوماً من حيث المبدأ، وواجبة. عدالة تنضبط بقواعد وضعها وطَورها بشر مثلنا في ظروف تُقارب ظروفنا. هذه العدالة نسبية وغير كاملة، لكنها من عالمنا ويمكن أن تتحسن. وهي تساعد الأهالي على الانفصال عن التجربة الراضّة، تجربة التغييب في هذا السياق، فتَحوز بذلك مفعولاً مكمّلاً للحِداد الذي حُرمنا منه هو الآخر.   

ما نتطلّع إليه ليس التشفّي والانتقام، وليس «شفاء الغليل»، ليس التعذيب والتنكيل والقتل الشنيع، ولا التغييب القسري للجُناة لتسع سنوات أو عشرة أو مدى الحياة، لكن لا بد له من أن يكون عقاباً قاسياً لمن لم يُريدوا أن يعيش غيرهم إلى جانبهم (أُحيل ضمناً إلى ما قالته حنة آرنت عن الحكم بالإعدام على آيخمان). نحن أيضاً لا نريد أن يعيش بجانبنا من لا يريدون أن يعيش بجانبهم مختلفون عنهم. بالعكس، نريد لمثل هؤلاء أن يُجرّدوا من القوة والنفوذ والمال، وأن يُجازَوا على جرائمهم جزاءً يُحطّم قدرتهم على الأذى كلياً، ويكون مثالاً عاماً يُحتذى. المعيار في شأن ما نتطلع إليه من عدالة هو أن تقوم على قوانين وتؤسس لسوابق، يُتيح الاحتكام إليها مزيداً من العدالة للسوريين وربما غيرهم. المعيار، بكلمات أخرى، هو أن يمكن محاكمة بشار الأسد وأركان القتل في نظامه على أرضية العملية القضائية ذاتها التي نصبو لأن يمثل أمامها مجرمو جيش الإسلام، ووفق القوانين ذاتها كذلك.

لكن لا تبدو العدالة ممكنة في هذه القضية وفي ألف قضية أخرى مثلها وأكبر. سورية صارت جنّةً للإفلات عن العقاب، يسرح ويمرح فيها مجرمون من كل نوع بفعل التغاضي عن المجرم الأكبر. سؤال العدالة غير مطروح فعلياً، وما هو مطروح ليس عادلاً بحال، أياً يكن مفهومنا للعدالة. نطرح السؤال غير المطروح احتجاجاً، استمراراً لما كان في البدء من تَطلُّعٍ إلى سورية جديدة، أَعدَل.

4

هل الصفح ممكن؟ 

يجب أن تكون العدالة في سبيلها إلى التحقق، وأن يتغير الجناة ويعتذروا عمّا فعلوا، كي يكون الصفح ممكناً. ليس هذا اشتراطاً ذاتياً خارجياً عن الوضعية التي تثير سؤالَي العدالة والصفح. هناك جرائم كبيرة مهولة هي السبب في إثارة السؤالين معاً. بينما الجريمة وحدها معنا في العالم، دون عدالة ودون اعتذار ودون طلب للصفح، لا معنى للصفح، لا يستطيع أحد منحه ولا يملك أحد الحق في مَنحه. نقيضُ الصفح ليس العدالة، بل الانتقام. العدالة، بالعكس، هي ما يقطع الطريق على الانتقام، وما يمهد السبيل أمام الصفح.

وإذا كانت مسألة الصفح قلّما تُثار في سياقنا السوري، فلأن مسألة العدالة ذاتها قلّما تُثار. نعيش في عالم من التمييز والانتقام، الفاعلون الدولتيون والدينيون، المحليون والدوليون، جائرون وأنانيون وغير عادلين على حد سواء. 

لكن لعلّ الوقت أزفَ سلفاً على التفكير في الثلاثة: العدالة، الانتقام أو الثأر، الصفح. لقد نلنا خلال عقود عدالات انتقامية، دولتية ودينية، لا تفتح الباب لغير تكرار الشيء نفسه، وإن ربما مع تَغيُّرِ المنتقمين. هذا المنوال هو ما ينبغي الانفلات منه، لمصلحة تأسيس جديد، مُغايِر كلياً.