ثمة طبقات سياسية وتاريخية متراكمة ينبغي التفكير فيها وتفكيكها عند محاولة النظر في راهن ومستقبل الإسلاميين في سوريا، لكن نظرة إلى الجيل الأكثر شباباً على اختلاف مشاربهم ودروبهم قد تكون أساسية جداً على هذا الصعيد، ذلك أنه الجيل الذي سيصنع وجه التيار الإسلامي السوري في مستقبل ليس بعيداً، وبهذا تكون النقاشات مع بعضهم مفتاحاً شديد الأهمية لتصوّر شكل هذا المستقبل بالرغم من أية تناقضات.

أتحدّثُ في هذا المقال إلى سامي وكنان وبيان، ونقرأ معاً سيرهم بوصفها تمثيلاً لبعض تجارب وتحولات الشباب والشابات في الأوساط الإسلامية السورية، ولكن طبعاً ليس بوصفهم ممثلين عن شباب وشابات جميع التيارات الإسلامية في سوريا بتنوعاتها الشديدة، بين السلفية والصوفية والتيارات العلمية الدعوية والتيارات الحركية السياسية، وطبعاً الجهادية التي اتخذت نماذج مختلفة أيضاً في سوريا، بين تلك التي تنزع إلى طابع محلي وأخرى تنزع إلى فضاءات أكثر عالمية. ليسوا مجموعة تمثيلية إذن، لكنّهم بالمقابل تمثيل لنموذج مديني شديد التأثير بين عموم الإسلاميين، وستكون معرفة التحولات التي مروا بها وسماع تصوراتهم عن الإسلام السياسي ومستقبل البلاد أموراً أساسية لمعرفة توجهات الجيل الأكثر شباباً من الإسلاميين في سوريا.

في بداية الأربعينات من عمره، لا يجد «سامي» ما يمكن أن يعتبره اليوم تياراً إسلامياً ناضجاً سياسياً، أو صالحاً ليكون نواة تيار جديد؛ يقول: «تراجع الحاذقون بينهم عن واجهة العمل السياسي المعارض، بينما انتظر آخرون حتى أُبعدوا قسراً». سامي الذي اختار اسمه المستعار كي يحمي أمنه الشخصي باعتبار أن سكنه الحالي في مدينة دمشق، أصبح قريباً من التيار الإسلامي نتيجة قربه من التيار المسجدي أو الدعوي في مدينة دمشق، وكان قد دخله تدريجياً من خلال حلقات التعليم الديني التي سُمحَ بافتتاحها في الجوامع والمساجد على نطاق واسع منذ التسعينات: «لم يكونوا قد أسموها معاهد الأسد لتحفيظ القرآن بعد». مزيجٌ من الانتماء إلى بيئة محافظة تقليدية في مدينة دمشق والتدين الذي بدأ ينتشر في المدينة منذ نهاية الثمانينات بطريقة متسارعة جدّاً، دفع سامي للإحساس بأنه يقف في المكان الصحيح: «كل شيء كان متوافقاً مع حالة التدين هذه، والتي لم تكن تماماً السمة العامة في عائلتنا، إلّا أنّها كانت ممدوحةً من قبل الجميع».

يعتبر سامي أنّ حضوره لحلقات التعلم الديني في المسجد القريب من بيته كانت اللحظة التي بدأت فيها خطواته نحو التيار الإسلامي: «كان المشايخ وقتها أكثر وضوحاً في المسألة الطائفية وتكفير باقي الطوائف الإسلامية من المسائل الأخرى مثل نظام الحكم، إلا عندما كان يحاول بعضهم أن يؤصل دينياً لشرعية النظام الموجود»، وهو ما دفع سامي للتساؤل أكثر حول تلك الشرعية. كانت الخلفية العائلية المناهضة للنظام السوري في بيت أهله دافعاً أساسياً إلى تلك التساؤلات حول شرعية النظام أيضاً. يحتار سامي اليوم ما الذي قرّبه أكثر من الموقف المعارض، أو ما الذي كان العامل الأساسي: «ربما كانت دروس المسجد، وربما كان إرث البيت. لا أستطيع الحكم، لكنّها كلها دفعتني للاشتراك في الثورة فور انطلاقها، وساعدت على أن أرى في التيار الإسلامي ممثلاً لتطلُّعاتي السياسي. بالنسبة لي، كان الإخوان المسلمون يمتلكون شرعية سياسية كبيرة وقتها، ولكن ليس هذا إحساسي اليوم بطبيعة الحال».

في فترة مقاربة خلال التسعينات، بدأ كنان نحاس، الذي ولدَ لأبٍ سوري مغترب في الأرجنتين ووالدة إسبانية، التقرُّبَ من أجواء المشايخ في مدينة حمص بعد وفاة والديه واحتضانه من قبل جدّه الذي كان يعيش في أحد أحياء السنّة التقليدية في المدينة. لم تكن هناك صلة سابقة بالتيار الإسلامي عبر عائلته، إلا أنّ تجاوره في السكن مع الشيخ عبد الرحمن أبو السعود مفتي الشافعية في مدينة حمص، وهو والدٌ لشابين قتل أحدهما وسجن الآخر لأعوام طويلة في سجن تدمر خلال الثمانينات، هي اللحظة التي يعتبر أنها بدأت مساراً قاده ليكون قيادياً في التيار الإسلامي العسكري بوصفه عضو مكتب سياسي في حركة أحرار الشام الإسلامية، ولاحقاً ناشطاً سياسياً ضمن حراك أوسع، لا يشمل الإسلاميين وحدهم، في رابطة كرامة المواطن التي تعمل على مناصرة حقوق اللاجئين السوريين.

يقول كنان بنوع من الحذر إنّ الصدفة ربما قادته إلى تيار إسلامي. تساءلَ عن توجهه لو ربته عائلة والدته في إسبانيا مثلاً، وهو يذكر ذلك باعتباره سؤالاً طرحه على نفسه في بداية شبابه وانتقاله لدراسة هندسة الميكانيك في دمشق بداية العقد الأول من الألفينات.

أما بيان ريحان فهي تصنّف نفسها ضمن التيار النسوي الإسلامي في سوريا، وتقول إن بداية تلك العلاقة كانت ضمن حركة أكثر تنظيماً من التيار المسجدي المتعارف عليه في سوريا، إذ كانت حركة القبيسيات الدعوية الناشطة ضمن صفوف النساء تقوم بشكل أساسي على عملية تعليمية كما حلقات المساجد والمعاهد الدينية، إلّا أنّها امتلكت في الوقت ذاته خصائص تنظيمية أكثر من غيرها من التيارات الدعوية والعلمية الموجودة في سوريا. تعتبر بيان، التي كانت ضمن مجموعة من السيدات اللواتي ابتعدنَ عن تيار القبيسيات مع بداية الثورة السورية نتيجة وقوف التيار الأصلي سياسياً مع النظام، أنّ دخولها المبكر في هذا التيار عزَّزَ لديها قوة الشخصية والرغبة بالتفاعل مع الشأن العام، بالإضافة إلى حرية أكبر في الحركة كامرأة تعيش في بيئة محافظة.

الثورة

لم يكن سامي بصدد التعريف عن نفسه كمنتمٍ للتيار الإسلامي بعد انطلاق الحراك في سوريا وانضمامه للمظاهرات التي اشتعلت في عموم البلاد ربيع العام 2011، إلّا أن صِلاته بدأت تتعزز مع شخصيات معارضة ينتمي كثيرٌ منها للتيار الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين: «كنا مسؤولين عن تنظيم صفوفنا والمظاهرات. وقد بقيت مشاركاتهم ضعيفة ضمن إطار عملية الاحتجاج المباشر، على الأقل في الوسط الذي كنت أنشط فيه، إلّا أنّهم وخاصة خلال العام الأول حرصوا جداً على التواصل الدائم معنا. لم أكن تماماً واعياً لذلك، لكن هذا التواصل كان مفتاحاً لشرعية تمثيلهم لنا». ضمن هذا الإطار، تطورت العلاقة بين سامي وبين أشخاص من التيار الإسلامي خارج سوريا. كانوا يستطيعون النفاذ والتواصل المباشر مع الشارع المنتفض من خلال التواصل معه ومع كثيرين مثله، وهو بالمقابل يحصل على إحساس بوجود من يمثله شخصياً خارج البلاد. كان هذا التواصل مدفوعاً بالأمل بالتغيير بأي طريقة كانت، خاصةً عندما كانت الأحداث المتتالية في ليبيا من تدخل عسكري دولي تزيد الأمل بتدخل مماثل في سوريا، ما يدفع لإحداث تغيير في البلد: «كان الحديث دوماً عن اقتراب الحل الليبي. عرفتُ لاحقاً انّهم استمروا بالحديث عنه حتى بعد أن أسمعهم سفراء الدول الغربية علناً موقفاً رافضاً للتدخل في سوريا على غرار ليبيا». كان هذا تكثيفاً لفشل الإسلاميين من الجيل الأقدم في تقديم أي حلول سياسية للوضع المستجد في سوريا، خاصةً مع تزايد العنف بشكل فظيع منذ صيف العام 2011، والتحول إلى استخدام قطعات الجيش في القمع بدباباتها وأسلحتها الثقيلة تحديداً منذ رمضان من ذاك العام.

يقول سامي: «اعتقلتُ نهاية 2011. خرجتُ بعدها بأشهر وانقطعت صلتي مع الجميع. لم تكن حسابات برنامج سكايب، التي لم يكن ينطفئ ضوؤها الأخضر يوماً، فعّالةً حتى. لم أكن أريد التواصل معهم أيضاً، وهم وجدوا في الفصائل المسلحة ضالّتهم. لم نعد مهمين بالنسبة لهم بعد قمع التظاهرات بشكل وحشي واعتقال العديد منّا».

أما بالنسبة لكنان نحاس، فقد أتاح له السفر إلى خارج سوريا، إلى بلد والدته إسبانيا، التفاعل واللقاء مع منفيين إسلاميين سوريين وعرب في أوروبا، وخلق صلات ستكون حيوية في اختياراته السياسية والفكرية بعد انطلاق الثورة السورية. عاد كنان إلى مدينته حمص، وأسَّسَ مع زملاء له لواءً عسكرياً سلفيّ التوجه انضمّ لاحقاً لحركة أحرار الشام.

أصبح التشكيله العسكري الموجود في مدينة حمص واحداً من المحجات الجديدة للتيار الإسلامي بطرق مباشرة وغير مباشرة، فعدا عن الداعمين المحليين من مغتربي مدينة حمص، أصبحت الكتائب والفصائل الإسلامية والسلفية صاحبة الثقل الفعلي بالنسبة للتيار الإسلامي السوري خارج البلاد، إذ توجَّه هؤلاء لتأسيس فصائل ودعم أخرى، ولم يكن تأسيس «هيئة حماية المدنيين» التي عُرفت لاحقاً بفيلق الشام بعيداً عن ذلك.

بعد سيطرة النظام على مدينة حمص وتهجير جزء من السكّان ومقاتلي الفصائل المعارضة، بدأت مجموعة كنان حواراً مع حركة أحرار الشام الإسلامية للاندماج بها في الشمال السوري، حيث استقر مطافهم بعد التهجير. لم يكن كنان مرتاحاً للوضع الجديد، إذ رأى أن اضطلاع الحركة والفصائل الإسلامية بإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام سينهكها ويؤدي إلى فشلها في محاربة النظام وفي الإدارة معاً، مُفضِّلاً وجود مدنيين في مرافق إدارة تلك المناطق.

هذا التوجه، بالإضافة إلى التوجه الذي قاده كنان مع شقيقه لبيب الذي تسلم لاحقاً المكتب السياسي لحركة أحرار الشام، دفع نحو مزيج من التعاطي الجدي مع مراجعات أبو يزن الشامي أحد قيادي الحركة الذي اغتيل في تفجير المقر صفر مع قيادي الصف الأول للحركة عام 2014، ومحاولة تقديم الحركة كممثل عن التيار الإسلامي السوري، خاصةً وأنّ العلاقة مع التيار الإسلامي التقليدي بدأت بالتراجع كثيراً خلال تلك الفترة. لم تنجح المحاولات وخرج كنان وأخوه من الحركة، وتحولت معظم بقايا الحركة لاحقاً إلى أداة بيد جبهة النصرة في إدلب وشمال سوريا، وذلك بعد معارك بين الطرفين انتهت بهزيمة الحركة وتشرذمها. نهايةٌ كان قد توقعها كنان الذي ترك العمل مع الحركة قبل ذلك.

من جهتها، تتذكر بيان ريحان حضورها ضمن تنسيقية مدينة دوما منذ تأسيسها بعد انطلاق الثورة بفترة قصيرة، حيث كانت الأجواء المحافظة مساعدة للغاية للآتين والآتيات من خلفيات الانتماء لتيارات دعوية إسلامية كما في حالتها. لكنّ ذلك ليس كل شيء، علاقتها بعائلتها أيضاً أتاحت لها المجال لاتخاذ قرارات حياتها، وهو ما كان مساعداً لها على النشاط في المجال العام مع بداية الثورة السورية.

نشطت بيان في العمل التنظيمي المباشر ضمن تنسيقية دوما، لكنها أيضاً نشطت ضمن قطاع التعليم بعد خروج قوات النظام من الغوطة الشرقية ودوما تحديداً، وهو ما وضعها أحياناً كثيرة في صدام مع التيار السلفي المتشدد المتمثل بجيش الإسلام. كان هذا الصدام دافعاً آخر لدى بيان لتبني موقف أكثر حسماً مع التشدد الموجود، وأكثر قرباً من التيارات التي تريد بناء حلول وسط بين التوجهات المحافظة لمجتمعاتها المحلية وتحقيق عدالة أكبر للمجتمع وللنساء بشكل خاص، مع وضوحٍ متزايد بشأن ضرورة اختيار النظام السياسي الديموقراطي للبلاد، باعتباره النظام السياسي الأفضل الذي يجب تطبيقه. 

ميتا-ثورة

يتحدث سامي اليوم عن رؤية تستمد أفكارها التنظيمية من التيار الدعوي والتيار المشيخي التقليدي في سوريا خلال القرن الماضي، والذي رأى في الدعوة الطريق الأنسب لأسلمة الدولة والمجتمع تلقائياً، وليس من خلال الصدام مع السلطة سياسياً او عسكرياً. يرى سامي أنّ خيار الصدام لم يعد متاحاً له كسوري يعيش تحت قبضة النظام: «لن أقبل الطلب بمواجهة النظام اليوم من أي أحد. دفعنا أثماناً عالية، أصدقاء رحلوا وأعوامٌ من العمر ذهبت بلا رجعة». ورغم أن سامي يستمد من رؤية التيار الدعوي تلك، إلا أنّه ابتعد عنهم كثيراً اليوم، خاصة عن الأجواء المشيخية في دمشق التي «تغيرت بلا رجعة حتى أصبحت شُعباً لحزب البعث. كان هذا موجود سابقاً، لكن ليس إلى هذه الدرجة». إلّا أنّ الدعوة المبطنة للمساواة والديموقراطية برأيه أمر مهم. لم يُجب سامي عندما سألته إن كان يعتبر نفسه اليوم جزءاً من التيار الإسلامي، سكت قليلاً وبعد حديث عن موضوع آخر استدركَ حول هذا السؤال: «أنا أريد الدفاع عن الهوية السنّية لمدينتي ومعظم بلدي، إنها معرضة للخطر ووجودي مهم في هذه العملية». استعانَ بصورة المرابطين في المسجد الأقصى في فلسطين لشرح موقفه أكثر، لكنه لم يعد للحديث عن الموضوع لاحقاً.

 ينشط كنان نحّاس اليوم في العمل ضمن إطار «حركة كرامة المواطن»، وهي حركة مدنية لا تنتمي إلى التيار الإسلامي، تطالب بحقوق اللاجئين السوريين، وتسعى إلى أن يكون الحفاظ على حياتهم وكرامتهم وأمنهم أهم شروط أي حل سياسي يمّهد لعودتهم إلى بلادهم. لكن كنان كان واضحاً بشأن المستقبل الذي يريده للبلد، فهو يتمنى أن يلتزم النظام السياسي بشروط من بينها الحفاظ على «هوية سوريا الإسلامية» كما يقول و«عدم توجيه العداء للإسلام». لا يريد أن يكون هناك عودة لاستخدام السلاح مجدداً، ويعتبر النظامَ الديمقراطيَ سبيلاً لتحقيق هذه الأهداف.

تنشط بيان من مكانها في ألمانيا اليوم بشكل واسع ضمن الحركات النسوية السورية، وتعتبر أن وجود التيار النسوي الإسلامي ضروري للغاية من أجل تحقيق التوازن بين المطالبات الضرورية بحقوق النساء من جهة وعدم الصدام مع المجتمع المحلي من جهة أخرى. لا تساوم بيان على أي حقوق أساسية للنساء من موقعها، لكنّ هوية المجتمع الإسلامية أمرٌ أساسيٌ في طريقة تفكيرها كنِسوية وناشطة سياسية.

تشير هذه التجارب إلى ابتعاد أصحابها عن التيارات الإسلامية التقليدية، وإلى خلل عميق في العلاقة مع هذه التيارات يبدو أنه يمتدُ إلى أبعد من هذه التجارب بالذات، فيما لا يبدو أنّه يمتد ليشمل العلاقة مع الإسلام الاجتماعي، ما قد يقود إلى تصوّر أن التيار الأكثر شباباً من الإسلاميين السوريين يفهم نفسه من خلال العلاقة مع الهوية الإسلامية المحافظة للمجتمع أكثر من العلاقة مع أي تيارات ومرجعيات قديمة. هوية سنيّة محافظة إسلامية، تشير ملامح التعامل معها عند شطر من الشباب والشابات الإسلاميين إلى أنهم سيكونون أكثر تحفظاً من الناحية السياسية، أو بمعنى آخر أقل انجرافاً نحو الخيارات الحادّة سياسياً واجتماعياً.