ما الذي يُمكن أن تعنيه كلمة «أختيّة»؟ هل هي مجرد مقابل مؤنث لكلمة أخوية؟ وإن كانت الكلمة توحي، بطابعها الحُلُمي، إلى استحالة التحقق، فما الذي يستدعي هذه الاستحالة؟ هل نحن بعيداتٌ إلى هذا الحدّ عن بعضنا البعض، أم أننا بعيداتٌ في الأصل عن أنفسنا؟ وفي ظل هذا الخصام، أو ما يُشبه الخصام، هل نستطيع أن نوجِد نوعاً من مساحةٍ مُشتركة، نلتقي فيها لنتكلم بحرية، دون خشية التعرض لأحكام الآخرين الذكورية، سواء أتت من الرجال أم النساء أم الرأي العام؛ أو كي تشكو إحدانا للأخرى ما تمرّ به. لعلّ هذه الشكوى، وذلك الأرق والبحث، يدلنا في يوم من الأيام على طريق صحيح للأختيّة.
صدر في فرنسا العام الماضي كتاب أختيّة (Sororité)، عن دار نشر Points، وهو عملٌ جماعي تولت مهمة التنسيق لنصوصه كلويه ديلوم (Chloé Delaume). وكلويه بحدّ ذاتها، بعملها الكتابي وحواراتها عبر المنصات الإعلامية المختلفة، تُعَد دعوة مُتجسدة إلى فكرة الأختيّة، ليس فقط لأنها إحدى نجمات الكتابة النسويّة في فرنسا، ويتجاوز عدد أعمالها الثلاثين كتاباً في مختلف الأشكال الكتابية، لكن أيضاً لمشاركتها في النقاشات الحسّاسة، مثل النساء والتقدم في السن، والنساء والكتابة، والنقاش هذا حول الأختيّة.
ولدت كلويه عام 1973 باسم نتالي عبدالله، لأمٍّ فرنسية وأبٍ لبناني. وقبل أن تتجاوز مرحلة الطفولة، قتلَ الوالد العربي مُفرِط العنف والدتها ثم انتحر، لتفقد بذلك الأبوين معاً بضربةٍ ذكوريةٍ واحدة. رحلت نتالي الطفلة إلى فرنسا، وتشرّدت بين بيوت أقربائها وصديقات والدتها، لكنها تقول إن المكتبات ربّتها أكثر. أحبّت الكُتب، ولاحقاً تخلّت عن اسم نتالي عبدالله، واختلقت لنفسها اسماً جديداً من الشخصيات الخيالية الأدبية. تكرر كلويه في حواراتها أنها لا تعرف أي شيءٍ من اللغة العربية، ولم تعد تجيب حين يُناديها أحدٌ بالاسم القديم. تحدثت كلويه عن قصة هذه المقتلة بصراحة في كتابها صيحة ساعة الرمل (Le cri du sablier) -وهو عمل غير مُترجم- الصادر عام 2011. كما عادت وتحدثت عن البنية البطريركية في المجتمع الفرنسي، وعن علاقتها هي بالنساء وكيف أنقذتها من الانتحار عدة مرات في كتابها الغاضب شقيقاتي العزيزات جداً (Mes bien chères soeurs)-غير مُترجم- عام 2019. وكلويه من الداعيات لاستخدام المصطلحات الصحيحة للتعبير عن الجرائم التي تتعرض لها النساء في محاولة للوصول إلى قوانين رادعة، فعوضاً عن تعبير قتل الزوجة، لا بد من استخدام مصطلح قتل النساء (féminicide)، وهي كل جريمة قتل تتعرض لها المرأة، أو الفتاة، لأنها أنثى.
أختيّة منذ قديم الزمان
رغم سعينا السياسي لتحويل الأختيّة إلى بناء أكثر نظامية، تضع نصوص هذا الكتاب أيدينا على حقيقة أن الأختيّة كانت دائماً وسيلة النساء للتعايش على مرّ العصور، سواء أدركن ذلك أم لا.
«لوقت طويل ظننا أنه لا وجود لمعادل أنثوي لكلمة أخويّة»، تقول كلويه. وذلك رغم أن الكلمة وردت في القواميس بدءاً من القرن السادس عشر، وكانت تُشير إلى «جماعة نسائية دينية، تجمع عضواتها روابط قوية، لا رئيسة فيها ولا مرؤوسة، فقط أختيّة صافية». لم تُرحب الكنيسة ولا النظام البطريركي بهذه الفكرة، لما كانت تُشير إليه من احتمالٍ لاستقلال النساء، وإمكانية أن يُدرِن جماعتهنّ ذاتياً. من أجل الحفاظ على نظام الأسرة، توجب على النساء أن يشعرن أن لا بديل عن اعتمادهنّ على الرجال، وأن هذا الاعتماد لا يمرّ بلا ثمن.
ظلت الكلمة مهجورة على مرّ القرون إلى أن استُعيدت في الموجة النسوية مطلع السبعينات، لكنها لم تدم طويلاً ونُسِيت مجدداً، لتعود إلى الأذهان خلال موجة النسوية الأخيرة وخلال حركة مي تو، إذّ تبيّن أن النساء لا يواجهن انتهاكاتٍ من الرجال فقط، لكنهنّ يواجهن الصمتَ من المؤسسات التي تحمي أولئك الرجال أيضاً، وقد تُواجَه كلماتهن بالعنف والإنكار حتى من زميلاتهنّ النساء. في الموجة النسوية الأخيرة بدا واضحاً، في كل بلد، أن السلطة تخاصم النساء إنْ رفضن الخضوع لها أو قررن فضح ممارساتها. عادت «الأختيّة» لأنها بالتحديد ضد فكرة السلطة، تقول كلويه: «إنها (الأختيّة) خارج الدين المسيحي، وخارج الهيكل الأسري، وكل هيمنة ذكورية. هي علاقة أفقية، بلا تراتبية ولا قانون أقدمية. إنها حالة من الأختيّة الحقيقية. علاقة امرأةٍ بامرأة، تتسم بالاستمرار والتعاضد. علاقة امرأة بامرأة، لا ابنة وأم. إنها علاقة مساواة».
نحن بحاجة للتذكير بالأختية، تقول كلويه: «أن تتعامل امرأةٌ مع امرأةٍ أخرى كأخت مسألة لا تحدث أبداً بشكل تلقائي. إنني أعُدُّ كل امرأةٍ أخرى أختي، سواء ولدت كذلك أم أصبحت كذلك. إن الأختية خيارٌ واعٍ، أسلوبٌ في الحياة. والذي يتطلب التعاطف، والانفتاح، والثقة. أي ما يُقابِل كل ما جرت تربيتنا عليه». وتُجيب كلويه على السؤال قبل أن نطرحه: هل يعني هذا أنه ينبغي أن تكون النساء في جانب، والرجال في جانب آخر؟ «كي نُطمئِن الرجال الذين في طريق نضالنا النسوي، الذين نُصيبهم بالخوف إذ نُطالب بإلغاء امتيازاتهم، فضّلنا استخدام مصطلح أدلفية (Adelph)، وهي كلمة من الإغريقية القديمة تعني أخ وأخت». تضيف كلويه في نهاية كلامها: «إن الأختية ليست طرحاً حتمياً، بل يمكننا أيضاً مساءلة أسبابها».
ربما يكون على النساء أن يتأملن في أنفسهن، ويُعدن ترتيب علاقاتهن ببعضهن البعض، وسط عالم يُصبح أكثر «عدائيةً» يوماً بعد يوم. على أي حال تُثبت نصوص هذا الكتاب أن الأختية كالماء والهواء، لكننا لا نتأملها كما ينبغي، بل وقد نسيء إليها في بعض الأحيان.
تتنوّع نصوص هذا الكتاب بين الشهادات الشخصية وبين البحث في النظريات المكتوبة لمُفكرات أخريات. في السطور القادمة عرض لبضع فصول من «الأختية».
الاغتصاب موحِّد الطبقات..
يمكن القول بأن الاغتصاب هو أحد التجارب الجوهرية في الوعي الجمعي الأنثوي. ففضلاً عن أولئك اللواتي تعرضن للاغتصاب بالفعل وسمعنا عنهنّ بطريقةٍ ما، يُمكن أن تتعرض أي امرأةٍ أخرى للتجربة نفسها. إنها معركة خاسرة، وقد يكون ثمن منع حدوثها أن تدفع المرأة -في أي سن، بما في ذلك الطفولة-حياتها ثمناً لها. صفحة الحوادث تقول ذلك، وكذلك الأفلام وقصص الأمهات. نحن إما مُغتصبَاتٌ أو مُغتصبَاتٌ مُحتملات. وترتفع الاحتمالية عندما نعرف أنه حتى شركاؤنا الحاليون أو أحباؤنا يمكن أن يكونوا مُرتكبي هذا الجُرم. يرتبط الاغتصاب كمفهوم في الوعي العام بالأنوثة، والدليل على ذلك أنه سلاحٌ تلجأ إليه الدول في حروبها ضد الدولة الأخرى، كوسيلة للتباهي بالفحولة والقوة المُفرطة والقدرة على القهر.
تتصدر الروائية الفرنسية ذائعة الصيت لولا لافون (Lola Lafon) نصوص «الأختية» بحديثها عن مرحلة «العبور» أو الانتقال، وهي المرحلة التي تحاول فيها الضحية أن تستعيد حياتها، أو على الأقل أن تستعيد شيئاً من الحياة. تعرضت لولا عام 1998 للاغتصاب على يد رفيقها، الذي ادّعى لاحقاً أنها أساءت فهم تصرفه. ظلت لافون، التي لم تكن قد نشرت بعد أي رواية، غارقةً في الصمت لمدة عامين، وحاولت أن تتحمل أسئلة الأصدقاء عن رفيقها ذلك الذي كان يبدو لطيفاً وروحانياً. ولم تقوَ على رواية الحقيقة، حقيقة ما حدث، فالصدمة التي عاشتها تضمّنت هذه الحالة بالضبط؛ الشك في ما اختبرته بنفسها.
بالمصادفة، يقع بين يدي لافون كُتيبٌ أخضر، كتبته مجموعةٌ نسويةٌ توعوية. وتعثر فيه على الأعراض التي تُعاني منها: قلق متواصل، حساسية، اضطرابات في النوم، اضطرابات في الأكل، نوبات قلق، إنكار… وذات ليلة تُقرر الاتصال بالرقم المعروض للمساعدة. وعلى عكس ما توقّعته من نفسها، ذهبت في اليوم التالي لحضور أول جلسة حوار بين أعضاء المجموعة.
نساءٌ بين عمر 16 و50 عاماً من مختلف الطبقات الاجتماعية كنّ حاضراتٍ في الجلسة. وكانت تُدير المجموعة شابةٌ مُتحمسةٌ هي سوزي. ورغم ما قد يوحي به الاسم من شابة مُدللة، لا تأبه كثيراً للأحزان، بدت سوزي أكثر حساسية وإصراراً على المساعدة. تقول لولا: «كانت سوزي تحلّ تناقضاتنا، ترد بلا كلل على مونولوج الإحساس بالذنب الذي يأكل أرواحنا: هل كان يُمكن أن نتفادى ذلك؟ هل كان يجب علينا أن نقول أو نفعل شيئاً كي نتفادى ذلك؟ هل يجوز أني قد ‘أسأت فهم’ ما وقع؟».
لكن سوزي لم تكن الوحيدة. في الجلسة الثانية للمجموعة، تعرّفت لولا على فتاة عشرينية، وصفت بطريقةٍ مسرحيةٍ كيف تلقّى رجال الشرطة بلاغها بالاغتصاب، وكيف مثّلت بالنسبة لهم فقرةً كوميديةً قبل نهاية مناوبتهم. وصارت السيدتان تلتقيان خارج أوقات الجلسات، لتُكملا الحديث: «التقينا وسط شعورٍ بالهزيمة، بالإذلال. سمعت كل واحدةٍ الأخرى وهي تُردد أنها لا تود فعلاً أن تموت، لكنها لا تعرف كيف تواصل الحياة مع هذا الذي حدث».
من هذا الألم تشكلت صداقة، وكأن الاغتصاب بدّد الفارق في السن وبين الطبقات الاجتماعية. بعد ذلك بزمنٍ قصير، انقطعت سوزي عن المجموعة. فتُقرر الصديقتان أن عليهما اليوم واجب مساعدتها، ويلاقين الشابة التي يتضح أنها هي الأخرى قد تعرضت للاغتصاب على يد حبيبها. ومن جديد تنشأ صداقة، صداقة تلد النساء الثلاث مرةً أخرى، وتضع كلاً منهن على بداية طريقها.
بعد ذلك ستكتب لولا لافون كتابها الأول، وستحتفظ بسوزي على صفحاته، مُلقبة إياها هذه المرة بـ«الشبحة»(Fantômette).
أختية المهاجرات الإفريقيات
في فصل بعنوان «نحن خمس»، تروي الكاتبة والمُحاضرة الإفريقية مابولا سوماهورو (Maboula Soumahoro) جانباً مُختلفاً من الأختية، أختية الدم. لكنها أيضاً الأختية المُختارة، أي التي تُعيد النساء اختيارها باستمرار، وليس التي تفرضها عليهنّ صلة الدم فحسب. ولدت مابولا لوالدين من ساحل العاج، أنجبا معاً عشرة أبناء -لم يبق منهم أحياء غير سبعة- وتصل مابولا في الولادة قبل الأخيرة، مع شقيقٍ لها توأم. غير أنها لا تتحدث عن هذا الشقيق التوأم مرةً أخرى، بل تسرد علاقتها بشقيقاتها اللواتي لعبن دور الأم/ الأمهات البديلات.
يُقرّر الأبُ اصطحاب الأسرة إلى فرنسا بحجة العمل وبدء حياةٍ جديدة، وهناك تضع الأم -تُلقبها الكاتبة الأم بحروف كبيرة La Mère- مابولا، ثم سريعاً يهجر الوالد الأسرة مقرراً العودة من حيث أتى، تاركاً الحِمل الثقيل على كاهل الأم. لا تُغادر الأم، بل تبقى، رغم افتقادها الدائم لزوجها. تقول مابولا: «كرّست نفسها بالكامل لأبنائها، ثم تركت لبناتها مهمة الاعتناء ببعضهن البعض. لأنها هي وهبتنا بعضنا لبعض». عملت الأم في وظيفتين، إحداهما في مصنع والأخرى في أعمال التنظيف، وكانت تجد على نحوٍ ما طريقةً كي تنسج للأبناء معاطف الصيف والشتاء. لم تتعلم الأم اللغة الفرنسية، وهكذا بدا لها شقاؤها الزائد في العمل مُبرّراً، أما بناتها فكان عليهن أن يتعلمن، وأن يحصلن على وظيفةٍ مُحترمة، ومن ثم حياة مُحترمة. «الأم، كل هذا، لم تقله لابنتها. لم يكن لديها الوقت. لديها أشياء أخرى لتفعلها. أن تعمل على وجه الخصوص، أن تجلب المال والطعام، أن تدفع الفواتير، أن تحافظ على سقفٍ فوق تلك الرؤوس. وحدهما عيناها كانتا تقولان. أحياناً، وجهها أيضاً، إلى حد ما».
إذاً، مَنْ الذي كان يُكلم مابولا؟ بكل تأكيد الشقيقات؛ الأخوات. «لأنه كان يجب تعويض دور الأم. هذه الأم التي كان حضورها الأثيري يُثبت إلى أي مدى كان غيابها مُنيراً. تَتحابّ الأخوات، يتبادلن النصائح، ويتناوبن الحماية، والسهر على راحة بعضهن البعض. كُن يُعالجن بعضهن البعض أيضاً. التفتت كل واحدةٍ إلى الأخرى. لم تكن واحدةً منهن قادرةٌ على علاج نفسها؛ لأن الجرح كان قديماً وغائراً».
جرحُ أنهن بناتُ مُهاجرين؛ جرح عذاب الأم؛ جرح انسحاب الأب. هل نقول أيضاً جرح القدوم/والانتماء من/إلى العالم الثالث؟ جراح عديدة لا داع لذكرها، إذ ليس من الصعب تصورها على أي حال. عندما وصلت مابولا إلى سن الثمانية عشرة، عُرض عليها عقد عمل، بمدةٍ غير مُحددة، كي تؤدي مهمةً محددةً، وهي رعاية المرضى في دور المُسنين. وتُفكر مابولا أن تقبل العرض، عليها أن تعمل كما تعمل أخواتها. لكنهن يتدخلن: عليكِ الالتحاق بالجامعة، عليكِ تكريس نفسك للدراسة، لستِ أقل دراسياً من الأخريات اللواتي يفعلن ذلك.
إنها المحبة الحقيقية؛ الأختية الصافية، تلك التي تصفها مابولا لأنها عاشتها، لأنها كانت حقيقتها؛ الشعور بأن الكل هو واحد، وهذا ما تحاول أن تُعرّفه لنا في نصها. في الجزء الأخير من النص، تروي واقعةً أخرى عندما خضعت لعمليةٍ جراحيةٍ في فرنسا، وقد صارت اليوم أستاذة أدبٍ وحضارة، وواجهت وهي لم تسترد عافيتها بعد «شر» المُمرضة. تشعر مابولا بالخوف من أنها طفلة مهجورة، فتكتب لشقيقاتها: «أنا بخير، لكن هناك ممرضة شريرة معي». لم تستطع العثور على كلمةٍ أكثر تطوراً تناسبُ مستوى ثقافتها الحالي، فهي في النهاية تتحدث إلى شقيقاتها، أمهاتها. وتصف مابولا التأثير العميق لكلمات شقيقتها في الرسالة القصيرة، حتى إنها أعادت قراءتها أكثر من مرة، تاركةً شعور الأمان يكسوها: «كيف هذا؟؟ نحن في الطريق!». تهيم مابولا بعلامتي الاستفهام، وعلامة التعجب، الآتيات من مُخلِّصاتها الحقيقيات.
عندما تصل الشقيقات، تكون الممرضة في الغرفة، ولا تعرف مابولا كيف تُخبر أخواتها أن هذه هي السيدة الشريرة، كيف تطلب منهنّ أن يأمرنها بالمغادرة. وتُفكر كثيراً بشأن اللغة. أي لغةٍ ستستخدم كي لا تسمع الممرضة، وهكذا تعود إلى لغةٍ قديمةٍ جداً: الديولا dioula، وهي لغةٌ إفريقيةٌ يتحدثها الناس في ساحل العاج وبوركينا فاسو ومالي؛ لغةٌ لا تثق مابولا أن الشقيقات سيفهمنها، لكنها في النهاية لغة الأم. وتصل الرسالة بأقل كلماتٍ مُمكنة، تستطيع أن تقولها مابولا وتلتقطها الشقيقات: «قولي للسيدة تمشي. أنا أكلْ معكن». هكذا، من دون أن تتمكن حتى من تصريف الأفعال بشكلٍ صحيح.
ما كان يُمكن لمابولا أن تكون مابولا لولا أولئك الشقيقات. إنها الأختية كسلاحٍ سحري، كما تُرينا.
متلازمة «السنفورة»!
مع ذلك، لماذا تبدو صورة الشقيقات السعيدات غريبةً علينا؟ ألم يحدث أن رأينا صراعاتٍ بين الأخوات -بالمعنى الحرفي والمجازي- وأحقاداً أو منافسة. هذه هي الكلمة، ربما «المنافسة»، والترجمة الشعبية لها هي «الغيرة». لكن الغيرة من ماذا؟ بكل تأكيد من اهتمام الرجال. في «الأختية»، تُحاول أوڤيد تفسير هذه الفكرة عن المنافسة.
وأوڤيد (Ovide) هي كاتبةٌ ومُخرجةٌ اهتمت مُبكراً بمُقاربة الأفلام البورنوغرافية من منطلق نسوي، وهي صاحبة فيلم بورنوقراطية (Pornocratie 2017)، الذي يبحث في تأثير دخول الأشخاص المُستقلين على صناعة البورنوغرافيا. بالإضافة إلى ذلك، تبحث أوڤيد في موضوع العنف الطبي الذي تتعرض له النساء أثناء الحمل والولادة.
تتعرض أوڤيد أولاً للعبارات الشائعة، وبالأخص عبارة: «إن أسوأ عدوٍّ للمرأة هو المرأة»، مُقررةً أن هذا النوع من الحجج غالباً ما يُستخدم لإضعاف النساء في المعارك التي تخضنها ضد البطريركية. وعلى فرض صحة هذا الحجة، تتساءل الكاتبة عن كيف ولماذا أصبح الحال هكذا؟ لماذا تخلّت النساء عن النساء، إن كان فعلاً قد حدث هذا التخلي؟ تقول: «إن الاحتفاء بنجاح امرأةٍ أخرى، ودعمها بشكلٍ تلقائي، والتعامل معها بكل مودةٍ يسير ضد كل ما تعلمناه منذ كُنا بناتٍ صغيرات. إنّ رفض أي محاولةٍ للتعاضد الأختي تمتد جذوره إلى مرحلةٍ مبكرة؛ لأن مجموع البيئة الثقافية التي تُحيط بنا تُلقننا منذ البداية قوانين المنافسة». لكن لماذا استسلمنا، نحن النساء، بهذه البساطة للفخ الذي نُصب لنا؟ تُجيب الكاتبة: «لأنّ الأختية ليست فطريةً، إنها تتطلب عملية تعليم. وعلى أقل تقدير فإنها تُجبرنا على نسيان ما تعلمناه من قبل، وعلى تفكيك ما درجنا عليه». ثم تستشهد أوڤيد بأغنيةٍ فرنسية هي «بسبب الأولاد» (À cause des garçons)، التي كانت تُغنيها مُغنيتان فرنسيتان هما لورنس إيلر وإلين بيرار. في هذا الدويتو، تقع صديقتان في غرام الرجل نفسه، ومن أجله يدخلان في حلقةٍ مُفرغةٍ من الصراع على جذب انتباهه. تشعر إحداهما بالتفوق على الأخرى، وتشعر الأخرى بالمهانة لذلك. كتب كلمات الأغنية رجلان (وهو ما يجعلنا نُفكر في تأثير هيمنة الرجال على صناعة الأغاني، لا في فرنسا فحسب، بل أيضاً في العالم العربي). أي أن الصراع هنا من صُنع رجال، لتمجيد رجال، بكل بساطة. ورغم أن الأغنية تنتهي بيقظة الصديقتين وانتباههما لحقيقة أنهما على وشك فقدان الرابطة بينهما (تحدث هذه اليقظة جزئياً بسبب أن الرجل موضوع الاهتمام لم يلقِ لهما بالاً، وهما في الأصل لا يعرفان حتى اسمه)، فإن أوڤيد تستخدمها كوسيلةٍ للحديث عن مُتلازمة السنفورة.
ولكن ما هي متلازمة السنفورة (Syndrome de la Schtroumpfette)؟ تُخبرنا ويكيبيديا الفرنسية أن الناقدة الأميركية كاثا بوليت (Katha Pollitt) كانت أول مَنْ اقترح المُصطلح في مقالٍ لها في النيويورك تايمز، في نيسان (أبريل) سنة 1991، وكانت تقصد به الأعمال الفنية، سواء التلفزيونية أو السينمائية التي يلعب أدوار البطولة فيها رجالٌ يتّسمون بتنوع شخصياتهم وأهدافهم، بينما تُقدَّم عادةً امرأةٌ واحدةٌ بينهم بصورة الجميلة التي تسعى لجذب اهتمامهم، وذلك هو الهدف الوحيد لوجودها. التسمية لهذا التقديم النمطي للمرأة، وتعود إلى كتاب الأطفال الشهير السنافر، حيث كان يعيش السنافر الذكور في عالمٍ منفردٍ يتمتعون فيه بسِماتٍ وألقاب متنوعة، مثل: بابا سنفور وسنفور الحالم وسنفور القوي وسنفور المفكر (أبو نظارة) وسنفور الأكول وسنفور الغضبان وسنفور الكسول… بينما هناك سنفورةٌ أنثى واحدة هي سنفورة الجميلة.
وحسب العمل الخيالي، فإن سنفورة هي من صنع يدي الساحر شرشبيل، الذي يبتدع لهم سنفورةً من أجل السيطرة على عالم السنافر الذكور. وإذ تجد الأخيرة نفسها في عالمٍ تحكمه قوانين السنافر الرجال، تسعى للحصول على رضاهم وقبولها بينهم عبر التخلص من قدراتها السحرية، وتغيير شكلها وصفاتها الأولى، فتخضع لعملية تجميل على يد بابا سنفور الذي يحوّلها إلى «دُمية شقراء جميلة». بعد ذلك، يقع السنافر جميعاً في حُبها، ويسعون إلى رضاها، وهو ما يحدد بوضوح الدور المطلوب منها، سواءً في القصة أو في الواقع: أن تكون جميلة. لكنه ليس أي جمال، إنه ذلك المُحدّد «بمقاييس الرجال». وعلى سنفورة، سواء الشخصية الخيالية أو الحقيقية، أن تحافظ على هذا الجمال وترعاه، فمن أجله فقط سوف تبقى آمنةً عندما تبقى مركز اهتمام الرجال.
هناك الكثير من السنفورات في الحياة الحقيقية. وتقول أأوڤيد إن اتّباع النساء لهذا النموذج، المحكوم عليه بالمحدودية منذ لحظة مولده، قد حدث بسبب الشعور بعدم الأمان بعيداً عن عالم الرجال الذي عاشته سنفورة في المرحلة التي تسبق خضوعها لعملية التجميل. غالباً ما تعني كلمة جميلة بالنسبة للنساء أنها مقبولةٌ مُجتمعياً، في حين أن هذا المجتمع ليس سوى مجموعة مُعينة من الرجال، وهذه هي الحلقة الجهنمية التي تدور فيها المرأة، ومن الطبيعي أن تكره في الأثناء نفسها، وبكل تأكيد أختها، التي يُمكن أن تنافسها على هذا الاهتمام.
«لا يُمكن لأيّ أختيةٍ أن تحدث في مجتمعٍ لا ترى المرأة مثيلتها سوى كخصم؛ مجتمعٍ لا يُمكن فيه للنساء سوى أن يُصبحن عدوات».
النسوية أشمل
تبدأ لورين باستيد (Lauren Bastide)، الكاتبة والصحفية، نصها باعتراف بسيط ومؤلم: «كان لي أخت لكنها ماتت. قتلها رجل. هذه هي المرة الثانية التي أكتبُ فيها عن الأمر في مساحةٍ للقراءة. ولم أكن لأفعل ذلك لو لم تحكِ كلويه ديلوم عن أمرٍ مشابهٍ في روايتها». تُشير لورين إلى رواية صيحة ساعة الرمل التي ورد ذكرها في بداية المقال.
من هذه المأساة؛ مأساة فقد الأخت، تعوّدت لورين باستيد أن تجعل من كل نساء العالم أخواتها. تقول إنها لم تتوقف منذ ذلك اليوم عن محاولة صناعة أختٍ لها، محاولةً تقديم كل حُبٍّ غير مشروط للنساء. ومجدداً تعود إلى كتاب كلويه: شقيقاتي العزيزات جداً، لكن هذه المرة كي تشتبك معه. غير أنها أولاً تقتبس منه تعاليم كلويه: «لا تتعمّدي أبداً إيذاء امرأةٍ أخرى، لا تنتقدي علناً امرأة أخرى، لا تُحرّضي على ازدراء أخرى. الأختية هي احتواء، بلا تراتبية ولا قانون أقدمية. إنها دائرة حامية، أفقية. ومع هذا الحُب، يأتي واجب: ألا تقولي أبداً كلمةَ غبية».
حاولت لورين بعد أن قرأت هذه الوصايا أن تضم معنوياً كل النساء، بمَنْ في ذلك اللواتي كانت تختلف معهن من قبل: «إيفانكا ترامب، جي كي رولينج، الحبيبة الحالية لرفيقي السابق، رئيستي السابقة السامّة والفتاة التي كتبت على تويتر: ‘لورين باستيد أكرهها’. ألا أقول أبداً غبية، أن أحب كل تلك النساء. هُنّ أيضاً. حتى هُن».
لكن لحظة.. لماذا يبدو أن هناك شيئاً غير مُريح في هذه الخلطة؟ سألت لورين نفسها، وحاولت أن تُجيب. أولاً، لأنها كانت توجه تعاطفها غير المشروط هذا لشقيقاتها وأشقائها، والأدلف العابرين جنسياً. ربما ليسوا نساءً مثلها. شعرت لورين بارتباط سري معهم. إنهن-م أيضاً سمعوا الكلمات المؤذية نفسها: «لا يمكنك أن تكون»، «لا يُمكنك أن تفعل». هكذا فضّلت الأدلفية ببساطة: «لأننا إن تحدثنا عن الأشخاص الذين تعرضوا لقهرٍ مُمنهج، فإني أريد أن أضم بين ذراعيّ الأشخاص المُعاقين، والفقراء، وبلا مأوى، والمعزولين، والمرضى، والمسجونين، والعجزة….».
هذه هي معركة النسوية في الواقع: «النسوية برنامجٌ سياسي، طُموحٌ محمومٌ لقلب النظام». لا يعني هذا أن لورين ستُلقي الأختية في البحر، فهي تعلم أنها زهرةٌ بريةٌ نبتت في أرض النسوية النبيلة. وتنتقل لورين إلى الكاتبة السوداء الأميركية بيل هوكس (bell hooks) في نصها «الأختية: التضامن السياسي بين النساء» (Sisterhood: Political Solidarity between Women 1986)، في أن على الأختية أن تكون شيئاً آخر غير التعاطف الرخو. وتتحدث بيل هوكس عن إساءة الاستخدام المُتعمد لتعبير «القمع المشترك»، في معركة النسوية، وتستشهد هي الأخرى بكاتبة أفرو-نسوية هي أودري لورد (Audre Lorde) التي قالت بدورها: «إن التأكيد على أن النساء يخضعن للقمع نفسه، لأنهن ببساطة نساء، يعني تجاهل أن هناك نساء تستُخدم بكامل لا وعيهن كأسلحةٍ بعضهنّ ضد البعض». في هذه الحالة، أُسكِتت أهمية شروط الطبقة والعرق والجنسانية، وحالات الإعاقة من أجل الانتصار لفكرة واحدة: أن القمع القائم على الجنس هو المُحدد الأهم.
هنا، نحن نطلب من النساء الأكثر عُرضة للقهر ألا يقولوا كلمةَ «غبية»، حتى لو كان مَنْ يقهرهن هي مُديرةٌ امرأة، حتى لو ضقن بتحرشٍ من امرأة، بإيذاءٍ من طبيبةٍ أو عُمدةٍ امرأة. وحتى ونحن نرى أن مَنْ تخدم أهداف البطريركية قد تكون وزيرةً امرأة. تصرخ لورين: «لا، عذراً، نحتاج أحياناً لقول غبية. غبية».
لكن لورين ما زالت تريد شيئاً من الأختية؛ شيئاً فعالاً. وهذه المرة تستعين بأدريان ريش (Adrienne Rich) في نصها «الإلزام بالغيرية الجنسية» (La Contrainte à l’hétérosexualité) التي تشرح أن البطريركية تحكمُ عبر تصورٍ واحد، وهو أن المرأة لا يُمكن أن تُحب سوى رجل، ولا يمكن أن تعيش سوى مع رجل: «كيف حدث للاختيار الذي اتخذته النساء بأن تُحب نساء أخريات كزميلات أو كعشيقات، بأن يتقاسمن حيواتهن، شغفهن، عملهن، أن يعشن معاً، كيف دُهس هذا الخيار، كيف أُلغي، كيف حُكم عليه بالسرية أو الكذب».
تُكمل لورين كلام أدريان: «النساء اللواتي أُحرقن في القرن السادس عشر كُن النساء الوحيدات، العازبات، الأرامل أو اليتيمات». بهذه الطريقة، لم يُقلّل من أهمية علاقات الغرام بين النساء فحسب، لكن أيضاً من قدر الصداقات العميقة بينهن، ومُحي كلُّ أثرٍ لها من التاريخ الرسمي. بالمثل «طُمرت الرغبة المثلية بينهن، إمكانية أن يُمتعن بعضهنّ البعض، حتى هذا طُمر، حوّلوه إلى شيءٍ شاذٍّ نفسياً، أو إلى خيالٍ في أفلام البورنو».
هل ما زالت هناك خياراتٌ أمام النساء؟ نعم، هناك في الأفق أختيةٌ ممكنة. تهبنا أدريان ريش وصاياها: «القراءة، الفهم ومشاركة أفكار النساء، التظاهر، الدعم، الإصغاء، فهم الغضب ومشاركته، نشر الأسماء، التخلي عن المكان لامرأةٍ أخرى…». إن الأختية، وفقاً للورين باستيد، هي ثورةٌ نسوية؛ مشروعٌ يُثمر شيئاً ما.
لأنه، كما تقول فاليري سولانس (Valerie Solanas): «تعرفُ النساء بالغريزة أن الشرَّ الوحيد هو إيذاء الآخرين، وأن المعنى من الحياة هو الحُب».