شهدت جامعة إدلب قبل أيامٍ قليلة إضراباً دعا إليه اتحاد الطلبة فيها، وذلك احتجاجاً على «نيّة» حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام السماحَ للطلاب المتخرجين من الجامعات السورية التابعة لوزارة التعليم العالي في حكومة النظام، بمعادلة شهاداتهم والحصول على تراخيص لمزاولة مهنٍ مرتبطةٍ بتخصّصاتهم في إدلب. كما طالب المحتجون عدمَ السماح لطلاب السنوات الجامعية الانتقالية القادمين من مناطق سيطرة النظام بإكمال تعليمهم في جامعة إدلب. وترافق مع الإضراب مظاهراتٌ أمام مقر رئاسة الجامعة في إدلب، نقلتها عدسات الكاميرات واستطعنا من خلال بعض المقابلات التي أُجريت مع الطلبة المحتجين الاستماع إلى أسباب احتجاجهم التي سنأتي على عرضها لاحقاً.

في ختام هذا المشهد، قاد الإضرابُ والاحتجاجات وزارةَ التعليم العالي في حكومة الإنقاذ إلى إصدار بيانٍ نفت فيه اتّخاذها أي قرارٍ بخصوص معادلة الشهادات الصادرة عن «جامعات النظام المجرم»، ثم وجّهت تعميماتٍ إلى مختلف الكليات التابعة لها تمنعُها من معادلة الشهادات الجامعية الصادرة عن وزارة التعليم العالي في حكومة النظام بعد تاريخ 31 كانون الأول (ديسمبر) 2016، وهو العام الدراسي الذي افتُتحت فيه جامعة إدلب، مُرفِقةً أسماء الطلبة المعنيين بالقرار في كل جامعة.

ما نفته وزارة التعليم التابعة للإنقاذ لم يكن مجرد نيةٍ جرى التراجع عنها، بل هو بالفعل قرارٌ صادرٌ عن مجلس التعليم العالي التابع لها في حزيران (يونيو) 2018، والذي لم يعتبر هؤلاء الطلاب حينها قادمين من «جامعات النظام المجرم»، وإنما حملةً «للشهادات الجامعية الصادرة عن الجامعات العامة والخاصة في مناطق سيطرة النظام». وكان المقصودون بهذا القرار الخريجين بعد العام 2016، وهم الشريحة التي يعترض طلابٌ من جامعة إدلب في الوقت الراهن على معادلة شهاداتهم، أما الشهادات الصادرة قبل هذا التاريخ فمعترفٌ بها دون الحاجة لمعادلتها.

في إحدى المظاهرات نشاهد الطلاب والطالبات المحتجّين في تسجيلاتٍ مصورة يذكرون أسباب احتجاجهم، ومنها: «لا نقبل خريجي جامعات الأسد، جامعة الثورة لأبناء الثورة فقط لا غير، كنا تحت القصف وعرضةً للتهجير وكثيرٌ منا سكنَ المخيمات بينما درسَ هؤلاء في جامعات النظام، درَسنا وقدّمنا الامتحانات تحت قصف النظام وروسيا في حين كان طلاب جامعات النظام يخرجون بمسيراتٍ تمجّد الظالم وتدعمه في انتخاباته، لا لنسف تضحيات الشهداء، هؤلاء عبيد الأسد». أحد المحتجين قال إنه لا يقبل أن «يفتح ابن النظام عيادةً أو صيدليةً أو يحصل على وظيفةٍ في إدلب»، كما نشاهد أيضاً لافتاتٍ كُتب عليها: «لا لتلويث المناطق المحرّرة، جامعات البراميل».

احتجاجات جامعة إدلب، تصوير Hammam AlRandas-موقع تلفزيون سوريا

تعني معادلة الشهادة الجامعية في إدلب، في معظم الحالات، اجتياز مقرراتٍ «شرعية»، و/أو امتحانٍ عملي في الكليات الطبية يُعرف بالكولكيوم. وتشير التقديرات التي تنقلها وسائل الإعلام المحلية من إدلب عن وجود عددٍ لا يتجاوز 300 طالب-ة يريدون معادلة شهاداتهم، ومعظمهم خريجو تخصصاتٍ طبية أو من فروع الهندسة المعلوماتية والمدنية والميكانيكية، لذا نجد من خلال متابعة وسائل التواصل الاجتماعي تركّزَ الاعتراضات بين طلاب جامعة إدلب من هذه التخصصات أكثر من غيرها.

التوصيفات السابقة التي تطرد «خريجي جامعات النظام» من «ملّة الثورة» تصدرُ ضدّ شبانٍ وشابات لم يتجاوز أكبرهم سن الخامسة عشرة عند انطلاق الثورة، وكثيرون منهم عاشوا التهجير والنزوح مثل ملايين السوريين الآخرين، والنعوت التي تُطلق عليهم ليست ظالمةً وغبيةً فقط، إنما تعطيهم أكبر مما يمكن لمراهق-ة أو شاب-ة فعله، ولا تعدو كونها افتراءات تُوظَّف فيها عباراتٌ وكلمات رنّانة مثل الثورة والتضحية والشهادة لإضفاء نوعٍ من الوجاهة «الثورية» عليها. لم يكسب هؤلاء الطلبة من النظام أكثر من شهادةٍ تعبوا في تحصيلها، وتحمّلوا لأجلها سنواتٍ من القلق والخوف والتفتيش والتفييش والارتياب على حواجز النظام، وذلك فقط لأنهم يحملون في بطاقات هويّتهم إشارةً إلى المناطق التي ولدوا فيها. ثمّ ها هم يجدون أنفسهم فجأةً عبيداً وبطانةً للقاتل.

يُراد من التوصيفات السابقة التعمية على دوافع الاعتراض الحقيقية، وهي الحالة الاقتصادية التعيسة في إدلب وارتفاع معدلات البطالة والخشية من مزاحمة القادمين من «جامعات النظام» على فرص العمل والتوظيف القليلة، لا سيما أنهم أفضل تأهيلاً وأكثر مهارةً، خصوصاً في التخصصات العلمية، وذلك ليس نتيجة صفاتٍ ذاتية يختصون بها دون طلاب جامعة إدلب، وإنما لوجود تجهيزاتٍ وبنىً تحتية وخبرات في الجامعات التي قدِموا منها لا يوجد ما يُقابلها في إدلب. هذا لا يلغي حقيقة التراجع الكبير في مستوى كفاءة الجامعات السورية الحكومية والخاصة، ولكنّها ما تزال متقدمةً بمراحل على الجامعات الناشئة في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، والتي يغلب على عددٍ من تخصصاتها توجيهٌ إيديولوجي يصعب قبوله أو التغاضي عنه حتى لدى المقارنة مع مناهج النظام. 

من بين الدوافع الأخرى للاحتجاج هو عدم وجود أي اعترافٍ بشهادات الدارسين في جامعة إدلب خارج حدود المحافظة، وبالتالي فإن فرصتهم الوحيدة للعمل بموجب شهاداتهم تقتصر عليها. واللافت أن عدم الاعتراف هذا يسري حتى داخل «المناطق المحررة»، إذ تتبادل كلٌّ من حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة عدم الاعتراف بالشهادات الجامعية الصادرة عن الأخرى، كما أنّ الجامعتين معاً لا تحظيان بأي اعترافٍ على الصعيد الدولي، حتى أنّ تركيا التي تسيطر فعلياً على المناطق التي تعمل فيها جامعة حلب الحرة لا تعترف بشهادتها، ولكن قد تقبلُ في مناسباتٍ خاصة ومحدودة بأن يستكمل عددٌ قليلٌ جداً من طلابها دراستهم في تركيا.

ما يجدر التصويب عليه فعلياً ليس بضع مئاتٍ من الطلبة الذين آمنوا بمستقبلٍ ما من خلال مواصلة التعليم، بل فشل سلطات الأمر الواقع في إدارة هذه المناطق «المُحرّرة»، وأن تُفتح الأسئلة حول الفشل الإداري والتنسيقي بين «أبناء الثورة»، وعن جدوى استمرار هذه الجامعات إزاء فشلها وعدم وجود أي اعترافٍ بشهاداتها. وإذا كان الغرض من إنشائها والإبقاء عليها الاستجابة لمتطلبات منطقةٍ معزولةٍ تحتاج لإعداد هياكل وكفاءات تسيّر أمورها، ففي القادِمين من الجامعات السورية مكسبٌ يجب الحفاظ عليه، والمزاعم بأن هؤلاء الطلبة عادوا إلى إدلب تجنّباً للخدمة الإلزامية يُحسَب لهم لا عليهم.

في ثنايا ذلك، يطرحُ خطاب طلاب جامعة إدلب الحافل عموماً بالكثير من العبارات الإسلامية، تساؤلاتٍ أخرى عن الأسباب التي تجعل خريجي «جامعات النظام» قبل العام 2016 أقل «أسديةً» من خريجيها بعده؟ هل يكفي افتتاحُ جامعةٍ في إدلب لاعتبار جميع خريجي الجامعات السورية في مناطق سيطرة النظام بعد ذلك «بطانةً للمجرمين»؟ أليس من حق أبناء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أن يستفيدوا من خدمات جامعاتٍ يُصرُّ «أبناء الثورة» على أنها ملكهم وليست ملكاً لبيت الأسد؟ كيف سيكون الحال إذا ما عاد خريجون سوريون من جامعاتٍ عالمية وقد صارت أعدادهم بعشرات الألوف؟ هل سيُعتبَرُ هؤلاء أيضاً «بطانةً لأعداء الإسلام»؟ يشدّدُ خطابُ الكثيرين من المعارضين السوريين على اعتبار نظام الأسد فاقداً للشرعية ومحتلاً لمؤسسات الدولة ولا يحظى بأي دعمٍ شعبي، في حين عندما تقتضي المصلحة خلاف هذا يعتبرُ جميع الموجودين في المناطق التي يحكمها النظام «أبناءً» و«عبيداً» له، وبالتالي هم جميعاً «أعداءٌ للثورة». في هذا ما يوازي اعتبار النظام الأسدي لسكان إدلب أنفسهم بيئةً حاضنةً للإرهاب، على أنّ الأخير يملك قدرة قتلٍ لا يمتلكها معارضوه.

ومن المثير في مقولات طلبة جامعة إدلب المحتجين هو أنّ تبنّيها يقود إلى معادلةٍ ليست في صالحهم أبداً، إذ إنّ اعتبار طالبٍ في جامعة حلب عبداً للأسد لا ندري أين سيضع خريجي وخريجات جامعةٍ تتبع لحكومة تنظيمٍ جهادي متطرف ومصنّفٍ على قوائم الإرهاب، وما يزال يُعرَّف على الساحة الدولية بوصفه الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وذلك بصرف النظر عن إعلان أبو محمد الجولاني فكَّ ارتباط تنظيمه بها منذ منتصف العام 2016. وثمة وجهٌ آخر عابرٌ للحدود أيضاً في كلام الطلبة، وهو أنه يتطابق مع ما نسمعه من عنصريين في دولٍ يقدُم إليها طلابٌ لاجئون وأجانب للدراسة، وكثيراً ما كان السوريون ضحايا لمثل هذا الخطاب على ما يظهر المثالَان التركي واللبناني.

خاض الجزائريون صراعاً مرّاً ودموياً مع القوات الفرنسية المحتّلة لأرضهم، وفي نهاية المطاف خرج الفرنسيون تاركين نخباً متعلّمةً في جامعاتٍ متقدّمة، وكانت شرائحُ واسعة من الجزائريين تتقن لغة المحتل الذي صارعته لعقود. دفع هذا الروائي الجزائري كاتب ياسين لاعتبار الفرنسية، أهم لغات الأدب والفن والفلسفة وقتها، غنيمة حرب. أليس بالإمكان اعتبار شهادات خرّيجين من جامعاتٍ سورية هم من أبناء المدن والقرى التي عادوا إليها غنيمة حرب؟ هذا بلا شك أفضلُ بما لا يقاس ممّا تعود المتقاتلون في سوريا على غنيمته.

 

لم يتخرج هؤلاء من جامعاتٍ ليس لها مثيل، ولكنّ الحصول على شهادةٍ علمية في الظروف الأمنية والمعيشية القاسية التي تمرّ بها سوريا ليس أقل من فعلٍ نضالي. ويدفع للحزن أن نطالع القرارات بأسماء الطلاب المحرومين من معادلة شهاداتهم في طب الأسنان فنجدهم جميعاً متفوقين قد حصلوا على شهاداتهم بتقدير امتياز. ومما يزيد المشهد حزناً وقتامةً أن الجهة الداعية لحرمانهم من معادلة شهادتهم والعمل بموجبها هي نفسها اتحاد الطلبة الذي نظّم قبل أيامٍ محاضرةً «توعوية» عن «خماسية التدمير: الإلحاد، النسوية، الإنسانوية، الشذوذ، التفاهة»، ويحدث هذا في الجامعة نفسها التي حاضر أحد أساتذتها في التاريخ واصفاً جميع العلويين بأنهم طائفةٌ متوحشةٌ لم تنتج سوى القتلة والمأجورين، وهي أيضاً التي استضافت إياد قنيبي، داعية إقامة دولة الخلافة الراشدة في سوريا والمنافِح عن تنظيم الدولة وأقرانه من التنظيمات الجهادية.

 

يسأل طالبٌ في إحدى المقابلات مستنكراً: «هل أقبل أن يطبّب أهلي أو أن يعمل في المحرّر طالبةٌ أو طالب نجحوا في جامعتهم لأنهم أقاموا علاقةً مشبوهة مع المدرس. قد شاهدنا هذه المقاطع على تلغرام ويوتيوب»! فيجيبه المذيع: «ينصر دينك، فشّيتلي قلبي». يعمل هذا المذيع مراسلاً لقناةٍ تلفزيونية سورية. 

من حق طلاب وطالبات جامعة إدلب ألا تضيع سنوات تعبهم هدراً، وأن يحظوا بتعليمٍ مناسب وأن يجدوا بعده فرص عملٍ لائقة تؤمّن لهم حياةً كريمةً تتناسب مع طموحاتهم، لكن ذلك يتطلب بدايةً العمل على فصل الجامعة عن حكومة الإنقاذ والشخصيات المرتبطة بها، وتكريس مناهج أكاديمية وفق أسسٍ علمية وفكرية سليمة، فضلاً عن سياسات اقتصادية تطوّر سوق العمل ليستوعبهم. بغير ذلك ستبقى شهاداتهم صالحةً للاستعمال في إدلب فقط.