الذي يَنحتك بألهبته الحارقة، يَجرح ويُداوي؛ في الفن كما في الحرب، يصنع السِّحر والخُدَع؛ حامل الحِكمة ومُشتِّتها؛ ألوان الحياة نفسها.
عليكَ أن تعلمَ أنه يكره الانتظار، لذا يُرسل أنبياءَه للتذكير، ويفرِّق بين الأصدقاء والأهل؛ لن يرحمك، لأن «إيروس» ليس إله رحمة، بل سيختم سِمَتَهُ على جِلدك كخيطٍ من الدم، ويأخذك حيث لم تذهب من قبل؛ وحين ينتهي منك، يبدأ دوماً من جديد، فتُخبَر ذلك: إنَّه الهدية والعقاب!
*****
في منتصف اليوم حكيتُ لتوفيق على الهاتف الجزء الأدبي من حُلْم الليلة السابقة. كان أقرب إلى دُعابة؛ دار نشر معروفة نشرَتْ طبعةً أخرى من كتابي الأخير، بعنوان مختلف وبقَطْع أكبر حجماً وأردأ صناعة. كنتُ في حفل التوقيع ومطلوب مني أن أقول كلمة. تحدثتُ عن رداءة الطَّبع، وتساءلتُ هل أخذوا الإذن مني أو من دار النشر الأصلية لإعادة النشر. كان الحضور مستاءاً من كلامي، هذا قبل أن رأيتُ نفسي وسط جَمْعٍ وحدَستُ أنه يوم عيد.
بعد المكالمة أمسكتُ قلماً وورقةً وخربشتُ لأُرتب أفكاري. في النهاية وصلتُ إلى أني لا أحتاج أن أغيِّر شيئاً وأن الانتحار غير المقصود في الحلم لا يعني اليأس في الواقع. فليحدُث ما يحدث.
*****
تبدأ قصتي حين تعرفت إلى ك. في اجتماع الكنيسة، أو دَعْنِي أقول اسمها كاملًا حتى لا يتم تَصوُّرها كذَكَر قبيح الصورة من براج، فهي جميلة الملامح بلمسة شقراء، واسمها الكامل كريستين.
لا، ليست هذه بداية قصتي، لم تلفت كريستين نظري في البداية: شابَّة جامعيَّة صغيرة تَعامُلي معها أبويُّ الطابَع، وإن تحول بعد ذلك، تدريجيّاً، إلى نوعٍ من النَّكْش المتبادَل والمناطحة اللُّعوب في مباراة بِنْج – بونج مستمرة؛ سخرية ومزاح ومقالب صغيرة.
كنت أحضر تلك الفترة اجتماعات كنيسيَّة مختلفة كي أعثر على شريكة مناسبة، وأين غيرها سأجد شابَّة مسيحيَّة عزباء في مدينة كتلك؟ كحقيقة إحصائيَّة، هذه الاجتماعات تَحوي أكبر عدد من المسيحيَّات العزباوات في مكانٍ واحدٍ سوياً. كانت المحاولات السابقة مُحبِطة، لكنِّي تعلمت الكثير.
كما قلتُ، في الأسابيع الأولى لم تشدني كريستين. ربما ما جَذَب اهتمامي وقتها هو لا مبالاتها اللاهية، لا عن ترفُّع، بل ربما عدم إدراك. لا تهتم بالمغازلات المُبطَّنة ولا يبدو عليها الفهم حين أتودُّد إليها. زاد من تعلُّقي القسوةُ الطفوليَّة التي كانت أحياناً تتبادر منها في المزاح، قسوة تأتي تحديداً من كونها تثق أنها تستطيع أن تتحرك في العالم دون أذى يطالها أو عنف مضاد يكسرها.
سَخِرت مني مرَّةً لأني أفرد ظهري في الصور – أفعل ذلك كي أظهر أكثر صحةً وأقل بطناً – لأكتشف بعد ذلك أنها تفعل الشيء نفسه في صورها، بل وتبالغ في رفع الرأس وفرد الظهر، لا أعرف إن كان تأثراً بي أم تفعل ذلك من البداية، فتلك الوضعية تليق بشخصيتها وتُلخِّصها؛ هذا الافتخار الواثق والساذَج بالذات.
مثل كل تَجاهُل أنثوي، نجحت غَفْلتها في سحبي تحت رحمة جهلها الذي ربما كان مُتعمَّداً، لا أعرف. لكني لم أُدرك أنَّ هناك شيئاً ما إلا ونحن ننزل السلم في مرَّة بعد الاجتماع وغنيتُ بصوت مسموع، دون انتباه مني، ما كنت أدندنه منذ الصباح: «نازلة تملَى من المنيَّر/ بيضا حلوة بنِهد صغيَّر»، فسألتني بفضولٍ مازح: يعني إيه «نِهد»؟
*****
يُنشِد الكورس في سِفْر نشيد الأنشاد، وكالعادة دون أي مقدمات، قصة إخوة يتساءلون عن حلّ مشكلة عملية غريبة نحن لم نُمهَّد لها: «لنا أخت صغيرة ليس لها ثديان. فماذا نصنع لأختنا في يوم تُخطَب؟»، ثم يتقدم أحدهم، يبدو أنه الأكثر عمليَّة بين إخوته، متحدثاً بلغة النجَّارين والبنَّاءين وإن كان يتخللها الحسرة وقلَّة الحيلة: «إن تكُنْ سوراً فنبني عليها برج فضة. وإن تكن باباً فنحصرها بألواح أرز».. ما لنا وهذه العائلة وتلك المشكلة العائليَّة ونحن وسط قصيدة حب مُقدَّسَة؟!
تتدخَّل شولوميت، بطلة القصيدة، في هذا الاستنجاد الأسري وتطلق تعليقاً، لا عن المشكلة، بل عن نفسها، عن جسدها تحديداً. يُحرِج التعليق الإخوة وأختهم المسكينة، ويجعل من يقرأ يبتسم رغماً عنه: «أنا سورٌ وثدياي كبرجين»! مبالغة كارتونيَّة فَخُورة تخرج من شابة تعتز بنفسها بحق. تضيف شولوميت إليها بَعد ذلك تشبيهاً جميلاً: «حينئذ كنت في عينيه كواجدة سلاماً».
يأتي جمال هذا التشبيه من تكلفة الحرب الباهظة في هذه المجتمعات الرَّعَويَّة؛ ما أهم وأغلى مِمَّن يجد سلاماً بين متحاربين؟ كنتُ أتمثَّل في مراهقتي قتالاً موسعاً بالسيوف والدماء تتناثر في كل مكان، ثم تدخل المشهدَ شابةٌ بصدرٍ ناهدٍ ذي شَمَم وجمال استثنائي، يجعل كل المحاربين يتركون أسلحتهم ليتأملوه مَشدوهين، ومن مباغتة الوَجْد يعمُّ السلام وتصبح أنشودةً بينهم.
*****
كنَّا نتناقش كذكور على القهوة في أمور الحُب والجسد، قال توفيق إن الصدر عضو مهم لا يمكن الاستغناء عنه، خصوصاً في حالة الزواج، فهو علاقة مدى الحياة. في تلك اللحظة عرفتُ أني أحب كريستين. لم أفرح كعادتي كلّما بدأتْ قصةُ حب، كنتُ بالأحرى حزيناً. في البيت فتحت موقع البورن المُعتَاد، أذهب مباشرًة لأجزاء الرضاعة، أشاهدها وأغلق الفيديو وأذهب إلى فيديو آخر، مداعبة ورضاعة وأغلقه، لأغلق الموقع برُمَّته مُغتمّاً.
اليوم التالي كنتُ عند كومار، صديقي وجاري الخمسيني الذي يسألني كلما قابلني أين زوجتي، وإذا كان هناك واحدة في الطريق. ويضيف دوماً إنه عنده فضول أن يرى مَنْ سأتزوج، لأبتسم وأرد كل مرة: «ليس بعد»، لكني بالتأكيد سأعرِّفه إليها إن وجدتُها. فيخبرني إن الزواج المتأخر سيئ لأن الفجوة تتسع مع الأبناء ولا تجعل الواحد يتمتع بهم في صحته، كما أنه يريد أن يرى أطفالي قبل أن ينتهي عمله في مصر ويرجع إلى بلده. حين يقول ذلك أتحيَّر داخلي إذا كنتُ بالفعل أريد أطفالاً. أنا أحب الأطفال لكني لا أستطيع تصوُّر نفسي أباً. أشعر أني طفل يضطر أن يسلك كشخص بالغ في الحياة. كما أن قدراتي المادية لا تتيح لي مثل هذه الرفاهية المُكلِّفة، وهو ما يزيد أمر ارتباطي تعقيداً. مَنْ تقبَل ألّا تنجب بعد زواجها في مجتمعٍ كهذا؟!
بعدما سألني هذه المرَّة، أشار إلى بعض الصابون الأخضر على طاولة صالته، وقال إنه قد أتاه من الهند، من خلال معارفه، وهو مصنوع يدويّاً من زيت الزيتون. أضاف وهو يضحك إن العزَّاب والعازبات عندهم يستحمون به فيتزوجون في وقت قصير، كما أنه يجعل رائحة أجسادهم حلوة فتجذب الجنس الآخر، ودعاني أن آخذ واحدة. تناولتُ واحدةً منها وأنا لا أميِّز إن كان يمزح أو يتحدث بجديَّة، لأنه أحياناً ما كان يعطيني أشياءَ أتته من «كيرلا» زائدة عن حاجته، أو كنوع من تهادِي الصداقة المتبادل بيننا، لكنني، على أيَّة حال، تحمَّمتُ بها تلك الليلة قبل أن أنام.
*****
في يومٍ مُشمسٍ على «الرُوف» اشتركتُ مع بقية أعضاء الاجتماع في ألعاب مثل التي تُلعب في رحلات اليوم الواحد. عن قربٍ كان وجهها كبيراً ومُستديراً وممتلئًا بعينين متحمستين. كانت اللعبة هي «عروستي»، ومن المفترض ألَّا أسمع الاتفاق الذي يجب أن أحزِّره، فبقيت تتحدث إليَّ في لوثة، بلا انقطاع، عن عدم حفظي للـ «سلام الملائكي» بجانب أشياء أخرى تَهرع للخارج من فمها. ابتسمتُ، حاولت أن أُبطئ سرعتها بإخبارها أنها على وشك أن تكفُر. ظلَّت تتحدث بحرارةٍ أسعدتني، خاصةً بعدها، حين اعتبرت ذلك كردٍّ مماثلٍ على حماسي غير المتوقع تجاهها: حين تُعجب بشخص تعكسه كمرآة. عيونٌ واسعة ولسان مُتحمِّس. أُهدِّئها.
خلال الأسابيع التالية لاحظت تكرار فورتها تلك: غضب أو حماس أو ضحك؛ فورة هيستيريَّة جعلت مرَّة أختها تحتضنها وتُقبِّلها على خَدِّها كي تهدأ. عزوتُ لتلك الفورة سريعة الظهور والخفوت السببَ العميقَ لانجذابي، فعندي نفس الفوران العاطفي الذي يتخذ شكلًا هيستيريًّا ليهدأ بعدها بسرعة، غالباً دون أن يلاحظ أحد.
*****
مع مرور الوقت أصبحت عملية حضور الاجتماعات أثقل وطأة. ليس فقط لأنها اجتماعات أسبوعية، أي أن إيقاعها بطيء للغاية لما أريده، وليس فقط لاختلاف الأمزجة بيني وبين مَن يحضرونها بانتظام، لكن لسبب لم أتوقعه، وهو سخف ما يُقال ويُتداول فيها.
تخاف الأقليَّات من ذوبانها في محيط الأغلبية التي تعيش وسطها، وهو الشعور المترسِّخ عميقاً في لا-وعيها، فتتحصَّن في هُويَّةٍ تمايزها، تدفعها باستمرار لتكون أكثر صلابةً وثباتاً كي تحميَها من مخاطر الذوبان. هذا بجانب وضعها القَلِق كونها محل مساءلة وتَشكُّك أخلاقي وإنساني دائمَين، الأمر الذي يُقيِّدها بوضعٍ دفاعي مُتحفِّز يصبح عائقاً حقيقيّاً لتطورها.
يظهر ذلك بوضوح في مسار اللاهوت المسيحيّ الشرقيّ الحالي، فنرى أن الكنيسة الشرقيَّة، تحديداً المصريَّة، أغلقت «باب الاجتهاد» اللاهوتي منذ القرن الرابع، نظراً للضغط التاريخي الذي تعرضتْ له، المُغَاير للمسار التاريخي الذي مرَّت به الكنيسة الغربيَّة، ودفعها لتطوير نفسها لمواكبة التطور الإنسانيّ والفكريّ في عصور النهضة والتنوير والحداثة وما بعدها.
رغم ذلك، يَفوت على الأقليَّة، والأغلبية أيضاً، التأثيرات المتبادلة التي تتسرب عميقاً وبشكلٍ خَفيٍّ في تشكيل الهُويَّة وتجلِّياتها. ففي أكثر من مناسبة، خلال مناقشات الاجتماعات المختلفة، فوجئت بهيمنة مفهوم «العدل» في الفهم اللاهوتي العام ووضع قيمة «الحُبّ» على قدم المساواة مع القيَم الأخرى!
غَلَبة صِفَة «العدالة» كصفة مركزيَّة للألوهة هو تأثُّر جَليّ بالفكر الإسلامي، الذي يضعها كهدف أساسي للشريعة: أن يأخذ كُلُّ ذي حقٍّ حقَّه؛ الرب والعبد. يمكن فهم هذا التأثر أيضاً في سياق الشعور بالغبن التاريخيّ والاجتماعيّ، مما يَدفع للتمحور حول مفاهيم «العدل» و«الجزاء» و«التعويض».
بالرجوع إلى شخص المسيح، والمسيحيَّة في بداياتها التأسيسيَّة، نجد اتجاهاً راديكاليّاً في تفكيك مفهوم العدالة اليهودي ومنظومته الناموسيَّة والطقوسيَّة والشعائريَّة، من خلال أقواله وممارساته، من وَعَظاتٍ ارتجاليَّة حرَّة ومخالطات مع الزُّنَاة والعشَّارين والخَطَأة والمنبوذين، وفعل الخير يوم السبت، والصلاة في أي مكان وما إلى ذلك. ومقابلة ذلك من الكَتَبة والفرسيين والكهنة بمحاولاتهم المتكررة في التأكُّد، أو إظهار، أن يسوع لا يفهم اليهوديَّة، وغير حافظ للناموس، أو مُهرطِق ببساطة. وفي كل مرة يظهر أن المسيح دارس جيد للكتب لكنه يقدمها بتفاسير تقدميَّة وراديكاليَّة بناءً على مفهوم «المحبة»، في محاولته النهائية لإحلال «الحب» كصفة مركزية، بل جوهريَّة للـه، مما يجعل انتشال تلك الراديكاليّة ودفعها مرَّةً أخرى للتساوي مع بقيَّة القيَم تحلُّلاً أنطولوجيّاً لجماعة المؤمنين بصفتهم مؤمنين برسالة يسوع.
اختصاراً، في المسيحية، الحُب لا يساوي العدل. هذا كلام يضايقني سماعه لكن لا بُدَّ من تحمُّله كي أتزوج في سَنَتِي.
*****
واجهتُ سريعاً مشكلةً أخرى أكبر حين ارتبطت بكريستين: كريستين تعطي الانطباع بأنها في السادسة عشرة من عمرها! رأيتُ، مُسبقَاً، الاتهامات المتتاليَة بأني في علاقة مع قاصر، بل مع لمسة المُبالغة الشائعة حاليّاً سيتم اتهامي بالبيدوفيليا، ومما يزيد الأمر سوءاً أني كاثوليكي!
صمّمتُ أن تكتب تاريخ ميلادها على الفيسبوك وتجعله ظاهراً. استغربَتْ طلبي في البداية ثم بشكلٍ غريزي رفضَتْ. لكريستين طابَع برِّي يُذكِّرني بقطتي الأثيرة، وما زاد من رجحان كفَّتها سريعاً أني ضعيف أمامها − أنا ضعيف أمام من أحب، قاضيني! كانت تبلغ ثُلُث حجمي، بوجهِ وجسد فتاة بلا هرمونات كافية، وتحسم كل شيء بعنادٍ شَرِس.
لا تَردُّ أياماً لترسل لي فجأةً أنني أتجاهلها، وأنها تحتاج أن تسمع كلاماً حلواً. تلغي الميعاد بيننا وأنا في الطريق قائلة إنها «مِصدَّعة» وتحتاج أن تنام. حُجّتها الرسمية في كل شيء هو النوم. إذا لم تردَّ فهي نائمة، إذا أخطأت فمن قلَّة النوم، وإذا أرادت التهرُّب تقول إنها تريد أن تنام. كنتُ أشعر بالإهانة كلما ذكرت سيرة النوم، وبشكل عكسي كنت أزداد تعلقاً بها. يبدو أن كلام توفيق الساخر بأن الأقباط مازوخيون صحيح.
اكتشفتُ بعد وهلة أيضاً أننا نقيضان في أشياء كثيرة، ومنها مسألة الأكل. أستطيع بسهولة أكل فرخة كاملة، وكثيراً ما أفعل ذلك، أما هي، فبعد أن تلحَّ كي تأكل، تقضم دبوساً مغمساً بالكاتشب وتشبع. كنت أسخر من «أكل العصافير» هذا وأسألها إن كانت تريد طَبقاً صغيراً من الماء، وهي تسخر بالمقابل من نهمي الشديد وأحياناً من سمنتي، سائلةً الناس أن يخمِّنُوا وزني وماذا آكل على الغداء وهي تشير إلى بطني الكبير. اتّضحت لي في نفس الوقت طبيعتها المُتحفِّزة وميلها للتشاحُن، على عكس طبيعتي التي تميل للمسالمة وتجنُّب الصدامات. كنت ألاحظ ذلك في مواقف بسيطة أتناساها، لكن في إحدى المرات تعاركَتْ مع عامل سوبرماركت، اعترض لزميله على صوتنا العالي مع أصدقائنا؛ تدخلتُ لأقول لها أن تتوقف عمّا تفعله، فصرخت في وجهي أني لم أسمع ما قاله، وأتدخَّل دون فهم، ورحلَتْ غاضبة. اقتربتْ سيدة أربعينيَّة تجرُّ عربة تبضُّعها، لتنصحني بأن أكون أكثر حزماً مع أختي الصغيرة لأنها في مرحلة خطرة. مشيتُ دون أن أَرُدَّ عليها.
*****
التنظيم الاجتماعي الجنسي الذي يجعل الإنسان يمارس الجنس للمرَّة الأولى في سن الخامسة والعشرين، أو الثلاثين، أو أكثر، أي في منتصف حياته الحيوية تقريباً، يطبع عليه مجموعة من التأثيرات التي تشكِّل شخصيته. أحد هذه التأثيرات ظاهرة لا يتحدث عنها أحد بشكلٍ كافٍ، وهي ظاهرة الاكتئاب عند المراهقين المصريين بسبب قلَّة أو انعدام الممارسة الجنسيَّة، المُصاحبة غالباً لغياب جانب عاطفي فعَّال، فيحدث إحباط جنسي وعاطفي يؤدي إلى عُسر المزاج والاكتئاب.
تنمو بشكل تلقائي ميكانزمات تكيُّفيَّة وتعويضيَّة تبقى مستمرةً بعد ذلك كأسلوب حياة، أبرزها الإفراط في تناول الأطعمة، والاعتماد سلوكيّاً عليها كمصدر للراحة والعزاء والمتعة. ولذلك، فالمشاريع التجارية الأنجَح في مصر هي المطاعم، وأغلب أنشطة المصريين الترفيهيَّة تتمحور حول فعل الأكل.
الأمر الجوهري الذي يتم إغفاله أيضاً في هذا التنظيم الجنسي، هو كَوْن الزواج الشكل الرسمي والحصري لممارسة الجنس، وأحياناً كثيرة العاطفة. وبذلك، عمليّاً، يكون الزواج إجباراً لا خياراً مناسباً، وتُقدَّم التنازلات، المؤقتة غالباً، في شكل مواءَمات وترضيات وخُدَع، من أجل الحصول على الاحتياجات الإنسانيَّة الأساسيَّة.
*****
دخل أبي عليَّ الغرفة وسرد لي قائمة يبدو أنه تدرَّب على حفظها: «السِّمنة والأكل غير الصحي، والمخدِّرات، والتدخين، والكحول، بيضرُّوا الحياة الجنسية». في البداية تجاهلتُه، فأنا أعرف رسائل الواتساب التي تثير اهتمامه ويحب مشاركتها شفويًّا مع الآخرين، لكن لعادته في تكرار الكلام، حين دخل الغرفة وردد القائمة للمرة الخامسة، أصابتني نوبةُ ضحك.
*****
تُطالعنا قصةٌ أخرى مفاجئة في نَشيد الأنشاد بعد قصة إخوة الأخت المسكينة. تقول القصة، وهي أقرب إلى إشارة لنظام الجباية الزراعي في ذلك الوقت: «كان لسليمان كَرْمٌ في بعل هامون. دفعَ الكرمَ إلى نواطير، كل واحد يؤدي عن ثمره ألفاً من الفضة». تتدخل شولوميت، بنفس النَّزَق والافتخار السابق: «كَرْمِي الذي لي هو أمامي. الألف لك يا سليمان، ومئتان لنواطير الثمر». الربط في نظري بين القصتين هو أن برجيها الفضيَّيْن، امتلآ وفاضا أمامها مثل الكرم في موسم الحصاد، تدفع لسليمان ألفاً، وتزيد عليها، كَرَماً منها، بسبب كرم الطبيعة الفائض معها – أكاد أُجزم أن المترجم كان في ذهنه الكَرَم وهو يكتب «الكَرْم»- مئتان لحرَّاس الثمر. بالطبع يحتاج هذان البرجان إلى حرَّاس؛ كَنْز السِّبْط وفرحة القبيلة.
*****
كنتُ وأنا صغير، ربما بسبب ربط تلك الظاهرة بالأمومة، أو بتأثير من نشيد الأنشاد الذي كنت تقريباً أحفظه غيباً في مراهقتي، أن كِبَر الصَّدر يرتبط بصفتَي العَطَاء والحنان. جهاز التغذية والحنُوّ وافرٌ ومترامٍ، يستعد في كل لحظة للإمداد والكَرَم. كنتُ لا أستطيع أن أتخيَّل امرأةً كبيرة الصدر قاسيةً أو مُقتِّرة، كما أن العكس كان بالنسبة لي أيضاً صحيحاً، المرأة المستَوِية أو صدرها ضامر، قاسية وجافَّة وغير حَنُون. طبعاً مع الوقت تكسَّرت نظريتي، وبعد انتشار السيليكون والسَّلاين أصبح الأمر عبثيّاً.
تلك النظرية كان لها تفريعات جانبيَّة، مثل أن الصدر الواقف المدبب يدل على غرور صاحبته وثقتها بنفسها. الصدر المُفتَرق يدل على رحابة الصدر والتقبُّل. الصدر المتدلي يدل على الهدوء والطيبة والخضوع. الصدر المقوَّس – أسمِّيه الصدر الموزة – يدل على اجتماعيَّة ورُقيّ صاحبته، الصدر البِطِّيخي يدل على الجلافة والسذاجة والشَّبَق وما إلى ذلك.
هلاوس فَرَاسة تشريحيَّة جنسيَّة، رُدمت منذ سنوات طويلة، أحيتها داخلي كريستين مرَّةً أخرى. لم أصارح نفسي، في البداية، أني مقتنع بداخلي أن هذه العصبية والقسوة سببهما نقص هرموني عندها؛ الهرمونات الأنثويَّة لم تكوِها وتُرقِّقها وتسوِّيها وتضخّ النعومة والحنان فيها وتبعث الانشراح في صدرها. لا يوجد أي إحساس أمومي، أو، في الحقيقة، يظهر سريعاً ليختفي. فقط يبقى قُطبَا القسوة والندم، الاعتداء والاعتذار. صبيةٌ تغار من زميلاتها في المدرسة، وترعى الحقد بدلاً من أرنبين صغيرين مبشرين بالخير، كيف تكون واجدةً سلاماً؟
غرقتُ في التفكير لأيامٍ لا ترد فيها على رسائلي. هي طيبة، بل وأخلاقيَّة، وهو أمر أقدِّره كثيراً، لكنها سريعة الغضب والسَّوْرة. مع ذلك، عميقاً داخلي، شعرتُ بأن ذنبها الحقيقي هو أن صدرها لا يترجرج وهي تصيح مُتشنِّجة، تاركةً إياي بلا وسادات حانية أشتكي لهما قسوتها معي.
*****
وصلتني أطرافُ كلامٍ توقعته أني أواعد فتاة في الثانوية، وأنّي أستغلُّها عن طريق فارق السن بيننا. حاولتُ بشتى الطرق أن أوضح لمن حولي أنها تبلغ 25 عاماً وخريجة جامعيَّة، لكن كـأن لا أحد يسمع ما أقول؛ يوافقني من أمامي ثم أكتشف لاحقاً أنه يردد نفس ما يدور من كلام معتوه عني.
بدأ الأمر على الإنترنت بكتابة إحداهن عن ازدواجية المعايير في أن يتركوا كاتباً يُغرِّر بالبنات الصغيرات «يسرح ويمرح» كأنه لم يفعل شيئاً. لم تذكر أي أسماء في المنشور، لكن لحقه، بفارق صغير، منشور آخر من نوع «أي شخص يتعامل أو يدافع عن هذا الشخص سأقوم بحذفه وحظره من عندي» وذكرني بالاسم. سرعان ما توالت المنشورات، وتحولت إلى تغريدات مصدومة وعنيفة على تويتر. تم تداولُ صوري مع كريستين مُشوِّشين وجهها بجانبي في أحد الاجتماعات وفي اليوم الترفيهي على الرُوف.
اتصلت بها أترجَّاها كي تُظهِر تاريخ ميلادها، أو تفتح صور يوم تخرُّجها، لكنها لم تردّ على الاتصال. أرسلت لها مرارًا على الواتساب والماسنجر. ربما مرَّ أسبوع كامل قبل أن تصلني رسالة قصيرة باردة منها، تبلغني أنها مشغولة الفترة القادمة ولن تستطيع أن تراني. شعرتُ بالإهانة الشديدة، لا أستطيع حتى الحصول على امرأة ناقصة النمو!
في خلال هذا الأسبوع تصاعد الأمر إلى حد جنوني؛ اتهمتني واحدة لا أعرفها بأني تحرَّشتُ بها أثناء لقائنا في مكتبة بفيصل! كنت أريد الرد بأني ربما لم أرَ في حياتي شارع فيصل، ولو كنتُ في فيصل بالتأكيد كنتُ سأنشغل بأشياء أخرى غير التحرُّش، أخرج من نوبة الهلع مثلاً! لكني أعرف أن أي رد فعل، حتى لو كان اعتذاراً، يزيد النار اشتعالاً مثل الحَطَب في محرك بخاري لا يقف. كانت صوري تؤخذ منها ما قد يبيِّن أني ذئب بشري، ويُكتب عليها تعليقات عنيفة وقاسية للغاية. في ظني، أي صورة تنفع لمثل هذا الهدف، فقط خذ صورة عشوائيَّة لأي شخص واكتب عليها «مُتحرِّش / مجرم / قاتل / مُغتصِب» وسترى جودة النتيجة! إذا كانت الملامح غليظة وعنيفة، فهي تشرح ما توحي به، لو كانت الملامح بريئة أو مسالمة، فهي تكشف الباطن المستتر لهذا الشخص، وتكشف القناع المخادع الذي يَبرُع في إظهاره للناس وأثناء التصوير. لاحظتُ ذلك في صور المتهمين على وسائل التواصل الاجتماعي والقتلة المتسلسلين المشاهير في الأفلام التسجيليَّة: الكلام يصنع سياق فهم الصور الفوتوغرافيَّة واستيعابها، الصورة ترتبط بالإطار الذي تُقَدَّم فيه وتكون جزءاً منه. هذا الكلام يعرفه، بالبديهة، أي واحد، لكن يتجاهله الجميع وقتَ الانقضاض.
بعد قيام الصفحات النِّسْويَّة بإصدار منشورات مكثفة عني، صنعوا صفحة خصيصاً يطالبون فيها بمحاكمتي بانتهاك الأطفال والاغتصاب والتحرُّش، وتصوير منشورات سابقة لي وتحريف معناها كي تناسب الهدف الجديد. نشروا حتى أجزاء من أعمالي الأدبية فيها مقاطع جنسية لكي يشيروا إلى انحرافي وتهتُّكي. قدَّم أحدهم محضراً رسميّاً ضدي بالفعل. كان صندوقي الشخصي ينفجر بالرسائل. أغلقت حساباتي الافتراضية كلها. لم أردَّ على اللعنات والشتائم التي تصلني، ولا حتى رسائل «تاخدها وتربِّيها على إيدك» و«ما تعلِّمني بتشقطهم إزاي» المريبة.
حاولتُ أن أصفِّي ذهني. قضيت يومي في القراءة على القهوة أو في البيت. رغم محاولتي لم أستطِع مشاهدة أي بورن. يتصل بي أصدقائي وبعض الفضوليين يسألونني ماذا حدث، وكل مرَّة أضطر أن أشرح من البداية الموضوع كله، فينصحونني أن استمر بإغلاق حساباتي حتى تمرَّ العاصفة. الكلام سهل، فهم ليسوا في وضعي، ولا يشعرون بهذا الإحساس بأن الجميع يكرهونهم ويتمنون لهم الموت. حياتي كلها توقفت، الفضيحة تمزقني بإحساس العار، وكل يوم يزداد خوفي أن يهاجمني أحد في الشارع. أبحثُ في معاملة الجيران عن أدنى تغيُّر في كلامهم أو نظراتهم: هل عرفوا؟ هل مرَّ على أحدهم أو أحد معارفهم منشورٌ عني؟ أنا متأكد أنهم لا يعرفون شيئاً عن كوني كاتباً، لكن تأتي الشهرة أحياناً بما لا تشتهي السفن.
ربما مرت عشرة أيام حتى استطعت مشاهدة بعض البورن. كلها أفلام لنساء وشابَّات بصدور وافرة جميلة الرسم: قِباب عَفيَّة خيرها بالزوفة؛ يُرخين مِشدَّاتهن كأنهن يكشفن عن كَنْزٍ خفيّ، يدارينه بأكُفِّهن فلا يستطعن أن يغطينَه بالكامل.
*****
رأيتُها. لكن هذه المرة ناضحة بأنوثة فائرة تجعلها تتعرَّق، وتحرِّك عينيها بحساسيَّة قَلِقة وتغمر حركاتها بالشَّبَق. وبسبب القوة التي اكتسبتها حديثاً قامت بشيءٍ بسيطٍ لكنه بدا لي خارقاً: دخلت الممرَّ الخارجيّ شبه الفارغ إلا منِّي، وشخص أو شخصين آخرين، حافية تدبدب رجليها بوقعٍ شهواني على البلاط وتطلب بصوتٍ عالٍ من صبي القهوة زجاجة مياه بإلحاحٍ مرح. يرد الصبي بصعوبة بكلمات مبتورة نتيجة توتُّره من أنوثتها المتفتحة ورغبتها الطافحة في علو صوتها الزائد. الطرقعة على البلاط بثِقَل رجرجة جسمها داخل قميص كاروهات أحمر وأسود واسع وبنطال جينس صار ضيقاً، جعلتني أبتلع ريقي في هذا الجوِّ الحارِّ المفاجئ في موعده. كونها حافية في مكان عام أعطاها لمسة طفولية بريئة زادت من إيروتيكيَّة وجودها المُقتَحِم. عُري قدميها جعلها كلها عارية. لن أَذوق حلاوتها أبداً. أتذكَّر، هكذا قلتُ لنفسي: لن أذوق حلاوة كريستين. أنَّت عليها أحشائي. هممتُ بأن أدعوها لكنها أدبرت خلف السور الذي قدمت منه. قمت وسرتُ تجاهه. ما جاوزته إلا قليلاً حتى وجدتُها. لمحتني فابتسمت ابتسامةَ لَعُوب. كنتُ على خلاف الواقع واثقاً. أمسكتها من كتفيها وألصقتها بالحائط، تنهدَتْ بقوة وعمق وأغمضَتْ عينيها كأن ارتطامها بالحائط أفقدها الوعي. أدخلت لساني في فمها فالتقطته في عطش. فتحتُ سوستة بنطالي وأخرجته منتصباً، شدَّتْ بنطالها لأسفل بيدها اليسرى. عند دخولي شعرتُ بلذعة حزن تحولت سريعاً إلى غضب. كنت أمزقها بعنف. سال خطٌّ من الدم على فخذها. انتبهتُ ومَنيٌّ ساخنٌ بين رِجليَّ.
*****
كان الأمر محرجاً في الاجتماع؛ أنا وكريستين أكثر اثنين مشاغبين وكثيرَي المزاح مع بعضهما، وبيننا لعبة مستمرة فيمن سيقدر أن «يُلبِّس» الآخر مسئولية تحضير الكلمة الروحيَّة في الاجتماع القادم. الآن نتجاهل بعضنا إلا في أقل الرسميات مثل التحية وغيرها، مما يصنع جوّاً من التوتر المكتوم.
الغريب أني في البداية لم أشعر بشيء. فقط وأنا راجعٌ يكون مزاجي متهيجاً وعاطفيّاً، لكن بعد ذلك كنت أشعر بغُصَّةٍ كوني أراها سعيدة ومكتفية كأنَّ شيئًاً لم يحدث بيننا. طلبتُ تحضير الكلمة في الاجتماع التالي مما أثار دهشتهم، لأن الجميع يتهرب عادة من تلك المسئولية.
فكرتُ أن أتحدث عن مركزية الحُب في المسيحيَّة بناءاً على عِظات القديس أوغسطينوس عن رسالة يوحنَّا الأولى. لكن وجدتُ نفسي أقرِّر التحدث عن أجورافوبيتي. ذهبتُ الأسبوع التالي وتكلمتُ بانفتاح وصراحة. لاحظتُ كريستين التي لم تَقُم بأي ردَّة فعل، كأنها لا تعلم شيئًاً، رغم أني عَرفتُ أنها عَرَفتْ. ولذلك قطعت علاقتها معي دون حتى أن ترجع لي وتستفسر عن الأمر: إن كان حقيقيًّاً أو لا، إن كان له حَلٌّ أو لا. فقط أرسلت بأنها مشغولة الفترة القادمة. بالتأكيد تحتاج إلى الكثير من النوم!
سألوني أسئلة عديدة كي يستوعبوا الموضوع، مع أني بسَّطت كلامي قدر استطاعتي. نظر بعضهم لي في أسى. رغم ذلك، كنت أتوقع ما هو أسوأ. هذه أول مرَّة أتكلم عن مشكلتي الخاصة بشكلٍ علني على الملأ. بعدما انتهيت شعرت بأن حمـلاً ما انزاح عني. شعرتُ نفسي خفيفاً ورائقاً.
توقفت بعدها عن الانتظام في الاجتماع. كان الاجتماع الأخير المتبقي من بين اجتماعات الكنائس الأخرى، سواء الكاثوليكيَّة أو الأرثوذكسيَّة، التي كنت أحضرها لمدة عامين. لم أحضر في الكنائس البروتستانتيَّة لرفض أبي المشاركة في دفع تكاليف زواج غير راضٍ عنه، لأن طرفه الآخر «غير مسيحي» كما قال. إلا أنه تخلى عن هذا الأمر مؤخراً، حين لاحظ أنه لا يوجد في «الكنائس التقليديَّة» نفع. لكن جاء ذلك متأخراً، فأنا مللتُ من لعبة الاجتماعات، وشعرتُ بأني أعطيت تلك السِّكة حقها. كنتُ أَحضُرُ هذا الاجتماع في سبيل لقائها هناك، الآن أحضره من حينٍ لآخر لأني أحتاج إلى مساحةٍ ما خارج سعيي هذا، أتواصل فيها مع طائفتي، ومع جانبٍ روحانيٍّ أبذل جهداً كبيراً للحفاظ عليه. كما أني أَستلطفُ الناس هناك. طيبون وسُمَحاء.
حين حدث ذلك كله، تنامَى شعورٌ داخلي لم أقدر أن أحدِّده بدقة. ثم حلُمت هذا الحُلم الذي يحوي الانتحار. قلقت بعد استيقاظي. حسبتُ بالقلم والورقة كل شيء من البداية للنهاية. لم أجد خطأً فعلته، لكني فهمت الشعور الغامض الذي يصاحبني الأيام الأخيرة، فأنا أشعر، في الحقيقة، أني سأتزوج قريباً! لا يوجد أي سبب منطقي لهذا الشعور، فكريستين خرجت من حياتي، ولا يوجد أخرى غيرها، وقد توقفت عن حضور الاجتماعات كلها تقريباً. لكني قرَّرت السير وراء شعوري هذا وليحدث ما يحدث.
*****
دخلت كريستين المكتب مرتبكة، قلقة، صغيرة كعادتها، وإن بدت هيئتها أصغر من المعتاد. مع ذلك، حافظت على فَرْدِ ظهرها مثلما تحب أن تفعل. كنَّا داخل مكتب كاردينال قادمٍ من روما له ثقله وتأثيره على مليار و300 مليون إنسان. تنبعث منه رائحة عطر فخيم ونفَّاذ. له منكبان عريضان تحت العباءة المطَّرزة بالبطانة البنفسجيَّة حول أزراره وكُمَّيه. كان مبتسمًا طوال الوقت وأسنانه بيضاء وسليمة بشكلٍ لافت. أمامه طبَق من المكسَّرات عزمني عليه حين أتيت له كحَلٍّ أخيرٍ، لمّا عرفت بقدومه في رحلة تَفقُّد إلى مصر.
فور دخولها ورؤيتي قالت إنها لم تفعل شيئاً وأني أضايقها وأرسل لها رسائل كثيرة وبدأت في البكاء. لم يفتح أحد منَّا حتى فمه. رغم إدراكي أنها فعلت ذلك كنوعٍ من الاستباق لأي شيء سيُقال أو يحدث، إلا أنها صعبت عليَّ وأردتُ أن أقوم وأحتضنها.
بلَّغها مُرافق الكاردينال، وهو كاهن مصري صغير السن، انتدبوه لمرافقته فترة وجوده في مصر، إن الكاردينال يريد لها أن تفكر في قبول عرضي بالزواج، وإنه سيقوم بنفسه بمراسم الزواج باللاتينيّة بناءاً على طلبي. ارتبكَتْ أكثر. قالت إنها ستفكر، وإني شابٌّ طيب وإن كنت أكبُرها بتسعة أعوام. قال لها المرافق إن ذلك ليس بالفارق الكبير. فهزت رأسها موافقة. ثم قالت إني لست كبير السن لكن ليس لي عمل ثابت يضمن دخلاً ماديًّاً لأسرة. وهنا سأله الكاردينال ماذا تقول، فترجم له بالإيطاليَّة ما قالته لتوِّها. سكتْ قليلاً، ثم ابتسم وقال ما ترجمه المُرافق بعد ذلك: «إن اللـه يتدبر شؤون رعاياه، وإن أمَّنا العذراء ترعى البيت الذي ملؤه الحب».
هزَّت رأسها موافقةً وغمغمت، ثم ردَّت: ربنا يُبارك، لكنها ترى عقبةً أمام زواجنا، فأنا قد سبق وطلبت يد أختها. تدخلتُ لأقول إن ذلك كان تسرعاً مني، فلقد كنَّا وقت حَظر الكورونا وشعرتُ بالوحدة والتضارُب. ردَّ المُرافق إن المسيح يُرشِد الظروف والعقول لما هو صالح وخيِّر. علَّقتْ بشكلٍ آليٍّ «آمين» وانتظرت أن يكمل كلامه، فنظر إلى الكاردينال الذي سألها إذا كانت موافقة على عرضي بالزواج. بعد الترجمة ردَّت كأنها تحتفظ بهذا الرد في جَعْبتها للنهاية، إني لا أخرج من حدود مصر الجديدة. هممتُ بالرد لكن أشار لي المُرافق بأن أصبر، وبعد الترجمة من وإلى، قال إن اللـه يدبر أموره بشكل يفوق الفَهْم البشري وتوقعاتنا، وإني قد وعدتُ أن أرى أحدًا يساعدني على تجاوز هذا الأمر البسيط في أقرب وقت.
صمتَتْ تماماً. سألها المرافق مرةً أخرى إذا كانت موافقة على عرض الزواج مني. هزَّت رأسها موافقة. بعد ترجمة سريعة صاح الكاردينال بصوتٍ عالٍ يتضاد مع مهابةِ منظره: «بلّيسمو بلّيسمو مولتو بلّسيمو إي مِياي فِيلي!»، ونظر إليَّ وغمز ورفع سبَّابته بإشارةِ «تَمّ».
ونحن خارجان بجانب بعضنا، واضعًا يدي على كتفها برفق، أومأَتْ كي تقول كلمة. ملتُ نحوها وانحنيتُ لأصل إلى مستوى فمها. همسَتْ: «عاوز تتجوِّزني؟! دانا هاطلَّع ميّتين أهلك!».