كتبَ الراحلُ رياض نجيب الريّس (1937- 2020) في مقالتهِ البديعة «غسيل الكِلى السوري»، والتي كانت كما أسماها «تقريراً روائيًا» شخصيًا للغاية، ما يُشبهُ اعتذارًا على أنّه في تلك المقالة كان يتحدّثُ عن نفسهِ، عن مرضِهِ الذي اكتُشفَ مع بدايات الثورة السورية 2011 ولازمه لسنواتٍ حتى وفاته. قالَ الريّسُ في مقالته:

«الصحافي يمضي حياته دون أن ينجز تحقيقاً واحداً عن نفسه. إنه ممنوع من ذلك. الصحافة التي عرفتُها لم تكن يوماً كتابةً عن الذات. فأنا لست الخبر، والخبر لم يكن يوماً أنا».

وأمام رأي الراحل رياض الريّس، أجدُ نفسي مُضطّرًا في بداية هذا النصّ إلى قول مُتحايلِ في سبيلِ سدّ الذرائع: إنني لستُ صحفيًا هنا. بل واحدٌ من أولئكَ الذين يستخدمونَ الكتابةَ لنوازعَ شخصيّة، أو كنوعٍ من أنواعِ الاستشفاء الكثيرة التي يُمكنُ للإنسانِ استخدامها خلال محاولات النجاة من الموتِ المُبكّر، بعد أن تمكّن جسدهُ بشكلٍ غير متوقّع من الحفاظِ على ضرباتِ قلبٍ مُنتظمة بليدة في ظروفٍ كان من الأسهلِ خلالها أن تتوقّف إلى الأبد.

*****

استيقظتُ قبل أيامٍ قليلة على منامٍ باتَ بالإمكانِ تصنيفه على أنّه ينتمي إلى كلاسيكيّات الأحلام السورية، فقد شاعَ في أوساط السوريين، المُهجّرين والمنفيين منهم على وجه التحديد، أن يروا أنفسهم خلال مناماتهم في سوريا زوارًا أو مقيمين، ولا تنتهي زياراتهم أو صلاحيّة إقامتهم في المنام إلا حينَ يتحلّق حولهم أو في محيطهم رهطٌ من عناصر الأمن والجيش، في مشهدِ ملاحقةٍ شبيهٍ، من حيث الشكل، بمشاهد الأفلام البوليسية، لكنّهُ بطبيعة الحال أكثر حقيقيةً من السينما، إذ ينتمي إلى الواقع المُعاش، ذلك على الرغمِ من أنهُ لم يعد يخصّهم بعد مغادرتهم، لكنّه كان واقعهم يومًا، وقد باتَ ماضيًا، وإن كان لا يمضي.

معظمُ الأحلامِ التي تأخذُ هذا الشكل تنتهي بالنجاة، وهنا تأتي الإفاقة. غير أنني، على نحوٍ مغايرٍ للمُعتاد، لم أكن ملاحقًا في منامي هذه المرّة، كنتُ في منزلِ العائلة أستقبلُ أقاربَ وأصدقاءَ طفولةٍ انقطعَ التواصلُ بيننا منذُ أكثرَ من عقدٍ على الأرجح، وعلى ذلك فإنني لم أفق مع ذلك الإحساس بالنجاة الذي يُسبغُ على بقيّة اليوم عادةً مشاعرَ ثقيلةً توهنُ الجسدَ وتُشتّتُ الأفكار وتشلُّ القدرةَ على متابعةِ اليوم بشكلٍ طبيعيّ. وعلى العكسِ من ذلك، أفقتُ وفيَّ طاقةُ وحيويّةُ من وجدَ جوابًا لسؤالٍ يؤرّقُهُ وحلّاً لمعضلةٍ كانت عسيرةَ الحلّ خلال عشرِ سنوات خلت. سألتُ نفسي، ولا أتذكرُ إذا كان ذلك في المنام أم بعد الإفاقةِ: لماذا لا أُسوّي الأمر، وأبدأ بالسعي وراء البلاد، ولو لزيارةٍ خاطفة؟ ارتحتُ للفكرة، ذلك أنّني كنتُ وما أزالُ ممن يؤمنون أنّ البلادَ، أيّ بلادٍ، ملكُ لأهلها، بصرفِ النظر عمّا إذا كانت مُحتلّةً أم لا، فهل يجبُ على الفلسطينيّ المُهجّر مثلًا أن يُقاطع بلادهُ، إذا كان بإمكانهِ زيارتها، لأنها تقبعُ تحتَ الاحتلال؟ لطالما قلتُ لأصدقائي في سياقِ الحديثِ نفسه: من يملكُ القدرة على الذهاب إلى سوريا فليذهب. والقدرةُ هنا لا تعني خُلوّ السجلّاتِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ من اسمهِ فحسب، إنما تشملُ القدرةَ النفسيّة على الذهاب.

لم أكن مُلاحقًا في سوريا هذه المرّة، ولم أشعر بضرورةِ الهرب، بل على العكس من ذلك أردتُ البقاء، وحينَ أفقت، لم أكن مضطربًا، كنتُ عازمًا على السؤالِ عن إمكانية ذلك. لكنّ ما أقلقني بقيّة نهاري، هو قناعتي بأنّ هذا الخيار بالنسبةِ لي هو استسلامٌ لأنه يقتضي إجراء تسوية: استسلامٌ أمام مشقّة الحياة بعيدًا عن بلدي وأهلي، واستسلامٌ لفكرة التعايش مع صورة رأس النظام الذي قضى لي أصدقاء كثر في أقبيته وبرصاص عناصره؛ استسلامٌ للهزيمة. وأنا ممّن يعترفون بأنهم هُزموا، لكنّ الاعتراف شيء، والاستسلامَ للمُنتصِر شيء آخر. ذلك رغمَ إيماني أنّ الاستسلامَ حقّ، مثلُهُ مثلُ زيارةِ البلاد. ليسَ الاستسلامُ بالنسبةِ لي جريمةً، بل هو حقّ لكلّ شخص. وفي العمق، كنت غيرَ راغبٍ طيلة اليوم الذي تلا إفاقتي في تحليلِ المنام، ذلك أنني مُدركٌ أنّ اضطراري للانتقالِ إلى شقّةٍ جديدةٍ يُثيرُ في نفسي ذلك الحنينَ المُنهَكَ إلى الارتكانِ في مكانٍ لا يُخرجُني منهُ أحد. كنتُ قد اعتدتُ رؤيةَ بيتنا في المنامِ، كلّما بدّلتُ سكني، وقد بدّلتُ خلال السنواتِ العشرِ الماضية واحدًا وعشرينَ مسكنًا!

لكنّ مُخلّفاتِ المنام، والعزيمةَ الغامضةَ التي تلته، ومشاعر الاسترخاء من جرّاء التصالح مع فكرة العودة إلى سوريا ولو زيارةً، لم تَطُل لأكثر من يومين، فقد ماتَ بعدها بثلاثة أيامٍ رجلٌ لم أكن أعرفهُ، اسمُهُ عماد شيحة.

12 نيسان (أبريل) 2012

لم يكن أيٌّ منّا يعلمُ وجهة الحافلة التي حُشرنا فيها مقابلَ «مجلس الشعب» في دمشق، عقب مشاركتنا في اعتصامٍ كان شعارُهُ عموميًا لدرجةٍ جعلتهُ وجعلتنا محطّ سخريةٍ أحيانًا: «أوقفوا القتل… نريدُ أن نبني وطنًا لكلّ السوريين». كان هذا شعار اعتصامِنا الصامت، والذي اتخذ من الصالحيّة مُقابل مجلس الشعب مكانًا لهُ، بافتراض أنّ هناك رمزيّة ما لهذا المكان في بلادٍ مثل سوريا. كنّا حالمين مثل أي شخصٍ يعتقدُ أنّ ثمّة فسحة للعمل السياسيّ في سوريا. كنا سذّجًا بلا أدنى شكّ. شخصيّاً أعتقدُ أنني كنتُ ساذجاً لا انتحاريًا، فأنا أخافُ الموت، بل وأخافُ الألم أصلًا. أفكّرُ الآن بعد انقضاء أكثر من عشر سنواتٍ على ذلك اليوم، هل كان عناصرُ الأمن يسلكون ذلك المسلك الشائع في سوريا بأن يوضعَ الشخصُ وجهًا لوجهٍ مع ما يخافُهُ بغية الخلاص من الهلع؟ هل يُعقلُ أن مقصد سلوكهم كان تربويًا؟!

لم تنقضِ أكثر من عشرين دقيقة بعد انطلاق الحافلة حتى وصلت بنا إلى ذلك المبنى الطابقيّ الكلاسيكيّ في دمشق، والذي سأعرفُ لاحقًا أنّ اسمهُ «الفرع الأربعين» التابع لأمن الدولة، وكان يرأسهُ حافظ مخلوف، ابن خال الأسد الابن.

لم أكن قد سمعتُ الكثير عن الفرع حتى ذلك التاريخ، نزلنا من السيرفيس وأُدخِلنا في طابورٍ إلى الفرع، كان عناصرُ المخابرات يصطفّون على جانبي المدخل: يستقبلوننا واحدًا بعد آخر، وكنتُ آخر عنقود الطابور، ما أتاحَ لي، لسوء الحظّ، أن أشاهد ما سيحلُّ بي عندما يجيئ دوري. كانوا يجرّون الواصلَ إليهم من ياقتهِ لتبدأ حفلة من الضرب واللكم بالأيدي وما تحملُهُ، والركل بالأرجل وما تلبسه. وبما أنّني قررتُ الآن الكتابة عن ذلك، فإنني أعترفُ أنّ أمنيتي في تلك اللحظة كانت تتمثّلُ في ألّا أصلَ إلى أيديهم، كنتُ أشعرُ أنني أقفُ على بعد ثلاثة أمتارٍ من الموت، وعلى ذلك فقد تمنّيتُهُ قبل وصولي طالما أنهُ تحصيل حاصل. لا أعلمُ الآن كم استغرق قطعُ الثلاثة أمتار، كان الوقتُ متحجّرًا، أو هكذا بدا، لكنني في النهاية وصلتُ إلى أيديهم. وإذا كان محمود درويش قد قال إنّ الطريق إلى البيت أجمل من البيت، فإنّ الطريق إلى أذرعِ هؤلاء الرجال القساة كان أصعب من الوصول فعلًا، إذ فقدتُ الإحساسَ بعد لحظات فقط، كان آخر ما شعرتُ به كعب بندقيّةٍ يطرقُ رأسي مخلفًا علامةً لم تزل حتى اليوم ولا أعلمُ إن كانت ستفعل، وخيطًا دبقًا سائلًا من الدمِ فوق جسدي الذي باتَ نصفُهُ العلويّ عاريًا تمامًا بعد أن مزّقَ الشُّبّانُ ملابسي، وسترتي الحمراء التي سوف أسخرُ من نفسي بسببها طيلة الأعوام التي تلي: هل يذهبُ أحدٌ إلى اعتصامٍ مرتديًا سترةً حمراء؟! ألم أقل إننا كنا سذّجاً؟

كان علينا أن نصعدَ درجًا يوصلُ إلى الطابق الثاني فورَ دخولنا المبنى، ولا أتذكرُ أنني صعدتُ الدرجات ماشيًا، كانت تتقاذفُنا الضربات حتّى إذا وصلَ أحدُنا إلى أعلى الدرجات باغتته ركلة تُعيدُهُ إلى الأسفل لتتكرّر رحلة الصعود السيزيفية إلى الأعلى. لا أعلمُ إلى الآن ماذا كان يدورُ في رؤوسِ هؤلاء الرجال المُتوحشين في تلك اللحظات، هل هي الساديّة فحسب؟ ظلّ السؤالُ عمّا يفكرون بهِ سؤالاً صعبًا ومُحيّرًا، رغم كلّ ما قيلَ في محاولاتِ الإجابةِ عليه. في الطابقِ العلويّ كان ثمّة جوقة أخرى من الوحوش تنتظرُنا، أكمل أعضاؤها ما بدأهُ زملاؤهم في الأسفل، أُوقِفنا في مواجهة حائطٍ كان يُفترضُ أنّهُ أبيض اللون لولا تواشيح الدماء المنثورة فوق طلائهِ القديم. اختلستُ النظرَ إلى الخلف قليلًا، فوجدتُ عناصرَ يجزّون شعرَ أحد رفاقنا بالسكّين، لاحظني أحدُ العناصرَ فأدارَ وجهي نحوهُ وصفعني ثمّ قبضَ على فمي بيديهِ حتّى فُتحَ عنوةً فبصقَ فيه. كانت جدّتي لأبي (1917 – 2008) كلّما وُلدَتْ قطّة في الدار تبصقُ في فمها معللةً ذلك بأنّه يجعلُ القطّة تأتلِفُ صاحبها، لا أعلمُ ما إذا أراد العنصرُ شراء ولائي كالقطّة حين بصقَ في فمي! 

لم أكن أُفكّرُ بالأثر النفسيّ الذي يتحدث عنه المُعتقلون عادةً، لم أفكّر في ألم تلقّي الشتائم مثلاً، كان ثمّة آلام أقوى وأكثر إلحاحًا. خارت قواي نهايةً فسقطت، دفعني أحدُ العناصر إلى زاويةٍ جلستُ فيها لا أعلمُ ما الذي يؤلمني، لا أتذكّرُ أيّ شيء، سوى جملة قالها أحد العناصرِ حين عرفَ من أي مدينةٍ أنا، فقال: «اعتزّ بنفسك يا سويدا»، لكنّ جميع محاولات اعتزازي بنفسي باءت بالفشل، لا سيّما حينَ أطفأ أحد العناصرِ سيجارتهُ في ظهري، وتبعهُ آخر برشّ الكحول الطبيّ فوقه، لترتفعَ درجة الألم حدّ فقدانِ الوعي.

كنتُ مستسلمًا تمامًا، ولديّ شعورٌ، لم يبرح مخيّلتي عقبَ ذلك اليوم قطّ، أنني على بعدِ خطوةٍ من الموت، كنتُ أشمُّ رائحته، أراهُ كلّما نظرتُ إلى جسدي المُتهتّك، وفي وجوه رفاقي مَخفيّة الملامح.

لم يكن يُرادُ لنا التأقلم مع التعذيب، ولا حتّى مع السجن نفسه. قضينا في «فرع الأربعين» ما لا يتجاوزُ أربعَ ساعات، لم يسألني أحدٌ فيها عن اسمي، لم يجرِ أيّ تحقيقٍ معنا، كان الهدفُ الواضحُ الوحيد هو التعذيب، التعذيب لأجل التعذيب، ولفترةٍ محدودةٍ تجعلُ من دائرةِ الخوفِ غير مكتملة، بحيثُ يخرجُ المرء من الجحيم محتفظًا بشعورٍ دائمٍ بالخوف من تكرارها. لم يُرِد أحدٌ هناك معرفةَ أيّ شيء عنا، وقد أفلحَ التعذيبُ لأربع ساعاتٍ فحسب في تركِ آثارٍ جسديّة ملموسة، تكفلُ تَذكُّرَ بضعة مشاهد من ذلك اليوم الذي يبدو أنّ ثمّة ميكانيزماً يحاولُ دائمًا إخفاءهُ في منطقةٍ مظلمةٍ من الذاكرة.

لطالما شعرتُ أنّ الموتَ في تلك اللحظة كان يحتاجُ إلى ساعةٍ أو ساعتين إضافيّتين في الفرع الأربعين، بين يدَي هؤلاء الشبّان، وأنّ تخلّفهُ عن المجيء كان لأنني قضيتُ هناك أربع ساعاتٍ لا خمس!

بعد ذلك التاريخ، وقبله أيضاً، قضى سوريّونَ في ظروفٍ أشدّ قتامةً وقسوة أيامًا وشهورًا وأعوام، فقد كنّا من معتقلي 2012 إثرَ نشاطٍ سلميّ إلى درجة مضحكة. كنّا في مطالع السنةِ الثانية للثورة، ولم تكن رقعة العمل المسلّحِ قد اتّسعت، وكان النظامُ ما يزالُ محتفظاً بسلطتهِ على أغلب المناطق السورية، ولم تكن حفنةٌ من الحالمين السذّج تُخيفُهُ إلى الحدّ الذي يجعلُ تصفيتَها ضروريّة. كانت إخافتُها هي الضرورية، لا موتها.

رجلٌ اسمُه عماد شيحة

في التاسعِ والعشرين من شهرِ تمّوز (يوليو) عام 1975، حكمت محكمة أمن الدّولة في دمشق على خمسة عشرَ عضوًا في تنظيمٍ يساريٍّ ناشئٍ سُمّيَ آنذاك «بالمنظّمة الشيوعية العربية»، لم يتعدَّ عدد أعضائهِ العشرات وانتشارهُ ثلاثة دولٍ عربية هي سوريا ولبنان والكويت، بأحكامٍ مختلفة تراوحت ما بين الإعدام والأشغال الشاقّة المؤبدة والسجن لمدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقّة، وذلك بُعيدَ تنفيذ أعضاء في التنظيم، الذي تبنّى فكرة ضربَ المصالح الأميركية والإسرائيليّة في المنطقة، تفجيراتٍ في جناح الولايات المتحدة الأميركية في معرض دمشق الدولي وشركة NCR الأميركية وسط دمشق.

لم يكن «العنف الثوري» منهجًا جديدًا آنذاك، ولم يكن أعضاء المنظمة الشيوعية العربية هم أصحاب السبق في اختراعه، فبالنظرِ إلى أنّ قائد التنظيم الفتيّ كان فلسطينيًا يدعى علي الغضبان، فإنّ تأثُّرَ شبّان المنظّمة الحالمين الثوريين بمن سبقهم يبدو بديهيًا، لا سيّما أنّ الفصائل الفلسطينية كانت قد قامت قبل ذلك بسنواتٍ بعمليّات عنفيّة عديدة ذات أهدافٍ سياسيّة: اختطاف طائرات، محاولات اغتيال، تفجير شركات ومعامل وناقلات نفط، في إطار سعيِها لإعادة الثورة الفلسطينية المُسلّحة إلى واجهة الصورة بعد أن خبتْ شيئًا فشيئًا عقب الخسائر الفادحة التي لحقت بها خلال الصدام المُسلح مع القوات الأردنية في أيلول 1970. ولعلّ أشهرَ تلك العمليّات، عمليّة ميونخ التي نفذتها منظمة أيلول الأسود، ألهمت أعضاء المنظمة الشيوعية العربية أكثر من سواها، إذ إنّ الهدف الذي اتخذته «أيلول الأسود» خلال العمليّة لم يكن العنف بذاته، وفق تصريحاتِ قادتها، إنما إجبار قوات الاحتلال الإسرائيلي على المفاوضات للإفراج عن 236 أسيراً لديها، وأوصِي منفذو العملية بتجنّب جرحِ أيّ رياضيّ إسرائيليّ خلال الهجوم.

على المنوالِ ذاتِهِ، فقد سعى أعضاء المنظمة الشيوعية العربية خلال عمليّاتهم في دمشق لتجنّبِ وقوع أيّ ضحايا. كانت عمليّاتهم دعائيّة، غير أنّهم فشلوا في مسعاهم ذاك، فقد فارق الحياةَ شخصٌ تاركًا لهم شعورًا بالذنب سيرافقُ من بقي منهم حيّاً طوال حياته.

كان عماد شيحة من بين هؤلاء الأعضاء، اعتُقِل ولم يكُ قد تجاوزَ الواحد وعشرين عامًا، وكان ممن حُكموا بالأشغال الشاقّة المؤبدة، على خلافِ شقيقهِ غياث، الذي كان من بين الخمسة الذين أُعدِموا بعد المحاكمة بأربعة أيام. يقول شيحة بعد خروجه من السجن: «استشهد مواطن واحد، حارس بناء، نتيجة إحدى العمليات، رغم اتخاذنا أقصى الاحتياطات لتجنّب مثل هذه النتيجة».

في صيف 2004 خرج عماد من السجن محتفظاً بتفاؤلٍ غير منطقيّ، يظهر بوضوح في مقابلةٍ أجرتها معه الناشطة الحقوقية رزان زيتونة في أيلول من ذاك العام عقب خروجه، وقبل أن تختفي رزان ذاتها بعد ذلك بتسعة أعوام على يدِ فصيلِ جيش الإسلام في دوما التي لاذت بها من عسفِ أذرعِ النظام بافتراضِ أنها كانت بلدةً «مُحرّرةً» منه. قال عماد في مقابلته تلك: 

«بشكل عام أرى أن السلطة في مرحلة جديدة، وأتمنى أن لا تكون الفرصة قد فاتت للبدء بشيء جديد. هذا يحتاج إلى جهد من السلطة والنخب الثقافية والسياسية الوطنية والديمقراطية، كي يثمر، ويسد باب الذرائع أمام التهديدات الخارجية. وإذا توافرت النية الصادقة عند تيارات في السلطة سيتحقق تغيير ما».

احتفظَ الرجلُ بأملٍ غير مفهومٍ بحدوثِ تغيير في سوريا، التي قضى بين جدرانِ محابسِها زهاء ثلاثين عامًا، نصفُها في سجن تدمر الصحراويّ، والنصف الآخر متنقلًا بين السجون. كما خرجَ محتفظًا، على نحوٍ أقلّ لا منطقيّة، بعافيةٍ وهمّةٍ عجيبةٍ للعمل والإنجاز بعد أن أتقنَ اللغة الإنكليزية خلال سجنهِ ليخرجَ مُترجمًا وكاتبًا روائيًا حاجزًا لنفسهِ مكانًا في مهنتهِ الجديدة، وكأنّهُ كان مُبتعثًا للتعلّم لا مسجونًا مُعذّبًا!

كل تلك الطاقة الجبّارة والقدرة على ممارسة العملِ الشاقّ: العيش، وعدم قدرة السجن والتعذيب لمدة ثلاثين عامًا (لا أربع ساعاتٍ فحسب!) على النيلِ من رغبةِ الحياة ولا الحيلولة دون بعث الأمل من رميمهِ، لم تمنع السيرة من استكمالِ فصولها التراجيدية، فماتَ عماد شيحة منفيًا في باريس بعدَ معاناةٍ مع السرطان.

لكأنَّ حياةَ الرجل التي لم أعرف تفاصيلَها إلا بعد وفاتهِ الأليمة، أيقظتني من الاستسلام الذي يدفعُ للتفكيرِ بالعودة. أيقظتني من منامي لأتذكّر، فالنسيانُ هو الجريمة لا الاستسلام. لكنّ السؤالَ الذي ظلّ معلّقًا بلا إجابةٍ: كيف استطاعَ هؤلاء الناس خلق الأمل؟

*****

اعتمدَ فيلم «٣٠٠ ميل» للمخرج عروة المقداد، الذي صُوِّرَ بين عامي 2013 و2016 ثيمة الرسائل المصوّرة المُتبادلة بين المُخرج، الذي كان آنذاك يقومُ بمعايشةٍ مع أحد الفصائل المقاتلة في حلب بغيةَ تصويرِ فيلمه، وبين ابنةِ أخيهِ المقيمة مع عائلتها في إحدى قرى ريف محافظة درعا. تقنيّةٌ أرادَ المُخرجُ من خلالِها جَسرَ المسافة بين مدينتين ثائرتينِ شمال سوريا وجنوبها، ورصد الحياة اليومية للمُقاتلين، وللطفلةِ التي استخدمَ المُخرجُ في الفيلم كلّ رسائلها المصوّرة بلا أي عملية مونتاج. تُراقبُ نور ضوء الشمس كلّ يوم، تلعبُ مع شقيقها الأصغر، تُرسلُ لعمّها تسألهُ عن حالهِ وعن مكانِ إقامتِه، وتُخبرهُ عن حياتها وتصرّحُ بهواجسها وتطرحُ أسئلتها البريئة كما تفكّرُ فيها تمامًا، بلا تشذيب.

في مشهدٍ خلّابٍ أواخرَ الفيلم، تسألُ نور أحد أعمامِها في القرية عن معنى الهُدنة؟ وحين يشرحُ لها، تكتفي بأنّ المهمّ أن يظلّوا أحياء. يسألُها عمُّها عن سبب رغبتِها بالعيش طالما أنّ الحياة قاسية إلى هذا الحدّ، فتجيبُهُ بلكنتها الحورانية:

«أي… بس بلكي صارت حلوة؟!».

هل ثمّة ما هو أكثر دقّة من هذه الجملة ليُفسّرَ صبرَ عماد شيحة على الحياة رغم فقدانهِ ثلاثين عامًا منها داخل جدران السجن؟

هل ثمّة ما هو أكثر دلالة؟

بلكي صارت حلوة يا عماد… هذا هو الجواب!