بدت مُستغرَبَةً تلك التحذيرات والحملات الداعية لعدم ارتداء أقنعة القاتل التسلسلي جيفري دامر، في موسم الهالوين الأميركي، وسط إقبال على شراء القناع الذي يمثّل وجه إيفان بيترز، الممثل الرئيسي في مسلسل دامر – الوحش، الذي بدأ عرضه مؤخراً على نتفلكس. حتى إن بعض المتاجر الإلكترونية مثل إيباي منعت الباعة من تسويق أقنعة دامر، لكن بعضهم التفَّ على المنع عبر تسويق النظارة الصفراء على أنها مرتبطة بموضة دارجة لا بالقاتل التسلسلي.

وجه الغرابة في هذه التحذيرات هو أن الهالوين عادة ما يكون مناسبة لارتداء أقنعة وحوش وزومبيز وقتلة، إلا أن قصة دامر بشكل خاص تبدو وكأنها تشهد محاولة جادة للمحو من الذاكرة الأميركية، محاولة جعلت غالبية وسائل الإعلام تنتفض ضد عرض العمل الذي نال شعبية هائلة عبر العالم. عند قراءة مراجعات المسلسل في الإعلام الأميركي والبريطاني، عموماً يمكن ملاحظة توجهٍ يصل إلى حد كونه عدائياً حتى ضدّ العمل، مع إهمالِ واضح لأي مكون فني ذي قيمة في العمل، والبحث عن مثالب قانونية في إنتاجه يمكن من خلالها رفع الدعاوى أو محاربة العمل قانونياً.

قصة دامر تتعدى كونها سيرة قاتل متسلسل، كعشرات القتلة ممّن استُهلكت قصصهم في السينما والتلفزيون مرات عديدة بأعمال نال بعضها جوائز كبرى. الاستثناء فيها هو ما تحمله في ثناياها من دموية مفرطة موجَّهةً على مستويي العرق والجنسانية. جزئية أكل الضحايا في حكاية دامر، تمثل أعتى تمثلات العنف المجتمعي ضد الآخر المختلف عن السائد، الأسود والمثلي في هذه الحالة. ما فعله دامر يتعدى مسألة قتل مواطن أسود بريء، بما يتبع عملية القتل من كانيبالية وتفظيع.

تتمسّك الميديا الأميركية بشكل واضح اليوم بموقف أُسر ضحايا دامر، وهم سبع عشرة ضحية، أغلبهم من السود المثليين، ممن استدرجهم دامر إلى منزله ليقوم بقتلهم وتدنيس جثثهم بعد القتل، أو التهام لحومهم نيئة أو مطبوخة. بعضٌ من الأسر اعترضت كلياً على العمل، بل وطالبت بوقف عرضه، مشددةً على أن الجهة المنتجة لم تقم باستشارتهم أو أخذ الشهادات منهم، إذ وبشكل مفاجئ وجدوا ممثلين يلعبون أدوار أبنائهم وأدوارهم، بل ويروون قصص حياتهم داخل منازلهم، وينطقون بلسانهم في مشاهد جلسات المحاكمة. خصوصيتهم قد انتُكهت، وفوق ذلك تحولت قصص أبنائهم إلى دراما تجارية بشكل ما، خاصة مع الإقبال الشديد على العمل.

ردة فعل أهالي وأقارب الضحايا مفهومة، على أقل تقدير هو إعادة تصوير للأحداث أمام أعينهم، وبثّ حياةٍ جديدة في المأساة من جديد بعد مرور سنين طويلة عليها، إذ ارتكبت أغلب الجرائم خلال عقد الثمانينات. من الطبيعي أيضاً أن تنقل وسائل الإعلام أصوات الأسر الرافضة، والمتألمة لما حدث. لكن الأمل ضعيف على مستوى تحقيق أي نتائج قانونية، فتلك القصص باتت جزءاً من السجلات الجنائية، التي وصلت إليها الشركة بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة للحصول عليها واستخدامها، وهو عادة ما يحدث في الأعمال الدرامية التي تستند إلى وقائع جرمية موثّقة لدى الجهات الشرطية والقضائية في الأماكن التي حدثت فيها تلك الجرائم.

قبل بدء متابعة المسلسل ذي الحلقات العشر، يُخيّل لك أنك مقبل على مشاهد دمويّة قد تلتفت بعينيك بعيداً عن الشاشة مرات عديدة ريثما تنتهي، أو قد تغلق أذنيك جراء أصوات تقطيع الأطراف وسلخ الجلد وانتشال الأعضاء وفرمها، لكن صنّاع العمل ريان مورفي ولان بيرنان اتخذا أسلوبية مختلفة نسبياً عمّا هو سائد في أعمال شبيهة في نقل الحدث وبناء الشخصية الرئيسية، وخلق أجواء درامية نفسية خاصة، أبرز مقوّماتها هو اللّعب بالزمن، بين أربعة مراحل أساسية، هي الطفولة، واكتشاف الهوس، واحتراف الجريمة، والنهاية أي القبض على دامر ومحاكمته وسجنه.

وَفَّرَ هذا البناء على أربعة محاور زمنية فرصةً للانتقال الرشيق بين المشهد الدموي المباشر والمشهد الرمزي الذى بشكل فاعل في بناء شخصية المجرم، ليُتاح الهروب من لقطة تقطيع جثّة إلى لقطة طفل يعاني من ظروف التشرد بسبب انفصال والديه. بهذا الشكل تصبح الانتقالات الزمنية هويةً للعمل واضحةَ المعالم، فيما يبدو العمل على تكوين الشخصية الأساسية التي لعبها بيترز بإبداع واضح، مكوناً أساسياً في بناء الأجواء النفسية المرعبة، من خلال هدوئه وصوته المنخفض، وانفعاله المفاجئ، وحركاته البطيئة، وقدرته على الظهور بمظهر البريء بعد ممارسة جريمة تقشعرّ لها الأبدان. تلك الأدوات وفّرت الكثير من الدم التجاري على العمل، وأدت وظيفة غاية في التأثير، بحيث كوّنت صورة تعطي مفعول الرعب ذاته إنما بشكل غير مباشر.

يبدو المسلسل وكأنه يطرح أسئلة من الصعب طرحها، وهو ما يجعلها في بعض الأحيان أسئلة خجولة، وهو ربّما أيضاً ما استثار أسر الضحايا والنقاد ضدّه. حيث ذهب كلياً للبحث عن مسببات تحول الطفل البريء إلى مجرم دموي، سواء بعشرات الحبوب المخدرة التي كانت أمه تتعاطاها يومياً خلال حملها به، أو المشكلات اليومية بينها وبين والده مباشرةً أمام عينيه، أو اعتياده على مشاهدة والده يقوم بتقطيع وتشريح الحيوانات، أو اضطراره للعمل في محلات جزارين على صلة مباشرة بالسكاكين وآلات فرم اللحوم.

تسأل دراما العمل: هل تُبيح تلك الخلفية سؤالاً حول إمكانية النظر للمجرم كضحية في موقع ما؟ ثم إن كان المجرم ضحيّة فهل الضحايا الآخرون الذي سقطوا في شركه هم ضحايا ماضي المجرم أم حاضره؟ 

تغيب في العمل أيضاً المؤشّرات الانتقامية التي كانت تاريخياً جزءاً من موجّهات سلوك جيفري دامر. بمعنى أن أسر الضحايا كانوا يرون أنه يركّز في جرائمه على فئات اجتماعية مهمّشة يسهل تحفيز مشاعر الكراهية ضدها، خاصة في الحقبة التاريخية التي تم ارتكاب الجرائم خلالها، وهم السود والمثليون. فيما تغيب في المسلسل بشكل شبه كلي علائم الانتقام، إنه مهووس بالسود، وبالمثليين، يمعن سكاكينه ومنشاره في أجسادهم، إنما ليس بدوافع انتقامية. إنه يحبّهم، وتدفعه بنيته النفسية المختلّة ليعبّر عن هذا الحب بهذه الطريقة الفظيعة. تلك الصورة التي قُدِّمَت فيها شخصية دامر تُغيّب جزءاً من شكل الادعاء ضدّه، جزءٌ لا يحضر إلّا تجاه الشرطة والمسؤولين في ذلك الوقت، الذي أهملوا ملاحقة قضايا الضحايا كونهم سوداً، تاركين المجرم ممعناً في إجرامه.

لعلّ النقطة الوحيدة التي لا خلاف حولها في العمل هي التناول النقدي لجهاز الشرطة بقيادته وعناصره المنتشرين في الطرقات، وأدائهم تجاه الضحايا والقضية بالعموم. في أحد المشاهد الرئيسية، والذي نقل رسالة واضحة مباشرة، يجتمع شرطيّان أمام الضحية المتهالكة بيد الجاني، فيتركانها فريسة سهلة، رافضين طلب امرأة سوداء بضرورة حماية المراهق الأسود، ومصدّقين كذب شاب أبيض بأن الضحية مجرّد صديق ثمل سوف يقوم هو بالاعتناء به، لينتهى الأمر بالضحية في مشرحة تحت يدي دامر.

لا يذهب العمل بعيداً في الحديث عن قصص الضحايا، باستثناءات قليلة لم تَبدُ كافية لتُبدِّدَ عن عائلاتهم ومحبيهم شعور استخدام هذه القصص كأدوات تدعم صناعة المحتوى التجاري، فالقضية المركزيّة في العمل هي شخصية القاتل، لماذا أصبح قاتلاً؟ كيف يمكن للنفس البشرية أن تأتي بتفظيع على هذه الدرجة مهما وصلت إلى مستويات انقيادها خلف الرغبة؟ ليبدو العمل ككل وكأنه تجربة عمليّة لأبحاث هولدن فورد بطل تحفة جوي بينهل مايند هانتر المستندة إلى أحداثٍ واقعية، والتي ترصد أولى تجارب الأبحاث الجنائية الأميركية للبحث عن مبررات تحول الفرد إلى قاتل متسلسل. الفرق أن دامر يغوص أبعد في التفاصيل، فهناك حوالي تسع ساعات مخصصّة لمجرم واحد، تقوده رغبة واضحة، وتجمع بين ضحاياه صفات متماثلة. مجرم قادرٌ ببساطة على أن يكون موضوعاً مشوقاً لعمل درامي ضخم.