في روايتها إله الأشياء الصغيرة، ربّما كتبت أرونداتي روي أكملَ روايةٍ كتبها كاتب هندي باللغة الإنكليزية وأكثرَها إثارةً. وهي تضاهي بجدارة زفرة المغربي الأخيرة التي نشرها سلمان رشدي بعد عشرين سنةٍ من ممارسة هذا الفن، وهناك مشكلة في نهايتَي الروايتين على حدّ سواء. وربما كانت رواية روي هي الرواية الأكثرَ تميّزاً بين الروايات الأولى. يتبادر إلى الذهن هنا النصف الأول من أطفال منتصف الليل وليس النصفَ الأخير، إذ تعوّضُ رواية روي بالضبط والتكثيف عمّا تخسره بتقليل الحجم والمقدار. ولإيجاد أيّ شيء جدير بالمقارنة، علينا المضيّ إلى لغةٍ هنديةٍ أخرى، ومجموعةٍ أخرى من الأعراف الشكلية، ومجموعاتٍ أخرى من القناعات الاجتماعية والسياسية، وإلى حيّز زمني أسبق من هذا الحيّز الذي هو العقد الختامي الكارثي لقرننا العشرين، ومختلف عنه.
هذا مديحٌ رفيعٌ بالفعل. ومع ذلك، فرواية روي هي روايةٌ تَصعُبُ الكتابة عنها، بسبب مزيجٍ غريبٍ من الإنجاز منقطع النظير والعيوب الجسيمة حقاً. سنقدّمٌ أوّلاً بعض التعليق المفصَّل على الجوانب الإشكالية للكتاب. ولاحقاً، بعدئذٍ، سنعود إلى السؤال الأكثر صعوبة: كيف يسعنا أن ننظر إلى هذه الرواية بثقة على أنّها قد تكون الرواية الأكثر صقلاً من بين ما حظينا به في اللغة إلى الآن، على الرغم من تلك المشكلات الخطيرة فيها.
لا تخلو الروايات جميعها من عيوب، وفي هذه الرواية ثلاثة عيوب مهمّة؛ أسهلها تجاهلاً هو أنّ في هذه الرواية، التي غالباً ما ضُبطَ فيها الشكل واللغة بإتقان، ثمّة الكثير مما كُتب بقلق، فزِيدَ في تنميقه. هناك، كما قالت بعض المراجعات، استعمالٌ للحروف الكبيرة أكثر مما ينبغي! لكنّ تنميق روي لا يُنتِجُ تلك التأثيراتِ المألوفةَ للغاية في كثيرٍ من القصّ الهندي المكتوب بالإنكليزية: الأسلوب المتكلَّف، على طريقة دروس الإنشاء، أو، بشكلٍ أكثر ضرراً، ذلك النوع من الغرائبيّة الشائع تماماً في كثير من الأدب الهندي المكتوب بالإنكليزية، ونجده حتى في أدب رشدي في بعض الأحيان، وذلك لأنّ الجمهور غير الهندي كثيراً ما يخطر في ذهن الكاتب. أمّا رواية روي فتخلو مما هو عجيب وظريف وغرائبي، لكنّها في بعض الأحيان قد تخسر المعركة، مع نفسها، بسبب العاطفيّة.
العمل مُترعٌ بالعواطف، بالفعل، ويدور قدرٌ كبيرٌ منه حول سوء النيّة والسلامة العاطفية، حتى إنّه كثيراً ما يبدو مثل معركةٍ لتعليم المرء من خلال نزوعاته العاطفية. وروي غالباً ما تكسب هذه المعركة، لكنها تخسرها في بعض الأحيان، وعادةً ما تكون علامة الخسارة هي حالات التكرار. ليس المقصود أنَّ جميع تكراراتها عاطفية! إذ لديها في أغلب الحالات أذنٌ لا تخطئ، وهي تعرف بشكلٍ أساسي كيف تجرّ القارئ إلى تلك الشبكات المعقدة المحبوكة بشذرات من اللغة العادية التي تبدأ الغناء في آذاننا ما إن تلتقط، مع كلّ تكرار، شحنةَ السرد العاطفية الكاملة. وذاك، للأسف، لا يحدث دائماً. فالكثير الكثير من النثر في الأقسام الوسطى، وبعضه نحو النهاية، يميل، بدلاً من ذلك، لأن يكون مُعاداً أو رتيباً أو مزخرفاً.
يبقى هذا عيباً طفيفاً، ولا نذكره إلّا لأنّ كثيراً من الإنجاز يكمنُ حقّاً في البناء الشكلي. والعيب الأكثر جدّيّةً هو في الطريقة التي تُسمسِر بها الرواية لعاطفة العداء للشيوعية السائدة، ما يُلحِق الضرر بالرواية أيديولوجياً وشكلياً على السواء. وإحدى نقاط القوة الأساسية لدى أرونداتي روي هي أنّها كتبت روايةً تعلّمت كلَّ ما يجب تعلّمه من الحداثة والواقعية السحرية والقطع السينمائي والمونتاج وغير ذلك من التطوّرات في تقنية السرد في القرن العشرين، لكنّها تبقى مع ذلك روايةً واقعيةً في جميع سِماتها الجوهرية. فهي تعرف ما يعرفه القصّ الواقعي على الدوام: الحب، الأسى، التذكّر، الضرورة المطلقة لحضور مظهر الصدق في تصوير الزمان والمكان والشخصية، بتلك الدقّة التي تجعلنا قادرين على أن نقرأها، نحن الذين نعرف أنّها قصٌّ وتخييل، باعتبارها أقرب أقرباء الحقيقة المحتملين. وهي تُفلح طالما أنّها تحكي حكايةً خصوصيةً في شكلٍ هو أساسيّاً ملحمة عائلية مصغّرة. لكنّ حدود التجربة الخصوصية تبدو كأنّها حدود واقعيّة روي أيضاً. ومعارضتها الإيديولوجية للشيوعية ليست مفاجئة بحدّ ذاتها؛ فهي إلى حدّ بعيد علامة على العصر، بمعنى أنّ العداء للحركة الشيوعية أصبح الآن شائعاً ما بين الأقسام الراديكاليّة من الإنتيليجنسيا الكوزموبوليتانية، في الهند وخارجها. المفاجئ والغريب في الأمر هو أنّ روي، إذا ما حكمنا من خلال الرواية، ليس لديها العطف على السياسة الشيوعية ولا المعرفة الأشدّ بدائية عنها.
وهذا مفاجئٌ أكثر إذ يأتي من شخصٍ ينحدر من ولاية كيرالاتقع ولاية كيرالا في الجنوب الغربي من الهند. في 1957، فاز الحزب الشيوعي بقيادة إ. م. س. نمبوديريباد بالانتخابات هناك. منذ ذلك الحين وتحالفات بقيادة الشيوعيين أو حزب المؤتمر تتناوب على السلطة خلال الدورات الانتخابية للجمعية التشريعية. (م) ولديه ذلك العطف المرهف على كثير من الأشياء الأخرى هناك، من المناظر الطبيعية إلى أساليب الاضطهاد أو الحياء أو المودّة؛ ومن فتاة يافعة بما يكفي لأن تكون قد عاشت حياتها كلّها تقريباً بعد انتخاب إ. م. س. نمبوديريباد، الذي تكتفي بهجائه، لأوّل مرة كرئيس لوزراء تلك الولاية. لا يمكن لهذا الابتعاد العاطفي عن عالم الشيوعية أن يكون ناجماً عن افتقار روي إلى الذكاء أو الخيال؛ إذ يبدو في كلّ شيءٍ آخر في الكتاب أنّ لديها منهما الكثير. ولعلّ العداء الإيديولوجي المقيم هو الذي يؤدّي إلى عجزٍ متأصلّ عن تخّيل ما تزدريه بذلك القدر من الحماسة.
لكنّ روي تدفع، كفنّانة، ثمناً باهظاً لعداءٍ لدود. وذلك بطرائق ثلاث: أوّلاً، هناك انهيار الواقعية ذاتها، وهي الفضيلة الشكلية الأساسية في الكتاب. فالمكان الوحيد الذي صُوِّرَ فيه الصراع الطبقي بإحساسٍ حقيقي بالحالة هو الفصل الثاني، حين علقت سيارة العائلة وسط مظاهرة شيوعية. ومما له دلالته أن ما يسعها تصويره على نحوٍ خلّاق ومؤثر في هذا المشهد هو الرعب الذي شعرت به النساء في داخل السيارة؛ أمّا الجانب الآخر من هذا الصراع، أي العمال المضربون، فيبقى بالنسبة إليها كتلةً مبهمة، باستثناء شخصية فيلوثا الذي تلمحه راهيل لِوهلة. ويبلغ من إبهام تلك الكتلة أنَّ القارئ يفهم أنَّ المظاهرة قد نظّمها الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) الحاكمالحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) هو أكبر حزب شيوعي في الهند من حيث العضوية والمقاعد الانتخابية وأحد الأحزاب الوطنية في الهند. ظهر الحزب من انقسام في الحزب الشيوعي الهندي في 7 نوفمبر 1964. هو جزء من التحالفات الحاكمة في ولايات هندية مختلفة (كيرالا، بيهار، تاميل نادو) لفترات مختلفة، وله تمثيل في المجالس التشريعية في 9 ولايات. كي يطالب العمّال بإصلاحاتٍ صغيرةٍ مثيرة للشفقة ليس إلّا، وأنّ «الشغف» الذي يحوم في الأرجاء هو «الناكساليت»،الناكساليت، Naxalite، تسمية عامة تُطلَق على عديد من الجماعات المتمردة والانفصالية المتشددة ذات التوجه الماوي التي عملت بشكل متقطع في الهند منذ أواسط ستينيات القرن العشرين. اشتُقَّ اسم الناكساليت من بلدة ناكسالباري في أقصى شمال ولاية البنغال الغربية في شمال شرق الهند، وكانت مركزًا لانتفاضة الفلاحين القبلية ضد الملّاك المحليين في عام 1967. ذلك المصطلح الذي يؤدي جميع الأغراض في قصّ روي.
بل إنَّ الإبهام ذاته يطاول حتى فيلوثا. إذ يُقال لنا إنّه رفيق لبيلاي، منظَّمٌ وعضوٌ في الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) الذي تصوّره الرواية كحزبٍ من الخونة، إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ ولكن حين تقول راهيل لآمو إنّها رأته في تلك المظاهرة التي نظّمها الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي)، تأمل الأخيرة أن تكون الطفلة على حق وأن يكون فيلوثا من «الناكساليت»، ثوريّاً حقيقياً، وهذه «إشاعة» تنقلها بيبي كوشاما إلى ضابط الشرطة، إنّما بعاطفةٍ معاكسة. ويتّخذ هذا الانهيار للواقعية في تصوير العالم الشيوعي، وما يصاحبه من بلاغة الإدانة المطلقة، أشكالاً غريبة. فتصوير الرفيق بيلاي الذي يُفترَض أنّه شخصيةٌ خياليةٌ ترمز إلى فساد الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) وتتواطأ في الاعتداء المجرم على فيلوثا، هو تصويرٌ يتاخم حدود المسخرة. وتنتمي الإشارات إلى نمبوديريباد، وهو شخصية تاريخية حقيقية وذو حضور شاهق في كيرالا وخارجها، ذلكَ الانتماءَ المباشرَ إلى عالم التشهير وتشويه السمعة. ببساطة، ليس صحيحاً أنّ منزل أسلافه يقع في أي مكان قريب من كوتايام؛ أو أنّه حُوِّل إلى فندقٍ سياحي يعمل فيه الشيوعيون كنوادل. أن تُسمّي شخصيةً تاريخيةً فعلية ثم تنسب إليها صنوفاً من الانحطاط لا تمتّ للواقع بصلة، هو أمرٌ لا علاقة له بما يجوز للفنّ. بل هو حقد، خالص وواضح.
هذه الطرائق في تصوير عالم الشيوعية لها أهميتها عند اليساريين. إذ لم يعد الراديكاليون المناهضون للشيوعية بين الإنتيليجنسيا الكوزموبوليتانية يهتمون بأي خطٍّ فاصلٍ بين ما يمكن وما يجب انتقاده في سلوك الأحزاب اليسارية، من جهة، وما هو مجرد تلفيق حاقد، من جهةٍ أخرى. لكنّ الأمر الذي يجب أن يهتمّوا به أيضاً هو أنَّ فضيلة الأدب الواقعي الجيد تكمن في أنه يسعى إلى تصوير العالم بشكلٍ واقعي، بحيث يمكن للمُنْتَج الأدبي أن يسمو فوق تحيزات الكاتب الإيديولوجية. وما حدث في حالة أرونداتي روي هو العكس. إذ يسيطر تحيزها الإيديولوجي ويحوّل التزامَ الواقعيّ مظهرَ الصدقِ إلى هراء. ومما له دلالته أنَّ هذا هو الموضع الوحيد الذي يتداعى فيه هذا الالتزام بهذه الصورة الدراماتيكية.
ليس التصوير الدقيق للشيوعيين، بأي حالٍ من الأحوال، شاغلاً من شواغل الكاتبة أو قرّائها الأساسيين، سواء هنا أو في الخارج. ومن هذا المنظور، فإن العيب الكبير الثالث في الرواية، العيب المتعلق بالطريقة التي تصور بها قضايا الكاستالـcaste مجموعة محدّدة من الأشخاص ضمن شكل من أشكال التناضد (التراتب) الاجتماعي يتّسم بسيادة نظام الزواج الداخلي، والعضوية المتوارثة، وأسلوب معين من الحياة قد يشتمل في بعض الأحيان على التخصص المتوارث في مهنة معينة، وعادةً ما ترتبط هذه المجموعة بطقوس متميزة تدلّ على المكانة في إطار نظام تراتبي يستند إلى فكرتيّ الطهر والنجاسة الثقافيتين. ونظراً إلى صعوبة إيجاد مفردة أو عبارة عربية تحيط بأبعاد هذا النظام المتعددة، نقلت المفردة الأجنبية حرفياً: كاست. (المترجم) والسلوك الجنسي، لا سيما الأنثوي، وتحلّها، هو الأكثر ضرراً، لأنَّ الرواية تقِيم ادّعاءَها الخَرْقَ والجذريةَ على قضايا الكاست والحبّ الجسدي تحديداً. ويبدو أنَّ رجلاً مستقيماً في كيرالا رفع قضيةً ضد روي بتهمة أنّها وضعت كتاباً إباحياً. لكنّ هذا المواطن لا يعلم أن مشكلة تعامل أرونداتي روي مع السلوك الجنسي لا تكمن في أنّها إباحية، بل في أنّها تقليدية تماماً، حتى إنّها لا يمكن أن تدهِش أحداً معتاداً على قراءة القصّ الإنجليزي أيّ اعتياد.
التشابك بين الكاست والسلوك الجنسي هو بالفعل المركز الإيديولوجي للرواية، وادّعاء الخرْق في هذا المجال هو على وجه التحديد ما يفسّر كثيراً من شعبيتها. لعلّه ليس معلوماً ولا مهماً لدى قرّاء الرواية الأساسيين أنَّ الجنس بين الكاستات ليس محرّماً ولا هو بالموضوع غير الشائع في القصّ الهندي المكتوب بلغاتٍ أخرى. وما يجب أن يستوقفنا بعض الشيء هو مسألة أعراف القصّ الأوروبي الشهيرة التي تعتمد عليها ذلكَ الاعتمادَ الذي يكاد يكون كلّياً معالجةُ روي لهذا الموضوع، بما فيها من خرْق في الظاهر.
شهدت الحداثة الأوروبية عموماً، والعالم ما بعد الفرويدي خصوصاً، انتشاراً هائلاً لخطاباتٍ عن السلوك الجنسيّ باعتباره المجالَ الأخيرَ للّذة والحقيقة على السواء، لأنّه منطقة الخبرة التي يكتشف فيها البشر ما هم عليه حقّاً. وهذا ما جعل السلوك الجنسي شاغلاً رئيساً في كثير من القصّ الأوروبي الأميركي، لا سيما منذ حوالى العقد الثاني من القرن العشرين، بدرجاتٍ متزايدة من الصراحة. وقد اعتُبرَت هذه الصراحة مكسباً في الجرأة الفنية، والواقعية، والتجربة الموثوقة، وتجاوز القيود الاجتماعية القمعية وما إلى ذلك. وتَرِثُ روي جوانب رئيسة من هذا الانشغال بـالسلوك الجنسي.
هناك، أوّلاً، موضوع خصخصة كلّ من اللذة والسياسة، ما يؤدي من ثمَّ إلى تفخيمٍ لا حدّ له للعلاقة الإيروتيكية في الحياة البشرية، باعتبارها لحظةً طوباوية من الخرق الخاص واللذّة الشديدة إلى حدّ أنّها تتعالى على جميع الصراعات الاجتماعية الطبقية والكاستية والعرقية. لكنّ هذا التفخيم للّقاء الجنسي، باعتباره منطقةً حقيقيةً إنسانيةً متعالية، عادةً ما يكون مصحوباً، كما لاحظ لوكاش قبل أيّ أحد آخر، «باختزال هائل للعلاقات العاطفية والإيروتيكية إلى تفوّق السلوك الجنسيّ القضيبي» مع موضوعه الملازم الذي هو المرأة باعتبارها الجميلة النائمة التي تنتظر أمير الأحلام أن يأتي ويوقظ سلوكها الجنسيّ المكبوت، وهذا ثانياً. أمّا ثالثاً، فهذه الطوباوية المتمركزة على القضيب تكون بالطبع أكثر لذّةً إذا ما خرق الشركاء فيها حدوداً كحدود الطبقة والكاست، لكن خطاب اللذة هذا، في بنيته العميقة، سياسيٌّ بعمق أيضاً، وذلك تحديداً بمعنى أنّه يصوّر الإيروتيكي على أنّه الحقيقة التي تنبذ أيضاً حقل السياسة القائم بالفعل، إمّا باعتباره بلا أهمية أو باعتباره منطقةَ سوءِ نيّة.
في تراثِ مثل هذا القصّ، تُعدّ رواية د. ه. لورنس عشيق الليدي تشاتيرلي أساسية، لا لأنّها حُظرت طويلاً بتهمة الإباحية، بل لأنّها تجمع كثيراً من العناصر الأساسية لهذا النوع الأدبي. هناك الليدي تشاترلي نفسها، المرأة التي تنتمي إلى الطبقة العليا وذات السلوك الجنسيّ المكبوت؛ وميلورز، حارس الطرائد والطيور الذي ينتمي إلى الطبقة الدنيا وحارس الدوافع المتمركزة على القضيب؛ ولحظة اللقاء والصحوة التي تأتيهما لا كقرارٍ بل كانفجار مفاجئ؛ والافتقار الواضح للكلام الذكي بينهما باعتباره أمراً أساسياً بالمطلق لبناء اليوتوبيا الإيروتيكية العابرة للحدود الطبقية؛ والنهاية السعيدة التي تصير فيها الليدي من العامّة وتستعد للاستقرار في حياة عائلية ونعيم إيروتيكي. هذه الرواية هي من ضمن المعتَمَد الأدبي المكرَّس، لكنها ليست فريدةً بأي حالٍ من الأحوال. ثمة تنويعات كثيرة. وقد ترك إ. م. فوستر، المعروف بالنسبة إلينا بروايته رحلة إلى الهند، روايةً عنوانها موريس، حُوِّلَت مؤخّراً إلى فيلم ناجح، تقدّم تنويعاً على تلك الحبكة عن اليوتوبيا الإيروتيكية العابرة للحدود الطبقية في عالم المثليين. ويتناول فيلم حنيف قريشي الشهير، مغسلتي الجميلة، كل ذلك، لكنّه يعمد من ثمَّ، بالأسلوب الانتصاروي المألوف، إلى تصوير اليوتوبيا المثلية على أنّها المنطقة التي تتبخّر فيها الصراعات الاجتماعية بين المهاجرين السود وحليقي الرؤوس البيض العنصريين. وهذه أمثلة عشوائية من القصّ البريطاني ويمكن أن نضرب أيضاً أمثلةً أخرى لا حصر لها من القصّ الأميركي، حيث يقوم الجنس بين الأعراق بالدور ذاته الناظم لنوعٍ أدبي.
تنتهي الروايات من هذا النوع بإحدى طريقتين. الطريقة الأوسع انتشاراً في القصّ الحديث هي الخاتمة المتفائلة والمباحة إيديولوجياً والمميِّزة للقرن العشرين، والتي يمشي فيها العاشقان نحو الغروب، أو على الأقل يجدان في واحدهما الآخر ذلك العزاء الذي ينكره عليهما عالم العلاقات الاجتماعية الخارجي. والسينما، من هوليود إلى بومباي، مترعةٌ بهذا النوع من النهايات، حيث يغزو الحب كل شيء وتُقدَّم حلولٌ شخصيةٌ سهلةٌ للصراعات الاجتماعية المستعصية. لكنّ قصص الخرق، لا سيما الخرق الجنسي، تنتهي أيضاً بطريقة أخرى، مألوفة للغاية منذ رواية القرن التاسع عشر، يكون فيها جزاء الخطيئة هو الموت، ويكون الفرد عاجزاً إزاء ثقل النفاق الاجتماعي الطاغي. آنا كارينينا هي العمل الكلاسيكي في هذا النوع، لكنَّ كثيراً من الأدب الفيكتوري ينتهي بهذه الطريقة، في عرفٍ يتواصل إلى يومنا هذا. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ من الممكن حكاية القصة الواحدة ذاتها إمّا بطريقةٍ انتصاروية أو بطريقةٍ تراجيدية. وجزءٌ مما جعل النقّاد والقرّاء الذين تشرّبوا أعراف القصّ الحديث يجدون إله الأشياء الصغيرة مرضيةً للغاية هو أنَّ أرونداتي روي تقدّم كلا هاتين النهايتين الممكنتين، بطرائق متماسكة ولافتة في آنٍ معاً.
تتّصف الرواية بوحدة موضوعها تلك الوحدة المُحكَمة، المتكثّفة في تلك الجمل المتناثرة الرائعة التي تأتي في نهاية الفصل الأول، لكنها تتردد بعد ذلك في الرواية بأكملها، وتخبرنا أنَّ هذه الأخيرة تدور في الحقيقة حول بعض البنى الاجتماعية القمعية التي «بدأت بالفعل منذ آلاف السنين … في الأيام التي وُضعت فيها قوانين الحب. القوانين التي تحدد مَن يجب أن يُحَبّ وكيف وكم». وتقوم هذه القوانين على بعض التابوات، وأكثرها قِدَمَاً، وأكثرها شمولاً، وأبرزها، بحسب فرويد، هو تابو سِفاح القربى. وفي الممارسات الخاصة بـ«قوانين الحب» الهندية، تقوم التحريمات بالمثل على أفكار الطهارة والنجاسة والنَسَب والتمازج التي تكوّن المجتمع الكاستي. ويتمثّل ادّعاء الخرْق الذي هو ادّعاء الرواية الأساسي في أنها تنتهي بانتهاك هذه التابوات، إنّما بطرق تستسلم لنهايتين متوازيتين لقصة واحدة.
ذلك أنّ هناك خطين للحبكة، ضمن الوحدة المستمدة من سلسلة نَسَب عائلية: يسرد أولهما نمو راهيل وعجز إستا عن النمو، ويقرّب الآخر والدتهما من فيلوثا ذلك القرب المُهلِك. يمنح هذا التكشّف المتوازي لخطيّ القصة هذين أرونداتي روي الفرصةَ لأن تُنهيَ الرواية ليس مرةً واحدة، بل مرتين. ففي خط الحبكة الذي يتركّز على راهيل، تخرج الفتاة التي نمت ونضجت إلى العالم من قريتها الصغيرة في كيرالا إلى دلهي وإلى زواجٍ من أميركي ثم تركه. وتهبها مغادرةُ منزل الأسرة وإطلاق العنان لشهوات الشباب الذاتَ المستقلةَ التي كان من الممكن أن تُحرَم منها، كما حُرِمت منها والدتُها، في عالم أُسرتها الأرستقراطي الريفي، الخانق والمقيَّد بقيود الكاست. في هذه الأثناء، يقبع إستا في بكَمه وجموده المُحزنَين، بعد أن أودى به إلى الصمت رعبُ خطيئةٍ في الطفولة نجمت عن إفادةٍ كاذبةٍ قاتلة أُخذت منه في مخفر الشرطة، إلى أن تعود راهيل، أكثر حكمة وثقةً بنفسها، وتأخذه بين ذراعيها وتحاول شفاء جروحه النفسية بعزاء سِفاح القربى المفجوع. هكذا يُصوَّر اقتران التوأم هذا، بخرقه أقدم التابوات (أي «قوانين الحب» التي تُحدد مَن وكَم)، لا بوصفه الخاتمة الأخيرة لطفولةٍ جرى تقاسمها من قبلُ بطرائقَ أخرى فحسب، بل بوصفه أيضاً بلسماً خاصاً للأذيّات العاطفية التي أنزلها المجال العام بضروبٍ شتى من القسوة.
لا تخبرنا الرواية ما إذا كان البلسم يجعل إستا أكثر قدرة على مواجهة ذلك المجال العام أم لا. وينتهي هذا الخط المُحدّد من الحبكة -ببساطة- بإضفاء الطابع الإيروتيكي على رحمة الأخت.
مؤسفٌ للغاية. إنَّ بعض النثر الأشد جرأةً وتفصيلاً في الرواية هو ذاك الذي نجده على وجه التحديد في تصوير الطفولة التي خُلِّفَت وراءً على هذا النحو. ومؤسفٌ للغاية أكثر أن تنتهي حكايةٌ حُكيَت بهذه البراعة باستسلام الكاتبة للفكرة التقليدية عمّا هو إيروتيكي بوصفه ذلك الخرْق الخاص الذي يتعالى المرء من خلاله على الأذيات العامة. ومع ذلك، فإنَّ هذه النهاية ربما تكون، في مخطط الرواية الواسع، أقلّ عيباً قياساً بالنهاية الموازية التي تصل بقصة فيلوثا وآمو، والدة إستا وراهيل، إلى ختام، ويُكبَّل فيها التوجّه الجنسي بكلٍّ من الكاست والموت.
فيلوثا هو النجار من كاست المنبوذين الذين لا يجوز مسّهم، صانعُ عجائبَ صغيرة من الخشب المحفور، ما يجعله «إله الأشياء الصغيرة» الذي يخرق لقاؤه الجنسي العاصف مع آمو، من الكاست الأعلى، نحو نهاية القصة، جميعَ قوانين الحب التي وضعتها الحدود الكاستية وجميع اللياقات والآداب المتعلقة بمَن يُحب مَن وكيف. وجزاء مثل هذه الخطيئة هو الموت، لكنّ المشكلة مع هذه النهاية ليست أنَّ فيلوثا يتعرّض بالمقابل لضربٍ مبرّح من الشرطة القادمة من «أولئك الذين لا يجوز مسّهم» وتعمل على خدمتهم. فذلك محتملٌ تماماً. وكذلك فكرة أنّ بعض الشيوعيين القادمين من الكاستات العليا يجدون مثل هذه العلاقة لا تُطاق، ولو كان من غير المعقول تماماً أن يشارك زعيمٌ نقابي شيوعي بنشاطٍ في هجومٍ قاتلٍ على عضو في نقابته يحظى باحترام كبير حفاظاً على طهارة الكاست. وعلى الرغم من هذا القليل من العداء للشيوعية، فإنّ المشكلة الفعلية مع تلك النهاية، في الشروط التي حددتها الكاتبة نفسها، تكمن في غير مكان.
المشكلة هي أنّ أرونداتي روي، كي تبني الإيروتيكية بوصفها ذلك التعالي الذي يأخذ الأفراد مباشرةً أبعدَ من التاريخ والمجتمع، إلى الحقيقة الفعلية لكينوناتهم، تختزل التعقيد الإنساني لدى الشخصيات التي خلقتها هي نفسها وترغب في أن تؤكّد عليها، بل وأن تحتفي بها، ولو بالطريقة التراجيدية. وحتى ذلك الحين، كانت آمو امرأةً كافحتْ بشدة كي تحافظ على كرامتها، وكي تُبقي على ازدراءٍ محتَجَز وهادئ تجاه نفاق عائلتها، وكي تخلق ذاتاً مستقلةً على طريقتها، رغم كلّ الصعاب. وكان فيلوثا حنوناً بطرائق عدّة، فكاهيّاً في حديثه، ذكياً، مبدعاً، مقاتلاً في المجال السياسي. لكنّ ذلك كلّه يتضاءل إلى جذبٍ جنسي لا يلين يتغلب على كلّ ما سبق بمعنى يكاد يكون حرفياً كأنه أُحجية أو لغز؛ ومن دون أي ينبسا ببنت شفة أو يتبادلا فيما بينهما، يصلان كِلاهما، في سواد الليل، إلى المكان الذي يجب أن يلتقيا فيه، كما لو كان ذلك مقدَّراً مسبقاً. وليلةً بعد ليلة يعودان إلى المكان ذاته، من أجل سلسلةٍ من الاتصالات الجنسية المقتضبة والطوباوية والُمكتفية بذاتها إلى درجة أن الماضي يتضاءل والمستقبل يُخشى ويجري تجاهله في آنٍ معاً مع كل صنوف الرعب في الجليل الرومانتيكي. فيصيران تجسيدين خالصين للرغبة، ولا يتبادلان بينهما أي كلمةٍ في حوارٍ عاقل. ويبدوان كأنّ العجز استنفدهما مرتين: أمام رغباتهما الجسدية، وبالعلاقة مع العالم الذي يحيط بهما والذي لا يبدو أنهما يرغبان في فعل أي شيءٍ حياله.
أكثر ما يلفت الانتباه في اللقاء القضيبي الأخير بين آمو وفيلوثا هو مدى ضآلة صلته بـالقرار وكم يتّخذ هيئة ما يسمّيه عنوان فيلم حديث انجذابٌ قاتل. والفارق بين القرار والانجذاب القاتل هو أنّه في حين يرتكز القرار، بما في ذلك قرار تقبّل الألم و/أو الموت، على الممارسة، في التاريخ، وفي العلاقات الاجتماعية المختارة والعيش في تفاعلٍ معقد بين الضرورات والحريات، لا يسع الانجذاب القاتل أن ينبري إطلاقاً لمثل هذه التعقيدات، ولا بدّ من أدائه فحسب، بوصفه دافعاً ليبيدياً. وبعبارة أخرى، فإنَّ ما نجده أمامنا هو عالمٌ مغلق ومصيري في قلب الخيار الفردي: ميتات جرى التنبّؤ بها، بوصفها النظير للنشوة القضيبية. يخطئ المرء، ثم ينتظر جزاء الخطيئة، وهو الموت.
في حين أنَّ مصير فيلوثا معقولٌ تماماً، بل وتفرضه طبيعة الأشياء ذاتها، فإنَّ العَدَمَ الذي يجد طريقه إلى وجود آمو بعد موت فيلوثا وبعد ومضة وجيزة لشراستها في مخفر الشرطة، لتنتهي من ثم إلى إضناء نفسها وصولاً إلى موتٍ غير ضروري، هو عَدَمٌ مفتعلٌ تماماً من قِبَل الكاتبة. كانت آمو طوال حياتها البالغة امرأةً ذات عزمٍ كبير، وهذا العزم هو ما يمكّنها من أخذ زمام المبادرة في خرق قوانين الحب، حتى حين يتردّد فيلوثا. وعدم قدرتها على مواجهة عواقب عزمها هو قرارٌ غريبٌ تتّخذه الكاتبة نيابةً عنها، بشكلٍ تعسّفي إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولعل أحد أسباب ذلك هو سببٌ يتعلّق بالنوع الأدبي؛ فمن أقدم الأعراف في القصّ أنَّ النساء اللواتي يعشنَ عيشةً محرّمةً يمتنَ ميتةً مريعةً أيضاً. ولكن هنالك أمراً آخر كذلك. لو واصلت آمو حياتها، لكان عليها أن تواجه حقيقة أنَّ ما هو إيروتيكي نادراً ما يكون طريقةً كافية للتغلّب على صنوف القمع الاجتماعي الفعلية؛ فعلى المرء أن يتخذ خياراتٍ أخرى أكثر تعقيداً، قد يكون الإيروتيكي عنصراً بينها لكنه ليس العنصر الوحيد. ولذلك، كان على أرونداتي روي أن تمنح آمو فرصةً ثانية، وعزماً يتخطّى الانجذاب القاتل، فتزيح بهذا مركز الرواية الإيديولوجي بوصفه كذلك. إنّه لمن المدهش تماماً كم يعجّ القصّ بجثث الشخصيات التي تموت بسرعة لأن الكتّاب لا يعرفون كيف يتركونها تواصل العيش.
كيف يسعنا أن نقول، إذاً، إنَّ إله الأشياء الصغيرة قد تكون أكمل رواية كتبها كاتب هندي باللغة الإنجليزية؟
لا تمكن قراءة القصص إلا ضمن شروط إمكانها التي هي شروط تاريخية وإيديولوجية وشكلية. فحين قسمت الثورة الفرنسية الفرنسيين إلى جمهوريين ومَلَكيين، ما كان يثير الدهشة لدى بلزاك، كما أشار ماركس، لم يكن مَلَكيته، بل قدرته، بالرغم من مَلَكيّته وبفضل التزامه الواقعية، على إعطائنا تحليلاتٍ دقيقةً وباقيةً لفرنسا ما بعد الثورة. وتُعدّ آنا كارنينا روايةً عظيمةً، كما زعم لينين، لا لأننا نقرّ إيديولوجياتها، إيدولوجيات التُّقى المسيحي والرومانسية الريفية والمحافَظة الاجتماعية، بل بسبب فهم تولستوي الدقيق والمتقن للإيديولوجيات السائدة في زمنه، والتي كان منخرطاً فيها هو نفسه كلّ الانخراط. وأن نتوقّع أنَّ الأدب يتعالى على شروط إمكانه يعني أن نُرَمْنِس النشاط الأدبي إلى أبعد حد. وضمن الإمكانات المتاحة في الأدب الهندي المكتوب بالإنكليزية في اللحظة الراهنة، تُعدّ أرونداتي روي استثنائيةً في استخدام اللغة والشكل كما تطورا إلى الآن في هذا الأدب، وهي تعكس بدقةٍ وقوةٍ الموضوعاتِ والإيديولوجيات السائدة حالياً في الجزء الاجتماعي الذي تتوضّع فيه، والذي هو أيضاً جمهور قرّاء قصّها الأساسي.
على الرغم من جميع المزاعم التي تُطلَق هذه الأيام عن الكتابة الهندية بالإنكليزية، هذه الكتابة التي تتعرض جزئياً لضغوط السوق العالمية، كان هذا الأدب حتى وقتٍ قريب ذا حضورٍ هامشي ومحفوفٍ بالمخاطر. ففي الطور الأول الذي طال أمده تماماً، كان تقريباً جميع الكتّاب الهنود الذين يعرفون الإنكليزية -بما في ذلك أبرزهم، مثل راجا راو، مُلك راج أناند، أحمد علي، خوشوانت سينغ، أنيتا ديساي- يكتبون باللغة الإنكليزية ما كان يمكنهم أن يكتبوه بسهولة بلغةٍ هنديةٍ أخرى، وقد فعلوا ذلك لمجرد أنّهم كانوا يفتقرون إلى الكفاءة أو الميل للكتابة بأي لغةٍ أخرى. حتى عمل فيكرام سيث فتى مناسب ينتمي في الأساس إلى هذا النزوع، ومن هنا ازدراء رشدي المعروف له. ومنذ طفولتي، بقيت عشرين عاماً أقرأ مُلك راج أناند بالأوردية قبل أن أكتشف أنّه كتبَ بالإنكليزية. وظهر أحمد علي أولَ ما ظهر أدبياً ككاتب قصصٍ قصيرة بالأوردية. ثم نشر بالإنكليزية الشفق في دلهي، طامحاً لأن يترك بصمةً في إنكلترا، كما يقول نقّاده. وقراءة الرواية في ترجمتها الأوردية التي وَقَّعتْ عليها زوجته ونُشرت بعد نحو 30 عاماً، أفضل بكثير؛ ولعلّ الإنكليزية هي الترجمة والأوردية هي الأصل الفعلي الذي أخفاه الكاتب لفترة طويلة، بسبب الطموح وكتقليعةٍ من التقليعات. حتى العنوان، دلّي كي شام، أفضل بالأوردية، حيث تصدر عاميته الدارجة عن اللسان بسلاسة، ويمنح حرف الجرّ كي -يمكن أن يعني «لـ» أو «في» أو «من»، بحسب الاستعمال- العبارةَ رنيناً آخر.
تمثّلت الأصالة الشكلية التي اتّسمت بها رواية سلمان رشدي أطفال منتصف الليل في أنها أول رواية يكتبها كاتب هندي تبتعد في حساسيتها وكفاءتها اللغوية وبنائها الشكلي عن اللغات الهندية الأخرى بما يكفي لئلا تكون ممكنةً إلّا بالإنكليزية وحدها. وتأتي أصالة أسلوب رشدي الشديدة من كونه رفع إلى مصاف الامتياز الأدبي الرفيع لغةَ فئةٍ اجتماعيةٍ محددة للغاية: أولئك الذين لعلّهم يستطيعون التحدث بلغة عوائلهم الأصلية، ويفهمونها بلا شكّ، لكنّ تدريبهم في مدارس النخبة العامة منحهم ألفةً شديدةً حيال الإنكليزية، تلك اللغة التي سكنوها كما يسكن أحدنا ملابسه المفضلة. ومن هنا الطابع الهجين للأسلوب، حيث يُقرأ قدرٌ كبيرٌ من البراعة كأنه ترجمةٌ لنصٍّ غائب. وإذا ما كان كونراد قد اهتمّ بترك بولنديّته وراءه والكتابة بلغة إنكليزية أفضل من البريطانيين أنفسهم، فقد اجترح رشدي إنكليزيةً استمدت طاقتها بالضبط من ثقته أنَّ هذه اللغة هي لغته التي يسعه أن يبتكر بها أسلوباً كوزموبوليتانياً رفيعاً بأن يجلب إليها من غير مكان طيفاً كاملاً من الموارد.
ضمن هذا الخط من التطوّر، أرونداتي أصيلة. تعرف عن اللغة والشكل ما يعرفه رشدي. لكنّ لديها ألفةً بالإنكليزية وطبيعيّةً حيالها أعظم مما لديه؛ فروايتها تُحَسّ بالإنكليزية في الحقيقة. وإذا ما كان نثر رشدي يشير إلى مفارقةٍ مضحكةٍ مفادها أنّ على المثقفين الكوزموبوليتانيين بين أطفال منتصف الليل أن يتّخذوا مواقعهم في اللغة الإنكليزية بحيويةٍ تفوق بكثير ما كان عليه الحال خلال العهد الاستعماري، فإنَّ نثر أرونداتي روي يشير إلى أنَّ الثقافة التي تخلقها المدارس العامة هي الآن، بعد بضع سنوات، أكثر انتشاراً، وأكثر ثقةً بنفسها، وأكثر رسوخاً كجزءٍ من بنية شعور هذه الفئة. نثر روي ليس بديعاً فحسب، بل نموذجٌ يُحتذى أيضاً. وهي أول كاتبة هندية بالإنكليزية توفّر مورداً أسلوبياً رائعاً لثقافةٍ ريفيةٍ عامية من دون أي أثرٍ للغرائبية أو التغريب، ومن دون أن يُقرأ العمل كأنه ترجمة. الإنكليزية موجودة هنا لتبقى، شأنها شأن المسيحية إلى حدٍّ بعيد، تلك المسيحية التي تكتب روي أنّها «وصلت في قارب وارتشحت في كيرالا كالشاي من أكياس الشاي».
يمكن أن نلتفت، أخيراً، إلى قضايا العاطفة والإيديولوجيا. وأولاً، إيديولوجيا الشكل! لقد كتبت أرونداتي روايةً واقعيةً ولكن ليس مثل فيكرام سيث؛ إذ تنطوي واقعيتها على كامل التقنيات السردية التي أسفر عنها القرن العشرون. وهي ملتزمةُ الواقعية بذلك العمق الذي يحُول دون أن تفرّ إلى الواقعية السحرية؛ فلم يكتب رشدي قط عن الثقافة المحلية بمثل هذه الثقة باللمس. وترتبط إله الأشياء الصغيرة، في بنيتها العاطفية، ذلك الارتباط الفاجع بالحب والخسارة والتذكّر؛ أمّا أطفال منتصف الليل، والعار خصوصاً، فهُما، على النقيض من ذلك، استثنائيتان في خلوّهما من الحب، شأنهما تماماً شأن قصص نايبول. تدور رواية روي، على غرار مثيلاتها من الروايات، حول الحاجة إلى الفراق، لكنها تعرف، كما لا يفعل أكثر الروائيين، ما يولّده الفراق على وجه التحديد من وجع الحبّ ودُواره. وهذه الواقعية، وما يصاحبها من رفضٍ لكلٍّ من النزعة العاطفية الشائعة للغاية في الأدب الهندي المكتوب بالإنكليزية أو النزعة السينيكية المميزة لقدرٍ كبير من الحداثة، تمكّنها، إذاً، من أن تصوّر طيفاً كاملاً من العلاقات والشخصيات بعمقٍ انفعالي استثنائي.
يبلغ الحب بين راهيل وإستا، التوأم اللذان لا يتشابهان، لكنهما يحلمان أحلام واحدهما الآخر، من الاكتمال والبدهيّة عند كلٍّ منهما حدّ أنّه غالباً ما يُختبَر ليس على أنّه حبُّ كائنٍ لآخر، بل بوصفه هويةَ حضورٍ واحد، كما لو أنهما نسيا تطوير ذاتين منفصلتين بعد ولادتهما بفارق 18 دقيقة فقط. نادراً ما أعيد تخيّل الطفولة، وهذا موضوع محببٌ للغاية في القصّ الواقعي، بمثل هذه الغنائية، بمثل هذه البراعة والقوة والدقة. ثمة، في سجلٍّ مختلفٍ تماماً، كوميديا حضور تشاكو السخيف المتزمّت الذي لا يعرف في النهاية أن يؤكّد عليه إلّا في لحظة غضب عِنّين على آمو، دفاعاً عن طهارة الكاست وشرف الأسرة؛ لكنَّ الغضب الفعلي، مهما يكن عِنّيناً، هو غضبٌ منيعٌ يستمدّ مناعته من قوة الممتلكات التي يمتلكها تشاكو، قبالة أخت مُطلّقة عزلاء ليس لها أي حقٍّ في ملكية منزل أسرتها التي ولدت فيها. وثمة بيبي كوشاما التي سبق أن اتصفت فتوتُها بافتتانٍ من طرفٍ واحدٍ وتعيش حياة عقمٍ وعنوسة، مفعمة بخبثٍ غالباً ما يفتقر إلى الدافع لكنه تقليديٌّ على الدوام ومشحونٌ بالتعصّب الكاستي وقاسٍ. كان من الممكن، لشخصياتٍ كهذه، اشتهر بها قدرٌ كبيرٌ من القصّ الواقعي، أن تغدو في يد كاتب أقل براعةً مجردَ صورٍ نمطية. لكنّ أذن أرونداتي روي السليمة، وعبقريتها في ما يخصّ التفاصيل الفردية، ومضاء نثرها المنحوت تجعلها جميعاً شخصيات لا تُنسى. وإذا ما كان بوسع روي أن تكتب حتى عن طقس كيرالا ونباتها بهذه القوة المثيرة، فإنّ بمقدورها أيضاً أن ترصد بدقة فتّاكة اختراعات بيبي كوشاما الخبيثة المتلاعبة وهي تقلّب إرادتها وتبدّلها في مخفر الشرطة، وتغيّر تكتيكاتها بين الدقيقة والأخرى، إلى أن تحصل على ما تريد. طيف السجلات في نثر روي مثير للإعجاب بكل المقاييس.
إيديولوجيا الشكل هي قوة روي. أمّا مسألة الإيديولوجيا السياسية فأكثر تعقيداً. مناهضة الشيوعية في الإيديولوجية السياسية للرواية محيّرة لكنها ليست مفاجئة؛ وفي هذا أيضاً، يبدو أن أرونداتي روي نموذج للفئة الاجتماعية التي تمثّل نوعها الخاص من الراديكالية. وهي مثقفة تمثّل على نحوٍ نموذجي لحظة الهند الحالية في انشغالها بالرابط بين الكاست والسلوك الجنسي؛ وفي تصويرها لما هو إيروتيكي على أنّه منطقة التمرد والحقيقة الفعلية؛ وفي إحساسها أنَّ المقاومة لا يمكن إلا أن تكون فردية وهشّة؛ وفي إحساسها أنَّ الشخصيّ هو الميدان الوحيد للسياسيّ، وإحساسها تالياً بحتمية العدم والموت. تكتب عن الكاست بدقّة فتّاكة؛ أمّا عن الطبقة فلا يبدو أنّها معنيةٌ عناية خاصة بتلك الجوانب غير المرتبطة بالكاست. وهي تمثّل، في هذا أيضاً، هذا الزمن. («انسوا اللغة الأم والطبقة الاجتماعية»، ينصحنا سلمان رشدي في صحيفة الهند اليوم في 14 تموز(يوليو) 1997).
يمكن لنا أن نأخذ بعضاً من هذه الإيديولوجيا، ويمكن أن نزيح كثيراً منها جانباً. لكن لا مجال لأن ننكر أن قصّ أرونداتي روي يُبصِّرُنا إلى حدّ بعيد بعالمها -العالم الذي تصوره في روايتها، والعالم الذي تعيش فيه ككاتبة- وهذه هي مهمة الأدب الإيديولوجية الأساسية.