نشر مركز دمشق للأبحاث والدراسات، العامل في دمشق والقريب من النظام السوري، في شهر آب (أغسطس) عام 2017 دراسةً بعنوان «الآثار الاقتصادية لإصدار أذون وسندات الخزينة»، دعت للتقليل من تمويل الموازنة العامة بالعجز عن طريق الاستدانة من المصرف المركزي؛ لأن ذلك يزيد من المعروض النقدي ويرفع من معدلات التضخم. وعوضاً عن ذلك، اقترح معدّ الدراسة، وهو كنان ياغي رئيسُ قسم إدارة الأوراق المالية الحكومية ونائب الرئيس التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية حينها، اللجوء إلى حلٍّ آخر يتمثّل في طرح أذون وسندات خزينةيعرّف مصرف سوريا المركزي أذونات الخزينة بأنها أوراق دين حكومية قصيرة الأجل، يقلّ أجلها عن سنة واحدة، ويتم إصدارها بخصم من قيمتها الاسمية من خلال مزادات السعر الموحّد. أما سندات الخزينة فهي أوراق مالية حكومية متوسطة وطويلة الأجل (من سنة إلى 30 سنة)، يتم إصدارها بقيمتها الاسمية وتحمل سعر فائدة ثابت طوال فترة حياة السند، ويكون إصدارها من خلال مزادات السعر المتعدد.. أي أن تستدين الحكومة بالفائدة من مؤسسات عامة وخاصة ومستثمرين، فتستفيد من هذه السندات في تمويل عجزها عن طريق تنويع أشكال الاستدانة بحيث لا تبقى محصورةً بمصرف سوريا المركزي، وكذلك في أن تُمكِّنها السندات من سحب السيولة الفائضة من الأسواق وامتصاص جانبٍ هام من الأموال المُكتنزة أو التي تُوجَّه للاستهلاك.
غير أنّ معد الدراسة أشار إلى وجود معوقاتٍ يجب التعامل معها قبل إصدار سندات الخزينة، وعلى رأسها معالجة التشوه الحاصل في السوق المالي عموماً وفي هيكل أسعار الفائدة خصوصاً، طارحاً سؤالاً بديهياً عن معدل الفائدة الذي سيتم طرح سندات الخزينة به في ظل معدل تضخمٍ يزيد على 25 بالمئة؟ فمن المنطقي أن تزيد معدلات الفائدة عن معدل التضخم حتى يحقّق المستثمرون عائداً من شرائهم لهذه الأوراق المالية، وهنا نحن نتكلم على معدل فائدة بحدود 25 بالمئة، وهو ما تعتبره الدراسة مجافياً للمنطق وغير قابلٍ للتطبيق «حالياً». ومن بين التخوفات التي تشير إليها الدراسة أن تقوم وزارة المالية بالاعتماد على هذا «المصدر السهل» من الأموال، بدلاً عن توظيفها في الاستثمار، في تمويل نفقاتها الجارية قصيرة الأجل من مصادر تمويلية طويلة الأجل، أو أن تقع في مشكلة عدم تطابق تواريخ الاستحقاق، مما سيُحدث خللاً هيكلياً في الموازنة العامة ويفاقم من مشكلة الدين العام مع مرور الوقت بشكلٍ لا تستطيع معه الحكومة سداد ديونها والتزاماتها.
بعد 3 سنوات من نشر هذه الدراسة، وفي شهر آب (أغسطس) 2020، سيؤدي مُعدُّها كنان ياغي اليمين الدستورية أمام بشار الأسد وزيراً للمالية، وسيشرع في تنفيذ مقترحاته باستصدار السندات الحكومية وتداولها في سوق دمشق للأوراق المالية. واختيار ياغي لهذا المنصب يبدو مفهوماً لتطبيق التوجه الحكومي الجديد بتنويع أشكال الاستدانة، كون الأخير ليس مؤمناً فقط بهذا التوجه، بل تتيح له سيرته المهنية والأكاديمية العمل على تنفيذه، فهو أيضاً أستاذٌ مساعد في قسم التمويل في الجامعة العربية الدولية الخاصة، وشغل سابقاً العديد من المناصب في مصرف سورية المركزي، منها معاون مدير مديرية الخزينة بين 2014 و2015، ومعاون مدير مديرية العمليات المصرفية بين 2010 و2011، ورئيس قسم إدارة الأوراق المالية الحكومية بين 2008 و2010، ومعاون رئيس قسم الأبحاث في المصرف بين 2006 و2008، وحاصل على دكتوراه في إدارة الأعمال عام 2010 من جامعة دمشق، وماجستير في الإدارة المالية عام 2005 من جامعة عين شمس في مصر، ودبلوم عالي في تأسيس وإدارة المَحافظ الاستثمارية عام 2005 من الجامعة الأميركية في القاهرة، ودبلوم في إدارة الأعمال عام 2001 من جامعة حلب، وبكالوريوس في إدارة الأعمال عام 1999 من جامعة حلب.
وكانت أول مرة يجري الحديث فيها عن إصدار سندات حكومية سورية في العام 2010، وذلك بموجب أحكام المرسوم التشريعي رقم 60 لعام 2007، الذي أجاز لوزارة المالية بالتنسيق مع مصرف سورية المركزي، وللمرة الأولى في تاريخ دولة البعث، إصدار الأوراق المالية الحكومية. ولكن سرعان ما تمّ التراجع عن هذا الإعلان بذريعة «عدم الحاجة»، ثم جاء الإعلان الثاني في كانون الثاني (يناير) 2020 بموجب إصدارين سنويين بإجمالي قيمة إسمية تبلغ 300 مليار ليرة سورية. وفي العام 2022 جرى الإعلان مجدداً عن أربعة إصدارات لأذون وسندات الخزينة بقيمة اسمية إجمالية تبلغ 600 مليار ليرة سورية. وباستثناء الإصدار الأول لعام 2020، كان الوزير ياغي هو المسؤول عن استصدار هذه السندات. ولكن هل بالفعل تم حل التشوهات والمشاكل البنيوية في السوق المالي السوري قبل إصدار هذه السندات كما دعا الوزير في دراسته؟ وهل ستُوجَّه هذه الأموال لتغطية النفقات الاستثمارات؟ وهل وجَدتْ من يشتريها بين المستثمرين ليحقق العائد المرجو؟ وهل ستخفف هذه الأوراق فعلياً من الضغوط التضخمية؟ وما علاقتها بالموازنة؟ وهل يمكن تغطية عجز الموازنة من خلالها؟
بلغ حجم العجز في موازنة العام 2022 الجاري 4400 مليار ليرة سورية، وهو ما يعادل قرابة ثمانية أضعاف القيمة الإسمية للسندات الحكومية المطروحة هذا العام، ما يعني أن تمويل عجز الموازنة بقي في معظمه من خلال الاقتراض من البنك المركزي. قد تغطي هذه السندات المُفصّلة في الجدول أعلاه حصةً من النفقات الاستثمارية في الموازنة، وهي أصلاً رقمٌ ضئيل لا يتجاوز 15 بالمئة من إجمالي تقديرات الموازنة، بعد أن كانت النفقات الاستثمارية تعادل 46 بالمئة من موازنة العام 2011 وواصلت الانخفاض خلال السنوات اللاحقة لهذا العام. تغيب الشفافية عن التصريحات الحكومية لمعرفة القطاعات التي تستثمر فيها الحكومة ومدى العائد الذي تحققه وحجم مساهمته في تحسين الأداء الاقتصادي للبلاد، غير أن جميع الدلائل والأرقام التي نملكها، من تدهور قيمة العملة المتواصل وارتفاع الأسعار والمزيد من تراجع المناخ الاستثماري رغم توقف الأعمال الحربية في معظم المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ووعود إعادة الإعمار، تشي بأن الإنفاق الاستثماري للحكومة غير ذي جدوى.
أما التشوهات التي دعا الوزير إلى معالجتها فبقيت على حالها، ولتبيان ذلك سنأخذ مثالاً على الإصدار الأول من السندات الحكومية المطروحة عام 2020 بمعدل فائدة مقداره 6.7 بالمئة. بلغت القيمة الاسمية لهذه السندات المطروحة في شباط (فبراير) 150 مليار ليرة، أي ما يساوي حوالي 14.5 مليون دولار وفق أسعار الصرف في السوق حينها. وفي تاريخ استحقاق هذه السندات في شباط (فبراير) 2022 كانت قيمتها تعادل 4.1 مليون دولار، أي إنها فقدت ما يقارب من ربع قيمتها في تاريخ استحقاقها، وبالتالي فاقت خسائر المستثمرين 20 بالمئة من أموالهم. يمكن القياس على هذا المثال لنرى كيف أن جميع إصدارات الأوراق المالية التي تم طرحها للاكتتاب أو التي ستطرح مستقبلاً هي عملية تمويل لموازنة الحكومة وعبء على مشتريها، وهي بالطبع ليست ديوناً عديمة المخاطر كما هو التعريف الاقتصادي لها، فنحن لا نتحدث عن خسائر محتملة، وإنما عن شراء ديون خاسرة منذ لحظة طرحها للاكتتاب.
وبمراجعة تصريحات وزارة المالية عن الجهات التي اشترت السندات سنجد أنها المصارف العامة والخاصة المسموح لها بالعمل في سوريا، لذا فإن الهدف الحقيقي من طرح سندات الخزينة هو سحب كمية من النقد الأجنبي من يد المتعاملين، وتحديداً البنوك، من خلال السطو على ما لديها من العملة المحلية وعلى احتياطياتها الإجبارية المودعة في المصرف المركزي، وذلك تأجيلاً لطباعة كميات جديدة من العملة وطرحها للتداول، خوفاً من تضخم كبير سيلي ذلك، وهو ما يعني تأجيل التضخم والانهيار القادم في سعر صرف الليرة السورية، وليكون أشد قسوةً بمرور الشهور والسنوات وتعاظم الإنفاق الحكومي في ظل غياب الاستثمارات والمشاريع الإنتاجية ومشاريع إعادة الإعمار وتدفق الأموال الأجنبية إلى سوريا، خصوصاً عندما يصبح طرح كميات جديدة من العملة غير المغطاة أمراً لا بد منه لتمويل النفقات الجارية والرواتب الحكومية.
والخطوة المنتظرة من وزارة المالية في العام القادم هي سلسلة جديدة من السندات الحكومية، مع التركيز على أن تكون طويلة الأجل هذه المرة ويزيد أجل استحقاقها على 5 سنوات تحت عناوين إعادة الإعمار وبأسماء مثل سندات الإسكان وسندات التنمية، وهذا فعلياً ما كان الوزير ياغي قد دعا إليه في دراسته، مقترحاً أن تُعفى هذه السندات من الضرائب والرسوم. علماً أن رئاسة مجلس الوزراء قد أحالت موازنة العام 2023 إلى مجلس الشعب لإقرارها باعتمادات مقترحة قيمتها 16550 مليار ليرة سورية (قرابة 5.5 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي حالياً عند 3015 ليرة، في حين وصل سعر الدولار في السوق السوداء يوم أمس الإثنين إلى 5170 ليرة)، دون أن تذكر حجم العجز فيها وطريقة تمويله. غير أن وزير المالية عاد في وقت لاحق وقال في حديث لجريدة الوطن الموالية إن إجمالي العجز المقدّر يبلغ 4860 مليار ليرة، بزيادة مقدارها 742 مليار ليرة عن العجز المقدّر في موازنة 2022، أي بنسبة زيادة 19,65 بالمئة، وأن تغطية هذا العجز ستكون بمبلغ 4059 مليار ليرة عبر القروض الداخلية من البنك المركزي، ومبلغ 800 مليار ليرة عبر أوراق مالية حكومية مطروحة على المصارف العاملة في سورية، ومبلغ قرابة 590 مليون ليرة عبر قروض خارجية. طبعاً لا يمكن التعويل على دقة الأرقام الواردة في الموازنة، واللافت في هذا السياق أن وزير المالية نفسه يعترف بذلك في تصريحاته: «وُضعت الميزانية من دون أن تكون لها القدرة على مجاراة معدلات التضخم المرتفعة، لأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم العجز. لو تمت مجاراة التضخم لوجدنا أنفسنا أمام تقديرات للموازنة بأكثر من 3 أضعاف الرقم الحالي، وبالتالي سيتفاقم العجز وسنضطر معه إلى إصدارات للعملة من دون تغطية مقابلة لها».
إذن ستكون سندات الخزينة والأوراق المالية بين أبرز أدوات تمويل العجز في موازنة العام المالي المقبل، وفي ظل غياب الإقبال على شراء هذه السندات، نتيجة الخسارة المحتومة كما أسلفنا، وتوجه وزارة المالية لزيادة القيمة الاسمية للسندات المطروحة بمعدل 20 بالمئة للعام القادم قياساً بالعام الحالي، لا شك أن السلطات السورية لن تُبقي عمليات الشراء محصورةً بالبنوك الخاصة والعامة، ولكنها قد تتوجه إلى إرغام أكبر قدر من التجار والمستثمرين، وربما الأفراد العاديين، على شرائها من خلال ربطها بموافقات البيوع العقارية وعمليات الاستيراد وشروط الترخيص، وهو ما سيُذكرنا بعملية تشليح الأموال التي نشطت خلال العامين الماضيين تحت عناوين الفساد والتهرب الضريبي والتهريب، ولكن على نطاق أوسع جداً هذه المرة. ويبقى أنّ هناك أسئلةً مفتوحةً عديدة يمكن طرحها، الأول لوزير المالية نكرر من خلاله سؤالاً كان قد طرحه هو نفسه قبل 5 سنوات: كيف تطرح سندات خزينة بمعدل فائدة قريب من 7 بالمئة في حين أن معدل التضخم يزيد على 25 بالمئة؟ والثاني عن كيفية سداد الحكومة لقيمة الأوراق المالية في وقت استحقاقها؛ هل بإصدار أوراق مالية جديدة بآجال أطول ومراكمة المزيد من الدين العام؟ كم ستصمد الليرة السورية قبل انهيار جديد، خصوصاً مع حتمية اللجوء إلى طرح كميات نقدية جديدة من الليرة السورية دون تغطية.
تتعامى حكومة النظام السوري عن المشاكل الحقيقية التي يواجهها الناس في تأمين معيشتهم، ويأكل التضخم وغلاء الأسعار رواتبهم في أول يومين من كل شهر، وتواصل الحكومة القفز إلى الأمام بتجاهلها ذلك حتى في تقديرات موازنتها. قبل أيام، تجاوزت قيمة الدولار الواحد حاجز 5 آلاف ليرة سورية، ما يعني أن قيمتها انخفضت بمقدار يزيد على 100 مرة خلال أحد عشر عاماً، وهي ستواصل خساراتها في الأيام القادمة وفق ما تظهره المعطيات الاقتصادية الراهنة، وتكاليف المعيشة في ارتفاع، ورواتب الموظفين لم تعد تكفي لشراء ما يزيد على 8 ليترات من الزيت. لمواجهة ذلك بشكلٍ جزئي لا بد من مواجهة التضخم وتحسين المناخ الاستثماري في البلاد، ومن المؤكد أن استصدار الأوراق المالية الخاسرة وإجبار البنوك والأفراد على شرائها ليس السبيل إلى ذلك، ولن يفيد أيضاً على المدى القصير. قد يعطينا تصريح وزير المالية السوري السابق مأمون حمدان أمام مجلس الشعب مثالاً عن كيف تفكر الحكومة إزاء المشاكل المعيشية التي يواجهها السوريون: «لا يوجد شعب جائع في سوريا. أنا أجوع أحياناً لأني لا أجد وقتاً للأكل». مشكلتنا إذاً مع الوقت وتنظيمه.