«سأمنع سارة زكريا وريم السواس من الغناء في سوريا».
أنهى هذا التصريح الذي تناقلته كاميرات المنصات الإعلامية المحلية عن نقيب الفنانين السوريين، محسن غازي، حالة السكينة المؤقتة التي عاشها الوسط الفني منذ رحيل نقيب الفنانين السابق، زهير رمضان. والتي لم تتعد كونها فترة هدوء يسبق العاصفة؛ عاصفة «تصحيح المسار باتجاه الكلمات المهذبة» كما وصفها غازي، الذي ناشد مؤسسات الدولة بخطاب علني للتدخل ومساندة نقابة الفنانين لتنفيذ قراراتها الرقابية، المختلفة بطبيعتها ومنطلقاتها عن قرارات النقابة في عهد النقيب السابق، التي كانت غالباً ما تستهدف الفنانين المعارضين لنظام الأسد لتعزلهم وتُضيّقَ عليهم الخناق.
للمفارقة، تزامنت التحولات التي طرأت على دور نقابة الفنانين الرقابي، مع الإعلان عن استضافة الفنان المصري هاني شاكر، نقيب المهن الموسيقية السابق في مصر، الذي أصدر قرارات بالجملة لمحاربة موسيقى المهرجانات، فبدا الأمر أشبه بالعدوى، وكأن تأثير هاني شاكر قد أخذ مفعوله قبل وصوله إلى دمشق. هكذا فتح تزامن الحدثين الباب أمام التعليقات الساخرة، والمقارنات بين ما يحدث في سوريا اليوم وما حدث في مصر. فهل الحالتان متشابهتان فعلاً؟
أغاني الكباريهات والمهرجانات
تجمع العديد من القواسم المشتركة بين أغاني المهرجانات المصرية وأغاني الكباريهات السورية، وأهمها أن البيئات الثقافية الحاضنة لهذه الموسيقى والمنتجة لها، هي بيئات شعبية صرفة، إسهاماتها في تطور الموسيقى مُهمَّشة، فهي خارج البنى الهرمية الثقافية المُكرَّسة، ويتطور كلا النمطين بشكل تفاعلي وعفوي، خارج خارطة المركزية الفنية المهيمنة ثقافياً ومؤسساتياً. الجدير بالملاحظة أن التفاعل العفوي أدى في الحالتين إلى استخدام التقنيات الحديثة، ليُنتج كل منهما شكلاً خاصاً ذا هوية واضحة بالاعتماد على الموسيقى الإلكترونية. ففي مصر، ولدت موسيقى المهرجانات من رحم الأفراح الشعبية، التي لجأ الموسيقيون فيها إلى الاعتماد الكامل على «الفلاشات» التي سجلت عليها موسيقى جاهزة وصاحبها أداء حي بغية توفير التكاليف المادية. وفي سوريا، تم تطوير موسيقى الكباريهات من خلال الاعتماد على آلة الأورغ، ليكون بديلاً عن الآلات الموسيقية الأصيلة في الثقافة السورية، كالمجوز مثلاً، وليرافق الآلات الإيقاعية التي بقيت حاضرة على خشبة المسرح.
أما الاختلافات ما بين أغاني المهرجانات المصرية وأغاني الكباريهات السورية، فهي عديدة؛ وأبرزها موسيقياً أن تأثير التطور التقني على الموسيقى في أغاني الكباريهات السورية أقل حضوراً؛ فعلى عكس أغاني المهرجانات، لا تحل الأصوات الإلكترونية بديلاً عن أصوات الآلات التي تحاكيها، والتي تحضر بدرجات متفاوتة في العروض الحية؛ لتكون النغمات الإلكترونية خياراً إضافياً لا يُلغي الأصل كما هو الحال في موسيقى المهرجانات. وكذلك، تتميز موسيقى الكباريهات السورية بأن المضمون الذكوري فيها تضاءل مع مضي الوقت، في حين أن المضمون الذكوري لا يزال يشكل حجر الأساس في كلمات أغاني المهرجانات المصرية.
من خلال مراجعة كلمات العديد من أغاني المهرجانات التي مُنعت، يمكننا تلمس الأفكار الذكورية الفائضة التي تصدرها هذه الأغاني التي تبدو كلوحات موسيقية فاقعة، تبالغ بالاحتفاء بالذكورة والترويج للفحولة، بالتوازي مع التسليع المتعمد للنساء، دون توفير أي جهد في الإساءة لهنّ. ذلك يبدو واضحاً في أغاني حمو بيكا مثلاً، الذي يردد في أغانيه كلمات من قبيل: «رب الكون ميزنا بميزة. الرجولة والنفس العزيزة. دي رجولتك هي كيانك» و«في الحرب أنا بضرب عشرة والأنثى قدامي حشرة». علاوةً على هذا المضمون الذكوري الفج، فإن النساء تغيب عن صناعة أغاني المهرجانات. وبالمقابل، نجد أن الأصوات النسائية في أغاني الكباريهات السورية يتعاظم شأنها يوماً بعد يوم، وهي التي باتت تحتل صدارة المشهد، وهي التي اتُخذت قرارات المنع ضدها.
رحلة أغاني الكباريهات السورية في التمرد على المضامين الذكورية
رغم قلة المصادر، بسبب ندرة الاهتمام بتوثيق الحفلات الفنية التي كانت تُقدَّم في الكباريهات السورية خلال القرن الماضي، إلا أن ما وصلنا يشير بوضوح إلى أن فن الكباريه كان له بنية جندرية واضحة منذ البداية، يحضر فيه الجسد النسائي للرقص والإغواء، ويحضر فيه صوت الرجل لترديد الكلمات المحفزة للإثارة، لتعكس أفكار ورغبات المشاهدين. لذلك كانت مضامين الكلمات ذكورية صارخة، تحط من شأن المرأة وتُسلِّعها.
استمر الحال على ما هو عليه حتى مطلع الألفية الجديدة، بعد أن ازداد الاهتمام بتوثيق حفلات الكباريهات، التي صارت فيديوهاتها سلعة واسعة الانتشار، تُباع في الأكشاك ومحلات التسجيلات الشعبية. أغاني تلك الفترة كانت تتضمن ألفاظاً نابية أيضاً، لكن نقابة الفنانين لم تُصدر بحقها أي قرارات منع ولم تحارب انتشارها خارج صالات الكباريه. كنا نسمع في وسائل النقل العامة وفي الكراجات أغاني ذكورية بألفاظ نابية، مثل: «ضبي صدرك يا بنية طالع نصه، يلعن أبو فستانك عأبو اللي قصه. روحي شوفي مسلسل الخط الأحمر، وساوي تحليل الإيدز صدرك دبلان». لكن المجتمع كان يستقبلها بالابتسامات كما يتم استقبال النكات الجنسية التي يتداولها الناس في الأماكن العامة، ففي نهاية المطاف هي أغانٍ تحافظ على البنية الاجتماعية الهرمية الذكورية، التي تبيح للرجال فرض الوصاية على النساء.
صوت المرأة بدأ يحتلّ المشهد في العقد الأول من الألفية الجديدة، عقب موجات النزوح العراقية إلى سوريا؛ فأغاني الكباريهات تفاعلت مع التغييرات التي طرأت على تركيبة المجتمع السوري، بعفويتها التي تميزها عن باقي الأشكال الفنية الجامدة والمؤطَّرة، وتمكنت من هضم البنية اللحنية للأغاني العراقية الشعبية التي استضافتها الكباريهات السورية، مثل أغاني البرتقالة وقلب قلب، لتقفز أغاني الكباريهات السورية قفزة نوعية، وتبدأ ظاهرة سارية السواس، التي تجاوزت جدران الكباريهات سريعاً ودخل صوتها إلى كل بيت سوري، ومن ثم إلى خارج الحدود لتحظى بشعبية على المستوى الإقليمي.
لم يحتفِ الإعلام السوري يوماً بسارية السواس، كما هو متوقع، ولم يفتح أمامها أبوابه رغم الشهرة الواسعة التي نالتها. وعلى الرغم من أن ظهور سارية السواس تزامن مع انكسار الرصانة الخشبية للإعلام السوري موسيقياً، إذ كان في ذلك الوقت يكرّس ظاهرة موازية في الأغاني الشعبية، افتتحها علي الديك في الساحل السوري، وأسماها الإعلام السوري حينذاك بالأغاني الفلكلورية. لكن بالمقابل، لم تُحارَب سارية السواس بشكل علني، ولم تصدر أي قرارات لمنعها من الغناء. أغلب الظن أن الأمر لا يتعلق بآلية عمل نقابة الفنانين قبل وصول محسن غازي إليها، وإنما يتعلق بطبيعة أغاني سارية السواس. إذ إن صوت سارية السواس النسائي لم يغير البنية الجندرية لفن الكباريهات سوى ظاهرياً، حيث بقيت أغاني الكباريهات التي تقدمها سارية السواس تعكس الرغبات الذكورية لجمهور الكباريهات من الرجال، ولم تضع حداً لتسليع النساء إطلاقاً. تغني سارية السواس مثلاً: «وين كنتِ سهرانة مبارح يا بنت الكلب، بشارع مساكن برزة ولا بالتل»، لتبدو وكأنها تسخّر صوتها لتنطق بصوت الرجال، فهنا تلعب بشكل واضح دور رجل ساخط على النساء، ويضمر اتهاماً للمرأة التي يخاطبها بالعهر، من خلال الإشارة بسؤاله إلى الأماكن التي تتواجد بها العاملات الجنسيات في محيط العاصمة دمشق.
سارة زكريا وريم السواس، عندما امتلكت النساء أصواتهنّ
الظاهرة الفنية الجديدة التي استفزت نقابة الفنانين واستدعتها للتدخل، هي ليست سوى امتلاك مغنيات الكابريهات لأصواتهنّ؛ إذ لم تكن سارة زكريا أو ريم السواس أول من استخدم ألفاظاً نابية في أغاني الكابريهات، ولم تقدما فناً يختلف في البنية الظاهرية عمّا قدمته سارية السواس. الشيء الوحيد الجديد فعلياً أن مضامين الأغاني تمردت على البنية الذكورية الهرمية التي كانت متحكمة بهذا الشكل الفني المُهمَّش، وباتت تعبر عن أفكار ورغبات النساء في هذا العالم، وهو الأمر الذي لم يبدُ مقبولاً.
ريم السواس وسارة زكريا تؤديان المقاطع ذاتها في الحفلات المصورة، وتضيع بينهما مسألة المُلكية الفكرية التي لا تبدو ذات أولوية في هذا النوع من الفن. وفي أغانيهما يبدو كل شيء قد اختلف، فالمرأة هنا صارت تمتلك صوتها وتتمتع بالإرادة والقوة والجرأة. ففي أحد المقاطع نسمع: «تجي نتزوج بالسر، أهلي وأهلك ما يدرون. تجي ناخد بيت بعيد، ونخلّف بوبو صغيرون»، لتبدو المرأة صاحبة قرار على نفسها وتمتلك الجرأة لتجاهر برغباتها وتحدد شكل العلاقة وتتمرد على المجتمع، وبالتالي على كل الأغاني السابقة التي كانت تسلعها. ويرد في مقطع آخر: «تنساني ما تنساني تنسى الصحبة، ضيعتني من شفتك يا ابن القحبة»، لتكسر هذه الكلمات الجريئة الصورة النمطية التي رسمتها الأغاني الشعبية والدراما التلفزيونية للنساء الضعيفات اللواتي ينكسرن في حالة الهجر ولا تقوم لهنّ قائمة. وفي مقطع آخر: «وحدة بوحدة.. أنا خنتك. تحرق قلبي أدعس قلبك»، لتعكس هذه الكلمات أعلى درجات المساواة التي وصلت لها الأغنية السورية والفن السوري عموماً، الذي لايزال يتعاطى مع خيانة المرأة كجريمة لا تغتفر، ويصغّر من مسألة خيانات الرجال.
هذه الكلمات، التي تتمرد فيها سارة زكريا وريم السواس على البنية الاجتماعية النمطية التي ساهمت الأعمال الفنية في تكريسها، أدَّت إلى تدخل النقابة، ليصدر قرار بمنع الحفلات في حال لم توقِّع المغنيتان على تعهد بعدم استخدام الألفاظ النابية.
النقابة ليست وحدها
عندما علت أصوات المتضامنين مع صانعي أغاني المهرجانات المصرية ضد قرارات المنع التي أصدرها هاني شاكر، أعلن عدد كبير من الفنانين والإعلاميين السوريين عن تضامنهم مع فناني المهرجانات ورفعوا شعارات الحرية الفنية. لكن معظم المتضامنين مع أغاني المهرجانات المصرية اتخذوا موقفاً مضاداً من أغاني الكباريهات، وأيدوا قرار نقابة الفنانين. التعليقات فسرت الأمر بعدة طرق، فالبعض أشار إلى أن أغاني الكباريهات السورية لا ترقى لأن تكون فناً ولا تستحق الدفاع عنها، والبعض أكد – بطريقة أو بأخرى – على ضرورة فرض الوصاية الأبوية على النساء وعدم السماح للنواشز منهن بتشويه قيم المجتمع، ليبدو أن الحرية الفنية لديهم تتجزأ، وأن البعض يراها حقاً مُطلقاً للرجال، وليس للنساء. وعادت في هذه المناسبة أصوات متحاملة على الحركة النسوية لتعلو، لتُكتب العديد من المقالات التي تهاجم الانحلال الأخلاقي الذي يعيشه المجتمع بسبب الحركات النسوية. قرأنا مثلاً مقالاً بعنوان ريم السواس والجهادية النسوية، الذي ربط ريم السواس بالحراك النسوي السوري ليحط من شأنه، ونحت مصطلحات جديدة للترهيب من النسوية.
هكذا بدت نقابة الفنانين السوريين ليست وحيدة، وتمكّنت في النهاية من إرغام سارة زكريا وريم السواس على التوقيع على تعهد بعدم استخدام الألفاظ النابية مجدداً وحذف الفيديوهات السابقة. لكن الحكاية لم تنتهِ عند هذا المشهد القبيح الذي أعلنت فيه نقابة الفنانين انتصارها وفرض وصايتها الأبوية على المغنيتين؛ فقبل أن يمضي أسبوع على المشهد قامت ريم السواس بالسخرية من محسن غازي في أغنية جديدة قدمتها في الكباريه، رددت فيها: «أخدوني عالرازي، جلطني محسن غازي. لاقولي حل لمشكلتي، عم يمنعلي حفلاتي».