ينقسم الشمال الغربي السوري الخارج عن سيطرة نظام الأسد، أو ما يسمى اصطلاحاً «المُحرَّر»، إلى ثلاث مناطق نفوذ: مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» في إدلب وريف حلب الغربي، ومناطق سيطرة فصائل ما يُعرف بـ«الجيش الوطني» في جرابلس والباب واعزاز، ومناطق سيطرة فصائل «الجيش الوطني» في عفرين وما حولها. ويأتي فهم هذه التقسيمات ومعرفة كيفية نشوئها كمقدمة ضرورية لفهم كلّ ما يحدث في هذه المناطق من أحداث أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية، ومن هذه الأحداث خصوصاً هذا الاقتتال الحاصل بين «هيئة تحرير الشام» بمساعدة بعض مكونات «الجيش الوطني» والفيلق الثالث أحد مكونات «الجيش الوطني» نفسه! 

تحكم هيئة تحرير الشام في إدلب وريف حلب الغربي مناطق سيطرت عليها فصائل معارضة بعد معارك مع قوات النظام بدون دعم عسكري خارجي مباشر، ثم تفرّدت الهيئة بالحكم بالتغلّب على هذه الفصائل عسكرياً. بينما يحكم المنطقة الممتدة من جرابلس حتى إعزاز فصائلُ منضوية في «الجيش الوطني»، تمّت لها السيطرة بعد معارك مع تنظيم الدولة الإسلامية بدعم وتدخل مباشر من الجيش التركي في عملية سُمّيَت «درع الفرات». أما المنطقة الثالثة فتحكمها أيضاً فصائل منضوية في «الجيش الوطني»، تمّت لها السيطرة بعد معارك مع الوحدات الكردية وبدعم وتدخل مباشر من الجيش التركي في عملية سُمّيَت «غصن الزيتون». 

يمكن القول، وبتعميم واسع لكنه ضروريٌّ هنا، إن الهيئة في إدلب والفصائل في منطقة عملية «درع الفرات» موجودون في بيئة اجتماعية لديهم حواضن شعبية فيها، رغم أن هذه البيئة الاجتماعية لا تنفكّ عن مقاومة كلٍّ منهما في منطقة سيطرته، مقاومة بين رفض النفوذ كلياً ورفض السلوك والمطالبة بالإصلاح. مع تميُّز هيئة تحرير الشام عن الجيش الوطني بوجود مقاومة مدنية أكبر لنفوذها، بسبب سلوكها المتطرف ومنبتها القاعدي الذي يخيف المدنيين من أن يجلب لهم تبعات «الحرب على الإرهاب»، والأهم من ذلك بسبب طريقة سيطرتها على إدلب، من خلال تفكيك فصائل الجيش الحر وفصائل أخرى لها قواعدها الشعبية ومطاردة كل من قاوم نفوذها من المدنيين، وخاصةً الناشطين والإعلاميين الذين انتقل أغلبهم إلى مناطق سيطرة «الجيش الوطني» هرباً من ملاحقة الهيئة.

لكنّ عفرين وما حولها أبعد ما يمكن عن أن تكون بيئة اجتماعية فيها حواضن لفصائل «الجيش الوطني»، لأن السكّان هناك إن لم يكونوا حاضنةً للوحدات الكردية فهم بلا أدنى شك ليسوا حواضن لفصائل تأتمر بأمر تركيا، كما أن عفرين لم تكن طوال سنوات الثورة بيئةً اجتماعيةً لفصائل إسلامية، أي إنها لن تكون مؤيدةً للفصائل ولا للهيئة في اقتتالهما، والمدنيون الذين يؤيدون أحد الطرفين فيها هم قواعد شعبية للفصائل من المهجرين الذين سكنوا عفرين بعد تهجيرهم إليها من مناطق سورية عدة.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن ما ينتظره ويتوقعه المدنيون في إعزاز والباب وجرابلس ومارع من تركيا يختلف عن ما ينتظره ويتوقعه المدنيون في إدلب وعفرين منها، وذلك تجاه هجوم هيئة تحرير الشام وحملتها للتوسع على حساب الفصائل في عفرين، ثم متابعتها التَقدُّمَ نحو إعزاز وعزمها المعلن للسيطرة على كامل الشمال. 

لقد جَرَّبَ مدنيو إدلب مواقف وسلوك تركيا في أكثر من موقف، أولاً تجاه هيئة تحرير الشام عندما أزاحت أحرار الشام من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، وعندما ابتلعت فصائلَ كانت تركيا تقدم لها دعماً عسكرياً غير مباشر؛ وثانياً موقفها من تَقدُّم النظام على أكثر من منطقة في إدلب وخسارة كثيرٍ من البلدات والقرى ونزوح أعداد كبيرة من الأهالي، وذلك في مناطق تحتوي نقاطاً عسكريةً تركية جاءت لضمان وقف إطلاق النار ومراقبة إجراءات ما تم الاتفاق عليه مع روسيا من خفضٍ للتصعيد لم يحدث أن نُفِّذَ منه شيء. 

بينما لم يُجرّب مدنيو شمال حلب في إعزاز وجرابلس والباب إلا وقوف تركيا إلى جانبهم بتدخل جيشها بشكل مباشر لتحرير أراضيهم من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، ومنذ أن تمت لها السيطرة أمَّنت حمايةً لابأس بها لهذه المنطقة من تهديد النظام وحلفائه؛ روسيا وميليشيات إيران، ولم يشهدوا تراجعاً واحداً على الأرض من تركيا ولا سماحاً منها لأي فصيلٍ بالتغلب على فصيل آخر، بل محاولةَ جمعهم جميعاً في كيانٍ عسكري واحد.

في حين تَعرَّض أهالي عفرين وما حولها من مناطق كانت تحكمها الوحدات الكردية لمعاناة بالغة على يد الفصائل المدعومة تركياً، ولا ينتظر هؤلاء من تركيا أكثر من رحيلها ومن معها من فصائل عن المنطقة، وربما حتى لو تمّ الأمر على يد هيئة تحرير الشام بالنسبة لبعضهم، إذ قد يكون ممكناً بالنسبة لبعض الناس احتمال التطرف الديني مؤقتاً، في حين أن سياساتٍ عدوانيةً مباشرةً تجاه الكرد لأنهم كرد لا يمكن احتمالها إطلاقاً. 

بالعودة إلى هجوم الهيئة على مناطق سيطرة فصائل «الجيش الوطني»، فإنه لا يمكن إخفاء ارتياح كثيرين من أهالي عفرين، سواء من لا يزالون فيها أو من تم تهجيرهم منها نتيجة سيطرة الفصائل عليها، لسيطرة هيئة تحرير الشام على المدينة وأريافها، وهذا انطباعٌ تم رصده من معاينةٍ شخصية وتعاملٍ مباشر مع بعض أهالي عفرين. وهو ليس وليد لحظة دخول الهيئة، بل من مراكمة انطباعاتٍ يطلقها بعض أهالي عفرين منذ مدة طويلة، ويمكن القول إنه بدأ بعد مدةٍ قصيرةٍ من سيطرة الفصائل ومعايشة انتهاكاتها وطريقة إدارتها، وذلك رغم تصريحات المجلس الكردي (مُمثَّلٌ في الائتلاف وله مكاتب في داخل عفرين) ضد الهيئة، بسبب تمثيله الشعبي الضعيف جداً في المدينة. غير أن هذا الارتياح بسيطرة الهيئة ليس حباً بها، ولكن لأن سيطرة تنظيمٍ مصنّف على قوائم الإرهاب الأميركية على عفرين يمكن أن يُسهّل عملية طرده من قبل التحالف كما حصل مع تنظيم الدولة الإسلامية. ينتطر كثيرون من أبناء عفرين الكرد عموماً، وخصوصاً أنصار الوحدات الكردية الذين يسكن أغلبهم حالياً خارج عفرين في مناطق عدة من سوريا وخاصةً في تل رفعت وما حولها، التي بات يُطلق عليها «منطقة الشهباء»، استعادةَ الوحدات الكردية بمساندة التحالف للسيطرة على عفرين، وهو الأمر الذي تسهله كثيراً سيطرة الهيئة. 

في إعزاز والباب نجد الصوت الشعبي عالياً جداً ضد هيئة تحرير الشام، ويمكن اعتبار المظاهرات التي خرجت تنديداً بهجوم الهيئة تمثيلاً لموقف عموم المدنيين في هذه المناطق، وذلك دون إهمال وجود من يؤيدون قدومها لحكم المنطقة بسبب ما عايشوه من فوضى الفصائل وما سمعوا عنه من تنظيم وانضباط الهيئة في الإدارة. وهو بالطبع لا يُعَدُّ انضباطاً إلا في سياق مقارنته مع فوضى فصائل «الجيش الوطني» في إدارة مناطقها. 

بالاستعانة بالتقسيمات والتفصيلات المذكورة أعلاه، تَجدرُ الإشارة هنا إلى أمر بالغ الأهمية في سياق الموقف الشعبي من هجوم الهيئة، وهو أن «مناطق عملية درع الفرات» تحكمها فصائل من أبنائها، وتشارك في حكمها فصائل تم تهجير قادتها ومقاتليها وعائلاتهم من مناطق سورية أخرى، ولا يستطيعون العيش في إدلب تحت سيطرة الهيئة بسبب عداواتٍ تشكّلت من اقتتالاتٍ سابقة حدثت في مناطق متعددة من سوريا، ومن أمثلة ذلك مقاتلو جيش الإسلام وعوائلهم. كما أنها منطقة تجهيز مزدوج من قبل النظام من عموم مناطق سوريا ومن قبل الهيئة بعد حملاتها على فصائل الجيش الحر وهروب المقاتلين وعائلاتهم إلى مناطق «الجيش الوطني»، فالشاهد هنا أن هذه المنطقة عصية على سيطرة الهيئة بسبب وجود حاضنة شعبية للفصائل ووجود فصائل معادية للهيئة ومشروعها منذ أمدٍ بعيد. 

عفرين أيضاً ذات خصوصية كما قلنا، لكن على عكس مناطق «درع الفرات»، فإن عدم وجود حاضنة شعبية للفصائل ولا مقاتلين من أصحاب الأرض قد سهَّلَ كثيراً دخول الهيئة إليها بلا مقاومةٍ تُذكر.

في مواجهة هجوم الهيئة على عفرين، لم تُحرّك تركيا ساكناً ولم تُسكّن متحركاً، بل أخلَت بعض نقاطها العسكرية التي قد تتعرض لخطر الاشتباكات بين الهيئة والفيلق الثالث. بالإضافة إلى أنها كثَّفت من تحليق طائراتها بدون طيار على مناطق الاشتباك مع الوحدات الكردية في محيط عفرين، لدرء خطر استغلال الوحدات إياها للاقتتال في تنفيذ تسلّل عسكري إلى مناطق نفوذ الفصائل التي تدعمها تركيا في عفرين. يأتي هذا الإجراء ليكون أحد أهم العلامات التي تشير إلى تخوّف تركيا من أن يمنح أي تغيير للسيطرة في عفرين فرصةً للتحالف الدولي، أو حتى للجانب الروسي، لإعادة الوحدات الكردية إلى المدينة وريفها. 

الاستطلاعُ بالطائرات، وإرسال قوات عسكرية جديدة إلى عفرين، ربما يؤكد أن تركيا تحيط بظروف الاقتتال، تستغلّه، تتحكم به وتوجهه وتتعامل مع مخاطره. 

الصمت التركي: كيف يفهمه الناس في الشمال السوري 

فتح الصمتُ التركي باباً واسعاً لتداول تأويلات عديدة بين الناس في الشمال السوري بشأن محاولة فهم ما يحدث وغايته الحقيقية، ومن هذه التأويلات:

– تعاني تركيا من فوضى الفصائل في «الجيش الوطني»، وهو ما يضرّ بسمعتها كقوة سيطرةٍ في سوريا، وأرادت استبدال الفصائل بالهيئة التي تضبط إدلب بشكلٍ مناسبٍ لوجود تركيا العسكري في سوريا.

– قامت بعض الفصائل في «الجيش الوطني»، وذلك بعد تصريحات تركية عن احتمال التقارب مع نظام الأسد وحدوث مصالحة، بإجراء اتصالاتٍ مع الولايات المتحدة في شرق سوريا ومع حليفتها قسد  لتضمن لنفسها النجاة من المصير الذي ينتظرها إذا حدثت المصالحة، ما استدعى من تركيا معاقبتها بالسماح للهيئة بغزو مناطق سيطرتها كعمل تأديبي يردعها عن الخروج مستقبلاً عن الأوامر والتعليمات التركية.

– تريد تركيا إجراء تفاهمٍ مع النظام بصيغةٍ تشمل فتح معابر تجارية ومدنية، تضمن تركيا من خلالها التجارة مع مناطق سيطرة النظام وتوسيع المناطق التي تنوي إعادة اللاجئين السوريين إليها لتشمل مناطق النظام عبر المعابر المدنية، وذلك ما يتطلب سيطرة جهةٍ واحدةٍ مُنظمة ومنضبطة ولا مشكلة لديها مع فتح المعابر والتجارة مع النظام، ولا أفضل من الهيئة لهذه المتطلبات. ويُدعم هذا التحليل نفسه بحقيقة وجود مراكز مصالحة يفتتحها النظام في محيط إدلب (خان شيخون، معرة النعمان)، على أنها دلالةٌ على ما يجري تحضيره في المرحلة القادمة للمدنيين الذين ربما ستتم إعادتهم إلى هذه المناطق برعاية تركية روسية.

إذن، تتقاطع أغلب التحليلات المتداولة بين سكان الشمال على مسألة رغبة تركيا بعقد اتفاق أو تفاهم مع نظام الأسد، والتخلّص من عبء «الجيش الوطني» واللاجئين السوريين لديها.

وفي تقديري أن ما يحدث يمكن أن يكون موقفاً تركيّاً تجاه مواقف سكان الشمال الرافضين لسياسة تركيا في إجراء اتفاقٍ خاص مع النظام، وفتح المنطقة على مناطق سيطرته عبر معابر تجارية ومدنية، الأمر الذي وصل خلال مظاهرات رافضة لهذا التوجه إلى إحراق العلم التركي، وهو فعلٌ لا تجب الاستهانة بتأثيره على القرار التركي. ولكنه في تقديري ليس موقفاً من فصائل «الجيش الوطني» نفسه،  لأن درجة تبعيتها لتركيا لا تعطي أي انطباعٍ بوجود حاجة تركية لاستخدام الهيئة لتأديبها أو إجبارها على فعل أمرٍ لا تريده.

إذن، لقد فعلت تركيا ما يلزم كي يرى الناس ما يمكن أن يحدث فيما لو وقفت على الحياد، وتركت الأحداث تتفاعل دون تدخلٍ منها. المظاهرات التي سارت إلى معبر باب السلامة مع تركيا احتجاجاً على الصمت التركي تجاه هجوم الهيئة هي بالضبط ما كانت تركيا تنتظره، ليس لأنها تتحرك بفعل الضغط الشعبي، بل على العكس من ذلك، إن هذه المظاهرات تعني أن الناس التقطوا الرسالة التركية، وخرجوا للتظاهر طلباً لمساعدة تركيا في إيقاف الهيئة التي أصبحت تطرق أبواب إعزاز.