بعد العام 2011، وفي خضمّ اللحظة الثورية وما تلاها من حروب وشتات وهزائم، انصبّ اهتمام العديد من الباحثين-ات في المنطقة العربية على الأرشيف واستعادته من أيدي المؤسسات الرسمية التي احتكرت ملكية المواد الأرشيفية، محتكرة بالتالي السرديات التاريخية لما كان يحدث ثقافياً وفنياً واجتماعياً، ومحتكرة عملية إعادة تقديمها بما يتناسب مع إيديولوجيات كانت تستند عليها. ولنا أن نتخيل كمَّ السير الذاتية التي طُردت من الأرشيف لأسباب سياسية أو اجتماعية، أم الكمّ الهائل من الإنتاج الثقافي والفكري الذي لم يحظَ بفرصة الأرشفة لأسباب سياسية سلطوية أو إيديولوجية أو أبوية، أو ببساطة نتيجة قصور معرفي بخصوص أهمية هذا النتاج الثقافي والفكري أو ذاك. كما أن زيارة أرشيف مؤسسات الدولة الثقافية وضمان حرية الوصول إلى المواد المؤرشفة، دون التعرض للمساءلة أو خطر مواجهة تُهم أمنية، قد تكون أقرب إلى حلم بعيد المنال بالنسبة لكثير من السوريين-ات في اللحظة الحالية. ولهذه الأسباب، بدأت العديد من المؤسسات الثقافية العمل على جمع الأرشيف الثقافي السوري وضمّ نتاجات ثقافية إليه، واتّباع معايير أكثر حداثةً وديمقراطيةً في إعادة بناء وجمع هذا الأرشيف.
مؤسسة دوزان ثقافة وفن
ومن هذه المؤسسات مؤسسة دوزان ثقافة وفن، وهي مؤسسة سورية تأسست عام 2019 في تركيا، و تختصّ بالعمل على حفظ التراث والأرشيف الثقافي للسوريين في سوريا وخارجها. أولى برامج مؤسسة دوزان كان نوطة، وهو برنامج يُعنى بجمع أرشيف الموسيقى العربية والكردية والسريانية في المناطق السورية المختلفة. وقد نجح فريق العمل خلال السنوات القليلة الماضية بجمع أكثر من 3500 نوتة موسيقية وأرشفتها وتحويل أكثر من 380 نوتة منها إلى نوتات رقمية متاحة عبر المنصة، التي تجمع مقالات عن الموسيقى وسيراً ذاتية لموسيقيين سوريين، وأرشيفاً مرئياً يضمّ إنتاجاً بصرياً من ورشات عمل حديثة أنجزت مع مشتركين ومهتمين بالموسيقى، منها أغاني الحقول التي كانت حصيلة لقاءات أنجزها مختصون بالأمن الغذائي مع فلاحين وفلاحات من سوريا، لجمع أغاني الحقول القديمة والتراثية واستعادتها في فيديوهات موسيقية. تستعدّ مؤسسة دوزان اليوم لإطلاق برنامج جديد بعنوان الخشبة، يُعنى بأرشفة المسرح السوري.
التقينا بكل من رامي مغاربة مؤسس دوزان وياسر أبو شقرة منسق برنامج الخشبة لأرشفة المسرح السوري للحديث أكثر عن أهداف البرنامج الجديد، وآلية العمل التي استمرت قرابة العام لإعادة جمع الأرشيف المسرحي السوري، وتطلعاتهم لتنشيط هذا الأرشيف وجعله حيوياً وفعالاً بين السوريين-ات اليوم.
برنامج الخشبة
سيتم إطلاق الموقع برنامج الخشبة في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري 2022، وقد تم بناء البرنامج على نحو مشابه للطريقة التي تم بها بناء برنامج نوتة، لكن مع اختلافات فرضها الفارق في نوع المادة المؤرشفة بين النوتات الموسيقية وبين النصوص المسرحية والعروض المصورّة. وقد تحدّثَ الكاتب المسرحي ياسر أبو شقرة في لقائنا معه عن ضخامة وصعوبة جمع أرشيف المسرحي السوري: «عندما أخبرني رامي عن نيته بالعمل على أرشفة المسرح السوري، شعرتُ بداية أن المشروع هائل. أرشيفُ المسرح السوري واسعٌ ومبعثر للغاية، وقبل أن نبدأ، علينا أن نعيد تعريف شيئين، أولاً ما هو المسرح اليوم؟ وثانياً ما هو الذي يمكن أن يصنّف سورياً اليوم بالنظر إلى واقع الشتات في العشر سنوات الأخيرة؟ وهذه الأسئلة كانت موجودة أيضاً في ذهن صانعي-ات المسرح اليوم، وبدأنا تدريجياً بإيجاد أجوبتنا من خلال المشاركة والحديث معهم-نّ». ولمّا جرت العادة أن يُصنَّفَ الأرشيف حسب السنوات والحِقَب، أخبرنا ياسر عن صعوبة جمع أرشيف مسرحي لحقبة معينة أو سنة محددة عندما نتعامل مع الأرشيف المسرحي السوري شديد التبعثر: «لا نملك ترف تحديد الحقبة أو السنة، إذ وجدنا في برنامج الخشبة أنه علينا فعلياً أن نؤرشف كل ما نصل إليه من نصوص مسرحية وعروض». نجح برنامج الخشبة بجمع حوالي 400 عرض مسرحي ستُنشر تباعاً على الموقع، والعشرات من النصوص المسرحية والأبحاث والمقالات.
أبواب الخشبة ومستويات الأرشفة
على المنصة الإلكترونية لبرنامج الخشبة ستجدون مجموعة خيارات لبدء رحلة التصفّح. الباب الأول سيكون مخصصاً للعروض المسرحية المتاحة ويمكن مشاهدتها على الموقع مع الحفاظ على فكرة أنها ليست منصة مشاهدة بل منصة أرشيف، لذلك قد تتوفر مجموعة معلومات عن العروض المسرحية دون تَوفُّر العرض المسرحي بعينه، وفي الحالة المُثلى، سيجمع هذا الباب بطاقة العرض المسرحي وجميع المعلومات التي تخص فريق العمل والإنتاج، والفيديو التشويقي «التريلر» في حال وُجِد والعرض المسرحي. أما الباب الثاني فهو مخصص لجمع النصوص المسرحية المنشورة والمتاحة للقراءة في حال كان لدى المنصّة حقوق نشرها، أو المعروضة للشراء مع رابط الشراء. كذلك هناك النصوص المسرحية غير المنشورة لكن أصحابها يرغبون بنشرها، أو معلومات عن نصوص مسرحية مؤرشفة لكنها غير متاحة للجمهور. الباب الثالث، مخصص لجمع مقالات وأبحاث مسرحية، مع العمل على إمكانية ترجمتها للإنكليزية مستقبلاً. والباب الرابع سيكون بمثابة قاعدة بيانات وسير ذاتية لصانعي-ات المسرح السوريين-ات، أما الباب الخامس فهو بمثابة مساحة تستضيف العروض التي يرغب أصحابها ببثها عبر المنصة.
ولكن ما هو الفارق بين عمليتي ضمّ المواد للأرشيف وإتاحتها من قبل المشروع؟ تحدّثَ لنا ياسر أبو شقرة عن وجود مستويات مختلفة من الأرشفة التي تتبعها منصة الخشبة: «مستويات الأرشفة المتبعة في منصة الخشبة تنقسم إلى مرحلتين، الأولى جمع المواد الأرشيفية وتنسيقها والتأكد من دقة معلوماتها، والمرحلة الثانية إتاحة هذه المواد للجمهور والمهتمين بالمسرح السوري. هناك بعض النصوص التي نمتلك حقوق نشرها، ،أخرى ليس لدينا الحق بنشرها أو أن أصحاب العمل المسرحي لا يحبذون النشر لعدّة أسباب. وعندما كُنت أتواصل مع صانعي-ات المسرح، كنت أطلب منهم أن يرسلوا لنا مبدئياً جميع أعمالهم المسرحية، وذلك لسببين، الأول تنظيمي، وهو جمع الأعمال وأرشفتها في مكان واحد، بغض النظر عن إمكانية نشر هذه المواد أم لا، أما السبب الثاني فهو أن مؤسسة دوزان استطاعت خلال الأعوام الأربعة الماضية تطوير طريقة حديثة لحفظ الأرشيف الرقمي على عدة سيرفرات وضمان عدم ضياعه. هذا الأمر الذي سيجنبنا مستقبلاً العودة إلى لحظة 2011 وما قبلها، عندما فقد كثيرون أرشيفهم الشخصي. الآن يمكن لصانعي-ات المسرح أن يحفظوا أرشيفهم المهني والشخصي في مكان واحد، والتواصل معنا في حال أصاب هذا الأرشيف أي ضرر لأيّ من الأسباب».
أرشيف حيّ وبديل
تسعى مؤسسة دوزان ثقافة وفن، سواء في برنامج نوتة لأرشفة الموسيقى السورية، أو برنامج الخشبة لأرشفة المسرح السوري، إلى خلق أرشيف حيّ وبديل لأرشيف المؤسسات الثقافية الرسمية مثل التلفزيون السوري والمديرية العامة للمسارح. أرشيف يمكن أن يصل إليه جميع السوريين-ات داخل وخارج سوريا، مع ضمان حمايته وإمكانية التفاعل معه.
بحسب ما يُوضح لنا رامي مغاربة عن مفهوم الأرشفة الحية: «لا ننوي القيام بالأرشفة لمجرد الأرشفة. صحيح أن جمع الأرشيف وتوثيق الذاكرة الثقافية السورية هو هدفٌ أساسي من أهداف المؤسسة، لكن الأهم من هذا هو كيف يمكننا أن نستخدم هذا التراث والأرشيف. لا ننوي جمع الأرشيف ثم نسيانه. نسعى لأرشفة فعّالة مبتكرة، سواء بالأدوات أو طريقة الاستخدام، لذلك فإن الإتاحة للجمهور بحسب الإمكانية هو هدف أعلى بالنسبة للمؤسسة، وكذلك تشجيع الناس بكافة اهتماماتهم على التفاعل مع هذا الأرشيف مجدداً. أما المستوى الآخر الذي نعمل عليه، فهو تدريب المهتمين بالموسيقى والفنون من الشباب والأجيال الجديدة، من خلال تزويدهم بأدوات معاصرة وحديثة لإنتاج وتطوير أفكار فنية جديدة. نخبرهم أن لدينا هذه المصادر التراثية والتاريخية، ولهم حرية الابتكار سواء بالاستناد على هذا الأرشيف أم لا».
الأرشيف يتسع للجميع
بعد قيام الثورة السورية، تعرّضَ المشهد الثقافي السوري لشرخ هائل في تصنيف مجمل المنتجات الثقافية بحسب انقسامات سياسية جوهرية لا يمكن تجاهلها، أو انقسامات بسبب الموقع الجغرافي الذي يتوزع فيه النتاج الثقافي السوري في دول الشتات المختلفة. سألنا كلّا من رامي وياسر عن تصوراتهما، وعن المعايير التي تم الاعتماد عليها في أرشفة عروض مسرحية تمثل توجهات سياسية مختلفة. يقول ياسر: «من المهم للغاية أن نؤرشف ما تنتجه اليوم مؤسسة السينما أو مديرية المسارح، من المهم توثيق هذه المواد، وإمكانية العودة إليها لنقل بعد عشرين عاماً، ومن دون إقحام توجهاتنا السياسية كأفراد. لا يمكننا تجاهل حقيقة أن سنة إنتاج عرض هي بحد ذاتها مُحدِّدٌ سياسي. لم يكن السؤال السياسي حول الأرشيف بالنسبة لي متمحوراً حول المقولة السياسية للعروض والنصوص المسرحية، بل هو عن الحقبة التي أُنتجت فيها هذه العروض، وكيف يمكن فهمها عند العودة إليها في حقبات تاريخية مختلفة».
ويؤكد كلٌّ من رامي وياسر على فكرة أن الأرشيف ليس ملك المؤسسات بل هو ملك لجميع السوريين-ات أينما كانوا، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والهوياتية، أما إتاحة هذا الأرشيف والتفاعل معه فمن شأنه أن يخلق مساحة للجدل ومساءلة ما الذي كان يحدث في حقبة تاريخية ما، وكيف يمكن فهمه اليوم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً؟ وبالإضافة إلى جميع التوظيفات المعرفية التي تمت الإشارة إليها، يؤكد رامي مغاربة أنه وفي ظل الانقسام الحالي، لم يبقَ اليوم ما يجمع السوريين إلا ذاكرتهم الثقافية، وهذه هي الحاجة التي انطلقت منها برامجُ دوزان لحفظ التراث والذاكرة الثقافية السورية.
بالإضافة إلى ضرورة حفظ هذه الذاكرة، لا ننسى حاجتنا كأفراد، في ظل واقع الشتات والانقسام السياسي الحاد، إلى نقطة مرجعية يمكن أن نستند إليها، سواء كانت تعود لحقبة تاريخية أقدم أو كانت من تاريخنا المعاصر، وتعيد لنا ملامح من ذاكرتنا ومعالم من هوية ثقافية تمرّ بأقسى تحولاتها.