في حزيران 2018، رجعتُ إلى تركيا من ألمانيا، بأمل العبور منها إلى مناطق من شمال سورية، كان تَهجَّرَ إليها قبل نحو شهرين وقتها أهالٍ من دوما والغوطة الشرقية، إثر إعادة النظام وحُماته الروس احتلال المنطقة في نيسان (أبريل) من العام نفسه. كنتُ أريدُ أن أجمع ما يمكن من معلومات عن سميرة ورزان ووائل وناظم، امرأتي وأصدقائي المُغيَّبين. وقتها افترضتُ أن عبوري كسوري الحدود التركية إلى أرض سورية أمرٌ ميسورٌ ولا إشكال فيه، إلا أنه لم يكن كذلك. بعد محاولات متعددة غير مثمرة وأسفار بين اسطنبول وعنتاب وأنقرة، أُبلِغتُ أخيراً بأنه لن يُسمَح لي بالعبور لأني سأتسبّبُ بمشكلات مع [عصام] البويضاني. البويضاني هذا هو قائد «جيش الإسلام»، التشكيل الذي كان سلطة الأمر الواقع في دوما حتى التهجير، والذي تتوفر لدينا قرائن كافية على مسؤوليته عن جريمة الخطف والتغييب. ويبدو أن هذا التشكيل السلفي عَرضَ نفسه على السلطات التركية فور التهجير، وصار بدءاً من آذار (مارس) 2019 جزءاً من أدوات تنفيذ خُططهم في شمال سورية. أي بعبارة أخرى، قوة مرتزقة.

كان هذا وضعاً شاذاً فوق لا إنسانيته: يُمنَع سوري من الدخول إلى أراض سورية لمحاولة جمع معلومات عن امرأته المغيبة منذ أربع سنوات ونصف وقتها! هذا بينما ينال الحمايةَ تشكيلٌ اشتُهِرَ بتعصبه وفساده وجرائمه، وبينما تُقرر جهة أجنبية ما يُسمَح به وما لا يُسمَح. كتبتُ وقتها رسالتين تَعرِضان القضية وترجوان المساعدة، سُلِّمتا إلى الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، لكنهما بقيتا دون ردّ.

شكَّلَ ذلك استمراراً لتَعذُّر البحث عن سميرة، ورزان ووائل وناظم، من قِبَلي والأهالي الآخرين. لم يكن ممكناً لي أن أذهب للبحث عن امرأتي أو أتوقع تسهيلاً لذلك، لا من قبل الجهة المسيطرة على دوما وقت الخطف ولأكثر من أربع سنوات بعدها، جيش الإسلام، ولا من قبل النظام وحُماته من المسيطرين الحاليين، ولا من قبل أي جهات دولية. كنتُ أنا نفسي لاجئاً لتوي خارج البلد مُقطّع الأوصال وقت اختُطفت زوجتي وأصدقائي. اختطافهم ولجوئي وجهان لقصة مهولة، خَبِرَ تَقطُّعَ السبل فيها ما لا يحصى من السوريين.

اليوم، بعد تسع سنوات على تغييب سميرة، مع رزان ووائل وناظم، لسنا، أهالي وأصدقاء الأربعة، في وضع أحسن للبحث عنهم. ليس هناك أي جهات مستقلة تقوم بذلك، أو تُسهِّل القيام به للأهالي. تقدمتُ بطلب للبحث عن سميرة عند الصليب الأحمر الدولي في برلين، حتى قبل المسعى الخائب في تركيا، وقد ظلّ بلا نتيجة إلى اليوم.

الجريمة التي قد تكون أكبر من أي جريمة في سورية هي كفالة دولية ضمنية لبقاء الأوضاع السورية كما هي بعد أكثر من أحد عشر سنة رهيبة، ارتكب النظام فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستهترَ بالقانون الدولي طوال الوقت. لقد جرى عملياً حماية نظام تغييب شامل، جَرَّدَ محكوميه من السياسة والحقوق، وغَيَّبَ فوق 130 ألفاً منهم، وخلق بيئة صالحة لمُغيِّبين آخرين. هذا يعادل حماية مبدأ إفلات المجرمين من العقاب، واعتبار حياة الضحايا، وهم بمئات الألوف، عديمة القيمة. وهو بعد ذلك طَبّعَ مجرمي جيش الإسلام وغيرهم. فما دامت سورية فردوساً للإفلات من العقاب، فلماذا ينتفع من ذلك النظام وحده؟ وإذا استطاع الحكم الأسدي وضع نفسه تحت حماية روسية إيرانية، فلماذا لا يضع التشكيل السلفي نفسه تحت الحماية التركية؟ وإذا توافقت المصالح الدولية مع امحاء الفرق بين السياسة والجريمة في سورية، فما الذي يحول دون تكاثر الشركاء في الانتفاع من هذا الامحاء؟ سلطة داعش التي مزجت الدين بالسياسة والجريمة سقطت عام 2017، وخلال خمس سنوات لم تتلق الأسر وعموم المتأذين من هذه السلطة الإجرامية أي معلومات عن أحبابهم المُغيَّبين. 

على الأرض السورية التي تبلغ بالكاد ثلث مساحة فرنسا، ثمة الولايات المتحدة وروسيا، وهناك قوات خاصة فرنسية وبريطانية، ثم هناك إيران وتركيا، وكذلك منظمات ما دون دولة من لبنان والعراق وأفغانستان وتركيا، وقبل الجميع إسرائيل. العالم في سورية، وهناك مكانٌ للأميركي والروسي، والإيراني والتركي، وللإسرائيلي، في البلد المُستبَاح، ولكن ليس هناك مكان لسوريين يبحثون عن أحبابهم المفقودين. هل يمكن القفز فوق استنتاج أن العالم في تكوينه الراهن يقف بيننا وبين مُغيَّبينا، بيني وبين سميرة، على نحو يُسوغ القول إن هناك ما هو عالمي في غياب سميرة، وإن الشخصي هنا عالمي «فوق كونه سياسياً» بقدر ما إن العالمي شخصي؟ وبقدر ما إن غياب سميرة هو تمثيلٌ لتغييب السوريين عن النقاش في شأن مصيرهم، ولتغييبهم المديد من سياسية بلدهم على يد الحكم الأسدي طوال أكثر من نصف قرن، فإن ما يبنى الصفة العالمية لغياب سميرة وشريكتها وشريكيهما هو أن العمل من أجل حضورنا السياسي، وحَدّ أدنى من العدالة والكرامة للسوريين، هو في الوقت نفسه عمل لتغيير عالم لا إنساني، لا يساعد الضحايا ولا يَدعهم يساعدون أنفسهم. هذا كثيرٌ جداً علينا، حتى لو نكن مُجهَدين بعد كل ما جرى لنا وحولنا خلال ما يقترب من اثني عشر عاماً. لكنه لازمةٌ منطقيةٌ لعولمة الشأن السوري على هذا النحو، وأُفقُ المعنى الوحيد لعنائنا العظيم، الممتد.

ما زلت أتطلّع إلى أن أستطيع البحث عن سميرة شخصياً في سورية، في دوما، وفي الباب في شمال سورية، وهي اليوم مقر ميليشيا مرتزقة جيش الإسلام، وفي أي مكان يُحتمل أن يوجد فيه شهود أو مصادر معلومات. أريد أن أرى وجهاً لوجه من أعرف بتورطهم في الجريمة، وأرجو أن يمكن جمع الحقيقة كاملة عن الجريمة والمتورطين فيها والمتواطئين.

يبثّ اكتمال تسع سنوات هذا اليوم على تغييب سميرة ورزان ووائل وناظم في النفس شعوراً بالهول والأسى. الهول لجسامة ما جرى واستمراره، والأسى لانقطاع أثر الأحباب وربما استشهادهم. وبالغضب كذلك، حيال تراكيب سياسية مخزية، محلية وإقليمية ودولية، تَكفل ضروباً فادحة من الظلم وتقتل بوارق الأمل في نفوس ملايين. 

لكن إن كانت بواعث الأمل على ما هو معلوم من ضآلة، فإني أعرف أنه ما من شيء يصيبني باليأس بعد كل ما وقع. أعتقد أني سلفاً وراء اليأس والأمل، وأن طيف سميرة الحاضر معي دوماً هو بمثابة نداء دائم إلى الاستمرار.