يشهد قطاع مياه الشرب في مختلف المناطق السورية أزماتٍ متكررة، منها متصلٌ بخروج جزئي أو كلي عن الخدمة لشبكات ومنظومات التغذية بالمياه لفتراتٍ يمتد بعضها لسنوات، فضلاً عن الجفاف الذي يضرب مساحاتٍ واسعة من البلاد، مع عدم صلاحية نسبة كبيرة من مياه الآبار الجوفية للشرب. تتفاقم هذه الأزمة في الشمال السوري مع استخدام النظام السوري لملف المياه كأداة ضغط على المقيمين خارج مناطقه، يقابلها ضعف المؤسسات الخدمية الناشئة في المنطقة وعدم قدرة المنظمات الإنسانية على تحمل تكاليف مشاريع مياه كبيرة، إضافةً إلى الآثار الناتجة عن المشاريع والحلول المؤقتة التي تبادر إليها المجالس المحلية، من قبيل حفر الآبار وتوزيع المياه الجوفية على المنازل والمخيمات مقابل أسعار تنافسية. ولم تكن هذه الحلول مجدية تماماً، وتحولت بمرور الوقت إلى تكاليف مزمنة ترهق جيوب السكان وتستنزف الموارد المائية. مع هذه الظروف، بدأت معامل المياه المعدنية ومحطات تنقية المياه بالنمو في ظل الإقبال المتزايد على شراء هذا المنتج، مما أدى لانتعاش سوق المياه المعبأة ومعدات التنقية المنزلية.
مشاريع تغذية المنازل بالمياه المعقمة
مع ارتفاع الكثافة السكانية في الشمال السوري جراء موجات النزوح والتهجير التي شهدتها خلال السنوات الماضية، والزيادة الطبيعية في حجم الاستهلاك المائي، مقابل سوء العوامل المناخية وانخفاض منسوب مياه الأمطار الذي أدى إلى تراجع مستويات المياه الجوفية، إضافة إلى الجفاف وحبس تركيا لمياه الأنهار وما رافقه من انخفاض حاد في منسوب نهر الفرات، جميعها عوامل أدت إلى تفاقم أزمة المياه في المنطقة وجعلت من مشاريع توصيلها إلى المناطق السكنية والمخيمات ضرورة ملحة.
وخلال السنوات القليلة الماضية أُطلقت العديد من المشاريع الساعية لإيصال مياه الشرب والاستخدام المنزلي في مدن الشمال، مثل اعزاز وجرابلس وعفرين، والعمل على صيانة محطات تنقية المياه وتعقيمها، حيث أتاح قرب هذه المدن من الموارد المائية الرئيسية وتوافر البنية التحتية سهولة إنجاز المشاريع وانخفاض تكاليفها. ومطلع العام 2022 الجاري، أعلن المجلس المحلي لمدينة جرابلس وبالتعاون مع منظمة “Iyd” الخيرية التركية عن مشروع بناء محطة لتنقية المياه قرب نهر الفرات، مزودة بخزانات كلور لتعقيم المياه، بهدف تغذية مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي بالمياه الصالحة للشرب وتخفيف تحكم النظام السوري بمصادر مياه المنطقة، حيث توفر المحطة مياه الشرب لأكثر من 60 ألف شخص. كما عمل المجلس المحلي لمدينة إعزاز على مد شبكات لتوصيل المياه من بحيرة ميدانكي في عفرين إلى المدينة، بعد سيطرة فصائل المعارضة المدعومة من تركيا على مدينة عفرين عام .2018
وبلغ عدد المشاريع المنجزة في مناطق شمال غرب سوريا ضمن قطاع المياه والصرف الصحي 92 مشروعاً خلال النصف الأول من العام الجاري، 50 منها كانت في مناطق أرياف حلب الشمالية والشرقية، فيما بلغ العدد الإجمالي لمشاريع المياه شمال غرب سوريا 837 مشروعاً، خلال الفترة بين 2018 وحتى النصف الأول من عام 2022، وذلك بحسب تقرير صادر عن مركز عمران للدراسات حول التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق شمال غرب سوريا خلال النصف الأول من عام 2022.
وبحسب تقرير آخر صادر عن وحدة تنسيق الدعم في سوريا، فمن أصل 1282 محطة جرت مراقبتها في شمال غرب وشرق نهر الفرات، هناك 880 محطة عاملة، بنسبة تصل لنحو 69 بالمئة من إجمالي المحطات، بينما تتوقف بشكل كامل نحو 20 بالمئة من المحطات المُعطلة عن العمل لعدم توافر النفقات التشغيلة، و21 في المئة متوقفة بسبب الحاجة للصيانة. وأظهر التقرير وجود 301 محطة في مناطق حلب، منها 150 محطة قيد العمل، موزعة على 120 محطة معقمة صالحة للشرب.
مشاريع لا تلبي الاحتياجات
إلا أن هذه المشاريع، ورغم أهميتها، ظلت عاجزة عن تغطية مراكز المدن، فيما استمرت مشاكل السكان وقاطني المخيمات في عمليات تأمين المياه، واستمرّ اعتمادهم على الخزانات التي توفرها المنظمات والمؤسسات الخيرية العاملة في المدينة، والتي تقوم باستجرار المياه من الآبار، وتقديم «حبوب الكلور» بغرض تنقيتها. هذه المشاكل موجودة أيضاً في مدينة الباب والنواحي التابعة لها، خاصةً وأنها كانت تعتمد منذ عام 2006 على مياه محطة عين البيضا الخاضعة حالياً لسيطرة النظام، والذي يمتنع عن تغذية المنطقة. ورغم المشاريع التي أطلقت خلال السنوات الماضية للتخفيف من الأزمة، إلا أنها ظلت عاجزة عن تغطية احتياجات السكان.
وفي عام 2020، أطلق المجلس المحلي لمدينة الباب بالتعاون مع منظمة إحسان للإغاثة والتنمية مشروعاً لجر المياه من 12 بئراً إلى خزان المدينة الرئيسي في جبل الشيخ عقيل وتنقيتها، بهدف تغذية المدينة التي يقطنها نحو 320 ألف نسمة بالمياه الصالحة للشرب. محمد رفاعي، منسق برامج منظمة إحسان بريف حلب الشمالي الذي أوضح في حديثه للجمهورية.نت أن المشروع يغطي احتياجات 150 ألف مدني بمياه الشرب عن طريق مد شبكات من الآبار الجوفية إلى خزان المدينة المزود بمضخات تعقيم بالكلور. يقول رفاعي: «يعتمد المشروع على محطات ضخ في قريتي سوسيان وصندي قرب مدينة الباب، تم إنشاؤها وتجهيزها بمجموعات توليد كهربائية ومعدات ضخ ومراقبة وتحكم ومضخات كلور لتعقيم المياه وتنقيتها لتصبح المادة صالحة للشرب». ومع غياب المصادر المتجددة للمياه «اتجهنا للاعتماد على الأحواض الجوفية التجميعية التي تُعد مياه الأمطار مصدرها الوحيد، وبالتالي فهي تتأثر بالعوامل المناخية حيث تجف خلال الصيف والخريف مع توقف الأمطار، وبالتالي انخفاض الكميات الواردة إلى الخزان الرئيسي وجفاف الآبار التي تضطرنا لحفر أخرى جديدة»، يتابع رفاعي.
ويشير الرفاعي إلى أن المشروع «يغطي احتياجات نحو نصف سكان المدينة فقط، فيما يعتمد قاطنو مناطق التوسعات العمرانية الجديدة وبعض الأحياء السكنية على مياه الخزانات والصهاريج للاستهلاك المنزلي والشرب». في حين طرح المجلس المحلي لمدينة إعزاز في العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الجاري مشروع ضخ مياه الشرب في المدينة للاستثمار الخاص، داعياً الشركات الراغبة بالاستثمار تقديم عروضهم خلال مدة عشر أيام من تاريخ النشر.
وقال مصدر في المجلس المحلي لمدينة إعزاز للجمهورية.نت (طلب عدم الكشف عن اسمه) أن سبب عرض المشروع للاستثمار «يعود إلى رفض غالبية سكان مدينة إعزاز دفع رسوم الجباية المفروضة عليهم، والمحددة بمبلغ 50 ليرة تركية شهرياً، ما جعل المجلس عاجزاً عن تحمّل تكاليف الضخ والصيانة الدورية وتشغيل العنفات ومحطات التنقية». بينما أوضح مكتب منظمة المهندسين السوريين للإعمار والتنمية العاملة في الشمال السوري في حديثه للجمهورية.نت عن وصول عدد المستفيدين من مشاريع المياه ومحطات التنقية التي قامت بها المنظمة خلال عام 2021 الماضي إلى ما يزيد عن مئتي ألف شخص في شمال غرب سوريا.
وقال المهندس عبد الله الحسيني، المدير التنفيذي لمنظمة المهندسين السوريين: «رغم المشاريع التي تعمل عليها المنظمات الإنسانية والمؤسسات المحلية لتوفير المياه الصالحة للشرب والاستخدام المنزلي، إلا أنها لا تزال بعيدة عن تغطية احتياجات السكان في مناطق شمال غرب سوريا، والذي يزيد تعدادهم على أربعة ملايين نسمة، نتيجة غياب الدعم الكافي لنمو القطاع وتحسينه، حيث يعتبر من أقل القطاعات المدعومة رغم أهميته».
بدائل مكلفة
ومع ارتفاع نسبة الشوائب والشوارد الكلسية في مياه الآبار العميقة (الارتوازية) المنتشرة في أرياف حلب الشمالية والشرقية، التي تصل إلى نسب يستحيل معها صلاحية المياه للشرب، وعدم كفاية المشاريع التي تشرف عليها المجالس المحلية لتغطية المناطق السكنية، كان التوجه نحو استخدام المياه المعقمة والمعدنية أمراً طبيعياً، رغم ارتفاع التكاليف والأعباء المادية على السكان، خاصة مع تزايد مخاطر التعرض للأمراض والأوبئة التي يسببها الاستهلاك المستمر لمياه الآبار. ويؤكد أبو حمزة، من سكان بلدة قباسين بريف حلب الشرقي، على أن مياه الآبار في مجملها صارت غير صالحة للشرب، إلا أن «الحاجة وارتفاع سعر البدائل يرغم السكان على شرائها واستهلاكها في مختلف الاستخدامات الشخصية والمنزلية». ويضيف أبو حمزة: «سابقاً كنا نشتري مياه الخزانات المعبأة من الآبار القريبة من نهر الفرات بريف حلب الشرقي، لكن حتى هذه المياه لم تعد صالحة للشرب، ومع ذلك فإن أسعارها آخذة بالارتفاع حتى وصل سعر البرميل إلى عشر ليرات تركية بعد أن كان سعره 3.5 ليرة».
ويبلغ متوسط استهلاك العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص نحو 6 براميل مياه أسبوعياً (220 ليتر لكل برميل)، ما يعني نحو 300 ليرة تركية شهرياً للحصول على مياه الآبار، في حين يشير أبو حمزة إلى أن «عائلته المكونة من تسعة أفراد بحاجة إلى عشرة براميل أسبوعياً على الأقل»، وبالتالي يدفع 400 ليرة تركية شهرياً للحصول على الماء، في حين لا يتجاوز الأجر الشهري للعامل في هذه المنطقة 1200 ليرة تركية شهرياً. وبمقابل هذه العوائق المادية، بات الحصول على المياه النقية والمُتأكد من سلامتها ضرورةً ملحة جداً بالنسبة للسكان، خاصةً الأطفال وكبار السن ممن ترتفع مخاطر إصابتهم بالأمراض الناجمة عن تلوث المياه أكثر من غيرهم. يعلق أبو حمزة على هذا بالقول: «شراء عبوات المياه المعقمة صار من المسلمات بالنسبة إلى ذوي الأطفال وكبار السن، رغم الأعباء المادية المضاعفة، خاصة وأن حبوب التعقيم التي توزعها المنظمات لا تعطي مفعول التنقية اللازم». وهو أمرٌ يتفق معه أبو أحمد من قاطني مخيم الملعب في مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي، الذي أوضح في حديثه للجمهورية.نت أن «شراء المياه المعقمة بات ضرورةً طبيةً أيضاً، وهو ما فرضه عليه الطبيب المشرف على علاج زوجته المصابة برمل الكلى».
ويصل معدل استهلاك العائلة المؤلفة من خمسة أفراد نحو 15 ليتر من المياه الصحية يومياً، ما يعني دفع نحو 1200 ليرة تركية شهرياً، حيث يتراوح سعر ليتر المياه المعدنية في أرياف حلب بين 2,50 وثلاث ليرات تركية.
انتعاش سوق المياه المعبأة
مع ازدياد الحاجة للمياه النقية، نتيجة الأزمات المتعاقبة التي تتعرض لها أرياف حلب الشمالية والشرقية، وغياب مصادر المياه النقية ما زاد من مخاطر الأوبئة والأمراض، شهد قطاع المياه المعبأة نمواً متسارعاً خلال السنتين الماضيتين، وارتفعت أعداد مصانع تنقية وتعليب المياه مع زيادة نسب المبيعات وظهور أسواق داخلية للتصريف. وبلغ عدد المعامل المرخصة العاملة في أرياف حلب الشمالية والشرقية، حتى الثلث الأخير من عام 2022، خمسة مصانع للمياه المعدنية، ثلاثة منها في مدينة إعزاز، واثنان في كل من مدينة الباب وبلدة الراعي.
ويؤكد مصطفى بكري، مدير معمل الشرق للمياه الصحية الموجود في مدينة الباب الصناعية شرق حلب، على أن سوق المياه المعبأة في أرياف حلب الشمالية والشرقية آخذ بالنمو، مع زيادة المخاوف من استهلاك مياه الصنابير ومياه الآبار الجوفية الملوثة، لافتاً إلى أن «المعامل الموجودة تعمل بثلث طاقتها الإنتاجية تقريباً، ومع ذلك فهي قادرة على تغطية حاجة المنطقة من المياه النقية». يضيف بكري: «رغم أن سوق المياه الصحية صار موسمياً خلال السنوات السابقة، ويرتبط نشاطه بارتفاع درجات الحرارة وقلة منسوب المياه في المنطقة، إلا أنه شهد تحسناً ملحوظاً هذا الصيف، نتيجةً للعوامل المذكورة، التي أدت إلى توسع سوق التصريف وتحول العائلات إلى جزء من فئة المستهلكين، الأمر الذي يحمل أبعاداً مبشرة تعود بالنفع على أصحاب الشركات وصحة السكان معاً». وأشار بكري إلى وجود منافسة بين المصانع للسيطرة على السوق والحفاظ على الأجزاء والمناطق التي تغطيها كل شركة، ويرى أن هذا الأمر «ينعكس على جودة الإنتاج والعمل على استمرارية تقديم المياه وفق مواصفات عالمية، وهو ما يصب في صالح المستهلك الذي يحصل على مياه عالية الجودة والنقي». وبغض النظر عن مدى دقة ما يقوله بكري، إلا أنه يغفل مدى مناسبة أسعار المياه للمستهلكين، وأن الاتجاه المتزايد نحو استهلاك المياه المعلبة يأتي اضطرارياً وعلى حساب احتياجات أخرى أساسية، وأن صالح المستهلك يكون بتأمين مصادر مياه نظيفة ومتناسبة مع دخله.
وتعتمد معامل التعبئة على مياه الآبار التي تضخ في خزانات مخصصة، قبل مرورها بسبع مراحل تنقية، بدءاً من مرحلة التصفية باستخدام الرمل، ثم الفحم، لتنتقل إلى مرحلة الريزين الكاتيوني لتحلية المياه وتنقيتها من الكلس والشوارد الضارة، قبل مرورها بالفلاتر القطنية وجهاز التناضح العكسي RO، ثم تطهيرها بالأشعة فوق البنفسجية. ويشير مصطفى بكري إلى أن معمله مرخصٌّ لدى المجلس المحلي لمدينة الباب، وإنتاجه يخضع للفحوص المخبرية الداخلية والخارجية للتأكد من حفاظه على المواصفات ونقاوة المياه، مردفاً: «تخضع المياه للفحص المخبري ضمن المعمل المزود بأجهزة فحص خاصة قبل تعبئتها، وذلك للتأكد من سلامتها ومحافظتها على مواصفات الجودة ونسب المعادن والأملاح، إضافةً إلى الفحص المخبري الروتيني الذي يتم ضمن مخابر خارجية».
معوقات وتحديات
تتعدد آلية عمل شركات تعبئة المياه وتنقيتها بريف حلب، حيث تنتشر المعامل الآلية ونصف الآلية وأخرى يدوية، وتختلف تكلفة الإنشاء بحسب الطاقة الإنتاجية وطبيعة الآلات والمعدات والتجهيزات، بينما تمثل طرق استيرادها العقبة الأصعب التي تواجه عمل المستثمرين، نتيجة تضاعف قيمتها لعدم توافرها في السوق المحلية واضطرار أصحاب الشركات لاستيرادها عن طريق تركيا، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج جراء تضاعف أسعار المواد الأولية اللازمة في التصنيع وأيضاً ارتفاع تسعيرة أحمال الطاقة.
وعن التحديات والعقبات التي تواجه عمل المستثمرين في قطاع المياه، يشرح صاحب معمل الشرق قائلاً: «تمثل أحمال الطاقة التحدي الأبرز لعملنا، خاصةً وأن معظم المعامل باتت تفضل تشغيل آلاتها على المولدات الكهربائية بعد أزمة الكهرباء الأخيرة والارتفاعات المتكررة في تسعير الكهرباء الصناعية، إضافةً إلى محدودية سوق التصريف التي تعتمد فقط على أرياف حلب وإغلاق المعابر التجارية مع بقية المناطق، بما فيها إدلب، وبالتالي غياب سوق التصدير الداخلي والخارجي الذي أثر على عملنا وأجبرنا على تخفيض ساعات العمل وكمية الإنتاج، وبالتالي وفرة الكميات المعروضة وتراكمها في الأسواق».
وعن حجم الطلب في المناطق التي يصرف فيها معمل الشرق إنتاجه يقول صاحب المعمل: «رغم الزيادات الأخيرة في حجم الطلب، فلا يوجد حتى اللحظة أي ضغوطات على المعامل تدفعنا لزيادة الإنتاج، وبالتالي استمرار العمل بنظام ثمان ساعات تشغيل فقط، بينما تُهدر بقية الساعات التي تمثل خسائر بالنسبة إلى صاحب رأس المال، ما ينعكس على سوق العمل أيضاً لعدم القدرة على توفير فرص عمل إضافية للسكان». ويشير بكري إلى أن «الإنتاج ما يزال يعتمد بشكل مباشر على المطاعم ومحلات الوجبات السريعة التي تقدم عبوات المياه كجزء من الوجبة، إضافة إلى المحال التجارية والاستراحات المنتشرة على الطرق الرئيسية الواصلة بين المدن».
تقاسم السوق
يتم تقسيم سوق المياه على أساس الأسواق وفئات المستهلكين: منازل وخدمة المطاعم والترفيه والبقاليات والاستراحات، فضلاً عن قنوات توزيع أخرى مثل المكاتب والمنظمات الإنسانية والمدنية والمؤسسات العسكرية، وذلك بحسب النوع والتوزيع الجغرافي وحجم العبوة (250 مل، و300 مل، و350 مل، و500 مل، وليتر، وخمسة ليترات).
ويوضح أبو حسين، وهو وكيل توزيع لإحدى شركات مياه الشرب المعبأة في مدينة إعزاز، أن الطبيعة الجغرافية والحركة التجارية لكل منطقة تحدد طبيعة نمو قطاع المياه المعبأة، حيث تنتعش بشكل كبير في المدن التجارية وذات الكثافة السكانية العالية وتنخفض في المناطق الزراعية. ويقول: «تتصدر مدينة إعزاز المناطق المستهلكة للمياه المعبأة باعتبارها عقدة وصل تجارية ونقطة استراحة للتجار والمسافرين بين مدن ريف حلب وإدلب، إضافةً إلى أنها صارت أشبه بعاصمة للشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام السوري ومقراً للكثير من المنظمات الإنسانية، حيث تنتشر المطاعم ومحلات تقديم الوجبات السريعة، وتعتبر مركزاً حدودياً لتنقل البضائع والمسافرين، فضلاً عن انتشار المعاهد والجامعات والكثافة السكانية العالية فيها، وجميعها تمثل قنوات تصريف أساسية للمياه المعبأة». أما بالنسبة إلى بقية المدن، ومنها الباب والمناطق المحيطة، فإن الطلب، بحسب أبو حسين، يرتبط «بظروف توفر المياه والجفاف، حيث يتراجع بشكل كبير خلال الشتاء ويرتفع في الصيف، وذلك نتيجة ضعف الحركة التجارية وقلة المكاتب والمؤسسات في المدينة بالمقارنة مع إعزاز».
زيادة المعروض يخلق المنافسة
يعتبر أحد الإداريين في واحدٍ من معامل مدينة إعزاز لتعبئة المياه الصحية (فضل عدم ذكر اسمه) أن زيادة المعروض من المادة خلق جواً من المنافسة بين الشركات في أرياف حلب، دفعت أصحابها إلى الاعتماد على أساليب متعددة بهدف التوسع في السوق، ومنها تقديم العروض والمساعدة للموزعين والزبائن. يقول الإداري: «تزيد أهمية الاستحواذ على المواقع والقطاعات الحيوية في هذا السوق، حيث يمثل النجاح باستمالة أكبر قدر ممكن من المطاعم وأصحاب المحال في المواقع الهامة، مثل الطرق التجارية أو المعابر والمحال القريبة من الجامعات، ما يعني الطلب المتواصل على المادة واستمرار إنتاج معامل المياه».
ويردف: «لكل قطاع طرق وأساليب للسيطرة عليه، حيث تلجأ المعامل إلى تقديم برادات لأصحاب المحال القريبة من المعابر الداخلية أو الخارجية والأكشاك والبسطات الطرقية، مقابل حصر عملية البيع لإنتاجه فقط، بينما تُقدم العروض لأصحاب المطاعم على الأسعار مقابل استمرار التعامل معها، فضلاً عن العلاقات الشخصية والعروض التي تلعب دوراً في جذب المؤسسات المدنية والمنظمات للتعامل مع معمل معين».
الاستثمار ينعش سوق المياه
يمكن اعتبار أن ازدهار قطاع الخدمات وتوسع المشاريع الخاصة بالمطاعم والمراكز الترفيهية في أرياف حلب الشمالية والشرقية ساهم بشكلٍ مباشرٍ في نمو قطاع الأغذية، بما فيها سوق المياه الصحية، لا سيما قطاع خدمات الطعام، مثل المطاعم والمقاهي والفنادق التي بدأت تدخل خط المشاريع الاستثمارية في بعض المدن مؤخراً، ومنها إعزاز، وتسيطر هذه القنوات على الحصة الأكبر من سوق المياه. لكنّ أبو جمعة، صاحب محل لبيع المواد الغذائية في مدينة الباب، أشار إلى عوامل أخرى ساهمت بنمو سوق المياه الصحية، متمثلةً في «تصاعد التحذيرات من مخاطر انتشار مرض الكوليرا في ريف حلب، والذي تعتبر المياه الملوثة من الأسباب الرئيسية لانتشاره». ويوضح أبو جمعة أن نسبة البيع وتأثرها تقاس بالكميات المباعة من كل عبوة، حيث ارتفعت نسبة مبيع العبوات سعة خمسة ليتر خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد الحديث عن انتشار مرض الكوليرا.
ويعدد أبو جمعة عدداً من العوامل التي ساهمت في زيادة الطلب على المياه المعلبة خلال الأشهر القليلة الماضية، أبرزها أزمة الجفاف التي تعاني منها مدينة الباب، وارتفاع أسعار خزانات المياه رغم عدم صلاحيتها للشرب، وأيضاً التجهيز لعودة الطلاب للدراسة مع افتتاح المعاهد، وآخرها انتشار الكوليرا.
مشاريع أخرى
إلى جانب معامل تعبئة المياه الصحية، شكلت محطات تنقية المياه الخاصة مصدراً جديداً لتأمين مياه الشرب المعقمة، وبدأت هذه المحطات بالانتعاش، خاصةً في منطقة عفرين بريف حلب الشمالي، نتيجة ارتفاع نسبة الكلس في المياه وتلوثها في بعض القرى والنواحي التابعة للمدينة. حسناء الشيخ علي، نازحة من مدينة حلب إلى جنديرس بريف عفرين، تشير إلى أنها تشتري عبوات سعة عشرين ليتراً من المياه المفلترة منذ أشهر، لاستخدامها في الشرب وإعداد المشروبات والطهي، وذلك «بعد تعرض عائلتها للتسمم بسبب مياه الصنابير التي تصلها من البلدية».
وتقول حسناء: «لا يمكن استخدام مياه الآبار للشرب أو تحضير المشروبات أو صناعة مؤونة العصائر، فهذه الأمور تحتاج إلى مياه عذبة ومعقمة إلى درجة كبيرة، كما أن الطعام المُحضّر بهذه المياه يحتاج وقتاً أطول للنضوج، ويتأثر طعمه مع استخدام مياه الصهاريج، وهذا يعني ضياع الغاز والجهد وعدم الحصول على وجبة جيدة». ولم تفوت حسناء الشكوى من ارتفاع سعر ليتر المياه الذي يزيد من حجم الضغوط والأعباء المادية على عائلتها، خاصةً وأنهم يعتمدون على الحوالات المالية التي يرسلها أشقاؤها وعائلة زوجها لتغطية نفقاتهم.
فيما شكك محمود العمر، المقيم في مدينة عفرين، بجودة المياه المباعة في الأسواق إنْ كانت المعبأة أو المفلترة، متسائلاً في الوقت ذاته عن دور المجالس المحلية والمؤسسات المعنية في مراقبة مصادر المياه وجودتها والتسعيرة المختلفة للمياه. لكن أبو أحمد، صاحب محطة لتنقية المياه في ناحية جنديرس بريف عفرين، أكد على نقاوة مياه غالبية المحطات وصلاحيتها للشرب، حيث «يتم فحصها مخبرياً قبل خروجها من المحطة وتوزيعها على مراكز البيع في عفرين»، قائلاً: «عملية تحلية المياه تمر بعدة مراحل، تبدأ من الرمل والفحم إلى فلتر الريزين للقضاء على الأملاح المذابة التي تسبب ارتفاع الترسبات الكلسية واستبدالها بالصوديوم، ثم فلتر الكربون للتخلص من الكلور والشوائب، وأخيراً تعريضها للأشعة فوق البنفسجية».
ويضيف صاحب المحطة: «يتم ضخ المياه إلى خزانات مجهزة لبيعها ضمن المحطة بسعر 25 قرش تركي لليتر الواحد، كما تُنقل خزانات معبأة بالمياه لتوزيعها على أصحاب المحلات ومراكز البيع في القرى وضمن مركز مدينة عفرين، فضلاً عن بيعها للمخيمات المنتشرة في المنطقة»، مشيراً إلى أن «تسعيرة بيع الكميات الكبيرة تختلف عن كميات الاستهلاك المنزلي».
وتنتشر في منطقة عفرين ما لا يقل عن ثمان محطات لتنقية المياه، جميعها مرخصة لدى المجالس المحلية المتواجدة في المنطقة، ثلاثة منها في ناحية جنديرس، بينما تتوزع المحطات الأخرى على بقية مناطق عفرين، بحسب أبو أحمد، صاحب إحدى محطات تنقية المياه في ناحية جنديرس. ويشير أبو أحمد إلى «اختلاف طرق الفلترة ومراحلها بين محطة وأخرى بحسب المعدات والآلات المتوافرة، حيث تكمل بعض المحطات جميع مراحل التنقية، بينما تكتفي أخرى بثلاث أو أربع مراحل، وأخرى تعتمد على مرحلتين فقط، الأمر الذي ينعكس على جودة المياه ونقاوتها».
غياب الرقابة ومخاطر صحية وبيئية
بحسب ما نقل موقع فوكس حلب عن مسؤول وحدة المياه في ناحية جنديرس بريف عفرين، فإن محطات الفلترة بحاجة إلى ترخيص عمل من قبل المجلس المحلي، إلا أن ضعف الإمكانيات لدى وحدة المياه يمنع إجراء رقابة دورية على جودة المياه في هذه المحطات. يتفق أبو أحمد مع هذا الكلام، إذ يؤكد غياب رقابة المجالس المحلية بشكل شبه كامل عن محطات فلترة المياه، ليبقى الرقيب الوحيد هم أصحاب المحطات أنفسهم. ويضيف: «بالنسبة إلى أصحاب المحطات الراغبين باستمرار عملهم وتوسعته، فهم يقومون بإجراء فحص داخل محطاتهم بشكل دوري عن طريق جهاز فحص إجمالي المواد المذابة لضمان بقاء المياه وفق النسب الصحية، كما أن هذا الفحص ضروري لمعرفة مواعيد استبدال فلاتر المياه».
تعتمد المعامل ومحطات تنقية المياه على العبوات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، لما تتميز به من انخفاض حجم التكلفة مقارنة بالعبوات الزجاجية، إضافةً إلى خصائصها الشفافة والمقاومة للكسر، ما يسهل من عملية الحفظ وخفض التكلفة الإجمالية على المُصنعين، وغالباً ما يتم استيراد هذه العبوات من تركيا. محمد البكري، صاحب معمل الشرق، أوضح في حديثه للجمهورية.نت أن معمله يعتمد على العبوات البلاستيكية المستوردة من تركيا نظراً لارتفاع جودتها مقارنةً بالمواد البلاستيكية المعاد تصنيعها والمنتجة محلياً. يقول: «يتم استيراد العبوات وفق مواصفات عالية، وتستهلك لمرة واحدة فقط، لضمان جودة المنتج التي تضمن أيضاً سلامة المستهلك، على الرغم من ارتفاع سعرها مقارنةً بسعر العبوات المحلية».
وعن آلية التعبئة يشرح البكري قائلاً: «يتم تنظيف العبوات بشكل فردي، ثم تنقل إلى مراحل متعددة من الغسل والتنظيف والتنشيف، وتتم المرحلة الأخيرة دون تدخل الأيادي البشرية لضمان عدم تلوث العبوات أو نقل الجراثيم، حيث يتم تعبئتها في آلات خاصة وإحكام إغلاقها وتغليفها». لكنّ هذه التطمينات لم تساهم في إزالة المخاوف من الآثار البيئة التي تفاقمها المخلفات البلاستيكية لمعامل المياه في منطقة يمكن وصفها بأنها نقطة ساخنة للتلوث بالمواد البلاستيكية بسبب التوسع العمراني السريع وارتفاع الكثافة السكانية، ما يؤدي إلى تراكم هذه المخلفات وتحللها في التربة. إلا أنّ الدكتور المهندس عبد الله الحسيني، المدير التنفيذي لمنظمة المهندسين السوريين للإعمار والتنمية العاملة في مناطق شمال غرب سوريا، قلّل من حجم هذه المخاوف مع تحول البلاستيك إلى مصدر دخل لكثير من قاطني مناطق شمال غرب سوريا، الأمر الذي يساهم من تخفيف آثارها الضارة على المجتمع والتربة.
ويقول الحسيني: «لا يمكن تجاهل الأثر البيئي الضار للمواد البلاستيكية، خاصة وأن العبوة الصغيرة بحاجة إلى عشرات السنوات للتحلل، وما ينجم عنها من انبعاث المواد الضارة مع تعرضها لأشعة الشمس، بالنظر إلى طبيعة تصنيعها، غير أن الأمر المساهم في تقليل مضار هذه المادة هو ارتفاع القيمة الاقتصادية للمواد البلاستيكية المستهلكة بالمقارنة مع معدلات الفقر المرتفعة، إذ يتم جمعها من قبل عمال وباحثين عن مصدر دخل وبيعها لأصحاب معامل تكرير البلاستيك، ليتم الاستفادة منها في عمليات التدوير والتكرير داخل المعامل والمنشآت الموجودة في المناطق الصناعية الخاصة، وبالتالي فإن المادة حالياً لا تعتبر مشكلة بيئية بسبب جمعها المباشر».
وإلى جانب المخاطر البيئية تبرز المشكلة الصحية الناجمة عن الاستخدام المتكرر للعبوات البلاستيكية، خاصةً وأن معظم السكان يعاودون استهلاك العبوات في إعادة تخزين المياه أو لحفظ مواد غذائية أخرى، الأمر الذي يهدد سلامتهم، بالنظر إلى زيادة احتمالية تفاعل البلاستيك مع المياه والمواد المحفوظة في حال استخدامها المستمر. محمد العلي، من سكان ناحية جنديرس بريف عفرين، يشير إلى أنه يستخدم عبوة البلاستيك ذات سعة 19 ليتر منذ شهرين في شراء المياه الصالحة للشرب من المحطة الموجودة في بلدته، موضحاً: «لست الوحيد الذي يقوم بهذا الأمر، فالجميع هنا تقريباً يعيدون تعبئة القناني لأشهر حتى يتبدل لونها أو تميل أرضيتها إلى الاصفرار».
قلة الدعم لقطاع المياه
الشهادة السابقة التي يقدمها محمد العلي عزّزت من تحذيرات المهندس عبد الله الحسيني، الذي أشار إلى أن التخوف الرئيسي من هذه المياه يتمثل في غياب الرقابة الدائمة عليها وغياب القوانين الحقيقية الناظمة لعملها، قائلاً: «يعيش القطاع الخاص حالةً من الفوضى وغياب الضوابط والرقابة الحقيقة على منشآت تعقيم وتعبئة المياه الأهلية في مناطق شمال غرب سوريا، الأمر الذي يزيد من الشكوك حول إتباع المعامل المواصفات العالمية في إنتاج المادة». واعتبر أن غياب الثقة بالمياه المقدمة عن طريق شبكات المياه التابعة للمجالس والمؤسسات المحلية وانقطاعها المستمر «أدى إلى انتعاش سوق المياه المُعبأة وأجهزة التعقيم والفلترة الخاصة».
ويرى الحسيني أن نفور الأهالي من مذاق مادة الكلور في مياه الشبكات العامة، فضلاً عن التخوف المحق من انتشار الأمراض التي تسببها المياه الملوثة، ساهم بزيادة الإقبال على شراء المياه المعبأة أو المفلترة، التي تعتبر بنظر الكثيرين مصدراً موثوقاً للمادة في ظل الحديث عن الأمراض والأوبئة، وآخرها مرض الكوليرا الناتجة عن شرب الماء الملوث. وأكد المهندس عبد الله على أن الآبار السطحية تشكل المصدر الرئيسي للمياه في أرياف حلب الشمالية والشرقية، وهي مياه ملوثة في معظمها، ويقول: «أكثر من 90 بالمئة من الآبار السطحية ملوثة وتحتوي على المخلفات العضوية والأسمدة والجراثيم والمبيدات، الأمر الذي يزيد من نسبة الأمراض والأوبئة».
ومع ذلك، لم يفوت الحسيني الإشارة إلى أن التوجه لشراء المياه المعقمة التي تبيعها المحطات والمصانع لا يمثل الحل الأنسب لمعالجة مشكلة تلوث المياه، إذ «يجب الاعتماد على الشبكات العامة للمياه في الشرب، مع التأكد من جودتها ونظافتها، حيث تقوم الكثير من المؤسسات والجهات المختصة بالعمل على تعقيم المياه من خلال محطات وآلات حديثة». من جهتنا، وبعد استماعنا للعديد من الشهادات حول تلوث المياه والإصابات بالتسمم نتيجة استهلاك مياه الشبكات العامة، وبمقاطعة ذلك مع كلام المهندس عبد الله الحسيني نفسه عن تلوث المياه السطحية بنسبة 90 بالمئة، لا نستطيع القول إنه «يجب» الاعتماد على مياه الشبكات العامة في الوقت الراهن دون تقديم حلول لتحسين جودة المياه من قبل المجالس المحلية والمنظمات الإنسانية والدولة التركية صاحبة السلطة واليد العليا في هذه المنطقة.
بدائل اقتصادية
أمام هذا الواقع الصعب من ارتفاع تسعيرة المياه الصحية والمعقمة وخشية تلوثها، وجد كثير من السوريين في اقتناء أجهزة التنقية المنزلية -رغم ارتفاع أسعارها- الحل الأنسب لمشكلة المياه. ويرى محمد أبو عمر، من سكان مدينة إعزاز أن جهاز فلترة المياه هو الحل الاقتصادي لمشكلة مياه الشرب «إذ تدفع تكلفته لمرة واحدة فقط مقابل الحصول على كميات غير محدودة من المياه النظيفة». يقول أبو عمر: «أستخدم جهاز الفلتر منذ سنة تقريباً، وبلغت تكلفة تركيبه في المنزل نحو 350 دولار أميركي، ورغم ارتفاع سعره بالنسبة للمقيمين في هذه المنطقة، إلا أنه قد حلَّ مشكلةً كبيرةً بالنسبة لي، خاصةً وأن عائلتي مؤلفة من 12 شخصاً».
ويشير محمد إلى أن المشكلة الأبرز التي تمنع السكان من شرائه، إلى جانب سعره المرتفع، تتمثل «بحجم الصرف، فمقابل كل ليتر مياه نظيفة يصرف الجهاز نحو عشر ليترات مياه»، غير أنه «حلَّ» هذه المشكلة عن طريق توصيل أنبوب من الفلتر مع برميل مياه لاستهلاك المياه غير الصالحة للشرب في عمليات التنظيف».
مخاوف مستقبلية
يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم أنّ سوق المياه المعبأة يرتبط بالحركة التجارية بشكل مباشر، إضافةً إلى مستوى الكثافة السكانية وجودة المياه التي توفرها المؤسسات المحلية. ويقول: انتعاش سوق المياه الصحية المعبأة لا يقتصر على أرياف حلب ومناطق سيطرة المعارضة، بل يشمل مختلف المناطق السورية، نتيجةً لعوامل عدة؛ أبرزها تضرر شبكات توصيل المياه الصحية ومحطات التعقيم الحكومية، إضافةً إلى تزايد الحديث عن انتشار الأوبئة التي تسببها المياه الملوثة، ومنها الكوليرا والملاريا وغيرها من الأمراض التي باتت تنتشر في مختلف المناطق السورية، والتي ساهمت بتعزيز التوجه نحو شراء المياه المعبأة لأمان استهلاكها بالنسبة إلى المدنيين.
ورغم التأكيد على أن ازدهار السوق يعد طبيعياً بناءً على العوامل المشار إليها، والتي تتقاسمها مختلف مناطق النفوذ في سوريا، إلا أن الكريم أشار إلى وجود مخاوف من التوجه نحو خصخصة قطاع المياه. ويضيف: «هناك نوعان مغذيان لسوق المياه المعبأة، وهما سوق استيراد المادة وتوزيعها عن طريق شركات خاصة، والثاني يتمثل بالشركات المحلية والمعامل الأهلية كما هو الحال في مناطق المعارضة، وهنا تبرز المخاوف من عملية خصخصة قطاع المياه، بدايةً من خصخصة آلية تسويق المياه المعبأة مع انخفاض مستويات التغذية التي توفرها المجالس المحلية كما يجري حالياً، وبالتالي تخلي هذه المؤسسات عن قطاع المياه لصالح الشركات الخاصة بذرائع بعضها واقعي ناتج عن عدم قدرتها على تغطية احتياجات السكان من المادة، وأيضاً تحت ذرائع زيادة إنتاج وضخ المادة من خلال الاستعانة بالشركات الخاصة».
تلعب المصانع دوراً كبيراً في خلق توازن اقتصادي وأساساً للتوجه نحو الاكتفاء الذاتي، خاصةً مصانع الأغذية ومنها معامل المياه المعبأة، التي تمر صناعتها في أرياف حلب الشمالية والشرقية الخارجة عن سيطرة النظام بمراحل ازدهار لافتة، من خلال زيادة الطلب على المادة وقدرة المعامل والمحطات على خلق وفرة في المعروض، إلا أنها كشفت عن ضعف وفشل المؤسسات المحلية في تأمين حاجة السكان من المياه الصالحة للشرب، ليرتبط نمو قطاع المياه المعبأة والمعقمة بغياب أي حلول أخرى بتكاليف معقولة.