عبر الفنون، يروي الفيلم الوثائقي القصة لن تموت، إخراج دايفيد غيرسون، حكاية الحدث السوري منذ العام 2011 وصولاً إلى اللحظة الراهنة وبين الداخل السوري والمهجر، وذلك عبر شهادات ثمانية فنانين وفنانات يَروون وتَروينَ عن أوضاعهم وأحوالهنّ قبل الانتفاضة الشعبية، ومن ثم أسئلة البدايات الثورية والموقف من الحراك الشعبي المنتفض، ولحظات الانتصار والقمع والخطر التي عاشوها، بما يشمل تجارب مثل الاعتقال والنجاة من الرصاص والقذائف واختبار الألم والخسارة. يروي الفنانون والفنانات عن قرارات الرحيل هرباً من الموت والدمار والخدمة العسكرية، بحثاً عن فرص لممارسة الفن بحرية، أو لخيارات مرتبطة بالعائلة، وكل منهم ومنهنّ يروي عن رحلة الوصول إلى أوروبا عبر البحر أو سيراً على الأقدام، بالطائرة أو بغيرها من أساليب الوصول.
هكذا، بتوظيف الفنون التي أنتجها أولئك الفنانون والفنانات يروي الفيلم سمعياً وبصرياً رحلة الفن السوري في المرحلة المعاصرة عبر: الفن التشكيلي والديجتال آرت والكريوغراف وفنون الأداء والمقطوعات الموسيقية والأغاني وفنون التجهيز والتصوير الضوئي؛ يُشكِّلُ كل ذلك الجانب السمعي البصري الذي يتألّف من خلاله الفيلم. ولذلك، فإن الفيلم يتطرق إلى أغلب الموضوعات والقضايا التي تشغل الإنتاج الفني السوري المعاصر، من أسئلة مثل: دور الفن بين الثورة وبين المهجر، الغناء والموسيقى الذاتية أو المناضلة في قضايا المجتمع، رسومات الطفولة بين العالم المثالي وعالم العنف والتعذيب، الاستلهام من مأساة الصورة الواقعية، الجمال والخراب، الطفولة والدماء، صورة اللاجئ بين النمطية والسريالية، موضوعات التأليف والغناء بين الوطن والمهجر، بين الجمهور السوري والجمهور الأوروبي.
رسومات عوالم الطفولة بين اليوتوبيا المثالية والقمع السياسي
تشكل الرحلة التي يأخذنا فيها الفيلم مع رسومات ولوحات الفنانة ديالا برصلي، نموذجاً مثالياً لمراقبة أثر الحدث السياسي والاجتماعي على العمل الفني في مسيرة الفنان السوري المهنية. بدأت ديالا برصلي الرسم كنوع من العلاج، كانت تستيقظ كل يوم في الثالثة صباحاً ليخلو لها المطبخ كي ترسم في منزل العائلة، وتعيش عوالمها الفنية المستقلة. عملت سريعاً في مجال رسومات الأطفال، والرسوم المتحركة، مبتكرة عالماً مثالياً طفولياً من حكايات أطفالٍ يُحلِّقون فوق الغيوم، بمساعدة الكتب التي تحل بدلاً من المناطيد التي ترفع الأطفال إلى عالم الحكايات، فكأن القراءة تحمل الطفولة إلى تجاوز الدنيا، وتدخلهم في العوالم الخيالية. لكن انطلاقة الثورة السورية ستحمل تغييراً في رسومات الفنانة لترسم مشاهد من الانتفاضة الشعبية، وحين تشارك بنفسها في التظاهرات ستتعرض للضرب. حينها بدأت الرموز السياسية تظهر في رسوماتها، رسمت الأطفال يكتبون شعارات سياسية على الحائط. إحدى الأعمال الفنية لبرصلي تجسد مجموعة من المتظاهرين تواجه الأمن بالموسيقى، مجموعة متظاهرين يلقون بالنوتات الموسيقية في الهواء، بينما تطاردهم مجموعة من العسكر وتتطاير هناك علامات الصول الموسيقية بينهما؛ تُظهِرُ الرسمةُ الموسيقى كثورة. ومع ظهور العنف وسقوط الضحايا، رسمت الشُهُب تسقط من السماء، واحدة منها تحمل اسم حسون أخو ديالا المفقود. رسمت الفنانة أيضاً أظافر مقلوعة عن الأصابع التي تحمل كتاب، في تذكيرٍ بالتعذيب الذي استهدف الأطفال السوريين خصوصاً. دخلت الفنانة تالياً في مرحلة إعادة رسم صورة الأطفال الضحايا والمستمدة من الصور الصحفية الواقعية، منها الطفل فاقد الذراعين ومدمى القدمين يحمل بالوناً أحمر، الفتاة الفاقدة لقدميها تجلس على سرير المستشفى بجانبها الدب المدمى. ورسمة الطفل الذي يحمل أكياس الدم المربوطة إلى جسده، إعادة رسم لصورة واقعية فوتوغرافية عن طفل في مشفى مُدمّر في حصار الغوطة. رسمة بورتريه الطفلة التي تضع على رأٍسها قناع الحماية من الغاز الكيميائي، تجسد اللوحة التناقض بين عالم الطفولة الوردي وبين قسوة حضور قناع الواقي من الهجمات بالأسلحة الكيميائية.
مع تقدم الفيلم، تظهر رسومات الفنانة ديالا برصلي في مرحلة جديدة تلك المتعلقة برحلة النزوح القسري. هنا يصور لنا مخرج الفيلم رسمة لديالا برصلي تحوي فتاة ترخي قدميها على جواز السفر الإداري السوري، في التعبير عن رحلة الهجرة الخطرة بدون أوراق رسمية وعبر الطرق غير القانونية، وفي التعبير عن الحاجة إلى جواز السفر الذي أصبح أهم من الفرد الإنسان. ثم رسمة برصلي عن قارب عائلة يعبر غمام البحر في قوارب الموت. وفي لوحة من البورتريه الذاتي تقدم الفنانة نفسها بالحالة النفسية والذهنية التي تعيشها منذ الخروج من البلاد. لكن الفيلم يصر على انتقال الفنانين والفنانات إلى حالة أفضل، لذلك ترافق كاميرا الفيلم ديالا برصلي في معرضها الأول في باريس، نرى من بين اللوحات رسمة عن حرية التعبير حيث تجسد امرأة تتشابك الأيدي فوق فمها لتمنعها من التعبير، وتقول الفنانة: «اللوحة عن حال الرقابة وغياب حرية التعبير في سورية». لوحة أخرى في المعرض تجسد الحكاية الشعبية «عازف المزمار» الذي يسحب الشر والسوء من قريته عبر الموسيقى، لكن في رسمة برصلي يقود عازف المزمار العسكريين، المقاتلين، المتشددين الدينيين خارج سورية. تشرح الفنانة: «هذه رسمة تجسد كيف ستُخلِّصنا الموسيقى ويُخلِّصنا عازف المزمار من العنف والسلاح في سورية». لذلك، فإن متابعة التحولات التي تختبرها أعمال الفنانة ديالا برصلي في الفيلم تبين الانتقال من العالم الطفولي إلى رموز من الموضوعات والقضايا السياسية والإجتماعية، من الثورة إلى الضحايا من الأطفال إلى آثار التعذيب ومن ثم موضوعات النزوح والهجرة القسرية عبر قوارب الموت. وتتمثّل ميزة الأسلوب في رسوماتها بالتناقض بين العالم المثالي-الطفولي، والعالم العنفي والمأساتي الذي يتسلل إليها بين الرسمة والأخرى.
الجمال والخراب بين تاريخ الفن التشكيلي وواقع الدمار السوري
إذا كانت رسومات ديالا برصلي تمزج بين عوالم البراءة والقسوة، فإن المعالجة الفنية في أعمال الفنان تمام عزّام تهجس بموضوعة الجدلية بين الدمار والجمال. فالتصاميم البصرية التي يقدمها الفنان تدمج بين لوحات شهيرة في تاريخ الفن التشكيلي وبين الصور التي توثق الدمار والخراب في الواقع السورية. نرى في أحد أعماله مجموعة من البوالين الملونة التي تطير في الهواء كمنطاد وهي تحمل بناءاً مهدماً مدمراً يرتفع إلى وسط الصورة. يقول الفنان في شهادته في الفيلم: «الفن يتحدث دوماً عن السياسية، السياسة عاجزة عن الحديث عن الفن». إذاً، هو فنان يتحدث عن السياسة عندما يضع لوحات شهيرة في تاريخ الفن مثل لوحة قبلة لغوستاف كليمت، فوق صور الأبنية والأحياء المهدمة في الواقع السوري، ويجعلنا نرى لوحة الموناليزا لليوناردو دافنشي تنظر إلينا من بين أحياء الدمار وفوق ركام الحرب. وفي عمل فني آخر تظهر شخصيات لوحة الرقص لهنري ماتيس، ترقص دائرياً بأجساد عارية على الأبنية المدمرة في الحرب السورية. يتحدث الفنان في شهادته في الفيلم عن علاقة الفن بالحرية: «الفنان يجب أن يعيش الحرية المطلقة»، لذلك قدم الفنان تمام عزام أعمالاً عن القمع والضحايا، لوحة كتيبة الإعدام لفرانشيسكو غويا مثلاً، أدمجها الفنان عزام بالخراب في أحد أحياء الحرب في سورية، لتبدو وكأنها تحدث الآن مستلهماً من التراث الفني الإنساني. يقول الفنان عن العمل: «لقد عاش غويا التجربة نفسها، رسم أبرياء يُقتلون في الشوارع لأجل قرار طاغية ما».
يرافق الفيلم أيضاً الفنان تمام عزام في معرضه الأخير، نرى لوحات بمقاسات كبيرة يتحول فيها خراب المدينة إلى بورتريهات، تتداخل المقاطع التشكيلية على اللوحة التي تجسد أحياء ومدناً منكوبة، فتلتقطها عين المتلقي أيضاً وكأنها بورتريهات لأشخاص تتشكل وجوههم من الخراب والدمار الممتد على سطح اللوحة. إنه دمار المدن ودمار الإنسان، دمار الحجر ودمار الروح، في تَوحُّد وتَمازج فني بين سطح اللوحة وتفاصيلها وعين المتلقي وإدراكها. أيضاً، صورة معالجة رقمياً للفنان نفسه تجسده في بورتريه ذاتي على شكل بناء متهدم، العيون هي أسلاك معدنية خارجة من الوجه الإسمنتي للبناء، الفم مربوط بأسلاك الكهرباء الممتدة في الأبنية. إن متابع الموضوعة الأساسية التي تتطور في أعمال الفنان تمام عزام يتلمّسُ الهاجس الموجود عند الفنان في الربط بين تاريخ الفن التشكيلي الجمالي، وبين واقع الصور الخارجة من الحياة السورية الغارقة بالدمار والخراب. وفي مرحلة تالية، أثر الدمار والخراب على الحياة النفسية والذهنية للأفراد.
الصورة الفنية اللاجئة بين العالم السريالي والشهادات الواقعية
ينتقل بنا الفيلم الوثائقي إلى أعمال الفنان عمر الإمام وهو مصور فوتوغرافي وفنان بصري ومصمم فيديو وأعمال تجهيز. أيضاً، تحركَ الدافع الإبداعي لدى هذا الفنان إزاء موضوعة جرائم وانتهاكات التعذيب في سورية، يقول عمر الإمام: «أنا سفيرُ وصوتُ ضحايا التعذيب، الذين عادة لا يتم الحديث عنهم في الإعلام والفن. أشعرُ بالتزام أخلاقي حيالهم، أن أكون البطل الخارق لضحايا التعذيب». وضمن هذا الإطار حقق مشروعه الفني بعنوان نصف سمكة، نصف إنسان، وهو عمل بصري وفيديو قائم على دراسة عن ذاكرة الإنسان وذاكرة الأسماك: «خلافاً عن الإنسان القادر على التعلّم من ذاكرته، فإن الأسماك مخلوقات لديها ذاكرة قصيرة، لكن الإنسان لم يتجاوز رغم ذلك الحرب والصراعات، التي تبين كم هي ذاكرة الإنسان قصيرة في كل مرة يتذكر». أحداث مثل العنف الأهلي، واللجوء إلى السلاح والقمع تُحوِّلُ الإنسان من كائن صاحب ذاكرة ذكية إلى كائن بلا ذاكرة تعليمية. وهناك أكثر من عمل فني يندد بحضور السلاح في الحياة اليومية والاجتماعية السورية للفنان، في واحدة من الصور الفوتوغرافية تظهر المعزة تحمل كلاشينكوف وجويستك أجهزة ألعاب الفيديو. في واحد من الفيديوهات تظهر شخصية رسوم متحركة لتمساح يقود طفلة إلى الموت بين الحقول وهي تحمل كلاشينكوف، يذكر الإخراج بفيديوهات الإعدام الميداني في سورية من قبل المسلحين أو داعش. وتظهر لقطات من فيلم تسعة ونصف عائلة نازحة في سيارة بيك آب، يرافقها فنان موسيقي يعزف آلة الكمان ويضع على رأسه القناع الواقي من الأسلحة الكيميائية.
ينتقل الفيلم إلى مرحلة عمل الفنان عمر الإمام في لبنان، حيث انهمك بالعمل على الصورة النمطية المتعلقة باللجوء السوري في لبنان، وذلك مع مشروعه الفني الفوتوغرافي بعنوان عيش، حب، لاجئ، والذي يتألف من 12 صورة فنية تعمل على تحويل حكايات النازحين والنازحات من الأسى إلى مشاهد سريالية. قام الفنان بالاستماع إلى شهادات النازحين والنازحات ثم دخل مرحلة التأليف لصور بصرية قابلة لنقل تجاربهم وتجاربهنّ إلى مستوى التعبير الفني السريالي. منها حكاية الزوج سالم وزوجته الكفيفة. يروي سالم حكايته: «ذلك لأن زوجتي كفيفة، فأروي لها حكايا التلفزيون المفضلة لديها. أُعدّلُ في الأداء والأحداث أحياناً، كي أخلق لها عوالم أمتع». في كل عصر، يرتدي قبعة ورداءاً طويلاً كساحر، يقف بين الخيم البيضاء كأنها ستائر مسرح، ويروي لزوجته بصوته حكايات، جملاً، أفكاراً، تتحول إلى مشاهد في خيالها. في مشاهد المسلسلات يلعب سالم الشخصية ونقيضها، ربما البطل الطيب والشرير في الآن ذاته، وفي البرامج الحوارية يبتكر رأيين متناقضين، يصبح مقدم الحلقة والضيف، والرأي النقيض. الزوجة تستمتع بفكرة أن يبتكر ذهنها صوراً ولقطات وأحداثاً من الواقع، فتتركن أمام شاشة التلفاز، تتخيل مشاعر الشخصيات في المسلسلات، تتفهم آراء الحضور في البرامج الحوارية، وأحياناً تتنبأ باحتمالات أحداث الفيلم. أما حكاية أم سعيد فهي تتعلق بحساسيتها وخوفها من أصوات القصف وما يليها من سكون، لذلك كانت تلجأ إلى سماع الموسيقى العالية هرباً من مجريات الواقع، لذلك تجسد الصورة وهي ترتدي كاسك هيدفون على أذنيها من فوق الحجاب، في صورة تخلق تناقضاً بين ما يجري في الواقع وبين ألحان الموسيقى. تحضر أيضاً موضوعة التزويج المبكر في مجتمعات اللجوء السوري في لبنان، ويخصص الفنان صورتين لهذه الموضوعة، الأولى تصور رجلاً عملاقاً إلى جانب طفلة صغيرة جداً وضعت على رأسها الطرحة، في تعبير صارخ عن التناقض بين الطفولة والزواج، وفي صورة أخرى يروي الفنان حكاية ناهد التي تعبر عن كراهيتها لتجربة الزواج المبكر: «أتمنى لو أتحول لتنين، وأحرق طرحة العرس، والخيمة بأكملها»، فيصورها الفنان على شكل تنين يمتلك جناحين أسودين ويرتدي فستان العرس النسائي.
العمل الأخير الذي يتوقف الفيلم عنده من أعمال الفنان عمر الإمام هو صورة فنية بعنوان العشاء السوري الأخير، تتضمن مجموعة من الشخصيات التي تمثل أنماطاً مختلفة لشخصيات من أجواء الحرب ومن أطياف المجتمع السوري المختلفة بما يتضمن قائداً عسكرياً ومقاتلاً في كتيبة مسلحة ومقاتل بيشمركة يعزف على البزق، وعنصر داعش ينفذ إعداماً بالضحية، هناك الضحية أيضاً بلباسها الأرجواني، وهناك المتظاهر، والمرأة. شخصيات وأنماط من لحظة الراهن السياسي والثقافي السوري تجتمع بتناقضاتها على مائدة واحدة، تعكس اللوحة التناقض الذي تحمله شخصيات الصراع أو التنوع السوري في اللحظة الراهنة، وربما انعدام التواصل فيما بينها، لأن كل كتلة تشكيلية في الصورة معزولة عن أخرى، وكل شخصية تقوم بفعلها بمعزل عما تؤديه أو تقوم به الشخصيات الأخرى في الصورة، وبالتالي في المجتمع.
الأغاني والموسيقى في التعبير عن رحلة الهجرة والعلاقة مع المكان
برزت التجربة الموسيقية للفنان أنس المغربي مع الألبوم الأول لفرقة خبز دولة الذي صدر في بيروت، قبل أن تقرر فرقة الروك رحلة الهجرة عبر قوارب البحر إلى أوروبا، لتصور الفرقة الموسيقية رحلتها في العديد من التقارير الصحفية. يركز الفيلم الوثائقي الحالي على الموضوعات التي يكتبها الموسيقي ككلمات لأعماله، منها أغنية طوفان نوح التي كتبها أنس المغربي في التعبير عن رحلة النزوح عبر قوارب الموت:
رح احكيلك كل شي
من لما أخدني البحر ونفدني من الحاجز
بلعت الرجفة الأولى
باستني النار ورمتني، فعم شوفها من بعيد وأركض
طوفان نوح مسابق السفينة
شغلك مع مهرب
وتارك قلقك رهينة
كل ما خلصت السكرة بطول السما وبسجد
عم بحكيلك، ياريت الحكي بيفيد يا عمي
عم بحكيلك، ياريت الحكي بيفيد يا عمي
تتعلق العديد من الشهادات التي يقدمها الموسيقي أنس المغربي في الفيلم بالموضوعات التي يتناولها في أعماله الغنائية، يبدو هذا السؤال هاجساً عند انتقال الفنان من بلد إلى آخر، ومن جمهور إلى جمهور آخر. وكذلك مع تَغيُّر المرحلة التي يعيشها الفنان نفسه في حياته المهنية. يستلهم الفنان أغنية تعب المشوار لفؤاد غازي ويعيد عزفها بتوزيع جديد وغناءها بطريقة مغايرة عن النسخة الأصلية، تركز على علاقة الذاكرة بالرحيل والمكان، وعلاقة الدار بالذات.
راب وروك وهيب هوب بين التعبير عن القضايا السياسية والتعبير عن الذات
تشغل إبداعات الموسيقى والغناء محوراً آخر من محاور الفيلم، ذلك المتعلق بتجربة مغني الراب والهيب هوب أبو حجر من فرقة مزاج، والذي يروي أجزاء من سيرته الذاتية المتداخلة مع سيرته المهنية. بدأ كتابة الموسيقى والأغاني من حادثة شخصية حين تعرض للتعذيب على يد عائلة فتاة أحبها، وتعرض للتهديد بالقتل في ظل العقوبات المخففة التي يستفيد منها مرتكبو الجرائم تحت ذريعة الشرف حسب القانون السوري. كان هذا الظلم الذي وقع عليه ذاتياً دافعه الفني الأول، ثم مع انطلاق المظاهرات في سورية، يقول أبو حجر: «أردت الصراخ في وجه كل تاريخ سوريا، في وجه سوريا كمؤسسة، وبعد يومين تم اعتقالي لمدة شهرين». يتحدث المغني أبو حجر في شهادته أيضاً عن الرقابة في سورية ويبين غياب حرية التعبير واعتقال أصحاب الرأي المعارض، حين كتب أغنية موجهة إلى الرئيس السوري، تخاطب «سائق السيارة الغريب الأطوار» كنوع من التورية لتجنب الرقابة:
لما الناس تطالب بالإصلاح
من كتر الإفلاس من كتر الكرامة ما بتنداس
صوت الرصاص
عم تتواجه مطالب الناس بقتل الناس
بدون إحساس
بتفقد الوطنية من الأساس
أيضاً يخبر المغني أبو حجر حكاياته الشخصية، تجربة اعتقاله، خسارته لأحد أقرب أصدقائه. يكتب في أحد الأغاني عن الضحايا التي وقعت خلال الأحداث والمظاهرات، ينتقد أداء العدالة الإنسانية، ويعبر عن أوجاع الفقدان وآلام الخسارة. يتحدث أيضاً في شهادته عن موضوعات تتعلق بالغناء والفن الموسيقي، يقارن بين أدائه وتجربته كمغنٍ بين الجمهور السوري والجمهور الأوروبي. كما بالنسبة لمعظم الفنانين والفنانات المشاركات في الفيلم، فإن الذاتي يتداخل مع الفني، فهنّ يروينَ حكايتهنّ الذاتية في تداخلها مع الشأن العام، ويروون حياتهم عبر أعمالهم الفنية. هذه الموضوعة بالتحديد تشغل التجربة الفنية لأبو حجر، فيكتب أغنية عن انتقاله من حالة النضال إلى حالة الضعف والهشاشة، الانتقال من أمل الواقع إلى الهروب نحو الأحلام، خسارات محاولات الانتماء والتغيير:
عم حاول وقف عَ جرياتي بس الأرض تحتي رخوة
عم حاول لمّ جروحاتي أشرب معهم كاسة قهوة
عم حاول فتّح عيوني بركي بتطلع كلها غفوة
في رحلة الهجرة الخطرة، حمل أبو حجر معه أول ميكروفون غنى به من سورية. تُعبّرُ الآن أغنياته عن واقع اللاجئ في برلين الذي انتقل من عالم الفاعلية الثورية إلى حالة الانتظار على أبواب الاندماج الاجتماعي، وكذلك تعبر بعض أغنايته عن رغبة الانتماء إلى وطن، التعبير إلى رغبة الانتماء إلى المكان والتاريخ.
يرافق الفيلم الوثائقي الموسيقي أبو حجر في محاولة كتابة أول أغنية عن ذاته وليس عن القضايا الجمعية، استوحاها من قراءة لأسطورة سيزيف وتعبيرها عن المحاولة المستمرة للإنسان في مجابهة عبثية الحياة. صَوَّرَ أبو حجر فيديو كليب للأغنية المكثفة في التعبير عن الحال الذاتية للموسيقي:
حامل صليبي و راكض
صليبي مني وفيني
بلاقيني عاضض ع سكاكيني
ساقط ساخط
بدفش الصخرة عالجبل و عليي بتوقع
بحمل الصخرة و الصليب و برجع بطلع
يعرض الوثائقي أيضاً تجربة الموسيقيتين بهيلة حجازي ولين ميا، العضوتان في فرقة روك موسيقية نسائية. تتحدث المؤسسات لها عن تجارب موسيقى الروك النسائية العربية وأثر الحرب على موسيقاهنّ. تقول بهيلة حجازي: «شعرت بأثر الحرب عليّ، عندما بدأت أؤلف الموسيقى والأغاني». وتتناول الأغنية التي تعزفها بهية عند كل بداية حفل موضوعة التنقلات بين الأماكن العشوائية في حياة الأفراد، وعن الموت الذي يحاصر وجود الإنسان السوري:
هل كنت هنا من قبل؟
التهمُ الجثث المتعفنة التي تحاصرني
نحترق لنحيا،
ونعيش في أماكن عشوائية
تقول عنها الفنانة في شهادتها في الفيلم: «أغنية عن مدى عشوائية حياتنا، نأتي كلنا من مجتمع مختلف، نشعر بالوحدة، ويتوجب علينا البداية من الصفر، وكل ما نتمناه هو أخبار جيدة أو اتصال من العائلة. تشعر أنك بأمان، لكن عقلك ليس بأمان، هذا ما دفعني لكتابة هذه الأغنية».
العروض الكريوغرافية بين الذكريات وستر الجناة
تحتل فنون الكريوغراف والرقص الأدائي جزءاً من أقسام الفيلم. وذلك حين يتناول حكاية الكريوغراف والراقص مدحت الدعبل الذي يصمم عروضه الأدائية على موضوعة العلاقة مع الذاكرة محاولاً التعبير عنها بالحركة، موظفاً موضوعات الذاكرة في التصميم الكريوغرافي، يقول الفنان إنه يستلهم من الذاكرة باستمرار، ونتابع ذلك في الفيلم من خلال مشروعه الذكريات النائمة، وهو عرض كريروغرافي لخمسة مؤدين يقدم تجربة الانتظار في الطابور بحركيات جسدية، ومستوحى من ذكريات المصمم نفسه في الوقوف على طوابير الانتظار في سورية، يقول الفنان: «أستلهمُ المشاهد الأدائية من طابور الخبز والدواء والسرفيس في سورية». كذلك يستعرض الفيلم تجربة الراقص مهدي صابور «الظل»، الذي يقدم بين مشاهد الفيلم أداءاً كريوغرافياً فوق أستار النجاة الملقاة عند شاطئ جزيرة ليسبوس في اليونان. أطنانٌ من سترات النجاة ممتدة على الشاطئ تُعبّر عن حجم موجة الهجرة، تحولت سترات النجاة هذه الآن إلى نفايات فائضة عن الحاجة، يؤدي الظل أداءاً راقصاً فوق أكوامها.